تاریخ کبیر
التاريخ الكبير
پوهندوی
محمد بن صالح بن محمد الدباسي ومركز شذا للبحوث بإشراف محمود بن عبد الفتاح النحال
خپرندوی
الناشر المتميز للطباعة والنشر والتوزيع
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
١٤٤٠ هـ - ٢٠١٩ م
د خپرونکي ځای
الرياض
سلسلة إصدارات الناشر المتميز (١٠٦)
التاريخ الكبير
للإمام أبي عبد اللَّه محمد بن إسماعيل البخاري
المتوفى سنة ٢٥٦ هـ
رواية أبي الحسن محمد بن سهل البصري الفسوي
مقابلة برواية ابن فارس الدلال، وجزء من رواية عبد الرحمن بن الفضل الفسوي، على ثمانية أصول خطية
تحقيق ودراسة
محمد بن صالح بن محمد الدباسي ومركز شذا للبحوث بإشراف محمود بن عبد الفتاح النحال
المجلد الأول
الناشر المتميز للطباعه والنشر والتوزيع
الرياض
1 / 1
التاريخ الكبير
للإمام أبي عبد اللَّه محمد بن إسماعيل البخاري
المجلد الأول
1 / 3
(ح) محمد بن صالح بن محمد الدباسي، ١٤٤٠ هـ
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر
البخاري، محمد بن إسماعيل
التاريخ الكبير. محمد بن إسماعيل البخاري؛ محمد بن صالح الدباسي - بريدة، ١٤٤٠ هـ
١٢ مج.
ردمك ٩ - ٨٦٠٨ - ٠٢ - ٦٠٣ - ٩٧٨ (مجموعة)
٦ - ٨٦٠٩ - ٠٢ - ٦٠٣ - ٩٧٨ (ج ١)
١ - الحديث- تراجم الرواة. . . أ- الدباسي، محمد بن صالح (محقق)
ب- العنوان
ديوي ٢٣٤.٦. . . ٣٢٦٥/ ١٤٤٠
رقم الإيداع: ٣٢٦٥/ ١٤٤٠
ردمك: ٩ - ٨٦٠٨ - ٠٢ - ٦٠٣ - ٩٧٨ (مجموعة)
٦ - ٨٦٠٩ - ٠٢ - ٦٠٣ - ٩٧٨ (ج ١)
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
١٤٤٠ هـ -٢٠١٩ م
الناشر المتميز
المملكة العربية السعودية
الرياض- حي الفلاح
أمام البوابة رقم ٢ لجامعة الإمام
جوال/ ٠٥٠٩٢٢٤٢٤٢
almotmiz ١٤٣٧ h@gmail.com
دار النصيحة
المملكة العربية السعودية
المدينة النبوية
أمام البوابة الجنوبية للجامعة الإسلامية
جوال ٠٥٩٥٩٨٢٠٤٦
daralnasihaa@gmail.com
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
نحمَد اللَّه تعالى حقَّ حمده، ونصلِّي ونسلِّم على خيرِ خلْقِه، وأمينِه على وحيه، نبيِّنا محمد ﷺ ومَن اتبع نَهجَه إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
فإنه ممَّا لا جِدالَ فيه أنه لا كمالَ لهذا الدين إلا بالحِفاظ على سُنة نبيِّنا محمَّد ﷺ، أكملِ الخلق وأعظم الأنبياء، عليهم جميعًا أفضل الصَّلاة وأتم التَّسليم.
وقد أكرمَ اللَّهُ تعالى ذِكرُه هذه الأمة بأن قيَّض رجالًا ذبُّوا عن سُنة نبيه ﷺ مِن عَبَث العابثين، وضلال المضِلين، فقاموا بتدوين هَديِه ﷺ قولًا وفعلًا وتقريرًا، وهُم إذ يفعلون ذاك فإنهم على علمٍ تامٍّ بجليل ما يجمعونه. . . مُتَحَلِّين بعزيمةٍ لا يَعتريها فُتورٌ؛ مسترشِدين بقوله ﷺ: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً". منتبهين لما هو مَنتحَل مُفترًى وليس من سُنته، وما هو من مَعِين نوره صلوات اللَّه وسلامه عليه، متمكِّنين من أدواتهم العلمية التي توارثوها جيلًا بعد جيلٍ. وإن من أَخَصِّ خصائص هذه الأمَّة الإسلامية أن وَفَّقَها اللَّه سبحانه إلى منهجٍ أصيل، وعِلْمٍ جليل، ذلكم هو علم الرُّواة والجرح والتعديل، وقد تكلم كثير من الصَّحابة والتَّابعين فمَن بعدهم في بيان أحوال الرواة، تَوَرُّعًا وصَوْنًا للشَّريعة، وليس طعنًا في النَّاس.
