211

تاریخ ترجمه

تاريخ الترجمة والحركة الثقافية في عصر محمد علي

ژانرونه

ولو أن اللغة العربية كانت تكتب بحروف لاتينية، أو لو أن اللغات الأوروبية كانت تكتب بحروف عربية لسهل العمل على المترجمين قليلا؛ فإن رسم اللفظ - الذي تصعب ترجمته من لغة إلى لغة أخرى تشبهها في رسم الحروف - يسهل على القارئ قراءته قراءة صحيحة، وقد يعينه على فهم معناه إذا كانت اللغتان متشابهتين أو متقاربتين، أو منحدرتين من أصل واحد، ذكر هذه الحقيقة خليفة محمود في مقدمة كتابه «إتحاف الملوك الألبا بتقدم الجمعيات في بلاد أوروبا»؛ فقد ألف هذا الكتاب في الأصل المؤرخ الإنجليزي «روبرستون»، ثم ترجمه خليفة أفندي عن ترجمة فرنسية، ووصف في أوله ما يلاقيه هو وغيره من المترجمين من صعاب أثناء الترجمة، ثم شرح الفكرة السابقة بقوله: «إن فن الترجمة جبل صعب المرتقى ... وتاريخ الإمبراطور شارلكان من أصعب ما نظم في السلوك من تواريخ الدول والملوك ... لأن من ترجموه إلى اللغات المختلفة كانوا أبطالا شهد لهم بالذكاء والألمعية ... ومع ذلك فقد استصعبوه، وبالدقة وصفوه، مع أن لغاتهم مشابهة لبعضها، والحروف واحدة، فإذا عثر من يترجم من الإنجليزية مثلا إلى الفرنساوية على كلمة لم يجد لها مقابلا في لغته، يكتبها على أصلها في ترجمته، وتقرأ وتفهم من غير صعوبة ...»

أدرك المترجمون هذ الصعوبة الناتجة عن اختلاف اللغة العربية عن اللغات الأوروبية في أصول الكلمات واشتقاقاتها، وفي رسم الحروف، وكانوا يستطيعون أن يتغلبوا عليها لو أنهم رسموا الألفاظ الجديدة بالحروف العربية وأثبتوها كما هي بحروفها اللاتينية إلى جانب الرسم العربي، كما نفعل نحن الآن في كثير من الأحيان، ولكنهم لم يفعلوا، ولست أدري السر في إحجامهم عن استعمال هذه الطريقة مع أن مطبعة بولاق منذ أنشئت، بل ومعظم المطابع الأخرى - وخاصة مطبعة سراي رأس التين بالإسكندرية - كانت بها مجموعات للحروف اللاتينية، بأشكال وأحجام مختلفة.

أهمل المترجمون إذن الحروف اللاتينية تماما، ثم حاولوا مستعينين بما وصلت إليه أيديهم من قواميس ومعاجم، وبجهود المحررين والمصححين من المشايخ، البحث في كتب الطب، والكيمياء، والنبات العربية القديمة على ألفاظ ومصطلحات تقابل ما يعثرون عليه من ألفاظ ومصطلحات في المؤلفات الأوروبية، واستطاعوا بهذه الطريقة أن يحيوا ألفاظا علمية عربية كثيرة، غير أن العالم الأوروبي في أوائل القرن التاسع عشر كان قد أوجد علوما جديدة، وأحدث اختراعات، وعرف نظما وأوضاعا سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة لم يكن للعرب القدامى بها عهد.

وهذا العالم الأوروبي قد اتصلت الأسباب بينه وبين مصر والمصريين بعد قطيعة طالت أمدها؛ ولهذا العالم الأوروبي تاريخ وجغرافيا مفعمتان بالأسماء التي لم تعرفها ولم تذكرها الكتب العربية القديمة، بل هناك عالم جديد قد اكتشف وعالم قديم كان في سبيله إلى الاكتشاف، وعلماء أوروبا قد وضعوا التصانيف الكثيرة في دراسة هذه العوالم جميعا، وبرنامج الترجمة في عصر محمد علي كان يرمي إلى نقل كتب كثيرة للتعريف بهذه العوالم، فكيف إذن يستطيع المترجمون التغلب على هذه الصعوبة؟

لقد حاولوا، وبذلوا الجهد، وبدءوا يصطنعون طرقا تمهد لهم السبل، واللغة كما نعرف كائن حي، ينمو ويتطور، فإذا كنا قد انتهينا إلى صياغة ألفاظ ومصطلحات علمية كثيرة تقابل الألفاظ والمصطلحات العلمية الأوروبية الحديثة، فالفضل الأكبر يرجع لجهود هؤلاء الرواد، ولنتتبع الآن الطرق التي اصطنعوها لأنفسهم.

