تاریخ جنون
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
ژانرونه
انتقلنا إذن من عصر الإيمان إلى عصر العقل (ويتعمد ساس أن يسميه «عصر الجنون»). «فبدلا من أن يولد الإنسان حاملا الخطية، فهو يولد حاملا المرض.» وهكذا، بعيدا عن أن يكون عالما حياديا كما يدعي، ينحاز الطبيب النفسي (فلا يمكنه معالجة أحد إن لم يسئ معاملة الآخر)، وتحولت دلالة الطب النفسي إلى ألفاظ جديدة لتصف وتروج لقيم أخلاقية وبالتالي سياسية. «كل هذا ليس سوى خداع كبير.» كما أن الأمر يتعلق بالترويج لقيم أخلاقية، وليست لقيم طبية؛ لأن «القيم الأخلاقية تخص الجميع، ولا يمتلك أي فصيل أن يدعي أنها ملكه وحده» (على عكس القيم الطبية التي تظل حكرا على المتخصصين في مجال الصحة).
وفي كل أعماله، ظل يندد بهذه المحاولات لوضع معايير موحدة لكل شيء: «إذا لم تنجح الفاشية والشيوعية في فرض أيديولوجية جمعية على المجتمع الأمريكي، فربما تنجح أدبيات المرض العقلي في هذا الأمر.» وقد تمتد هذه السطوة لتطول العالم أجمع، وقد أصبحت هي مجال التطبيق العملي للطب النفسي. باختصار، أصبحت الصحة هي الحجة الجديدة لسيطرة الإنسان على الإنسان. فنحن نتجه إلى «الدولة العلاجية» ضد الفردية والاستقلالية، ضد حماية المواطنين من الدولة، وأيضا ضد الحكم الحر والمسئولية الفردية.
سندع الآن جانبا التجاوزات العديدة في الحوار، التي سبق بها من تبعوه، والتي لم تساهم بالطبع في جعل حركة مناهضة الطب النفسي أكثر مصداقية. وبالتالي، فكرة أن المجنون حتما هو كبش الفداء الذي تضحي به «مجتمعاتنا الرحيمة» والذي تنقذ تضحيته المجموعة كلها من التفكك والأنا من الانحلال ... أيمكننا أن نضيف إلى المجنون الساحرات واليهود؟ كما يخصص كتاب «صناعة الجنون» فصلا كاملا «لكبش الفداء المثالي للطب النفسي: الشخص المثلي الجنس»، في حين لم يكن يهتم به الطب النفسي التقليدي إلا نادرا. ويتحدث فصل آخر عن «منتج جديد: جنون الاستمناء» الذي رأينا أن تشخيصه قد ظهر منذ العصر الرومانسي للطب النفسي. إن المبالغة الكبرى بالطبع هي التأكيد على أن المرض العقلي ليس له وجود، على الرغم من أن هذه الفكرة كانت هي الترجمة المختصرة لأفكار ساس في فرنسا بالتحديد. فإذا بحثنا جيدا، فسنرى أن ساس قد تقبل فكرة الجنون؛ بما أنه يعتقد أن طرق العلاج النفسي لها مكان بشرط أن تكون مطلوبة.
يدين ساس أيضا التحليل النفسي بشكل قوي. فيعتقد أن العلاج النفسي إنما هو أسطورة (مثله مثل المرض العقلي) وأن التدخلات العلاجية النفسية إنما هي طرق علاجية مجازية، وكأن العلاج النفسي صورة من صور البلاغة. أما عن النموذج الذي اتخذه - أي التحليل النفسي - فهو ليس علما كما ادعى فرويد، وإنما دين جديد مليء بالمعتقدات الثابتة. بل ووصل الأمر بساس حتى الحديث عن طوائف داخله. فيرى في عقدة أوديب (وليست وحدها) مفتاح لغة التحليل النفسي، والتي توازي مكانتها بالنسبة إلى المحلل النفسي التقليدي، مكانة سر التناول لدى الكاثوليكي. ولقد صنع منها فرويد واقعا - بعيدا عن أي مجاز - تماما مثل سر القربان المقدس. «فبالنسبة إلى كنيسة فرويد، فأي طفل ذكر يرغب في قتل والده وممارسة الجنس مع والدته، والفتيات العكس.» ولقد أبعد فرويد يونج لرفضه أن يتقبلها إلا في صورتها الرمزية. «محاولا دحض اعتراضات يونج الذي رفض أن يعتبر عقدة أوديب السبب وراء كل أنواع العصاب، كشف فرويد من جديد عن الطابع الفظ لبلاغته.»
24 «كان حماسه بالإضافة إلى مواهبه هو ما أتاح لفرويد أن يتحول إلى أسطورة في مجال الجنون في النمسا.» ولكن فرويد مدعي ثقافة، مصاب بجنون العظمة وكاره للنساء (وفوق هذا يهودي ينتقم تاريخيا من المسيحية)،
25
كان يستخدم لغة شبه علمية للتدليل على عبقريته: «وبالتالي، يصبح الذهن الجهاز النفسي، والعاطفة ليست إلا ال «هو»، والشخصية هي «الأنا» والضمير هو «الأنا العليا».»
في عصره، أصبح ساس من المناهضين القلائل للطب النفسي الذين عارضوا أيضا التحليل النفسي؛ مما تسبب في فزع كبير في وسط حركة مناهضة الطب النفسي في فرنسا؛ حيث كان التحليل النفسي فيها يحظى بأوج فترات الانتصار. ولقد تولد عن هذا الأمر مؤامرة صامتة نسبيا. ولكن هذا لم يمنع رولاند جاكار - المؤرخ لحركة الجنون والتحليل النفسي - من أن يكتب في عموده بجريدة «لوموند»: «تعد أعمال ساس القطعية في رفضها والمفرطة في النقد وذات المنطق الضعيف من الأعمال التي تسير ضد التيار، ضد كل ما يقال وكل ما يفعل في مجال الطب النفسي، بل وأيضا التحليل النفسي [...] وباسم العقلانية والإنسانية المتفتحة، تعد دفاعا شديدا عن الإنسان لم نقرأ مثله منذ أمد بعيد.»
ومثله مثل الطب النفسي والتحليل النفسي، لم يلق الطب النفسي الحيوي قبولا لدى ساس، الذي يقول لجي سورمان في لقاء عام 1988:
26 «دعونا نتوقف عن القول بأن خلف كل تفكير ملتو، جزيئا ملتويا داخل الدماغ.» «فإذا كانت الحال كذلك، فيجب إذن علاج الفصام مثل أي مرض عادي، ولا نجعل من الأمراض العقلية فئة منفصلة نعزلها ونعتني بها بموجب سلطة ما.»
ناپیژندل شوی مخ