تاریخ جنون
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
ژانرونه
هناك شكل آخر من أشكال الجنون، أكثر شيوعا من الجنون الخطير، أو يفترض أنه كذلك، يتمثل في الجنون الهائج والمثير للاضطرابات التي تخل بالنظام العام. نذكر على سبيل المثال أولئك الذين يتسببون بفضيحة أمام المكاتب. وأولئك الذين يركضون في الشوارع شبه عراة. والمخابيل على اختلاف أنواعهم. نقرأ في أحد التقارير الصادرة عن شرطة باريس في عام 1707، العبارة التالية: «يتعذر تحمل هذا الجنون في أي مكان.» وكثيرا ما كان ذلك الهياج مقترنا بإدمان الخمر وبالثمالة، التي غالبا ما كان يتم إثباتها: «مع استسلامه (أي المجنون) لزجاجة الخمر، فإنه يطلق العنان لنفسه للقيام في الوقت عينه بكل أنواع التجاوزات»، «ضعف يومي في الذهن يحدثه الشراب ويرافقه تصرفات جنونية وسلوكيات شاذة من كل نوع.» لم يكن من النادر رؤية بعض المعاتيه غير المؤذين، الذين كان مرتادو الملاهي الليلية يجدون لذة دنيئة في جعلهم يشربون. «حتى الآن، لم يؤذ (أي المعتوه) أحدا.» أما فيما يتعلق بمدمن الكحول، ذاك الذي كان يعاني من الهلاوس ومن الاضطهاد، وكانت الشياطين تحدق به، فيقوم بإطلاق أعيرة نارية في الهواء لإبعادها، «يخشى أن يختلط عليه الأمر يوما ما فيظن أحد جيرانه شيطانا.» هناك أيضا المصابون بالهذيان المميزون، ويقصد بهم أولئك الذين يقال عنهم إنهم يملكون «مشاعر استثنائية». أحدهم يظن نفسه غنيا، والآخر يحسب نفسه مفلسا. وتلك حالة أخرى تعود إلى عام 1705 لرجل «يتسلط عليه الجن الجهنمي». في ظل مجتمع متدين بهذا القدر، يقدم الدين تيمة مفضلة للهذيان. «يكمن جنونه في كونه يلقب نفسه بالله الأبدي وحين يناديه أحدهم باسم آخر تأخذه نوبات غضب عنيفة [...] لا بد من أن يكون المرء مجنونا بقدره لكي يقترح تركه طليقا.» وها هو مصاب آخر بالهذيان قابله لاتود في شارنتون
6
يظن نفسه يسوع المسيح. في القداس الإلهي، عند حلول وقت تقديس الخبز والنبيذ، كان يهرب لأنه لم يكن يحتمل أن يرى نفسه على وشك أن يؤكل حيا. وقد وصف في تقرير صادر عام 1753 بأسلوب أكثر إيجازا ولكنه ليس أقل بلاغة على النحو التالي: «رأس تشدخ بفعل التدين.» وهناك العديد من أوهام الاضطهاد (وهو مصطلح حديث للغاية بالنسبة إلى هذا العصر) أكثر قتامة مما سبق ذكره، مثل حالة جرمان سوبري، 37 عاما، الذي «كان يشكو من مخاوف وعذابات يقاسيها منذ عام بسبب بعض الرجال ولكنه لا يعرف هويتهم. إنه يشعر بحرقة شنيعة كما لو أن أحدا ينتزع أحشاءه ويخرجها عن طريق فمه.»
في أحيان كثيرة للغاية، يكون هذا النوع من الجنون، بالأمس كما اليوم، دافعا للتقدم بطلب اعتقال أكثر من الجنون الذي يتسم، إن لم يكن بالهدوء بصفة دائمة (قلما يوجد هذا النوع)، على الأقل بفترات هدوء طويلة بما يكفي ليتحمل المحيطون بالمريض الأزمات العابرة. ومع ذلك ، لم يختف بسطاء العقل، و«البله» من المشهد: فهذا سقط من برج الجرس - «وتسببت السقطة في إضعاف عقله» - وذاك، على الرغم من كونه غير مؤذ، «يؤدي حركات بهلوانية ويقوم بالتواءات بشعة لدرجة أنه يخشى على النساء الحوامل من رؤيتها.»
