إن في قتل مشاري قاتل الإمام تركي منشأ إمارة بيت الرشيد في حائل، فالحادث إذن جدير بالإسهاب. يوم قتل الإمام كان ابنه فيصل في القطيف ومعه جنوده من قبائل شتى، فلما جاء يثأر لأبيه ودنا من الرياض خرج إليه وفد من المدينة يطلب منه ألا يأذن بالدخول إليها غير أهلها من الجنود؛ لأنه إذا هجم عليها النجديون من غير الرياض قد يقاومهم الأهالي ليمنعوهم من احتلالها، فيحدث قتال في المدينة، فتولد المحنة محنة أخرى أشد منها.
وكان مع فيصل رجل يدعى عبد الله بن الرشيد طرده من حائل أمراؤها يومئذ آل علي، فلاذ بآل سعود، فلما هم الجنود أبناء الرياض بالدخول إلى المدينة استفزت الحمية عبد الله فاستأذن فيصلا بأن يكون معهم فأذن له، فدخلوا الرياض بدون قتال؛ لأن أهلها كانوا من حزب تركي، وهجموا على القصر الذي تحصن فيه مشاري (هو قصر الملك اليوم وقصر دهام بن دواس سابقا)، أما عبد الله بن الرشيد فقد سبق المهاجمين إلى «مفتول» (برج) من مفاتيل القصر، فرأى فيه رجلا اسمه سويد، كان أميرا في جلاجل بسدير، وكان قد جاء يسلم على الإمام تركي دون أن يعلم بما حل به، فرحب به مشاري وأنزله ذاك البرج في القصر.
قال عبد الله يخاطب سويدا: وما دخلك أنت بآل سعود؟ فأجابه سويد: إني مغصوب. فقال عبد الله: إذا جئتك بالأمان من فيصل أترمي لنا حبلا لنصعد إلى القصر؟ فقال سويد: إني من رجال تركي وسأساعدكم على شرط أن يعطيني فيصل الأمان ويهبني نخل الداهنة.
30
تواثق الرجلان ورمى سويد بحبل فصعد ابن الرشيد إلى القصر، وصعد وراءه عشرون من جنود فيصل، فتصادموا ورجال مشاري وتجالدوا، فجرح عبد الله في يده جرحا بليغا شوهها، ولكنه ورجال فيصل استولوا على القصر وحاقوا بمشاري ومن معه فقتلوهم.
سر فيصل خصوصا بشجاعة عبد الله بن الرشيد، وعندما رأى جراحه قال له: لك مني ما تريد. فقال عبد الله: أطلب منك أن تؤمرني في حائل وأن تكون الإمارة لي ولعائلتي بعدي. فأجاب فيصل طلبه فكان عبد الله هذا مؤسس إمارة بيت الرشيد. وسنعود إلى ذكره وذكرها في فصل آخر.
1246ه / 1830م: يقسم عهد فيصل إلى دورين؛ الأول يبتدئ في توليه الإمارة بعد قتل أبيه، وهو دور الاضطرابات والفتن، وينتهي بعد تسع سنين في تسليمه إلى القائد خورشيد باشا، وكان قد عاد من مصر خالد بن سعود أحد الذين أجلاهم إبراهيم باشا، وهو حائز على ثقة محمد علي ومحبوب من المصريين، بل جاء خالد مع خورشيد ليساعده في الاستيلاء على نجد والقضاء على فيصل. فعندما قرب الجيش من الرياض رحل فيصل إلى الدلم في بلاد الخرج؛ لأنه لخلاف كان بينه وبين أهل الرياض لم ير من الحكمة أن يحاصر فيها.
كان أهل الدلم أصدقاء لفيصل مخلصين فلجأ إليهم، فتعقبه خورشيد بجيشه وحاصره هناك. قد ثبت فيصل أربعين يوما في الدفاع، ولكنه عندما اشتد الحصار - خصوصا على أهل الدلم - ظهر في مظهر من كرم الأخلاق يندر مثله في المتحاربين. أجل، قد عرض على خورشيد أن يسلم نفسه بشرط أن يعفو القائد عن الأهالي ويؤمنهم على أرواحهم وأموالهم.
1254ه / 1838م: قبل خورشيد فسلم فيصل في 23 رمضان من هذه السنة (10 ديسمبر) ما كان معه من عتاد الحرب إلى أهل الخرج، ثم سلم نفسه إلى القائد، فبر بوعده إذ عفا عن الأهالي. وقد أحسن معاملة فيصل فاستصحبه إلى مصر، وولى مكانه خالد بن سعود.
وخالد هذا هو أخو عبد الله من جارية حبشية. كان متوقد الذهن، رقيق الشعور، مسترسلا في اللهو واللذات. نشأ في ذرا محمد علي فتمصر، وجاء يحكم في نجد حكما عصريا، فنفر النجديون منه وعدوه أجنبيا، ثم أجمعوا على خلعه فخلعوه بعد أن قاوموه سنتين، فتولى الإمارة بعده عبد الله بن ثنيان بن إبراهيم بن ثنيان بن سعود وكان مستبدا عادلا (1257ه / 1842م)، بيد أنه أرهق الناس بالضرائب فلم يصبروا على حكمه أكثر من سنة، ولكنهم لم يخلعوه كما فعلوا بسلفه خالد؛ فقد صدف أن فيصلا، الذي أطلقه محمد علي من السجن في هذه السنة ليعيده حاكما إلى نجد، وصل إلى القصيم يوم كان عبد الله بن ثنيان محاصرا عنيزة، فدعاه للطاعة فأجابه عبد الله أنه لم يحكم نجدا إلا بالنيابة عنه، وكانت خدعة منه يتوسل بها إلى القبض على خصمه.
ناپیژندل شوی مخ