1 / 7
وقد تميّز عِلم الحديث الشَّريف بمنهجيةٍ علمية فريدة قائمةٍ على الاستقراء والبحث، والنقد والاستنباط، فجَمَع بين جنباته جُلَّ المناهج المطروقة في البحث العلمي في كل أطواره، ما بين النَّشأة والنضج، ولأجل هذا حاز هذا العلمُ الشريفُ ثناءَ العلماء المسلمين وغيرهم. يقول المستشرق مرجليوث: "والمسلمون محقّون في الفخر بعلم حديثهم" (^١).
وقد قيَّض اللَّه لخدمة هذا العلم الجليل أئمَّةً أعلامًا على مدار التَّاريخ الإسلامي، منهم الإمام المحدِّث، حافظ الإسلام، ذروة الجهابذة النُّقَّاد الأعلام، شيخ السُّنة والحديث، وطبيب عِلَلِه في القديم والحديث، محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاريّ (ت ٢٥٦ هـ).
ولم يكن البخاريُّ أولَ من تكلم في الرجال؛ فقد اشتهر بنقد الرجال قَبْله إمامُ دار الهجرة أبو عبد اللَّه مالكُ بنُ أنسٍ، والسُّفْيَانَان، وشُعبةُ بنُ الحجاج، ثم يحيى بنُ سعيد القَطَّان، وعبدُ الرحمن بنُ مَهدي، وعبدُ اللَّه بنُ المبارك، ثم أبو عبد اللَّه أحمدُ بن محمد بن حنبل، ويحيى بنُ مَعِين، وعليُّ بنُ عبد اللَّه المَدِينيُّ، وكان ألصقهم بهذا الفن أربعة، فقد قال تقِي الدين أبو عَمرو بن الصَّلاح (ت ٦٤٣ هـ): رُوِّينَا عن صالح بنِ محمد الحافظ جَزَرَة قال: "أول مَن تكلم في الرجال شُعبة بن الحجاج، ثم تَبِعَه يحيى بن سَعيد القَطان، ثم بعده أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين" (^٢).
وجاء بعد هذه الطَّبقة الإمام الحافظ أبو عبد اللَّه البخاري، وكأنه حاول
_________
(^١) "محاضرات عن المؤرخين العرب" (ص ٢٠)، ترجم هذه الجملة د. عبد اللَّه الشهري.
(^٢) "معرفة أنواع علوم الحديث" (ص ٣٨٨).
1 / 8
استيعاب الرواة من الصَّحابة فمَن بعدهم إلى طبقة شيوخه، فكان أنْ صَنَّفَ كتابه العظيم "التَّاريخ الكبير".
وللبخاريِّ ﵀ إمامته وجلالته، ولتاريخه أهميته ومزاياه، وقد أَعْظَمَ شيوخُهُ ومَن في طبقتهم "تاريخَه"، حتى إن شيخه الإمام إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن رَاهَوَيْهِ (ت ٢٣٨ هـ) لَمَّا رأى "التَّاريخ" لأول مرة لم يتمالك أن قام فدخل به على الأمير عبد اللَّه بن طاهر، فقال: "أيُّها الأَمِيرُ، أَلَا أُرِيكَ سِحْرًا؟ ! " (^١).
وقال أبو العباس بنُ عُقْدة (ت ٣٣٢ هـ): "لو أن رجلًا كتب ثلاثين ألفَ حديثٍ لَما استغنى عن "كتاب تاريخ محمَّد بن إسماعيل" (^٢).
وقال أبو أحمد الحاكمُ الكبير (ت ٣٥٨ هـ): "كتاب محمد بن إسماعيل رحمة اللَّه عليه في التَّاريخ كتاب لم يُسبق إليه، ومن ألَّف بعده شيئًا من التَّاريخ أو الأسامي لم يَستغنِ عنه" (^٣).
وقال أبو عبد اللَّه الحاكمُ النيسابوريُّ (ت ٤٠٥ هـ) في النوع الأربعين من علوم الحديث: معرفة أسامي المحدثين: "وقد كفانا أبو عبد اللَّه محمَّدُ بنُ إسماعيل البخاريُّ ﵀ هذا النَّوْع، فشفى بتصنيفه فيه وبيَّن ولخَّص" (^٤).
