وبعد العقل الهمجي ظهر تحضر الإنسان بتعلم الصيد والاجتماع ثم بالزراعة وهذه هي المرحلة الثالثة للعقل. وفي هذه المدة تثقف الإنسان بأشياء عديدة فعرف اللغة والكتابة والبناء والمحرمات في الزواج والملكية وعرف الحرب والصناعة والطهي والخبز، ثم نشأت له أديان ونبتت عليها آداب من شعر وقصص وأساطير. هذا هو عقل الحضارة القديمة، عقل الأدب.
وإذا قلت عقل الأدب فإنما أقصد به عقل الخواطر، فإن الأدب يختلف من العلم بأنه يجري مع الخواطر؛ لأنه عند التحليل لا يعدو أن يكون خيالات العقل الباطن تجري في غيرما تكلف أو عناء في قصيدة أو في قصة. ومن هنا كانت الكتب القديمة هي كتب آداب من أشعار وأساطير وليست كتب علوم؛ لأن «هوميروس» صاحب الإلياذة يسبق على الدوام «أرخميدس» صاحب المخترعات والآلات. وهذه قاعدة تجري على إطلاقها عند جميع الأمم. وماذا نعرف نحن عن العربية الجاهلية سوى الأشعار، وماذا نقرأ من مؤلفات المصريين القدماء سوى قصصهم وأساطيرهم. فالأدب هو موضوع كتب الحضارات القديمة؛ لأنه ثمرة الخواطر غير المقيدة التي لا يقفها نقد أو تعوقها مراجعة أو يعتورها تحقيق.
والعقل الأدبي يسبق العقل العلمي. وتجارب الفرد هي صورة مصغرة لتجارب الأمة. ولكن كما أن الكهل يعدو طور الغرام الملح الذي يغمر نفس الشاب، ويشرع ينظر إلى الحب نظر المصلحة العائلية، كذلك العقل العلمي الذي هو عقل الثقافة الحديثة قد شرع يتغلب على العقل الأدبي.
تابع العقل الأدبي العلمي تطوره ونضجه خلال الحضارات القديمة إلى الحضارات الحديثة، فأصبح عقل الثقافة الحديثة هو العقل الجديد؛ عقل العلم والاختراع والكشف، وخرج من الأدب إلى المجادلات اللفظية التي نرى بذرتها في أرسطوطاليس، والتي تجدها في كتب الغزالي وابن رشد وكتب اللاهوتيين من الأوروبيين. وهذا التحقيق في الألفاظ والتعارف إنما كان رياضة ابتدائية للتحقيق في الحقائق ذاتها.
فالعقل العلمي هو أحد العقول المضمرة في النفس الإنسانية، وهو لذلك أقلها نباتا لم تضرب له عروق ولم تتسق له فروع في أنفسنا. ومن أجل هذا توقظ الحوادث في نفوسنا، عقولنا البائدة أو الخفية الباطنة، مستعيدين غرائزنا الحيوانية والهمجية. وحسبنا من الشواهد على هذا ما يبدو من المخمورين والهاذين والغاضبين والمجرمين والمتضاربين والمتقاتلين، والجائعين من أمارات الحيوانية وضروب الهمجية. (2) العلم والأدب
العلم - في المعنى الواسع - مرادف للمعرفة والتعلم والتلقي. ومن هنا يستطاع إطلاق «العلم» على أي شيء يوصف ويعرف، بتشديد الراء، وعلى الإبانة عن أي فرع يقصد إليه. أما في الإطلاق الاصطلاحي العام، فإن المعنى يكون أكثر تقييدا بأن نميز العلم عن فروع المعرفة تمييزا دقيقا، فيمكن تعريفه بأنه المعرفة المنظمة للظواهر الطبيعية والصلات التي بينها، فهو لفظ موجز للعلم الطبيعي.
هذا وبينما العلم مادته العمل والأثر، ونطاقه دراسة القضايا العامة؛ فإن الفن مادته الفكر والنظر.
فمادة العلم إذن هي الطبيعة أو المادة وقوانينها الثانية المطردة النسق العامة الصبغة المجردة من النوازع الذاتية، وهذا يتطلب تعاون العقول جميعا لإعداد القواعد العامة الثابتة.
أما مادة الأدب: فالطبيعة الإنسانية والخيال العقلي.
هذا وقد شرعت الشعوب القديمة تتحسس «العلم» بما كان يبدو من تتبعها للأحداث الطبيعية وتحديقها في ظواهر الطبيعة، ومن أمثلة هذه: حركة الأجسام السماوية، واتخاذ الأدوات الساذجة الخشنة التي كانت تعاون الإنسان على مضاعفة السهر على سلامته وراحته. ولا بد أن يكون العلم البيولوچي قد بدأ أيضا عن طريق تتبع حياة النبات والحيوان النافعة للإنسان والجراحة والطب الاختياري والتدجيل. ثم إن الإنسان، حين ارتقى مستواه، قد وسعه أن يحيط بالمعرفة المنظمة مبتدئا بإدارة الأسئلة حول معنى الظواهر وأسبابها، وبإدراك ما بينها من العلاقات.
ناپیژندل شوی مخ