تلك هي القصة التي يرويها الكلدانيون عن القرون الأولى لخلق العالم، ويتضح من أقدم الآثار التي تركوها لنا (وهي معاصرة لأكبر أهرام مصر؛ أي قبل المسيح بأربعة آلاف سنة) أن كلديا والبلاد المحيطة بها كانت قد بلغت درجة عظيمة ومقاما ساميا من الحضارة والمدنية.
وكان التمدن ضاربا أطنابه ورافعا أعلامه في طائفتين من المدائن الأولى، واقعة بالقرب من مصب الفرات وهي ايريدو وأروك ولارسام (لرسن) ولاجاش (لكح) وحاضرتها مدينة أورو (أور الكلدانيين) على الشاطئ الأيمن لنهر الفرات، وهذه المدينة كانت قائمة على سهل مطمئن تتخلله كثبان من الرمال وفي وسطها معبد للإله سين، الذي هو القمر وله ثلاث طبقات مشيدة من الآجر المطلي بالقار، وحول المدينة من جميع جهاتها قبور قد اكتشف السياح على ما فيها؛ فوسعوا نطاق المعارف بما وجدوه بها من الآثار والمخلفات، وهذه البلاد هي التي تسمى بقطر شومير. أما بلاد أكاد فكانت واقعة إلى شماليها قليلا حيث لا يفصل بين دجلة والفرات إلا شبه برزخ ضيق ومدائنها هي نيبتور وبورسيبتا وكوتا وسيبتارا، وأخصها ببابل.
وكان لكل مدينة من هذه المدائن ملوك خاصون بها وعائلات ملوكية من أهاليها، وكان بعض هذه العائلات تارة تابعة لمجاوريها أو متبوعة بها؛ أي إنها إما أن تقع تحت سلطتها أو يكون لها السيادة عليها. وقد جاء في التاريخ الخرافي ذكر لبعضهم كالملك جيلجامس، فإنه جاب البلاد وقتل الوحوش والمسوخ ونازع الآلهة وقاومهم، وأما التاريخ الحقيقي فينبئنا عن بعضهم بما أبقوه من الآثار فأقدمهم وهو «أورباو»، كان له سلطان حقيقي على القطر، وتوجد بقايا بناياته وعماراته في أغلب مدائن الكلدانيين؛ ومنهم ملوك آخرون لم يحكموا إلا على كورة أو كورتين متجاورتين مثل الملك جوريا صاحب لاجاش، وتماثيله تزدان بها الآن أروقة متحف اللوفر في باريس.
وكان الرجحان لمدائن الجنوب في أول الأمر ثم زالت سيادتها شيئا فشيئا أمام مدائن الشمال، وفي نحو سنة 3700ق.م كانت السلطة في يد عائلة من آجاني ومن ملوك هذه العائلة سرجون؛ وهو على ما يظهر من كبار المتشرعين وعظماء الفاتحين. ويروى عنه أن أمه تركته على شط الفرات عقيب ولادتها له، فالتقطه أحد الفلاحين وأنه اشتغل في شبيبته بحرفة الخولي (أي القيام بخدمة البساتين)، وقد استولى على كلديا كلها وأرض الجزيرة واخترق بلاد الشام إلى تخوم الديار المصرية، ثم إن الملوك الذين خلفوه على كرسي السلطنة حافظوا على ممالكه مدة قليلة من الزمان؛ حتى جاء العيلاميون فقلبوا دولته وفتحوا كلديا. (4) حكم ملوك عيلام
تبتدئ عيلام من شطوط دجلة بسهل جميل خصيب تكون من طمي الأنهار، وهي في الخصب شبيهة بكلديا نفسها حتى إن الحبة الواحدة من الشعير والقمح تأتي فيها بمائة حبة بل بمائتين، كما هو الشأن في كلديا، وكذلك النخيل والعجمات والرقال
1
تنبت فيها بكثرة، وخصوصا فيما جاور المدن، وتوجد فيها أيضا أشجار الأقاقيا (أنواع السنط) والجوز والصفصاف على مجاري المياه والأنهار، ثم ترتفع الأرض قليلا حتى تبلغ هضبة بلاد الماديينن ويصير الإقليم أشد بردا والأرض أقل خصوبة.
وكان ملوك عيلام قد بنوا مدينة شوشة حاضرتهم على تخوم السهل الفسيح على مسافة ثمان مراحل أو عشر من الجبال ، وعند ملتقى فرعي نهر خواسيس، وكانت القلعة والقصر مبنيين على منحدر تل يشرف من بعيد على السهل، وفي أسفله ترى المدينة نحو الشرق وهي مبنية من لبن مجفف في الشمس، وكانت عيلام أشبه بدولة إخاذية منقسمة إلى جملة ممالك صغيرة مستقلة عن بعضها، ولكنها مجتمعة كلها في العادة تحت سيطرة ملك شوشة. وكانت لغة عيلام تختلف عن اللهجات السامية، ولم يكن هناك ارتباط بين ديانتها وديانة الكلدانيين، وفيما عدا ذلك كانت أخلاق العيلاميين وصنائعهم وشرائعهم لها مشابهة قوية بما للكلدانيين.
وكان العيلاميون منذ الأحقاب الخوالي في جلاد مستديم وجهاد متوال مع الأمم المجاورة لهم ويتضح لنا من الروايات الخاصة بجيلجامس أنهم تملكوا على مدينة أريدو والمدائن الأخرى الواقعة على الفرات الأسفل، وقد هزمهم سرجون الأول ولكنهم هزموا خلفاءه، وافتتح أحد ملوكهم واسمه «كودورناخونتا» بلاد كلديا كلها في حدود سنة 2300ق.م وانتزع صور الآلهة البابلية ووضعها في معبد شوشة علامة على الفوز والانتصار. وقد حفظت ذريته السيادة على كلديا مدة أجيال كثيرة بل إنهم توغلوا في فتوحاتهم إلى داخل بلاد الشام. (5) الكلام على حالة بلاد كلديا في العصر الذي كانت فيه السيادة والصدارة للأمة المصرية
إن تاريخ هذا العصر كله، والقرون التي جاءت بعده ليس إلا خليطا من الأقاصيص والروايات عن حروب داخلية، وفتن وثورات وغارات من الأمم المتبربرة، كانت الملوك والعائلات (شكل
ناپیژندل شوی مخ