وقال مُغلطاي (ت ٧٦٢ هـ): ""التَّاريخ الكَبير" لا يَترك النَّظرَ فيه من
_________
(^١) "تاريخ بغداد" (٢/ ٣٢٦).
(^٢) السابق (٢/ ٣٢٦).
(^٣) "الأسامي والكنى" (٢/ ٣٢١).
(^٤) "معرفة علوم الحديث" (ص ٥٠٤).
1 / 9
تَسْمُو همّتُه للنَّظر في العِلم؛ سيَّما علم الحديث؛ سيَّما مَن يتصدَّى للتّصنيفِ" (^١).
وقد اختصر البخاريُّ في "تاريخه"؛ إذ قصَدَ استيعاب الرواة، وكره أن يطول الكتاب، فيقول ﵀: "فلما طعنتُ في ثماني عشرة صنَّفتُ كتاب قضايا الصَّحابة والتَّابعين، ثم صنفتُ "التَّاريخ" بالمدينةِ عند قبر النبيِّ ﷺ، وكنتُ كتبه في الليالي المُقْمِرَة، وقَلَّ اسمٌ في "التَّاريخ" إلا وله عندي قصة، إلا أني كرهتُ أن يطول الكتاب" (^٢).
ويُعَدُّ "التَّاريخ الكبير" أصلًا لكل ما كُتِبَ بعده، قال أبو أحمد الحاكمُ: "ومَن تأمَّل كتاب مسلم بن الحَجاج في "الأسماء والكُنَى" عَلِمَ أنه منقول من كتاب محمد بن إسماعيل، حَذْوَ القُذَّة بالقذة" (^٣).
وهذه شهادة من الإمام الحافظ أبي أحمد الحاكم أن كِتاب الإمام مسلم بن الحجاج، الذي سماه "الأسماء والكُنَى"، إنما هو منقول عن "التَّاريخ الكبير"، سوى مواضع معدوداتٍ زاد فيها على كتاب البخاريِّ، ولعله استدركَ بعض أسماء الرواة ممن لم يذكرهم البخاريُّ، أو زاد في تراجم بعضهم على ما كتبه البخاري.
ومما تجدر ملاحظته أن بعضًا من العلماء أَلَّفُوا كتبًا لم تكن سوى نقْلٍ لكُتب مَن تقدَّمهم، مع إضافة اليسير، أو حذفه، أو اختصاره. ولعل ما يُسَوِّغُ
_________
(^١) "إكمال تهذيب الكمال" (٤/ ٩٥).
(^٢) "تاريخ بغداد" (٢/ ٣٢٥).
(^٣) "الأسامي والكنى" (٢/ ٢٧٤).
1 / 10
لعلمائنا الأقدمين صنيعهم هذا هُو أنه إذا نَسَخَ عالِمٌ كتابَ عالِم آخر فلا بد أن يظهر له أثناء النَّسخ إضافات وتعديلات، فإذا أضاف واختصر ونقَّح فقد أصبح الكتاب بين يديه جديدًا، وحينذاك يُضاف الكتاب إلى العالم الثَّاني بتسمية جديدة ويُنْسَبُ إليه.
ولعل من أشهر الكتب التي تناولت تاريخ رواة الحديث جرحًا وتعديلًا "كتاب الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم الرازي (ت ٣٢٧ هـ)، وقد عُدَّ مرجعًا مهمًّا لكلِّ مَن كتب بعده في موضوعه وما يتصل به، ومادة هذا الكتاب في معظمها مُسْتَقَاة من "كتاب التَّاريخ الكبير" (^١).
وقد نقل الخطيبُ البغداديُّ عن الحافظ أبي أحمد الحاكم أنه قال: "كنتُ بالرَّيِّ، فرأيتهم يومًا يقرءون على أبي محمد بن أبي حاتم "كتاب الجرح والتعديل"، فلما فرغوا قلتُ لابن عَبْدُويَه الوراق: ما هذه الضُّحْكَةُ! أراكم تقرءون "كتاب التَّاريخ" لمحمد بن إسماعيل البخاري على شيخكم على الوجه، وقد نسبتموه إلى أبي زرعة وأبي حاتم! فقال: يا أبا أحمد، اعلم أن أبا زُرعة وأبا حاتم لما حُمِلَ إليهما هذا الكتاب قالَا: هذا علم حسن لا يُسْتَغْنَى عنه، ولا يحسُن بنا أن نذكره عن غيرنا" (^٢).