الدور
في بداية القرن الثامن عشر، وجدت الإدارة الملكية نفسها في مأزق، على الرغم من التقدم الذي وصلت إليه، في ميدان الاحتجاز. فلم يكن السجن، باعتباره عقوبة بدنية، موجودا. وكان المدعى عليهم في قضايا إجرامية (كانت السرقة تعد جرما)، باستثناء أولئك الذين يتم إسقاط التهم عنهم من وقت لآخر، يعاقبون بالنفي في أفضل الأحوال، وبالأشغال الشاقة أو بالإعدام في أسوئها. ومن ثم كان هناك فراغ قانوني كبير فيما يتعلق بالجانحين المستترين، ومرتكبي الجرائم البسيطة على اختلاف أنواعهم الذين كانت عائلاتهم، الحريصة على عدم تلويث سمعتها، تطالب عن طريق استصدار أمر ملكي بإرسالهم إلى إصلاحية أو ما يطلق عليه «منزل احتجاز جبري». بشكل مبدئي، وأيا كان ما قد نقوله في هذا الشأن، فلم يكن للحمقى أي علاقة بكل هذا؛ نظرا لأن حالتهم المرضية معترف بها؛ ولأنهم، خلافا «للجانحين»، يستحقون الشفقة. نعم، ولكنهم بحاجة أيضا إلى أماكن للاحتجاز، وفي ظل غياب الدور المتخصصة، كانت العائلات والمجتمعات السكانية تطالب باستخدام الدور عينها المخصصة للجانحين. يبدو المذهب البراجماتي الذي اتبعه النظام القديم في التعامل مع هذا الموضوع صادما في أعين عالمنا المعاصر، تلك البراجماتية التي انتهت على عجل إلى الخلط، في نظر أولئك الذين يؤيدونه، بين الجانحين والمجانين. وسوف نرى أن هذا الخلط لم يكن موجودا على صعيد الممارسة العملية بقدر ما تجلى بالأحرى على الصعيدين القانوني والفكري. لم يحدث إلا ضم أماكن احتجاز المجانين إلى السجون، وهو الوضع الذي كان قائما بالفعل في السجون [التي تعادل المعتقلات اليوم]؛ حيث كان يعثر من وقت لآخر على مختل عقليا محتجز هنا أو هناك. وفي كل مرة كان يحدث فيها هذا، كان الوضع يعتبر من قبل السلطات نفسها غير مقبول. وعلى الرغم من ذلك، في سجون بلدة بو، تعين في عام 1777 إنشاء ثلاث دور «لحبس المجانين» (في الواقع، كانت هذه الدور عبارة عن «ثلاث زنازين في آخر الحديقة» تعلوها سقيفة مائلة). وما مصير الإنسان المختل عقليا الذي لا يريده أحد؟ كما هي حال جون كروازيه، الجندي السابق بوحدة بيارن العسكرية، الذي انتهى به المطاف في سجن إبرنيه في عام 1784. «نظرا لعدم توافر مكان ملائم لاحتجاز شخص من هذا النوع، ولعدم وجود من يرعاه»؛ تقاطعت مراسلات السلطات المختلفة وتكدست دون جدوى. وقد كان وزير الحرب يريد تخصيص 150 جنيها سنويا كنفقة إقامة ورعاية بإحدى المؤسسات. ربما بيستر؟ ولكن في ذلك الوقت، كان قد مضى بالفعل عامان وكروازيه لا يزال محتجزا في سجن إبرنيه.
أمام فشل المشفى العام وتكاثر طلبات استصدار الأوامر الملكية، ونظرا لأن الدولة لم تكن تمتلك إلا أربعين سجنا (أشهرها سجن الباستيل) مخصصة أساسا للسجناء السياسيين وحدهم، بدأت الإدارة الملكية تشجع على التحويل المنهجي لأماكن تجمعات الطوائف الدينية إلى سجون أو دور احتجاز جبري. تمتلك هذه الأماكن الدينية ميزة مزدوجة؛ فهي، من جهة، منتشرة في جميع أرجاء المملكة، ومن جهة أخرى، قادرة بحكم تعريفها على احتضان نزلائها في جو يسوده الصمت، والصلاة، والانضباط، والعمل، الذين هم في أشد الحاجة إليه. كما أنها تمتلك ميزة أخرى، وهي أنها تضم فئات متباينة يتفاوت مستواها الاجتماعي بين الغنى والفقر، ومن ثم ستكون تكاليف الإقامة مناسبة لمختلف الميزانيات. بالطبع، لم يكن هذا الإجراء جديدا وإنما تعود جذوره إلى القرون الوسطى، ولكنه لم يكن ينطبق في ذلك الوقت إلا على عدد محدود للغاية من الأفراد؛ إذ لم يكن المكان الواحد يستوعب غالبا سوى فرد أو اثنين على الأكثر. لم يكن هناك داع إذن لتسمية هذه الدور «دور الاحتجاز الجبري».
