تاریخ جنون
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
ژانرونه
الفصل الرابع
طالما اعتنينا بالمجانين
أدى ثراء التفكير النظري للإغريق والرومان بشأن الجنون إلى إعداد دستور علاجي لا يقل ثراء عن النظرية. لم يكن أبقراط - بما أنه يمثل دائما نقطة البداية - يعطي وصفا دقيقا لأي مرض دون أن يذكر العلاج الملائم له. ففي نهاية المطاف، المرضى هم نقطة الارتكاز. إليكم على سبيل المثال حالة «شخص مخبول» (مصاب بالتهاب الدماغ)، نراه يتصرف على النحو التالي: «يهذي ؛ ويهيأ له أن هناك زواحف تتراءى أمام عينيه، بالإضافة إلى حيوانات أخرى مختلفة الأنواع، وأن هناك جنودا مسلحين من الإغريق يقاتلون، وأنه هو نفسه يقاتل إلى جوارهم، فيثور ويتمرد، ويهدد بما سيفعله إذا لم يتم إطلاق سراحه [...] أمام حالة مماثلة، يصف الطبيب الدواء على النحو التالي: يوضع مقدار خمس وحدات أوبول (وحدة وزن في اليونان القديمة تساوي 75 سنتيجراما) من نبات الخربق الأسود في خمر حلو ويعطى هذا الشراب للمريض، أو تحضر حقنة شرجية للمريض كما يلي: نأتي ببلورات كبيرة الحجم من نترات الصوديوم [الملح الصخري] من مصر، تسحق جيدا، ثم تخلط في وعاء مع إضافة مقدار نصف-كوتيل (وحدة قياس سعة السوائل في العصور القديمة وهي تساوي 0,27 لتر) من أجود أنواع العسل، ونصف-كوتيل من الزيت، وأربعة كوتيلات من ماء مغلي به نبات السلق، وبالإمكان إضافة لبن حمير دافئ بدلا من ماء السلق المغلي، ثم يمزج هذا الخليط جيدا ويعطى للمريض عن طريق حقنة شرجية، سواء أكان مصابا بالحمى أم لا. يمكن أيضا تحضير حساء عن طريق استخلاص القيمة الغذائية للشعير بغليه جيدا مع إضافة العسل. كما يمكن أن يتناول المريض شرابا يحتوي على خليط من العسل والماء والخل.»
طالما كان هناك اهتمام في العصور القديمة برعاية المجانين ومعالجتهم، حتى وإن كان الأمر يقتصر في العصور العتيقة على إرشادهم للذهاب إلى أحد المعابد. واعتبارا من القرن الثالث الميلادي، كان الأطباء يملكون تحت أيديهم ترسانة حقيقية من الطرق العلاجية والأدوية.
بداية، ما هي الطرق العلاجية المستخدمة بما أن الأمر يتعلق بعلاج الجسد؟ في بعض الأحيان يتم اتباع طرق المعالجة الإخلافية، وذلك لعلاج حالات الاضطراب النوعي للأمزجة أو الاختلال الكيفي للأخلاط، وفي أحيان أخرى تستخدم أدوية تكميلية أو على العكس علاجات مفرغة؛ وذلك لمعالجة الاختلال الكمي لسوائل الجسم. أيضا، من العلاجات التي كانت توصف للمريض، نجد الحمامات المائية المهدئة والمراهم الشمعية (المصنوعة من الشمع والزيت)، والتي كانت تستخدم كدهان موضعي، أو الكمادات وذلك بوضع إسفنجة مبللة بماء دافئ على العينين. هذا بالإضافة إلى الحقن الشرجية (علما بأن هذه الكلمة لم تظهر إلا في القرن الثالث عشر الميلادي، ولقيت فيما بعد اهتماما كبيرا في القرن الأكبر؛ أي القرن السابع عشر الميلادي). بيد أن الطرق العلاجية المفرغة كانت هي الأكثر شيوعا فيما يتعلق بمعالجة الجنون، وتتمثل فيما يلي: الفصد، والحجامة، واستخدام العلقات ولا سيما جذور نبات الخربق؛ فقد كان يستخدم الخربق الأبيض إذا كان يراد تفريغ الجسم من الأعلى، والخربق الأسود إذا كان يراد تفريغ الجسم من الأسفل. نضيف إلى ما سبق المهيجات (مثل: المواد الكاوية، ومسببات احمرار الجلد، والمنفطات) التي تؤدي إلى إحداث تقيحات أو طفح جلدي. وكان هناك اعتقاد بأن المهيجات سواء أكانت مساعدة أم مكملة للعلاجات المفرغة، فإنها من المفترض أن تسحب «من العمق» الأخلاط الفاسدة أو الزائدة عن حاجة الجسم.