ولعل أبا أحمد الحاكم ﵀ إنما سمعهم يقرءون بعض التراجم القصيرة التي لم يَتَّفقْ لابن أبي حاتم فيها ذِكْر الجرح والتعديل، ولا زيادة مهِمة على ما في "التَّاريخ"، وكون كتاب البخاري أصلًا لكتاب ابن أبي حاتم
_________
(^١) انظر "دعوة الحق"ع (١٧٠).
(^٢) "المُوَضِّح لأوهام الجمع والتفريق" (١/ ٨).
1 / 11
يجب ألَّا يصل إلى غَمْط الثاني حَقَّه، والوقوع في المبالغة.
"ولا ريب أن ابنَ أبي حاتم حَذَا في الغالب حَذْوَ البخاريِّ في الترتيب، وسياق كثير من التراجم، وغير ذلك، لكن هذا لا يغضُّ من تلك المَزِيّة العظمى، وهي التَّصريح بنصوص الجرح والتعديل، ومعها زيادة تراجم كثيرة، وزيادات فوائد في كثير من التراجم، بل في أكثرها، وتدارُك أوهام وقعت للبخاريِّ، وغير ذلك" (^١).
* * *
_________
(^١) "مقدمة تحقيق الجرح والتعديل" للمعلمي (ي).
1 / 12
التَّعريف بـ "التَّاريخ الكَبير" للبخاريِّ (^١)
يُعدُّ "كتابُ التاريخ الكبير" من أعظم كتب النقد الحديثي، وأغزرها فوائدَ، بَيْدَ أنه رفيعُ المستوى، عسيرُ المنال في بعض الأحيان، حتى على المتخصِّصين، وقد أبدع العلَّامة مُغلطاي في وصفه بقوله: "عادة البخاري ﵁ يذكر شيئًا، ويعترض بشيء، ثم يذكر شيئًا آخر، فمن لا يتدبره لا يكاد يفهمه.
ولهذا قال لما بلغه عيبُ مَن عاب "تاريخه": باللَّه، إنَّ مشايخَهم لا يفهمونه، ولا يكادونَ يهْتدونَ لموْضوعه" (^٢).
- وقد جمع البخاري في "تاريخه" بين علم العِلل، والجرح والتعديل، والأنساب، وتاريخ الرواة، والأحكام على الأحاديث، وجمهرة من الفوائد المتعددة.
- ورتَّب تراجم "تاريخه" على حروف المعجم: "أ، ب، ت، ث،. . . "، كما رتب هؤلاء الرواة على أسماء آبائهم حسب الترتيب الألفبائي، إلا أنَّه قدَّم مَن اسمه محمد على سائر الأسماء؛ لشرف هذا الاسم الكريم.
- وابتدأ بذكر ترجمة النبي ﷺ، ونسبه إلى آدم ﵇، بعد أن قدَّم لذلك بمقدمة بَيَّنَ فيها فضل قريش على الناس، وذكر شيئًا من صفاتِه ﷺ، ومدَّة بَعْثه، وذكر كيف بدأ التاريخ الهجري في عهد عُمر بن الخطاب، ثمَّ ذكر تاريخ وفاة النبي ﷺ. وخُطَّته أنه يذكر أسماء الصحابة، ثم التابعين، ثم مَن بعدهم في كل حرف من الحروف.
_________
(^١) وانظر "تاريخ البخاريّ" للزرقيّ.
(^٢) "إكمال تهذيب الكمال" لمغلطاي، مخطوط بالسليمانية (ج ١/ ق ٢٩٥ ب).
1 / 13
- وتراجم البخاري لرجالِه تتراوح بين الطول والقِصَر؛ فبيْنا نجدُه يُترجِمُ لأحَد الرِّجال بسطرٍ واحدٍ، كما في ترجمتِه لمحمَّد بن عبد اللَّه بن أسيد، ومحمَّد بن عبد الرَّحمن بن فروةَ، ومُحمَّد بن عُمرَ اليافعيِّ، وغيرِهم، إذا به يُترجِمُ لعَبد الرَّحمن بن عبد اللَّه بن كعْب بن مالك الأنصاريِّ بأكثرَ مِن عَشر صفَحاتٍ.
- وغالبُ تراجِم البُخاريِّ يذكر فيها: اسم الرَّاوي، واسم أَبيه، وجدِّه، وكُنيته، ونسبته إلى القبيلة أو البلدة أو كلتَيْهِما، وقلَّما يُطيلُ في الأنساب. ويذكُر بعضَ شُيوخ صاحب الترجمة وتلاميذه، وقد يذكر جميعَ الشُّيوخ والتَّلاميذ إذا كان الراوي من المقِلّينَ؛ ليتميَّز حاله. كما يذكُر أنموذجًا من رواياتِه أو أكثرَ، ولا يُقدِّمُ البخاريُّ معْلوماتٍ وافيةً عن أحْوال الرَّاوي، ويذكرُ أحيانًا الصِّفات الجسميَّة والخُلُقيَّة والعقليَّة للرّواةِ.
