تاریخ جنون
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
ژانرونه
16
وفي العام ذاته، كتب سيوران: «نحن نتحصن خلف وجوهنا، أما المجنون فيخونه وجهه. فيظهر بجلاء أمام الآخرين منتقدا ذاته. فبعدما فقد قناعه، أصبح يعلن عن فزعه ورعبه ويفرضه على كل من يأتيه، مظهرا ألغازه كلها. كل هذا القدر من الانكشاف يزعج بالتأكيد. ومن الطبيعي أن نقيده ونعزله» (مقاييس المرارة، 1952).
هوجة الستينيات والسبعينيات
ليس من المفارقة أن يبلغ تاريخ الجنون - الذي لم يكن يهم أحدا حتى هذا الوقت - درجة من الاهتمام الشعبي بفضل الهوجة المضادة للطب النفسي في أعوام الستينيات والسبعينيات. وأصبح المجنون - أكثر من الجنون ذاته - فجأة في مقدمة الأحداث والاهتمام الإعلامي، ليتحول إلى صورة كبش الفداء لمجتمع يرفضه.
لا يسعنا أن نعي أو نقيس مدى اتساع حركة مناهضة الطب النفسي في النصف الثاني من القرن العشرين دون أن نضعها في سياقها التاريخي والاجتماعي؛ ألا وهو أزمة الغرب، أزمة البلاد الثرية في عصر «الثلاثين عاما التي تلت الحرب العالمية الثانية». كان «المجتمع الاستهلاكي» محطا لكافة أنواع الانتقادات. فالزيادة المطردة في الإنتاج ليست دليلا كافيا على نجاحه، ولا علاجا للمشكلات الاجتماعية (جي كيه جالبرايث «عصر الثراء»، 1958). وكانت أزمة القيم والتمرد الطلابي الناتج عن الزيادة السكانية قد زعزعا بالفعل المجتمعات الغربية. في الولايات المتحدة الأمريكية، اتسمت الستينيات بالصراعات - العنيفة أحيانا - ضد «السلطة» لصالح حقوق «السود» والنساء والأقليات وحرية التعبير والسلوكيات. في بيركلي، ظهرت حركة «حرية التعبير» عام 1964، لتسبق وتلهم حركة مايو 1968 في فرنسا. وبالفعل، في بيركلي، تمكن هيربرت ماركوس - الفيلسوف الألماني الذي هاجر إلى الولايات المتحدة خلال صعود النازية - من التنديد باغتراب الفرد وضياع قيمته وسط المجتمع الذي أصبح يتسم بالوفرة. ويصم هذا الماركسي الفرويدي مبدأ الربح نفسه بالطابع اللاإنساني الذي يقوم بإخضاع وتشويه الغرائز وكبت الطاقات البشرية الكامنة. وفي كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد» (1964) - المترجم إلى الفرنسية عام 1968 - ينتقد العالم الذي يأتي في نفس الوقت بالرأسمالية والشيوعية، العالم المصنوع من الاحتياجات الوهمية، والذي يتم فيه إبعاد أي عقل نقدي أو أي معارضة للنظام. هذا ما أسماه ماركوس «الرفض الأعظم».
وتأتي معارضة الطب النفسي إذن في هذا السياق الواسع، وتختلف في هذا تماما عن المعارضة التي صاحبت الطب النفسي طوال تاريخه، والتي لم تكن تهدف إلا إلى تخليصه من العيوب. هذه المرة، تطرح جذريا مسألة نسبية ما هو طبيعي وما هو مرضي. فالجنون ذاته، وليست المصحة العقلية فحسب، هو الذي يخضع للتشكيك. وأصبح الجنون - بمعناه الواسع - صورة مجازية لكل ما يزعج المجتمعات ذات المقاييس الموحدة «للإنسان ذي البعد الواحد». «إن أصل التحريم، هو تحريم التفرد. فعندما تكون مختلفا عن المجموعة، تكون ضدها. وإذا كنت ضدها، فقد تدمرها. وفي هذه الأوضاع وفي سبيل الحماية، يجب على المجموعة أن تقصي الخطر الذي يمثله الاختلاف.»
17
فالمجتمع الذي يقصي، يحدد النموذج الذي يرفضه في المريض عقليا نفسه ... منذ عام 1979، ذكر ميشيل كروزيه «سنوات مناهضة الطب النفسي الجنونية»: «إن منطق اليسار - السائد في ذلك الوقت - كان منطقا جنونيا؛ أي من دون حدود أو قيود. ولم تكن حركة مناهضة الطب النفسي إلا أحد مظاهره ولكن أكثرها قوة، ولا سيما في بلد كانت دائما حذرة بل ومتأخرة في هذا المجال. كان يسود هذه الأعوام أساسا مزيج عجيب وغير عادي من العنف المناهض للمؤسسات والأساليب ذات المضمون الثقافي الأكثر جذرية من دون أي تماسك إلا هذا المنطق.»
18
يعد توماس ساس أحد الآباء المؤسسين لحركة مناهضة الطب النفسي المعاصرة، وأحد أكثرهم تشددا، وإن كان دوره قد بدأ يخبو اليوم أمام الذين استلهموا أفكاره (وعلى رأسهم فوكو). ولد ساس في بودابست عام 1920، ثم هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1938. كان يعمل فيزيائيا، قبل أن يصبح طبيبا ويتحول في النهاية إلى طبيب نفسي. وسرعان ما حرمته مواقفه العنيفة تجاه مؤسسة الطب النفسي منذ بداية الخمسينيات من متابعة نشاطه في العمل داخل المستشفيات. ومنذ عام 1956، أصبح أستاذا للطب النفسي بجامعة نيويورك (سيراكيوز) وحتى تقاعده عام 1990. ويزخر تاريخه المهني بالكتب النظرية (ما يقرب من الثلاثين كتابا) نذكر منها بالتحديد: «أسطورة الطب العقلي» (1961)،
ناپیژندل شوی مخ