155

تاریخ جنون

تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا

ژانرونه

كان المجتمع الأمريكي الجديد يتميز بميل واضح «للاحتجاز» - أكثر من أوروبا القديمة - مظهرا تشددا متناميا تجاه الجنون، بالتناسب مع نمو حركة التصنيع والتعمير السريعة؛ خوفا من شبح الفاقة و«الفساد» الذي تسببه حركات الهجرة (دعارة، سكر، إجرام، جنون). في مثل هذا السياق السياسي والاجتماعي المرتبط بثقافة دينية بروتستانتية، كان العلاج المعنوي يمتاز بطابع «أخلاقي» لم يشهده من قبل. وفي عام 1874، تأسس «المؤتمر الوطني للأعمال الخيرية والإصلاحية»، الذي أصبح في القرن العشرين - بعبارات أكثر ملاءمة للعصر الحديث - «الجمعية الوطنية للخدمة الاجتماعية». ومثلما كان الأمر في الغرب، سرعان ما حل التشاؤم محل الأمل في شفاء مرضى الجنون. ويشدد عالم الاجتماع والمؤرخ للصحة في أمريكا ديفيد ميشانيك

24

بفطنة على أهمية هذا الشعور بالإحباط وثقل وطأته في أمريكا عن أوروبا. ويعرض فكرته المفارقة والمثيرة بأن مهنية الطب النفسي شكلت في النهاية عقبة أمام الرعاية الفعلية لمرضى الاعتلال العقلي؛ بسبب أنها أصبحت مجموعة من المعارف السرية، مما شكل حاجزا أمام محبي الأعمال الخيرية الذين هم أساس هذه المصحات.

بدأت الآلة تدور، وافتتحت أول مصحة عامة للأمراض العقلية - «ورسيستر ستايت» - في ماساتشوستس عام 1830. وارتفعت معدلات الاحتجاز بسرعة رهيبة خلال العقدين الثالث والرابع من القرن التاسع عشر. وأصبحت مصحة بلومينجدال بنيويورك تضم أكثر من ألف وستمائة مريض بين عامي 1824 و1836، ومعظمهم من القادرين على الدفع وليس المعوزين، ومن بينهم ما لا يقل عن ثلاثة وعشرين بالمائة من المرضى مدمني الكحوليات. وازدادت الأعداد في الأماكن الأخرى. وعلى الرغم من وجود ثلاث مصحات خاصة ومشفى عام في بوسطن (يضم 2632 مريضا)، استعدت ولاية ماساتشوستس في عام 1854 لإنشاء المشفى العام الثالث. كان هذا هو عصر انتصار النظريات الطبية المعمارية لتوماس س. كيركبرايد (1809-1883) - كبير الأطباء وكبير المراقبين بمشفى بنسلفانيا لمرضى الاعتلال العقلي ببنسلفانيا الذي تأسس عام 1841. ولقد تأثر كيركبرايد بأسس الإنشاء التي آثرها أطباء الأمراض العقلية الفرنسيون في العقود الأولى من القرن التاسع عشر. في البداية، يجب ألا تشبه مصحة الأمراض العقلية السجون لطمأنة المرضى وعائلاتهم وأيضا الزائرين (يجب إخفاء وسائل الأمن).

25

ويكون التصميم متماثلا بالطبع، وخطيا في ذات الوقت يشتمل على مجموعة متسلسلة من الأقسام الخلفية تحيط من الجهتين بالجناح المركزي، وفي آخره تكون الكنيسة. تتسع المصحة لمائتين وخمسين «مريضا». تكون مناطق التصنيف أبسط من النموذج الفرنسي، وتقوم أساسا على التصنيف بناء على السلوك. يجري الاعتناء بشدة بالتهوية؛ مما يتضمن إنشاء المصحة في الريف. وبناء على هذا النموذج، أنشئ عدد من المصحات على مدار القرن التاسع عشر، مثل مصحة إلينوي الشمالية لمرضى الاعتلال العقلي عام 1872. كان كيركبرايد ينشر تقريرا سنويا حول وضع مصحة بنسلفانيا للأمراض العقلية التي ازداد عدد مرضاها من ثلاثمائة وأربعة وستين عام 1857 حتى خمسمائة وخمسة وتسعين عام 1868. كان يمتدح فيه اهتمامه بالرياضة البدنية الخفيفة وقاعات القراءة. واستغرق في أحلامه حتى تخيل إنشاء مكان للترفيه (؟) يقيمه المرضى بأنفسهم.