- والبخاري يتورَّعُ عن ذِكْر ألفاظٍ حادَّةٍ في الجرح، فغالبًا ما يقول: فيه نظر، يخالف في بعض حديثه. وأشدُّ ما يقول: منكر الحديث.
ونقل الذهبي عن البخاريِّ قولَه: "أرجو أن ألقى اللَّهَ ولا يحاسبني أنِّي اغتبتُ أحدًا". ثمَّ عقَّبَ عليه بقولِه: "قلتُ: صدقَ ﵀. ومَن نظر في كلامِه في الجرح والتَّعديل علِمَ ورعَهُ في الكلام في النَّاس، وإنصافَه فيمَن يضعِّفُه، فإنَّه أكثر ما يقولُ: مُنكرُ الحديثِ، سكَتوا عنه، فيه نظر. ونحو هذا، وقلَّ أن يقول: فلان كذاب. أو: كان يضع الحديث.
1 / 14
حتَّى إنَّه قال: إذا قلتُ: فلانٌ في حَديثه نظر. فهو متهم واهٍ.
وهذا معنى قولِه: "لا يُحاسبُني اللَّه أنّي اغتبتُ أحدًا". وهذا هو -واللَّه- غاية الورع" (^١).
- والرواة الذين تكلم فيهم بجرح أو تعديل يَقِلُّون عنْ ألفَي رجلٍ، والرُّواة الذينَ سكتَ عليهِم يَزيدونَ على اثني عشرَ ألفَ راوٍ.
بينما كانت الأحاديث التي تكلم عليها بالنقد تزيد على أربعة آلاف حديث، فكان يقولُ مثلًا: "هذا الحديث أصح، وهذا هو الصحيح، ولا يصح، مرسل، منقطع، لا يتابَع في حديثه، لم يثبت حديثه". ويتكلم على الأسانيد فيقول: "لا يصح فيه ذِكْر فلان"، وغير ذلك.
- وألفاظه في الجرح والتَّعديل متعددة، زادت على مائة لفظة في كتابه "التَّاريخ"، فمن ذلك: "وَرع، ثقة، ثبت، كان امرأَ صِدْقٍ، أمير المؤمنين في الحديث، معروف الحديث".
وأيضًا: "اختلط، تغيَّر بأَخَرَة، ذاهب الحديث، سكتوا عنه، ضعيف، ضعيف جدًّا، صاحب عجائب، فيه نظر، في حفظه نظر، ليس بالحافظ، كذاب، لا يُعْرَف صحيحُ حديثِه من سقيمه، حديثه ليس بالقائم، في حديثه مناكير، عنده مناكير، منكر الحديث، مضطرب الحديث، كثير الوهَم، تَعْرِف وتُنْكِر، يروي المناكير. . . " (^٢).
_________
(^١) "سير أعلام النبلاء" (١٢/ ٤٣٨).
(^٢) "بحوث في تاريخ السنة المشرفة" د. أكرم العمري (ص ١١٤)، "رواة الحديث الذين سكت عليهم أئمة الجرح والتعديل" (ص ٣٠).
1 / 15
" التَّاريخ الكَبير" وتعدُّد إبرازاته بالزِّيادة والنَّقص والإصلاح
" الإبرازات هي المرات المختلفة التي يَظهر أو يُبرَز فيها الكتاب، وتطابق الإبرازة في زماننا الطَّبعة، فكثير من المصنَّفات أُبرِزَت مراتٍ، وبين كلٍّ من هذه الإبرازات وبعضها فروق، لأن المصنِّف بعد إبراز كتابه أولَ مرة يُدَاومُ على تصحيحه، وتوسيع مضمونه، وإضافة الملحقات إليه. وإبراز الكتاب في الأزمنة الماضية كان يحدث. . . بإعادة إملاء المصنِّف كتابَه على طلبته" (^١).
وقد بلغ من حِرصِ الإمام البخاريُّ وعنايته بتصانيفه أنه أعاد النَّظر فيها مراتٍ، وقد أخرج "كتاب التَّاريخ الكَبير" ثلاث مراتٍ، وفي كل مرة يَزيد ويَنقُص ويُصلِح.
