أما ديانة الرومانيين فكانت الوثنية يشوبها شيء من الصابئية، ولما كثر اختلاطهم باليونانيين (الإغريق) اقتبسوا كثيرا من عوائدهم الدينية واتخذوا معبوداتهم آلهة لهم، فأقاموا الهياكل والمعابد للمريخ والمشترى والزهراء وغيرها من النجوم الثوابت والسيارة، وكانوا يؤلهون القوى الطبيعية كالبحر وأمواجه وجبال النار والهواء، وكذلك العواطف النفسانية كالحكمة والشرف وحب الوطن والحلم والغضب وهلم جرا، ويقيمون التماثيل والأنصاب رمزا لها فيعبدها العوام بصفة آلهة حقيقية والعياذ بالله.
ولم يكن لهم قسوس لإقامة الصلاة وتقديم القرابين لمعبوداتهم، بل كان كل رئيس عائلة يقوم بهذه الوظائف بين أفراد عائلته، وكان رئيس الحكومة هو الكاهن الأكبر، ثم وجدت بعض طوائف دينية خصصت لأعمال معلومة؛ مثل المنجمين وكهنة المعبود المريخ وغيرهم مما لا يسمح لنا حجم الكتاب بتفصيله تفصيلا كافيا.
وكان للرومانيين اعتقاد أكيد وتمسك شديد بالطوالع الفلكية والتفاؤل بأقل الأمور والتشاؤم من أصغرها، فكانوا لا يقومون بأي عمل خصوصي أو عمومي إلا بعد أن يستطلعوا اتجاه الريح وطير الطيور وتغريدها، أو حالة ما يقدمونه من القرابين عند ذبحها من سكون أو اضطراب أو بعد موتها من تشنجات وحركات وحالة الأمعاء ولونها ووضعها، وكان الرجل لا يخرج من بيته إذا عثرت قدمه أو صادفه طير عن يساره إلى غير ذلك من الأمور التي تضحك الصبيان، ولا تزال مع ذلك متأصلة في نفوس جميع الشعوب حتى التي انتشر التعليم بين أفرادها، ولن تزال كذلك لميل النفس لتصديقها وانتقال الاعتقاد فيها بالوراثة حتى تتلاشى شيئا فشيئا بتعميم التعليم، وزوال آثارها المنطبعة في المخيلة تدريجا.
وأما عوائدهم المنزلية فكان أساسها التقشف وعدم الترف والبذخ وترك الكماليات والاكتفاء بالحاجيات الضرورية، وكانت معاملة رب المنزل لخادميه كمعاملته لأولاده إذ كان يساعدهم في جميع الأعمال، فكان يحرث بيده مهما كانت ثروته العقارية، وكانت ربة البيت تصرف وقتها في تدبير شؤون منزلها ومساعدة جواريها على القيام بكافة ما يستلزمه، وتصرف أوقات الفراغ معهن في الغزل والحياكة، لكن كانت حالة المرأة في أيامهم أحط بكثير من حالتها الآن في جميع الجهات، فكان لا يجوز لها التصرف في أملاكها مطلقا ولو بلغت من العمر عتيا، بل كانت طول حياتها في حالة الحجر تحت وصاية أبيها ثم زوجها ثم أكبر أبنائها فأخيها فابن أخيها ... إلخ على حسب ترتيب معلوم، وكان لرب العائلة الحق المطلق في مجازاة أولاده وامرأته بجميع العقوبات البدنية حتى القتل بدون أن يسأل عن سببه؛ إذ كان الكل لديه كالأنعام أو أقل قدرا، ولا يصير الولد حرا مهما بلغ من العمر أو ترقى في مناصب الحكومة ما دام والده موجودا، فكان للوالد أن يقتل ولده ولو كان عضوا في مجلس الشيوخ أو قائدا عاما للجيوش كما حصل في فتنة (كتلينا) حيث قتل والد ابنه وكان عضوا في المجلس المذكور بدون محاكمة، بل بمجرد ما له عليه من الحقوق، ومن غريب عوائدهم أن المدين المعسر يكون رقيقا لدائنه كما ذكرنا، ولو كان الدائنون عديدين جاز لهم بيعه واقتسام ثمنه أو قتله وتقسيم جثته.