انتهى هذا العصر الطوباوي للطب العقلي بالتداعي منذ عام 1880. ويسجل التعداد الفيدرالي في هذا التاريخ وجود - في مقابل خمسين مليون مواطن - 41500 مريض عقليا في مشافي الدولة ، وضعف هذا العدد في دور الإيواء. كانت النسبة تفوق مثيلتها في أوروبا، ولكنها كانت أقل من عام 1955؛ حيث بلغ عدد المرضى المحتجزين في الولايات المتحدة حوالي 559000؛ أي 0,33٪ من إجمالي عدد السكان

26 (في التاريخ نفسه، كانت فرنسا تضم محتجزين يمثلون 0,23٪ من عدد سكانها). ولكن - كما في فرنسا وفي كل البلاد الأخرى - تلاشى الأمل في الشفاء قبل ذلك بكثير. في ثمانينيات القرن التاسع عشر، عقد الكثير من المحاكمات بسبب الاحتجاز القسري. واحتدم هجوم أطباء الأعصاب - بدوافع أخرى - على أطباء الأمراض العقلية، متهمين إياهم «بخداع ثقة الشعب بإصرارهم على عدم انتهاز الفرص المتاحة لتحسين علم الطب النفسي.» وقد رأينا من قبل كيف كانت الحال مع الجراحة النفسية. وانتهى المطاف بعلماء الأعصاب بفقد ثقة الجمهور الذين أرادوا كسب ثقته، بسبب مبالغاتهم (ألم يتحدثوا عن السعي وراء «المادة غير المستفاد منها»؟)

27

ولقد شهد العقد ذاته مولد الجمعية الوطنية لحماية مرضى الاعتلال العقلي والوقاية من الجنون. في الوقت الذي تزدحم فيه المصحات بالمرضى المزمنين الذين «تدهورت حالاتهم» (بي روزنكرانتز)، لماذا الاستمرار في تكديس المصحات بصورة تزيد من عددهم؟ (بلغ عددهم مائتين في الولايات المتحدة بنهاية القرن التاسع عشر). منذ عام 1874، طرحت مسألة مستقبل المرضى المزمنين وكيفية مساعدتهم خلال أحد المؤتمرات الوطنية بأمريكا. بنهاية القرن التاسع عشر، شهد قطاع مصحات الأمراض العقلية تدهورا سريعا. وكان من الممكن أن تتسبب الزيادة السكانية، وفشل بعض الطرق العلاجية - بداية من العلاج المعنوي - ونسبة الوفيات المرتفعة المرتبطة بتحول الإصابة إلى مرض مزمن؛ في التخلي عن سياسة مصحات الأمراض العقلية، وليس - من باب المفارقة - في زيادة شديدة في عدد المرضى المحتجزين، حتى منتصف القرن العشرين، بل وبعد ذلك. «وعلى عكس مبادئ النظام والسيطرة التي يفرضها المعمار والإدارة، كان نظام الحياة في المصحة يميل دائما نحو الفوضى والتفكك» (سكول). إلا أن مصحة الأمراض العقلية صمدت على الرغم من الناقدين. ويستكمل سكول حديثه بأن المصحة استمرت؛ لأن أقل المستشفيات جودة كان يمثل حلا لبعض الأسر اليائسة. وهكذا، «لم تكن مصحة الأمراض العقلية - كمؤسسة يلجأ إليها في نهاية المطاف - في حاجة أبدا لمزيد من الزبائن.»

ناپیژندل شوی مخ