قال مُسَبِّحُ بنُ سَعيدٍ: "سمعتُ البُخاريِّ يقول: لو نشر بعض أُستاذي هؤلاء لم يفهموا كيف صنَّفتُ "كتاب التَّاريخ" ولا عرفوه". ثم قال: "صَنَّفتُه ثلاث مراتٍ" (^٢).
ولكثرة ما تعهَّد البخاريُّ كتابَه بالتَّهذيب والتَّنقيح حصل تغايُرٌ في اختلاف روايات الآخِذين عنه، وثبت في رواية بعضهم ما ليس عند غيره من الزيادةِ والنقص والإصلاح، وإذا عُرف هذا، فقد حمل الكتابَ عن مؤلِّفه جمعٌ من أصحابه، وصار لكل واحدٍ نُسخة من الكتاب.
_________
(^١) "أصول نقد النصوص ونشر الكتب" جوتهلف برجستراسر، بتصرف يسير (ص ٢٦)، وانظر في الكلام على إبرازات وروايات بعض الكتب: "منهج البخاري في الضعفاء" للعماري، "تاريخ نص الفصل" لسمير قدوري، "سيرة ألفية ابن مالك" للعيوني، مقدمة "تحقيق أسرار العربية" لابن الأنباري، ط. الوعي الإسلامي.
(^٢) "تاريخ بغداد" للخطيب (٢/ ٣٢٥)، مقدمة المعلمي على "الموضح" (ص ١٠).
1 / 16
بعض روايات "كتاب التَّاريخ الكَبير" عن البخاريِّ
حرص أصحاب الإمام البخاري على سماع الكتاب وتسميعه، ونشره في الأمصار، وتحمَّله أكابرُ العلماء من أصحاب البخاري، فمنهم (^١):
- الفضل بن العباس المعروف بالصَّائغ روى "كتاب التَّاريخ الكَبير" عن البخاريِّ (^٢)، وقد ذكر أنه كَتَبه من كتاب البخاري، ثم حمله إلى سيد الحُفاظ والمحدثين أبي زُرعة الرازي (ت ٢٦٤ هـ) (^٣).
- وأبو أحمد محمَّد بن سُليمان بن فارس الدَّلَّال النيسابوري (^٤)، كان الْتمسَ من محمَّد بن إسماعيل البخاري نزولَ دارِه، فنزل عنده مدةً، وقرأ عليه "كتاب التَّاريخ" من أوله إلى (باب فُضيل) " (^٥). وبقِي أجزاء يسيرةٌ من آخرِه، فإنه لم يسمعها، وأجازها البخاري له، ثم روى ابنُ فارس الكتاب، وسمعه منه أبو الحسن علي بن إبراهيم المُسْتَمْلِي المعروف بالنَّجاد (^٦) سوى ذلك القدْر الذي لم يسمعه ابن فارس من البخاري؛ فإنَّ المُسْتَمْلِيَ أخذَه عن ابن فارس إجازةً أيضًا.
_________
(^١) وانظر "تاريخ البخاريّ" للزرقي (ص ١٠).
(^٢) "الإرشاد" للخليلي (٣/ ٩٥٩).
(^٣) "بيان خطأ البخاري في تاريخه" (ص ٢)، وانظر مقدمته (ص ٥).
(^٤) "الأسامي والكنى" للحاكم (١/ ٥٤١)، "الإرشاد" للخليلي (٣/ ٨٥٨)، "الأنساب" للسمعاني (٥/ ٣٨٦)، "تاريخ الإسلام" للذهبي (٧/ ٢٥٥).
(^٥) "الأنساب" للسمعاني (٥/ ٣٨٦).
(^٦) وممن سمع الكتاب من ابن فارس: إبراهيم بن عبد اللَّه بن إسحاق بن جعفر بن إسحاق الأصبهاني، المعدل، المعروف بالقَصَّار. وطريقه هو المعول عليه عند الحافظ البيهقي في النَّقل من الكتاب.
1 / 17
ثم روى المُسْتَمْلِي ببغداد جميعَ الكتاب، وسمعَه منه كافة أهل العلم من أصحاب الحديث، وكتبه عنه أبو الحسن الدارقطنيُّ وغيرُه بِكمالِه، وقُرئَ عليه ما في آخرِه إجازةً عن ابن فارس، عن إجازة البخاري له ذلك (^١).
- وأبو الحسن محمَّد بن سهل بن عبد اللَّه، وقيل: محمد بن سهل بن كُرْدي، البصري، المقرئ (^٢). سمِع من البخاريِّ "تاريخه الكَبير" بِالبصرةِ، سنةَ ستٍّ وأربعينَ ومائتينِ، وسمعه منه الحافظ أبو بكر أحمد بن عبدان الشِّيرازي بفَسَا من بلاد فارس (^٣).
