فقالت النسانيس : إن المليك من كمال رأفته وفرط عاطفته علينا إذ نحن رعاياه يقدم كل هذا التأكيد تمهيدا لقواعد قبول هذه النصيحة ، فلو لم يكن قد ظهر من الدهر أمر عظيم وجرم وخيم لما كان المليك قد ساق مثل هذه المبالغة ، لكن برغم ذلك فإنه ما لم يبين سبب ذلك التحرك ؛ ولذا فلن يسكن خفقان قلوبنا ولن يهدأ ، وما لم نقف على هذا السر فلن نلتزم بالانقياد لأوامره واجتناب نواهيه ، كما أن مدد قوة قلوبنا ونشاط حركتنا تزداد بوفور شفقته علينا وظهور رحمته لنا ، فقال ملك" النسانيس" : اعلموا أننى صعدت بالأمس فوق شجرة تشرف على جانب هذه المدينة وكنت أنظر إلى داخل قصر هذه المدينة ، فرأيت شاة تخص ابن مليكها وكانت تنطح بنتا من خدمهم وقد قال العلماء : اجتنبوا مجاورة المعتدين ، ونهوا عن ذلك ولا أريد أن أعد ما أشار به العلماء أو أن أعد كلامهم لغوا فتعجب النسانيس جملة مبتسمين من قوله وبدأوا يتهكمون منه لبالغ تبرمهم وضيقهم بقوله فقالوا له :
وإن لاح برق من لوى الجزع خافق
رجعت وجفن العين ملآن دافق (1)
أنت قدوتنا ومليكنا سنين عددا وأنت عاقل القوم وصاحب السن والرأى والتجربة ألا تقل لنا فى النهاية ماذا سيحل بنا من مناطحة ومعاداة شاة وجارية للملك فقال لهم مليكهم : أولا هذا لكم وهذا فى حد ذاته سهل وبسيط ، إذ سوف يحل بكم ابتداء ثم من بعد ذلك هلاك أهل تلك المدينة وقتل من بها فتعجب النسانيس واستغربوا لهذا القول وقالوا : إننا لم نرك على هذه الصفة من قبل لقد أصابتك عين السوء ، وغطت غشاوة عقلك فعليك بالحمية الصادقة ، حتى نحضر لك الأطباء ونعالج ما بك من سوء حتى تبقى معنا ولا تحرم من الملك أو تفتقده ، قال ملك النسانيس لقد صدق الحكماء إذ قالوا : (من عدم العقل لم يزده السلطان عزا ومن عدم القناعة لم يزده المال غنى ومن عدم الإيمان لم تزده الرواية فقها) ومعناه إن كل من يكون ذليلا لعدم العقل فلا يستطيع مليك الزمان وأمير العصر أن يجعله عزيزا ، وكل من لا يملك رضا أو قناعة فإن المال لا يجعله غنيا ، وكل من لا يملك الإيمان فإن كثرة الرواية لا تجعله فقيها :
مخ ۵۰