لكنه رأى أن حملة توستغ هذه لربما تحدث بعض الإنذار في إنكلترا، وتمهد طريقا رحبة لسيره وراءه؛ ولهذا لم يرافقه بنفسه، لكنه سيره بتلك القوة وظل هو نفسه في نورماندي يباشر التأهبات التي أتينا على شرحها في الفصل السابق، أما توستغ فلم يتصوب حمله على الشطوط الإنكليزية بدون أن يزيد القوة التي سلحه بها وليم؛ ولهذا اجتاز مضيق دوفر واتجه شمالا ودار نحو شواطئ الأوقيانوس الجرماني الشرقية، ساعيا في التفتيش على مساعدة، حتى جاء أخيرا بلاد نروج وعقد اتفاقا مع ملكها المسمى هارلود أيضا، فهذا الملك كان وحشيا، وقد قضى غابر حياته يجول في البحر غازيا، فتعهد لتوستغ بأنه يشد أزره في هذه الحملة، وعليه سار توستغ راجعا لشواطئ إنكلترا مغادرا ملك نروج يتأهب للحوق به، وكل ذلك حدث في أوائل شهر أيلول حين كان وليم في نورماندي يتأهب بعمارته وجيوشه لمحاربة الملك هارلود الإنكليزي، بينما كان هذا محروما من الوقوف على نبأ حقيقي بهذا الخصوص، سواء كان من نحو الاستعدادات الشمالية أو الجنوبية.
ثم اجتمعت العمارة النرويجية في أحد الثغور وقد أصاب رجالها بداعي اقتراب أيام العواصف والأنواء ما أصاب رجال وليم من الخوف والحذر، وقد رأى بعضهم رؤى وأحلاما تطيروا بها وعدوها شؤما، وعلقوا عليهما خرافات عديدة شأن أهل تلك العصور الذين كانت عندهم سوق الأوهام رائجة، كما يروي لنا مؤرخوها، فمما رآه أحدهم أن العمارة أقلعت وجاءت الشواطئ الإنكليزية، وهناك خرج جيش هارلود للقائها، وفي مقدمه امرأة طويلة القامة هائلة المنظر ممتطية ظهر ذئب، وفي شدقي هذا الذئب جسد إنسان مضرج بالدم، وكان يلتهمه وهو سائر إلى الأمام، ثم ناولته المرأة فريسة أخرى فابتلعها كالأولى، ومن جملة الأحلام المشئومة الحلم الآتي، وهو أنه بينما كانت العمارة آخذة في الإقلاع رأى بعضهم أسرابا من النسور والطيور الجارحة الجائعة جاءت وحومت على قلع وحبال المواكب كأنها تروم مرافقتها في الحملة، وعلى رأس صخر في الشاطئ انتصب رسم صورة امرأة بوجه عبوس يشف عن الشراسة والضراوة، وفي يدها سيف مسلول، وكانت منهمكة في عد المواكب مشيرة إليها وهي تعدها بسيفها، وكانت تمثل بمنظرها شيطان الخراب والدمار، فدعت الطيور وشجعتها على الإقدام وقالت لها: «اذهبي أيتها الطيور الجوارح بدون خوف؛ فلسوف تصادفين كثيرا من الفرائس وهو ذا أنا ذاهبة معك».
ومعلوم أن هذه الأحلام كانت تنبئ عن موت وهلاك أعدائهم الإنكليز، كما أنها تحمل النبوءة عن موتهم هم أنفسهم، على أن العساكر بسبب ظروفهم الزمنية وبداعي التغيرات الجوية والمخاطر المتنوعة التي أصبحوا محاقين بها كانوا مائلين لإطلاق هذا التشاؤم عليهم، ورد مخاوف تلك الأحلام إليهم، ولكن قائدهم لم يبال باعتباراتهم هذه، بل أقلع وسار مجتازا البحر الجرماني لاحقا بتوستغ ليتخد معه على تخم اسكوتلندا، ومن هناك انطلقا بقواتهما على الشاطئ الجنوبي منتهزين فرصة تسنح فتسمح لهما بالخروج إلى البر، أخيرا أتيا إلى بلدة سكابورو وعولا على الهجوم.
