وبعد جملة انتصارات وعدة فتوحات عاد مظفرا منصورا إلى مدينة بورصه، وهناك أقام يتمتع باللذات مدة من الزمان، وبينما هو على تلك الحال إذ وفد إليه رسول من قبل الملك تيمورلنك ملك التتر ينهيه من هذه الغفلة، فأغلظ له الجواب، وانصرف الرسول مخذولا، فتحزب ملك القسطنطينية مع بعض ملوك أوروبا واستنجدوا تيمورلنك، الذي كان يفتح حينئذ البلاد في جهة خوارزم وبين النهرين لمقاتلة السلطان بايزيد. فلما علم السلطان بايزيد بعزائم المذكورين جمع جيوشه، وتقدم بهم حتى قطع البحر من جهة أوروبا وحاصر القسطنطينية عاقدا العزم على فتحها. وفي أثناء ذلك، بلغه زحف عساكر التتر إلى أطراف بلاده، فشق عليه الأمر، وبالأخص عندما علم بخذلان أبطاله في مدينة سيواس، حيث استظهر عليها تيمورلنك وقتل ابنه أرطغرل، لكنه بعد أن تدبر للأمر استصوب رفع الحصار عن القسطنطينية، وحشد جيوشه التي كانت متفرقة في جهات أوروبا وآسيا عائدا بها إلى بورصه. أما انتصارات تيمورلنك فقد ملأت الأسماع، وألقت في قلوب العساكر العثمانية الخوف والرعب، بالنظر لما كانت تأتيه من القساوة في معاملة الأسراء، فمن معاملته السيئة أنه عندما افتتح سيزاوار بنى فيها برجا من أجساد محاربيه، وأنه أخذ نحو ألفين من الرجال الأحياء ثم وضع بعضهم فوق بعض نظير الحجارة، وبناهم بالطين واحدا فوق الآخر، وفي واقعة سيواس أخذ فرسان الأرمن، وأحنى رءوسهم بين أرجلهم وألقاهم في خنادق واسعة وردمهم بالتراب.
أما السلطان بايزيد فانتقاما لدم ابنه زحف بجنوده على تيمورلنك، والتقى به في سهل أنقرة، وكان قواد عساكر تيمورلنك أربعة من أولاده، وقواد السلطان بايزيد خمسة من أولاده؛ وهم: موسى وسليمان ومحمد وعيسى ومصطفى، فانتشب بينهم القتال من الصباح إلى المساء، غير أن أكثر جنود السلطان بايزيد، وبالأخص الآلايات المؤلفة من التتر خانوه منضمين إلى عساكر تيمورلنك، فلما نظر ذلك عول على الانهزام، وفي أثناء هربه سقط عن ظهر جواده، وأخذ أسيرا في 19 ذي الحجة سنة 803ه، الموافق 20 يوليو سنة 1420 ميلادية، فلما رأى ولده موسى أنه أخذ أسيرا تبعه، وانهزم أخواه سليمان ومحمد، أما مصطفى فقد اختفى ولم يذكر عنه المؤرخون شيئا، بل لقبوه بالضائع، ولما وصل السلطان بايزيد أمام تيمورلنك اقتبله بما يليق به من الإجلال والتعظيم، ثم أجلسه إلى جانبه، وأمنه على حياته، وأمر بأن تنصب له ثلاثة صواوين، وأمر حسن برلاص أن يكون له نديما. وكان تيمورلنك قد قدم إلى تلك الأطراف بسبب أحمد جليار، سلطان العراق، الذي كان أغار عليه فهرب والتجأ إلى السلطان بايزيد، ولما طلبه منه ولم يرد أن يسلمه إليه أغار على بلاده منتقما منه؛ لإغاثته بعض ملوك أوروبا وملك القسطنطينية الذين استنجدوه عليه.
وبعد هذه الحادثة بثمانية شهور توفي السلطان بايزيد في آق شهر عام 805، فنقل ابنه موسى جثته إلى بروسه، حيث دفنه قرب ضريح أبيه السلطان مراد الأول تغمدهما الله برحمته ورضوانه.