ثم تركت هذه العوائد البربرية شيئا فشيئا، وارتقت الأخلاق العمومية تبعا لارتقاء التمدن والعمارية مما هو مسطور ومذكور في المطولات خصوصا في كتب القانون الروماني، فليرجع إليها من يريد التوسع في هذا الموضوع.
الجمهورية في عهد القناصل الأشراف
من سنة 510ق.م إلى سنة 471ق.م
قد ذكرنا فيما مر أسباب سقوط الحكومة الملوكية، وما أتاه تركان الشامخ من الفظائع الوحشية التي أبعدت عنه قلوب الأهالي وكانت سببا لطرده وعائلته من المدينة، ثم شرحنا ما أتاه من الاستنجاد بالأجانب ضد رومة لإخضاعها وإعادته إلى مقر عرشه، وكيف استولى (بورسنا) على المدينة ولبث بها مدة، ونحن ذاكرون الآن الاحتياطات التي اتخذها مجلس الشيوخ عند تأسيس الحكومة الجمهورية لمنع عودة السلطة الاستبدادية ثانيا، وبقاء النفوذ في أيديهم، وعدم تطرق أيدي طبقة العوام إليها أو طموح أنظارهم للحصول عليها، فقرروا أن ينتخب لرئاسة الحكومة اثنان من بينهم لمدة سنة واحدة، ويكون لهما ما كان للملك من الحقوق والوظائف إلا حق الحكم بالإعدام فيحرمون منه ما داموا داخل أسوار المدينة أو خارجا عنها بمسافة ميل واحد ويعود لهم بعد هذه المسافة، وتقرر رمزا لذلك أن لا توضع البلط ضمن العمد التي تحمل أمامهم إلا بعد ابتعادهم عن المدينة بزيادة عن ميل، وأن تكون السلطة لكل منهما مدة شهر بالمناوبة، وأن من يطمح لاختلاس السلطة المطلقة بدون حق أو يسعى في إعادة الملوكية يكون جزاؤه القتل لا محالة، وأن تخفض العمد التي تحمل أمام القناصل عند حضورهم أمام الجمعية العمومية احتراما لها واعترافا بأن سلطتها فوق سلطتهما.
ولزيادة ارتباط الأهالي بالجمهورية واستمالتهم إليها أضيف إلى السناتو مائة عضو انتخبوا من جماعة (الشفاليه) وانتخب مكانهم مائة من أغنياء طبقة العوام، ثم وزعت أملاك العائلة الملوكية على الفقراء من بينهم، وأبطلت الرسوم الجمركية على الحدود لتخفض أسعار الواردات الخارجية وأنزل ثمن الملح كثيرا، وبذلك رسخت قدم الحكومة الجمهورية واتحد الرومانيون على الدفاع عنها، وصاروا جميعا - على اختلاف طبقاتهم - يدا واحدة لصد هجمات الأعداء حتى وطدوا دعائمها، وصار لا يخشى عليها من دسائس المفسدين ومكر الماكرين.
لكن من جهة أخرى أهملت الزراعة بسبب الحروب المتواصلة، وكثرت ديون الفقراء بتراكم الفوائد الفادحة حتى عجزوا عن الدفع، ووقع كثيرون منهم في حالة الرق بمقتضى القانون؛ فتآمر المديونون المعسرون وطلبوا من الحكومة وضع حد للفوائد الزائدة، وإلزام الدائنين بترك بعض ديونهم التي أغلبها فوائد متكاثفة فلم تصغ الحكومة لشكواهم ولم تسع في تخفيف بلواهم ؛ لأنه كان لأغلب القابضين على أزمة الأحكام ديون على الأهالي، ولو لبوا نداءهم لخسروا مبالغ وافرة، ولازدياد الفقر وتفاقم الخطب امتنع الأهالي عن الخروج لمحاربة اللاتين حين أتوا لنجدة تركان في سنة 496ق.م، وأبوا القتال ما لم يجب طلبهم؛ فقررت الحكومة انتخاب حاكم مطلق موقتا (دكتاتور) لمدة ستة شهور يتصرف في الأحكام حسب ما تقتضيه الأحوال حتى بالقتل
ناپیژندل شوی مخ