أما سكان تلك البلدة فحاصروا داخل أسوارها، وأغلقوا الأبواب في وجوه المهاجمين واستعدوا للدفاع، وكانت البلدة قائمة في أسفل تلة يحيط بها من أحد الجهات أحدور عال، ويروى أن النرويجيين تسنموا ذروة هذه الأكمة، وهناك جمعوا مقدارا عظيما من الحطب والأغصان والقشور والجذور وغيرها من المواد القابلة الاحتراق، ثم أشعلوها ودحرجوها على المدينة، فانهالت شبه كرة من نار تتقد بلهيب عظيم، وتزداد اضطراما في انحدارها، على أن القارئ اللبيب لا بد من أن يقف هنا مرتابا في صدق رواية كهذه؛ إذ من المستحيل أن كومة كهذه من الوقيد مهما كان حزمها متينا تنحدر على الوجه المذكور، على أنه لا يبعد أن يتم ذلك بواسطة قطع كبيرة من الحطب تشد بأسلاك حديدية على هيئة أسطوانية أو كروية، وتحشى بمواد قابلة الاحتراق، وتدحرج من أعالي القمم في أحادير، فتبقى منهالة إلى الأسفل .
ولنرجع الآن إلى سرد تتمة الرواية في شأن تدمير هذه المدينة فنقول: إن تلك الطريقة التي انتحاها النرويجيون - على ما مر معنا - نجحت، فاشتعلت المدينة كلها وسلم سكانها لتوستغ وقومه الذين بعدما أكملوا السلب والنهب أقلعوا بمراكبهم، واستأنفوا تطوافهم ... أما نبأ خراب هذه المدينة فبلغ الملك هارلود في لندن في نهاية شهر أيلول وهو مشغول بتوزيع قواته، وتفريقها عن التخوم الجنوبية - كما مر معنا في الفصل السابق - إذ كان قد ترجح عنده أن الحملة النورماندية قد أرجئت إلى الربيع، وإذ ذاك فعوضا عن تفريق جيوشه في مراكزها الشتوية اضطر أن يجمعها ثانية بقدر ما يستطيع من السرعة، ويخرج بهم لدرئه هذا الخطر الجديد الغير المنتظر، وإذ ذاك دخل توستغ وأصحابه نهر همبر، وكان من قصدهم الوصول إلى مدينة يورك قاعدة المقاطعة التي كان يحكمها توستغ سابقا، وكانت قائمة بقرب نهر أوس الذي هو فرع من نهر همبر الذي اجتازوه وجاءوا إلى ثغر أوس، ومنه صعدوا إلى بقعة بقرب مدينة يورك وعسكروا فيها، ثم تقدموا لحصار المدينة فأبدى سكانها بعض الدفاع في الأول، ثم عرضوا التسليم بموجب عهدة ما لبثت أن تقررت في الحال، وكان ذلك نحو المساء، فتعين صباح اليوم التالي لدخول توستغ ورجاله إلى المدينة، وعندها إذ شعروا أن غنيمتهم أصبحت لديهم باردة رجعوا إلى معسكرهم يصرفون ليلتهم بالمسرات والأفراح، ويبيتون على نية تملك المدينة حين يبزغ الصباح.
فحدث في نفس تلك الليلة أن الملك هارلود قدم لتخليص المدينة، وكان يتوقع أنه يشاهد العدو محيطا بها من كل جهة يشدد عليها الحصار، لكنه عند اقترابه لم يصادف ما يحول دون دخوله إليها، بل في الحال فتح له سكانها الأبواب وأدخلوه وكل جيشه بينما توستغ وجميع رجاله النرويجيين كانوا غارقين بسبات النوم، متمتعين بلذة أحلام الفوز والظفر، غير مشعرين بالانقلاب العظيم الذي طرأ على أحوالهم تلك الليلة، وما عطس أنف الصباح حتى نهض توستغ ينظم فرقة من الرجال تهيئا لامتلاك المدينة، ومع أن الوقت كان في أيلول والطقس باردا وعاصفا حدث أن طلعت شمس ذلك اليوم بمعظم الإشراف واللمعان، وسكنت حركة الهواء وصفا الجو من أكدار الغيوم، وكان كل شيء يدل على الدفء واستحكام الحرارة، وإذ كان دخول توستغ وقومه إلى المدينة مقصودا على طريقة سلمية خلوا من جميع المظاهرات العدوانية، أصدرت الأوامر للعساكر أن يسيروا بدون العدد الحربية، ويتركوا في الخيام كل الأسلحة الثقيلة الباعثة على البطء والتراخي.