- ومُسَبِّح بن سعيد، سمع الكتاب من مصنفه، وقد وقف ابنُ ماكولا على نسختين منه بمقابلة وسماع مُسَبِّح بن سَعيد (^٤).
- وأيضًا أبو الفضل (^٥) عبد الرحمن بن الفضل بن عبد اللَّه الفَسَوي (^٦). سمع "التَّاريخ الكَبير" من مصنفه (^٧).
_________
(^١) "الكفاية في معرفة أصول الرواية" (٢/ ١٣١).
(^٢) "غاية النهاية" (٢/ ١٥١)، "لسان الميزان" (٧/ ١٨٧).
(^٣) "التاريخ الكبير" نسخة (ك) (ج ١/ ق ٣ أ)، ونسخة (ش) (ق/ ٢/ أ).
(^٤) "تهذيب مستمر الأوهام" (ص ٧٤، ١٠٩، ١١٤، ١٩٦، ٢٦٤، ٣٠٢)، وانظر "جذوة المقتبس" (ص ٥٠١).
(^٥) وقيل: "أبو محمد".
(^٦) وهي من مرويات ابن خير الإشبيلي. انظر "فهرسة ابن خير" (ص ٢٥٦، ٢٥٧).
(^٧) وممن رواه عن الفسوي أبو بكر محمد بن أحمد بن موسى بن هارون الأنماطي كما في نسخة (غ).
1 / 18
وقد روى عنه العُقيلي في "كتاب الضعفاء" (^١)، وروى من طريقه ابن عبد البر في "الانتقاء" (^٢)، والخطيب في "المُوَضِّح لأوهام الجمع والتفريق" (^٣)، والغسَّانيُّ في "تقييد المهمل" (^٤).
- وأيضًا سمِع الكتاب من مصنفه عبد الرحمن بن إسماعيل الفارسي، وهذه الرواية نقل منها الحافظ عبد الغني المصري (ت ٤٠٩ هـ)، وقد تحملها عن شيخه أبي بكر أحمد بن إبراهيم بن عطية، عن عبد الرحمن بن إسماعيل الفارسي، عن البخاري (^٥).
وقد ذيَّل واستدرك على المُحمدين منه خاصة الدارَقُطنيُّ، ثم ابنُ المحب، وتعقبه الخَطيب في كتابه "المُوَضِّح لأوهام الجمع والتفريق"، ولابن أبي حاتم قبلهم "كتاب بيان خطأ البخاري في تاريخه" انتقد فيه أشياء على البخاري (^٦)، وهناك أيضًا جزء فيه: "ذِكْر أوهام زعم عبد الغني أنه استدركها على البخاري في التاريخ" (^٧)، وقفنا عليه ملحقًا بنهاية "كتاب التَّاريخ الكَبير" بالجزء الرابع من نُسخة آيا صوفيا [١٤٧ أ - ١٤٨ أ].
_________
(^١) وصرَّح في غير ما موضع بأنها: "الكتاب الكبير". ينظر: "الضعفاء": (١/ ٣٩٤)، (٢/ ١١١، ١٧٩)، (٦/ ١٧٧).
(^٢) (ص ١٢٣).
(^٣) (١/ ١٢٦، ١٧١).
(^٤) (٢/ ٤٣٠).
(^٥) "الأوهام التي في مدخل الحاكم" (ص ٨٥ - ٨٩).
(^٦) وقد طبع مع "الموضح" للخطيب، وانظر "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التوريخ" (ص ٣٦١).
(^٧) نُشِر هذا الجزء بالمجلد (٨/ ٤٥٠) من الطبعة الهندية للتاريخ الكبير.
1 / 19
وقد جمع مسلمة بن قاسم الأندلسي تاريخًا في الرجال شَرَط فيه أن لا يذكر إلَّا من أغفله البخاريُّ في "تاريخه" وهو كثير الفوائد، في مجلَّد واحد، فيما قاله الحافظ ابن حجر (^١).
ورد ذلك عليه تلميذه السخاويّ، وقال: "كَذَا رأيْتُه في كَلَام شَيْخنا، و"كتاب الصِّلةُ" عِنْدي، وهُو ذَيْلٌ على كِتاب لمُؤلِّفِها سَمَّاه "الزَّاهِرُ" (^٢) كما أشَارَ إلَيْه في الخُطْبَةِ" (^٣).