يعد نبات الخربق، الذي كان يوصف فعليا كعلاج لأشكال الجنون كافة، هو الأقوى تأثيرا ولكنه الأشد خطورة من بين جميع العلاجات المفرغة. يقول هيروفيلوس - طبيب إغريقي من عائلة أسكليبياديس - عن الخربق: إنه «قائد شجاع»، وأضاف العالم اللاتيني أولوس جليوس قائلا: «إن نبات الخربق يقتلع بالطبع الأمراض من جذورها، ولكن هناك مخاطرة في أن ينتزع أيضا الحياة.» وقد ارتبط هذا العلاج بأصول في الأسطورة الإغريقية كما يلي: بعد أن تسبب غضب هيرا في ضرب بنات برويتوس - ملك تيرينثا - بالجنون، قام العراف ميلامب بشفائهن بعد أن سقاهن لبن المعز الخاصة به التي كانت ترعى في أرض مزروعة بنبات الخربق. وكان يستحيل حصاد الخربق من أي مكان، بل كان لا بد من الذهاب إلى مدينة أنتيسيرا، التي أصبحت مزارا علاجيا شهيرا يقصده طالبو الشفاء. وأصبحت عبارة «الإبحار إلى أنتيسيرا» مثلا شعبيا يستخدم للإشارة إلى شخص مجنون. تجاهل أبقراط كل هذه الخرافات والمهاترات السخيفة؛ فالخربق عنده عبارة عن مستحضر طارد للمواد الصفراوية (عصارة المرارة)، ولا مانع من استخدامه ولا سيما أنه يقتصر على العلاجات الجسدية.
أسس خلفاء أبقراط طريقة لعلاج الجنون قائمة على إشباع الحاجات النفسية الأساسية للإنسان، وذلك مع احتفاظهم في الوقت نفسه بالعلاجات السابق ذكرها. في الواقع، إذا أردنا مداواة الجسد، فلا بد أيضا من مداواة النفس لتأثرها بالتبعية بما يصيب الجسد؛ فيجب تفادي إثارة المريض، ولا بد من الترويح عنه وإدخال السرور على قلبه بكل معنى الكلمة، مع محاولة تخليصه من الأفكار المسيطرة عليه. كما أنه من الضروري ممارسة بعض التمارين المنشطة؛ سواء تلك التي يقوم بها المريض بنفسه، أو تلك التي يكون دوره فيها مجرد متلق (بمعنى أن تأتي الحركات من الخارج). وهذا هو ما يطلق عليه كاليوس الرجرجة، ويقصد بذلك: هدهدة المرضى بوضعهم في أسرة معلقة (ومثل هذا التأرجح أو الاهتزاز من شأنه أيضا تيسير العودة إلى النوم)، أو نقلهم على طرق وعرة، وهكذا برزت الفكرة القائلة بضرورة رج المريض بعنف.
فضلا عن رجرجة المريض، ينصح بالسفر لما له من تأثير على تغيير نفسية المريض. وينصح أيضا بالاستماع إلى الموسيقى والذهاب إلى المسرح؛ إذ كان الاثنان يشغلان مرتبة غاية في الأهمية في العصور القديمة. وأوصى كاليوس «بحضور عروض الفن الإيمائي إذا كان المجانين يعانون من الحزن، أو على العكس من ذلك، حضور المسرحيات التراجيدية التي تتضمن الحزن والخوف إذا كان المجانين مصابين بابتهاج طفولي مرتبط بضحالة الفكر. ذلك أنه يتعين تصحيح نوع الخلل العقلي بنقيضه.» ومن جانبه امتدح أرسطو، في كتابه «فن الشعر»، التراجيديا؛ لأنها «تساهم، بإثارتها لمشاعر الشفقة والخوف، في عملية التطهير (أو التنقية بحسب التعبير اللاتيني
catharsis ) الخاصة بالمشاعر والانفعالات.» وفي كتاب آخر له بعنوان «السياسة»، أضاف أرسطو «الحماس» باعتباره يشيع في النفس، من خلال الأناشيد المقدسة، «فرحا لا ضرر منه»، ويطهرها ويبث فيها شعورا بالراحة.
لا بد أيضا من نصح المريض بعقلانية دون إزعاجه، ولكن أيضا دون مسايرته أو التعامل معه بلطف أكثر من اللازم. وهنا تكمن المشكلة. ما المقصود بالضبط بعبارة «دون مسايرته أو التعامل معه بلطف أكثر من اللازم»؟ طالما ركزنا في تناولنا للموضوع حتى الآن على الجانب الطبي (وبالأخص الجانب النظري)، غير أن هذا الجانب يتداخل بالضرورة مع الجانب الاجتماعي؛ فأفراد المجتمع لا يبدون رد الفعل نفسه الذي يبديه الطبيب أمام مجنون، ولا سيما إن كان هذا المجنون مزعجا، أو عنيفا وخطيرا. عند وصول الأمور إلى هذا الحد، يعد التصرف الأكثر عملية نوعا ما هو استخدام القيود والسلاسل وعزل المجنون، وبالطبع ستكون طريقة التعامل مختلفة على حسب وضع المريض الاجتماعي؛ بمعنى هل هو محاط بعائلة وبعبيد أم معوز وفقير، وفي مثل هذه الحالة الأخيرة، هناك احتمال كبير أن يكون مصير المجنون الطرد من المجتمع والحكم عليه بالتشرد طوال حياته.
ناپیژندل شوی مخ