وفيما هم يتقدمون بهذه الهيئة المنزهة عن كل اهتمام واحتياط أبصروا أمامهم على الطريق المؤدية إلى المدينة غبارا كثيفا ضاربا في الأرض قبابا، وعاقدا في عنان السماء سحابا، ثم انجلى عن فرقة كبيرة من جيش الملك هارلود خارجة عليهم، وعلى أهبة الإيقاع بهم، فاستولى من جري ذلك العجب والانذهال على توستغ والنرويجيين، وكادوا يسقطون في أيديهم حيرة من رؤية هذا المشهد غير المنتظر، وما لبثوا أن تبينوا بريق الأسلحة وخفوق الرايات، وارتفع بينهم هتاف «العدو العدو» ممتدا إلى كل جهات الجيش، فأحدث في الجميع ذعرا ورعبا، أما توستغ وهارلود النرويجي فأوقفا رجالهما في الحال، ورتباهم على الفور صفوفا متأهبة للاشتباك في القتال، وهكذا فعل الملك هارلود برجاله ثم اخترقهم إلى المقدم، واصطف الجيشان متقابلين متوقعين أول إشارة تبدو لإصلاء نار الحرب، وإدارة رحى الطعن والضرب.
وإذ ذاك طلع من الجيش الإنكليزي عشرون خيالا غارقون بالحديد والفولاذ وحاملون راية الهدنة، هؤلاء جاءوا حتى صاروا على مقربة من صفوف النرويجيين، فطلب المقدم عليهم مواجهة توستغ، وفي اقترابه منه أبلغه أن أخاه لا يشاء محاربته، بل بالعكس يروم أن يعيش معه بالاتحاد والاتفاق، وعليه فهو يعرض عليه السلم إن كان يسلم أسلحته، وله من أخيه لقاء ذلك إرجاع أملاكه السابقة، وأعاد ما كان له من سالف الشرف والاعتبار.
فاستمال هذا البلاغ قلب توستغ، وحدثته نفسه بالرضى «والقبول والنفس خضراء» فأطرق برهة من الزمان، ثم سأل الرسول عما عينه أخوه من الترضية لصديقه ورفيقه هارلود النرويجي فأجابه: «قد عين له سبع أقدام من أرض إنكلترا قبرا له، وسيكون له أكثر من ذلك قليلا إذا أراد ، على ما نرى رجل طويل النجاد» فقال له توستغ: إذا أخبر أخي أن يتهيأ للقتال؛ إذ إنني لست بخائن من قطعت معه عهد الوفاء، ووعدته بالقيام على الولاء في السراء والضراء، فرجع المرسلون بجواب توستغ إلى معسكر الملك هارلود، وقامت بين الفريقين سوق الحرب، ومن المقرر أن بغض الجيش الإنكليزي الشديد كان موجها على الخصوص نحو النرويجيين وملكهم، من وجه أنهم اعتبروا غرباء سائرين ساقتهم القحة والتطفل على الثورة والهجوم بدون داع حقيقي وبغير باعث جوهري.
وبموجب ذلك حدث أنه ما ابتدأ القتال حتى أصيب هارلود النرويجي بسهم في حلقه صرعه على الأرض جديلا، وعندها حاول الملك هارلود بطال الحرب، وسعى جهده بالصلح مع أخيه، فلم يجده ذلك فتيلا؛ لأن توستغ حين أبصر رفيقه مطروحا مضرجا بدمائه احتدم غيظا، وسد أذنيه دون كل وساطة في السلام، واندفع يدير رحى الحرب بملء التحمس والإقدام حتى ورد حتفه وذاق كأس الحمام، وعند ذلك عدم الباقون من رجاله كل نشاط للذود والمدافعة، فسمح لهم الملك هارلود بالانكفاء إلى مراكبهم بشرط تسليم أسلحتهم، فقبلوا باشتراطه هذا ورجعوا أدراجهم إلى سفنهم، ونشروا شرعها وأقلعوا، أما الملك هارلود فإذا كان قد بلغه وصول وليم إلى الشواطئ الجنوبية، وطلوعه إلى البر جمع رجاله، ولم شعث قواته وخرج بهم بين ماش وراكب يلقى هذا العدو الشديد الساعد والعظيم الجانب.
ناپیژندل شوی مخ