في هذا الصدد، تعد دار رعاية (المخلص الصالح) بمدينة كاين مثالا بارزا على قوة النفوذ الملكي خلال هذه الفترة. لقد تم إنشاء هذه الدار عام 1720، وكانت تتكون من مجموعة صغيرة مكونة من أربع راهبات، تعمل في منزل متواضع على رعاية وإغاثة الفقراء. من أجل البقاء، بدأت الدار في استقبال نزلاء لقاء دفع مبالغ مالية (فتيات يلتحقن بالدار من أجل تلقي العلم) بالإضافة إلى سيدات مسنات، مقابل دفع نفقات أيضا، يرغبن في عيش أيامهن الأخيرة بسلام في ظل الإيمان المسيحي. ولكن، كان لزاما على الدار، أن تأخذ تصريحا عن طريق الحصول على براءات ملكية. في عام 1733، مارس قائد شرطة مأمورية كاين ضغوطا مباشرة على أسقف بايو حتى توافق الدار على «احتجاز الأشخاص المنحلين لكي يعيشوا حياة منضبطة». وأضاف بتهكم قائلا: إن قبول هذا العرض من شأنه التعجيل بالموافقة على طلب استصدار البراءة الملكية المتعثر. بالإضافة إلى أن خدام الدار سيتم إعفاؤهم من أداء الخدمة العسكرية. أما بالنسبة إلى الدار التي ترفض استقبال أحد الجانحين، فستجد نفسها مرغمة على استضافته بموجب الأمر الملكي عينه الذي ينص على الاعتقال.
في النهاية، وافقت دار بون سوفور؛ لأن تلك كانت هي الطريقة الوحيدة لتأمين ميزانية كافية. وقد وصلت البراءات الملكية، التي كان من المنتظر إصدارها منذ ثلاثة عشر عاما، اعتبارا من العام التالي على الرغم من خوض معركة مع بلدية كاين بسبب التأخير في إرسال البراءات، زاد من حدتها «وجود اعتقاد راسخ على حساب الحقيقة بأن جنس هذه المدينة فاسق لدرجة أن النساء والفتيات يحترفن الدعارة.» لم يكن يتعلق الأمر في البداية إلا بتقويم وإصلاح «الفاجرات». بيد أن دار بون سوفور، التي انتقلت إلى مقر أكثر اتساعا، كانت تحوي في عام 1785، إضافة إلى 30 راهبة، 12 «فتاة يجري تعليمهن وتهذيبهن»، و15 سيدة متقاعدة، و24 نزيلة محتجزة بالقوة، من بينهن 12 امرأة «مختلة عقليا». تمثل هذه النسبة المرتفعة للمختلات عقليا (لم يكن أي من الدور الموجودة آنذاك يستقبل مجانين بشكل حصري) بداية مرحلة «التخصص»، كما تدل على ذلك اللوائح الأولى للدار (حوالي عام 1780). كانت دار بون سوفور مقسمة إلى أربعة «قطاعات» على النحو التالي: «قسم المجنونات، قسم الفقراء، قسم التعليم والتربية، قسم الآثمات التائبات»، وكان كل قسم من هذه الأقسام يشمل غرفا منفصلة ومستقلة تماما بعضها عن بعض.
في أواخر القرن الثامن عشر، بلغ تعداد دور الاحتجاز الجبري بالمملكة ما يقرب من 500 دار، أكثر من ثلثيها خاص بالجماعات الدينية. شكلت مثل هذه الشبكة بما توفره من ضمانات الإحسان والتعامل الأخلاقي، على الرغم من كونها تقدم خدماتها نظير دفع مبالغ مالية، مكانا مخصصا بالفعل لاحتجاز المختلين عقليا الذين كانوا يمثلون 15٪ من إجمالي المحتجزين قسرا. في الواقع، يخفي هذا المتوسط وجود تفاوت كبير؛ نظرا لأن بعض هذه الدور لم تكن تستقبل فعليا حمقى كغيرها، مثل دار بون سوفور بكاين التي بلغ تعداد المجانين بها ما يقرب من نصف عدد النزلاء لديها. وكانت تكلفة الإقامة متفاوتة داخل هذه الدور ذات المساحات و«وسائل الراحة» المتباينة للغاية؛ حيث كانت تتراوح، في أواخر القرن الثامن عشر، ما بين 200 و1500 جنيه سنويا (وذلك في الوقت الذي كان أجر العامل فيه عن كل يوم عمل يساوي جنيها أو أقل).
ناپیژندل شوی مخ