لقد حاولوا أولا إيجاد ألفاظ ومصطلحات عربية تقابل الألفاظ والمصطلحات الأوروبية، بل إنا لنلاحظ أن هؤلاء المترجمين لم يكونوا جامدين ولا متزمتين، ولم يقيدوا أنفسهم بالألفاظ العربية دائما، فكانوا إذا وجدوا أن اللفظ العربي قد أهمله المتكلمون بالعربية أنفسهم، وبدءوا يستعملون اللفظ الأوروبي، أو لفظا قريبا منه، فضلوا اللفظ الجديد على اللفظ القديم. يقول رفاعة في مقدمة «التعريبات الشافية»: «واعلم أنه قد تمر عليك أسماء بلدان أبقيناها على أسمائها الفرنساوية؛ إما لاشتهارها في هذا العهد بتلك الأسماء، كجزيرة «سرنديب» فإنها الآن تسمى جزيرة «سيلان»، واشتهرت عند عامة الناس بهذا الاسم، وجزيرة «صقلية» فإنها اشتهرت الآن باسم جزيرة «سيسيليا»، وجزيرة «أقرطيش» فإنها يقال لها الآن جزيرة «كريد»، وإما لعدم الوقوف على الاسم العربي، ولعل هذا السبب الأخير هو الموجب لما فعله المرحوم الحاج خليفة أفندي صاحب كتاب الجغرافيا المطبوع في مدينة إسلامبول من إبقائه أسماء أماكن على لفظها الفرنساوي، لعدم اطلاعه على أسمائها العربية والتركية.»

هذه كانت خطوتهم الأولى، وكانوا إذا عجزوا عن العثور على لفظ عربي يؤدي المعنى المطلوب، أو يقابل اللفظ الأوروبي، نقلوا اللفظ أو المصطلح الجديد كما هو، ورسموه بحروف عربية، وإذ كانت الحروف العربية في مطابع ذلك العصر خالية من الشكل تماما، فقد لجئوا للطريقة القديمة، فبينوا بالكلمات طريقة نطق هذه الألفاظ، ثم أشفعوا هذا كله بتفسير للمصطلح الجديد، أو تعريف له، في جملة أو جمل كثيرة، يقول رفاعة في مقدمة كتاب «المعادن النافعة»: «وقد فسرت مفرداته على حسب ما ظهر لي بالفحص التام، وما تعاصى منها حفظت لفظه، ورسمته كما يمكن كتابته به، وربما أدخلته بعض تفسيرات لطيفة.» ونستطيع بحق أن نقول إن رفاعة هو مبتدع هذه الطريقة وصاحبها، فقد اتبعها في معظم كتبه التي ترجمها، وعنه أيضا أخذها تلاميذه في مدرسة الألسن؛ فهذا خليفة أفندي محمود يقول في مقدمة كتاب «إتحاف الملوك الألبا»: «... إن اللغة العربية بمعزل عن اللغات الإفرنجية، فلزم لي معاناة أين، ومكابدة مشاق بين حين إلى حين، لأجل أن آتي بمقابل ألفاظ يصعب وجود مقابل لها في العربية، يكون مطابقا لمعناها، ومؤديا لجميع مفادها وفحواها، حتى إنه ربما ورد علي بعض ألفاظ لم أجد لها مقابلا بالكلية، فبلفظها الأصلي ذكرتها، وبجملة اعتراضية فسرتها.» ولنأت الآن ببعض الأمثلة التي توضح هذه الطريقة نقلناها عن بعض الكتب التي ترجمها رفاعة وتلاميذه. (1)

الأنستتوت - بفتح الهمزة وسكون النون وكسر السين - أي مشورة العلوم وأكابرهم. (2)

الإكتريستة، بكسر الهمزة، وسكون الكاف وكسر التاء والراء، وكسر السين وفتح التاء - المسماة الرسيس، بفتح الراء المشددة وكسر السين، التي هي خاصة الكهربا عند حكها. (3)

شمبر دوبير، بفتح الشين وسكون الميم - يعني ديوان «البير» بفتح الموحدة؛ أي أهل المشورة الأولى. (4)

ناپیژندل شوی مخ