تاریخ اُمت قبطیه
الهدية التوفيقية في تاريخ الأمة القبطية
ژانرونه
ولكن لم تلبث أن ظهرت الديانة المسيحية وانتشرت بين أبناء الأمة القبطية في عهد حكم الدولة الرومانية عليهم، لما أتاهم مار مرقس الرسول كارزا ومبشرا بكلام الله الحي، وناطقا بروح الإنجيل والوحي، فقبلوها وتدينوا بها كما سيأتي ذلك مفصلا.
أما لغتهم فكانت اللغة الهيروغليفية القديمة التي لم تزل منقوشة على أحجارهم الضخمة، وآثارهم الجمة المهمة كالموجودة الآن في الجيزة وصقارة، وغيرها من التي لم تكتشف بعد.
وكانت هذه اللغة تكتب أولا بصور مستعارة من الأشياء الطبيعية، وباصطلاحات دالة على الألفاظ المعنوية دلالة عقلية ظاهرة، فكانوا إذا راموا التعبير عن مفتاح مثلا وضعوه بصورته المعهودة، أو الإفصاح عن طير أو غيره، رسموه بشكله وهيئته وهكذا.
ولكنهم توصلوا بعد ذلك إلى كتابتها بحروف دالة على الأصوات.
ولكن لسوء الطالع أخذت تلك اللغة تنحط رويدا رويدا حتى كادت تندرس وتطمس معالمها؛ وذلك لأن الملوك الأجانب الذين تولوا على مصر - وخصوصا العرب - كانوا يحجرون عليهم التكلم بها.
أما هذه اللغة فإنها استمرت أجيالا مستطيلة مجهولة للعموم، وذلك نشأ من تسلط الدول الأجنبية من يونانيين ورومانيين وعرب على بلاد القبط كما قلنا، وتسلط لغتهم على لغة البلد الأصلية، وإهمال أشكال كتابتها الخصوصية التي معرفتها هي الواسطة الأمينة للنطق بها إهمالا كليا، ومع أن الأقباط القدماء لم يبخلوا على العالم في إحراز أشكال كتاباتهم، بل حفروها حفرا لا تمحوه الأجيال على هياكلهم وأهرامهم وعمدهم ومسلاتهم، ومقابرهم وغيرها من آثارهم الباقية للآن شاهدة لعنايتهم، فإذا أهملت معرفة تلك الأشكال بالكلية؛ كان الناظرون إلى صورها والمتأملون في حروفها لا يرون منها إلا ألغازا مبهمة وأسرارا متعتمة، أخيرا حان الزمان لاكتشاف هذا الكنز الأدبي، وذلك في عهد وجود الجيش الفرنساوي بمصرنا؛ إذ قد عثر الضابط الفرنساوي المدعو بوسارد (سنة 1799 ميلادية موافقة سنة 1515 للشهدا قبطية) على حجر أسود في مدينة رشيد، وعليه كتابة بثلاثة حروف مختلفة؛ الأول: الحرف الهيروغليفي الذي يرى غالبا على الأطلال المصرية، وهو الذي كان يستعمله الكهنة وأمثالهم، والثاني: الحرف الديموتي أو الديموطيكي، وهو الخط المعتاد الذي كان يستعمله العوام، والثالث: لحسن الحظ باللغة اليونانية. وقد اجتهد بعض الأوروبيين حينذاك في حل الخطين المصريين الأولين بواسطة الخط اليوناني، ولم يهتدوا إلى التمام. أخيرا كان الفضل في ذلك لمهارة العالم الفرنساوي شمبوليون؛ فإنه استخرج من الحجر الرشيدي معرفة الهيروغليف المصري - وكلمة الهيروغليف لفظة يونانية مركبة من كلمتين؛ «هيرو»: أي مقدس، و«غليف»: أي: حفر، والمعنى : الكتابات المقدسة - وذلك أنه لما رأى في الكتابة اليونانية اسم الملك بطليموس أو بطولميس، ووجد في الهيروغليفية كلمة منحصرة في خط إهليليجي تحقق من مراجعة أسماء أخرى منحصرة في إهليليجيات أخرى منقوشة على إحدى المسلات، وعرف أن الحرف الأول حقيقة هو الباء والثاني التاء ... إلخ، ومن ذا أخذ يستدل على باقي الحروف والأشكال، وبما أنه كان عارفا باللغة القبطية الجاري كتابتها بالأحرف اليونانية، وقد حل أشكال الحرف الهيروغليفي على ما ذكرنا؛ فمن قراءة الهيروغليفي عرف أن اللغة المصرية هي نفس اللغة القبطية الموجودة، إنما الأولى كانت بالخط المصري والثانية بالخط اليوناني، ومع أن اللغة القبطية اتخذت الحرف اليوناني وذلك من جري تسلط اليونانيين على مصر إلا أن ألفاظها الأصلية هي نفس الألفاظ المصرية القديمة، ولو أن كثيرا من الألفاظ اليونانية أدخلت فيها للآن، وكان لهذه اللغة ثلاثة اصطلاحات؛ الأول: الصعيدي وهو الذي كان مستعملا غالبا في الوجه القبلي وأكثر الهيروغليفات المنقوشة محررة به، والثاني: البحيري وهو المستعمل الآن لدى الأقباط، والثالث: البثموري نسبة إلى البثمور، وكان الأقباط الحافظون على الاصطلاحات الثلاثة في محرراتهم الأدبية والدينية ومخاطباتهم الأهلية، كما تدل الآثار الباقية للآن إلى أن تغلب الجهل وتسلط القسر، وأخذت معرفتهم في لغتهم تتنازل جيلا فجيلا؛ حتى انتهى الأمر إلى إهمال استعمالها بينهم بالجملة.
ثم بعد مضي أمد مديد، وعهد عهيد؛ صارت هذه اللغة القبطية لا تستعمل إلا في الطقوس الكنائسية، وفي أيام الحسن الذكر البطريرك كيرلس الأكبر العاشر بعد المائة جعلها تعلم في المدارس التي أنشأها في حياته.
وبعد أن كان لا يوجد أكثر من اثنين أو ثلاثة يعرفون هذه اللغة، صار يوجد الآن عدد عديد من الذين يحسنون التكلم والكتابة بها، فكان إحياء هذه اللغة الشريفة القديمة من ضمن مآثر غبطة هذا البطريرك الجمة، وآثاره المهمة التي خلدت له ذكرا حميدا في متون التواريخ وبطون المؤلفات يتضوع شذاه في الآفاق، ويملأ الصحف والأوراق، لا يمحوه مرور الأيام وكرور الأعوام.
الباب الأول
ملوك الأقباط وحكامهم
ناپیژندل شوی مخ