* * *
_________
(^١) "لسان الميزان" (٨/ ٦١).
(^٢) قوله: "الزَّاهر" كذا في "الإعلان بالتوبيخ".
(^٣) "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التَّوريخ" (ص ٣٦١).
1 / 20
بيان ما أخرجه البخاريُّ من روايات "كتاب التَّاريخ الكَبير"
ذهب الشَّيخُ المعَلِّميُّ (^١) إلى أن: "ما جمعه ابنُ أبي حاتمٍ من المآخِذ على البخاريِّ كان بالنَّظر إلى النُّسخة التي أخرجها البخاريُّ أوَّلًا، وكلام الخطيب البغداديّ بالنَّظر إلى النُّسخة التي أخرجها البخاريُّ ثانيًا، وهي رواية أبي أحمد محمَّد بن سُليمان بن فارس الدَّلال النيسابوري، المتوفَّى سنة (٣١٢ هـ). . .، ورواية ابن سهل مما أخرجه ثالثًا".
وظهر من تعليقات الشَّيخ المعلمي على الأوهام التي ساقها الخطيب البغداديّ في "كتاب المُوَضِّح لأوهام الجمع" أنه يرى أن نُسخة المكتبة الآصفية -وهي فرع عن النُّسخة الباريسية- التي رمز لها الشَّيخ بالرمز (صف) من رواية أبي أحمد بن فارس؛ لأنها تتطابق مع ما نقله الخطيبُ في "كتاب المُوَضِّح" (^٢)، وأن نُسخة الخطيب ترجع إلى رواية أبي أحمد بن فارس، وهي متقدمة عن نُسخة ابن سَهْل؛ فنُسخة ابن سَهْل هي المعتمدة عند الاختلاف (^٣)، فإذا كانت رواية ابن سَهْل هي المتأخرة، وقد وقعت عند الخطيب نُسخة منها، ينقل عنها في مواضع عديدة من "كتاب المُوَضِّح"، فلماذا لم يلتزم مراجعتها في جميع المواضع؟! (^٤).
_________
(^١) مقدمة تحقيق "كتاب المُوَضِّح لأوهام الجمع والتَّفريق" (ص ١١، ١٢).
(^٢) حاشية تحقيق "كتاب المُوَضِّح لأوهام الجمع والتفريق" (١/ ١٦٦)، مع أنه ذكر في التاريخ (٨/ ١٠٥) أنها من رواية ابن سهل، فلعله تراجع عن ذلك.
(^٣) السابق (١/ ٢٦).
(^٤) السابق (١/ ٣٣).
1 / 21
وقال: "وقد قدمنا مرارًا أن نسخة الخطيب ترجع إلى رواية ابن فارس، وأن المطبوع يرجع إلى رواية ابن سهل، وهي متأخرة عن رواية ابن فارس، وهذه القضية تدل على أكثر من ذلك، تدل على أن البخاريّ أخرج التاريخ قديمًا، وأن رواية ابن فارس مما أخرجه قبل سنة ٢٢٤ هـ، واللَّه أعلم" (^١).
وقد أنعمَ اللَّهُ بالنُّسخة المرموز لها بالرمز (ث)، وهي نسخةٌ تامّةٌ، وقد تميزت عن رواية ابن سَهْل بمزايا عدة، ويبدو أنها من رواية ابن فارس؛ دل على ذلك مقابلتها بنُقُولِ الخطيب البغدادي في كُتبه، ونُقُولِ الدَّارقطني في "المؤتلف والمختلف"؛ كما سيأتي بيان ذلك.
ومِن أجلِّ ما تمتاز به هذه الرِّواية:
- كثرةُ النُّصوص التي زادتها على النُّسخ التي من رواية ابن سهل وغيره.
- حذف بعض التَّراجم التي ربما وقع بها وهمٌ أو خطأ.
- تفرُّدُها بالكثير من التَّراجم التَّامة.
- إعادة صياغة المصنِّف لمادة الكثير من التراجم بالتقديم، أو التأخير، أو الحذف، أو الإضافة.
- تفرَّدُها بالكثير من التَّصويبات.
- زيادات في أسماء بعض الرواة بذكر الأب أو اللقب أو النسب، أو الحذف.
- زيادات في تعليل بعض الروايات.
وهذا لا يُحمَل على فروق النُّسخ، بل يُحمل على تغايُر الرِّوايات.
وقد صارت رواية أبي أحمد بن فارس عمدةً يُعتمد عليها، ويُرجَع إليها؛
_________
(^١) السابق (١/ ٥١).
1 / 22