السلطان الخامس
السلطان محمد خان جلبي ابن السلطان بايزيد الأول
ولد عام 781ه، ولما بلغ أشده خاض ميادين الوغى تحت دربة والده ملازما إياه حتى يوم وفاته، وبعد ذلك وقعت المنازعة بينه وبين إخوته مدة إحدى عشرة سنة، فاختلس تيمورلنك تلك الفرصة وأخذ يتلاعب برجال الدولة بما اشتهر به من الذكاء والدهاء، وفي تلك المدة ثار الإنكشارية وتمردوا، فقتلوا سليمان ابن السلطان، فانتقم منهم أخوه موسى وأحرق منهم كثيرين، ثم إن موسى هذا كاد لأخيه محمد خان، فرجع كيده في نحره وقتل، فهدأت بموته القلاقل والاضطرابات، وجلس أخوه محمد خان على تخت السلطنة عام 816ه، فجاءه رسل من ملوك اليونان والإفرنج يقدمون لعظمته التهاني والهدايا، فأنعم على ملوك اليونان ببعض أماكن كان اغتنمها منهم أسلافه، وعقد الصلح مع ملوك الإفرنج، ثم شرع في إصلاح شأن السلطنة، وإعلاء شأنها باسترجاعه البلاد التي كان سلخها عنها تيمورلنك، واستعاد بغداد من أمير قرمان، وأخضع بلاد السرب، وفتح مدينة أزمير، وضرب الجزية على بلاد الفلاق، وحارب مشيخة البندقية، وعقد الصلح مع عمانويل ملك القسطنطينية، ونصب كرسي ملكه في أدرنه، وهو أول من شكل العساكر البحرية.
وفي عام 824ه، مرض بالإسهال الدموي، وقبل أن يدنف كتب إلى ابنه مراد، الذي كان وقتئذ في أماسيا، يخبره بمرضه، ويشير إلى استخلافه. وبعد أيام قليلة توفي في العام ذاته، فأراد كبراء الدولة إخفاء موته عن الجنود إلى أن يحضر ولده، وكان الديوان يجتمع كل يوم للنظر في تدبير أمور المملكة حسب العادة المألوفة، فأصدر أمرا للجنود ليتوجهوا إلى فتح بعض البلاد، فأطاعوا وطلبوا قبل سفرهم مشاهدة سلطانهم المحبوب، فاعتذر لهم رجال الديوان بأن ذلك يزعجه ويثقل مرضه، فلم يرضوا ولبثوا ملحين في نوال ملتمسهم، فأمروهم أن يمروا تحت كشك القصر، وهناك ينظرون السلطان، حيث إن جثته لم تكن دفنت، فأجلسوه في نافذة من القصر، وجلس خلفه رجل يحرك له يده، فمرت الجنود تحت النافذة، وفرحوا فرحا عظيما من مشاهدة سلطانهم، وذهبوا إلى الحرب كالأسود الكاسرة، واستمر خبر وفاته مكتوما عن العساكر وعامة الناس مدة أربعين يوما حتى وصل ولده السلطان مراد، وجلس على تخت السلطان، ونقل جثة والده بكل إكرام إلى بورصة حيث واراها التراب في جوار جامع يشيل. تغمده الله برضوانه.
وكان رحمه الله يحب بناء الجوامع، ويميل إلى رجال العلم والمشايخ، ويرسل الصدقات. وهو أول من أرسل صرة من الذهب إلى شريف مكة المكرمة ليوزعها على الفقراء، وكان ذكي العقل، شديد البياض، أسود العينين، عريض الحاجبين، فسيح الجبهة، مرتفع الصدر، مستقيما في تصرفاته، عادلا في أحكامه، كريما شفوقا على الرعية. وهو الذي خلص المملكة من الدمار، وأعاد لها شرفها الباذخ حتى إن بعض المؤرخين لقبه بنوح في تخليصه فلك المملكة من طوفان التتر.
السلطان السادس
السلطان مراد خان الثاني ابن السلطان محمد جلبي
ناپیژندل شوی مخ