تاریخ جنون
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
ژانرونه
ولكن إلى أي مدى ينبغي المضي في «زعزعة مخيلة المريض عقليا من خلال زرع الشعور بالخوف الشديد داخله»؟ يجيب بينيل قائلا إنه لا بد من «ترهيب المريض عقليا، ولكن مع عدم السماح مطلقا باللجوء إلى العنف.» ويشدد بينيل كثيرا على هذا التحفظ قائلا إنه يجب التعامل «بحزم جريء وصارم خال من أي إهانة أو تعد.» وأوضح بينيل أنه ضد الحمامات المفاجئة، على أن تستخدم فقط «في الحالات القصوى والأكثر خطورة.» ومع ذلك، أتاحت لنا الطبعة الثانية من «البحث» قياس المسافة التي تفصل بين النظرية والتطبيق بشكل أفضل. فقد شكلت الحمامات في مشفى سالبيتريير «الركيزة الأساسية في علاج المصابين بالهوس والسوداوية»؛ حيث كان يتم، «خلال جزء كبير من النهار»، استخدام اثني عشر مغطسا مغطى بغطاء من قماش الكتان المتين لا يظهر منه إلا الرأس؛ مما يسمح بالحفاظ على الحشمة والسيطرة على المريض في الوقت عينه. ويمكن الدمج أحيانا بين حمامات المياه الساخنة أو الباردة والرشاش، الذي قد يصبح سيلا من الماء المثلج. هذا هو «دش القمع»: «حيث كانت تغمر رأس المريض عقليا فجأة بالماء البارد لإجباره على الالتزام بالنظام [...] كانت هذه الحمامات، التي تعد إحدى وسائل القمع، تكفي غالبا لإخضاع إحدى المريضات عقليا للقانون العام للعمل اليدوي، وللتغلب على رفض إحداهن العنيد لتناول الطعام، ولترويض المريضات عقليا اللائي تستحوذ عليهن حالة مزاجية مضطربة وواعية. وهكذا كنا نستغل فرصة وجود المريضة بالمغطس لأخذ حمام، ونذكرها بخطأ ارتكبته أو بواجب مهم أخلت به، ثم نقوم بواسطة الصنبور بترك تيار الماء البارد يتدفق فجأة على رأسها؛ مما يكون من شأنه غالبا إرباك المريضة عقليا أو إبعاد فكرة مسيطرة عن ذهنها، بفعل التأثير القوي وغير المتوقع. وإذا أصرت المريضة على التشبث بهذه الفكرة المستحوذة على عقلها، نقوم بتكرار الدش، ولكن يجب أن نتجنب بعناية استخدام لهجة قاسية أو ألفاظ صادمة قد تدعو إلى التمرد والثورة، بل على العكس من ذلك، نجعلها تسمع أن هذا لصالحها وأننا مضطرون - ببالغ الأسف - إلى اللجوء إلى هذه الإجراءات العنيفة، ونمزج كلامنا أحيانا بالدعابة، مع الحرص على عدم المبالغة فيها. فإذا تراجعت المريضة عن عنادها، يتم حينئذ إيقاف هذا القمع على الفور، وتتبعه لهجة رقيقة تنم عن عطف ومحبة.» جاء هذا الكلام على لسان بينيل الذي أضاف قائلا: إن هذه الوسيلة كانت «شائعة للغاية في المصحة.»
هذا هو التناقض الفكري الكامن في مفهوم العلاج المعنوي لدى بينيل الذي يتوجه عصره باعتباره أبا للطب النفسي. وهو ليس في حقيقة الأمر تناقضا بقدر ما هو تحول ينطوي على مفارقة؛ فالأمر لا يتعلق بالعلاج المعنوي المجرد، العلاج المعنوي الفلسفي كما يعرفه هيجل، وإنما العلاج المعنوي المتوافق مع الواقع اليومي القاسي داخل المارستان والذي يظل، حتى وإن أراد التجديد، مارستانا. وهو ما شرحه بينيل نفسه، بأسلوب لا يخلو من التواضع، منذ صدور الطبعة الأولى من «بحثه»: «إن ارتياد مصحات المجانين هو السبيل الوحيد لإعطائنا فكرة عن صعوبات الخدمة: مشاعر تقزز ونفور تنشأ باستمرار يجب إخفاؤها، مخاطر يتم التعرض لها، صراخ متواصل وألفاظ مقذعة تتردد على المسامع، وغالبا أعمال عنف مرفوضة نسعى إلى السيطرة عليها.»
الفصل الخامس
إسكيرول ونشأة مصحة الأمراض
العقلية
ولد جان إيتيان دومينيك إسكيرول في تولوز عام 1772، وهو التاسع في أسرة مكونة من عشرة أطفال. وقد نذر نفسه في البداية للحياة الكنسية، ولكن الثورة قطعت دعوته، فشرع في دراسة الطب في عام 1792. وعين مفتشا للصحة إبان الحروب التي شنتها الثورة وحكومة الإدارة (الديركتوار)، واستأنف دراساته الطبية في مونبلييه، قبل أن يبدأ مسيرته المهنية في باريس عام 1799، حيث انضم إلى العمل في خدمة كورفيزار في المشفى الخيري، كما عمل مع بينيل في مشفى سالبيتريير. وناقش في عام 1805 أطروحته بعنوان: «الأهواء كأسباب وأعراض ووسائل علاجية للاختلال العقلي». ها هو يبلغ من العمر نحو 34 عاما ولم يعد مبتدئا، بل أكثر من تلميذ، إنه معاون بينيل. حين توفي بوسان في عام 1811، عين إسكيرول طبيبا مشرفا على قسم المريضات عقليا في سالبيتريير، ثم أصبح في العام التالي طبيبا خاصا للقسم نفسه.
سنكتفي هنا بهذا القدر من سيرته الذاتية حتى نتعرف بشكل أفضل على المرحلة الهامة، في ميلاد الطب النفسي، التي تمثلها أطروحة إسكيرول. في كتاب «ممارسة العقل البشري»، يشدد كل من مارسيل جوشيه وجلاديس سواين
1
بحق على أن: «إسكيرول كتب بعد تأسيس «المبادئ التي وضعها البحث حول الهوس»، ولكنه كتب أيضا قبل التحول الحاسم لتمثيل سبل ووسائل العلاج المعنوي، الذي نجم تدريجيا وفرضته تجربة المشفى الكبير، والذي انتهي بحمله إلى سالبيتريير.» أي بعد تأسيس حقل طبي نفسي وفق تعريف بينيل وقبل إيجاد حل مؤسسي.
أهواء ...
ناپیژندل شوی مخ