وفي سنة 1290ه عاد خير الدين باشا إلى الوزارة الكبرى في تونس، فجاهر بيرم بنصرته وصرح بآرائه السياسية على صفحات الجرائد، وهو أول من تجاسر على ذلك هناك؛ وأعجب الوزير بنشاطه وتعقله فعهد إليه إدارة الأوقاف سنة 1291ه فأحسن إدارتها ونظمها. وأصيب في السنة التالية بانحراف حمله على السفر إلى أوروبا للاستشفاء، ولقي في باريس المارشال مكماهون فأكرمه، وحضر المعرض العام وشاهد كثيرا من ثمار قرائح أهل هذا التمدن، فلما عاد إلى تونس أخذ في تنظيم مستشفاها على نحو ما رآه في مستشفيات أوروبا.
ووقع في أثناء ذلك بين قنصل فرنسا الكونت دوسانسي والحكومة التونسية نزاع على بقعة أرض كانت الحكومة منحته إياها لتربية الخيل على شروط أخل بها، فأرادت استرجاعها فأبى، وبينما هي تنازعه وتجادله عليها ذهب الوزير وهو يومئذ مصطفى بك إسماعيل إلى تلك الأرض ودخلها عنوة في زمرة من أعوانه، فاغتنم القنصل هذا التعدي لتمكين سيادة دولته في تونس، فرفع أمره إليها وطلب عزل الوزير فخاف هذا وأسرع إلى الترضية فعينوا لجنة تحكيم كان بيرم أحد أعضائها، فأخذ جانب الدفاع عن الحكومة بكل قواه وكان نحيف البنية مصابا بمرض في الأعصاب الموصلة بين المعدة والقلب مع ضعف شديد في الدم يستخدم المورفين لتسكين آلامه، فأثر ذلك في صحته واضطر أن يشخص إلى باريس للاستشفاء، وأما اللجنة فصدر حكمها لمصلحة القنصل.
ونهض التونسيون على أثر ذلك يطلبون الجنوح من الحكم الاستبدادي إلى الشورى، وسعوا في ذلك سعيا حثيثا لم يأت بنتيجة لأن أمير البلاد يومئذ لم يعضد مطالبهم، ويقال إن ذلك كان بتحريض فرنسا؛ لأنها تعتقد أن الحكومة الدستورية تخالف مصلحتها هناك، وأما بيرم فقد كان في مقدمة الراغبين في الشورى وعاتبه الأمير على تعضيده الأهالي في مطالبهم، فأجابه بحرية لم يعهد مثلها وبين له خطأه.
وتوجه تلك السنة إلى باريس كالعادة واغتنم وجوده هناك ورفع إلى غمبتا تقريرا مسهبا يشكو فيه سوء تصرف القنصل ووقوفه في سبيل كل مشروع نافع للبلاد، وبلغ خبر ذلك إلى القنصل فزاد غضبا ونقمة. واتفق في أثناء طلب التونسيين الشورى أن الدول كانت مشغولة بخلع إسماعيل باشا خديوي مصر، وكان الصدر الأعظم في الآستانة يومئذ خير الدين باشا، ونظرا لما يعلمونه من علائق بيرم بخير الدين استنتج الفرنسويون أن مطالب التونسيين لم يكن الغرض منها إلا فتح السبيل لمداخلة الباب العالي، واتهموا صاحب الترجمة أنه الواسطة بذلك، ولما بلغه الخبر استعفى من منصبه في تونس وعزم على البقاء بعيدا عنها، لكنه عاد إليها بعد إلحاح أصدقائه. وكان قد فهم وهو في باريس رغبة فرنسا في ضم تونس إلى أملاكها ضما كليا، وأنها أغرت الوزير مصطفى فمالأها طمعا بالترقي؛ فذهبت آمال صاحب الترجمة بإنقاذ بلاده، فعزم على الخروج منها فلم تأذن الحكومة بسفره، فاحتال بطلب الرخصة للحج فأذن له فخرج سنة 1296. وجاء مصر وسافر منها إلى الحرمين، ثم يمم سوريا فالقسطنطينية فأحسنت الدولة وفادته. ولكن الوزير التونسي كتب إلى الباب العالي بإرجاع الشيخ بيرم؛ لأنه لم يقدم حسابا عن إدارة الأوقاف التي كانت في عهدته فنصره خير الدين ولم يسلمه. ولما تم لفرنسا ضم تونس إلى أملاكها سنة 1298 عزلت الوزير مصطفى وعاملته معاملة الخائن.
واشتغل الشيخ محمد بيرم في أثناء إقامته في الآستانة بالكتابة والتحرير، وراعى صحته فتحسنت كثيرا وقل استعماله للمورفين، وكانت وجهته النظر فيما آل إليه حال البلاد الإسلامية من طمع الأجانب، ووصف الأدوية لملافاة ذلك ولم يجد الكلام نفعا.
ولما تحقق رسوخ قدم فرنسا بتونس يئس من العودة إليها، فأراد أن يكون قريبا من أهله فانتقل إلى مصر بعد الحوادث العرابية، سنة 1884، وقد باع أملاكه في تونس ونقل عائلته منها، وأنشأ في مصر جريدة سياسية اسمها «الأعلام» تصدر ثلاث مرات في الأسبوع، ثم صارت أسبوعية. وكانت خطتها محاسنة الإنكليز والاستفادة منهم، فانتقد بعضهم عليه هذه الخطة؛ لأنها تخالف ما كان عليه في تونس، وأنه إنما هجرها فرارا من الحكم الأجنبي فكيف يكلف المصريين عكس ذلك؟ ولكن الذين يرون رأيه كانوا يعتذرون بأنه إنما حث على محاسنة الإنكليز والاستفادة منهم؛ لأن معاكستهم وأمر البلاد في أيديهم لا تجدي نفعا، وأن مجافاة الفرنساويين أوجدت أسبابا ساعدتهم على ضم تونس إلى بلادهم. وقد ألجأه إلى انتهاج هذا المسلك أيضا ما قاساه من ظلم الحكم الاستبدادي في تونس وما آنسه من العوامل المحركة في مصر بإغراء بعض الأجانب الذين يوغرون صدور الناس على حكامهم؛ مما يعود بالضرر.
واضطر بعد إقامته سنتين بمصر أن يعود إلى أوروبا فتمم سياحاته فيها، وعاد إلى مصر فعينته الحكومة سنة 1889 قاضيا في محكمة مصر الابتدائية. وكثيرا ما كلفته الوزارة كتابة ملاحظاته على القضاء الشرعي؛ لأنه كان واسع الاطلاع فيه. وما زال عاملا مجتهدا رغم ما يعتوره من المرض حتى توفي سنة 1307ه/1889م .
وقد خلف آثارا كتابية أكبرها كتاب «صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار» طبع بمصر في خمسة أجزاء، وهو عبارة عن رحلة عامة في أوروبا ومصر والشام والحجاز وغيرها، وذكر فيها كثيرا من الحقائق التاريخية والاجتماعية عن بلاد العرب وتونس والجزائر لا تجدها في كتاب آخر، وأكثرها شاهده بنفسه أو كان داخلا فيه ولا سيما تاريخ تونس والجزائر.
وله ما خلا ذلك رسالة «تحفة الخواص في حل صيد بندق الرصاص» ومختصر في فن العروض، ورسالة في «التحقيق في شأن الرقيق» بحث فيها عن كيفية معاملة الرق عند المسيحية وأن منع الحكومات الإسلامية لتجارة الرقيق شرعي، وكتاب «تجريد الأسنان للرد على الخطيب رينان» رد فيه على ما كتبه رينان في الإسلام والعلم، ورسالة في جواز ابتياع أوراق الديون التي تصدرها الممالك الإسلامية حتى تبقى أموال المسلمين في بلادهم ولا يحجبهم عنها اشتباه الربا، وهو لا ينطبق في هذه الحالة عليها. وألف كتابا مسهبا في شأن التعليم بمصر، ذهب فيه إلى وجوب انتشاره باللغة العربية لسهولة تناوله وتعميمه بين طبقات الناس. وله كتابات أخرى لم نقف على أسمائها، ويؤخذ من مجملها أن صاحب الترجمة كان من محبي الإصلاح وتقريب المسلمين إلى عوامل التمدن الحديث، وإزالة ما قد يعترضهم من أشباه الموانع الدينية على نحو ما كان يفعله الشيخ محمد عبده رحمهما الله.
جرجي زيدان
ناپیژندل شوی مخ