150

تاریخ جنون

تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا

ژانرونه

وعودة إلى النمسا، أنشئت أول مؤسسة تتسع لسبعمائة مريض في منتصف متنزه واسع في عام 1853. وعلى غرار مصحة براج - التي تأسست عام 1822 - خصصت غرف فيها لأساليب العلاج التي تقوم على العمل اليدوي. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، جرى تأسيس العديد من المصحات العقلية. فمنذ عام 1863، أنشئ حوالي واحد وعشرين مشفى عاما وسبع مصحات خاصة. وكان القانون يحظر احتجاز أي مريض دون شهادة من طبيب حكومي في المنطقة أو البلدية. وحتى في الحالات الطارئة، لا يمكن تأجيل هذا الإجراء لأكثر من أربع وعشرين ساعة. كما كان يمكن للمرضى مغادرة المصحة - سواء أتموا شفاءهم أم لا - بناء على رغبة ذويهم، بشرط أن يتعهد هؤلاء برعايتهم.

وكما كانت الحال في ألمانيا، ظل هناك تصوران مغايران في النمسا؛ الأول نفسي إنساني والآخر جسدي. ومنذ نهاية القرن الثامن عشر، يعد مسمر في الحالة الأولى وجال في الحالة الثانية مثالا لهذا. إلا أن الاثنين يشتركان في قرارهما بترك فيينا لتعارض نظرياتهما مع التصورات الأخلاقية والدينية في عصرهما. ويعد إرنست فون فوشتيرسليبين (1806-1849) الممثل الأهم للطب النفسي النمساوي الرومانسي. وفي مؤلفه «صحة الروح» - الذي طبع أربعين مرة خلال خمسة وعشرين عاما وترجم للغات الأوروبية الرئيسة - يوضح ضرورة مقاومة مبادئ الجنون الموجودة لدى كل واحد منا دون توقف أو رحمة. كان هو أول من درس الطب النفسي في فيينا، وكان رائدا للصحة العقلية (قبل أن تحظى بهذا الاهتمام في الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية). ثم جاء - مثل ألمانيا وبإيحاء من جريزينجر - زمن الملاحظة الإكلينيكية والوصف. ولقد حاول جوزيف ديتيل (1804-1878) - ولا سيما في «التشريح الإكلينيكي للأمراض العقلية» (1845) - ربط المرض العقلي بإصابات في المخ. وبعيدا عن التكهنات، أصبح الأمر من الآن فصاعدا يقوم على إيجاد تشخيص موضوعي للأمراض العقلية. إلا أن المدرسة «الموضوعية» بفيينا انقسمت بدورها إلى مدرسة تشريحية باثولوجية يمثلها بوضوح ثيودور مينيرت (1833-1892) - الذي اتخذ فرويد تلميذا له لفترة من الوقت، ومدرسة أخرى وصفية ترتكز على علم أسباب الأمراض. وهكذا أكد ريتشارد كرافت إبينج (1840-1902) - في محاضرته الافتتاحية بعيادة الطب النفسي الإكلينيكي الملحقة بمصحة فيينا للأمراض العقلية - أن «الطب النفسي الحالي يجب أن يكون قبل كل شيء علما وصفيا وليس تفسيريا.»

في الحقيقة، وبعبارات نظرية، لا يوجد طب نفسي قومي خالص، خاصة في بلاد منفتحة مثل النمسا. والأمر كذلك بالنسبة إلى العديد من الأطباء. فماكس ليدزدورف (1818-1889) درس في النمسا ولكنه أقام في ألمانيا، ثم فرنسا وبريطانيا وروسيا. وشغل منصب كبير الأطباء في مصحة الأمراض العقلية بسان بطرسبرج، قبل أن يبدأ سيرته المهنية في النمسا؛ حيث جمع بين إدارة مصحة خاصة وبين تدريس الطب النفسي بالجامعة.

وعلى الرغم من صغر مساحتها، فإن سويسرا

7

كانت تتسم باللامركزية الشديدة، وكذلك طب الأمراض العقلية لديها. فحتى بعد صدور الدستور السويسري عام 1848، ظلت الأقاليم محتفظة باستقلالها فيما يتعلق بميزانية التعليم والصحة العامة. في الفترة ما بين 1830 و1900، كانت المقاطعات التي تجاوز عدد سكانها مائة ألف تنشئ مصحات أمراض عقلية تضم من مائتين إلى ثلاثمائة سرير. بالإضافة إلى مؤسسات دينية تهدف عادة لخدمة مرضى الصرع. وتكمن خصوصية سويسرا في أن الأطباء مديري المصحات العقلية هم من يعهد إليهم بتدريس الطب النفسي، ومن ثم لا يكون هناك انفصال بين النظرية والتطبيق العملي. وعلى العكس، توجد خصوصية أخرى؛ ألا وهي الفصل الواضح بين الطب النفسي وعلم الأعصاب (الذي يرتبط بالطب الباطني). كان أطباء الأمراض العقلية يأتون عادة من ألمانيا ويشغلون كرسي الأستاذية في العيادة النفسية الجامعية بزيورخ والمسماة «البيرجولزي». في عام 1879، عين أوجست فوريل (1848-1931) من مقاطعة فود مديرا لتلك العيادة. ولقد بدأ هو أيضا مسيرته المهنية خارج بلاده ثم - بعد دراسته في زيورخ وفيينا - تم تعيينه معيدا بالعيادة النفسية بميونخ لمدة خمسة أعوام (كان لفوريل عدة اهتمامات أخرى، مثل دراسة النمل). ولم يتوان خليفته وتلميذه في البيرجولزي منذ عام 1898، يوجين بلولير - كما سنرى - في كسب شهرة عالمية للمكان .

وماذا عن أقصى الشرق، عن روسيا؟

8

لم تكن العناية المقدمة لمرضى الاعتلال العقلي تتقدم هناك بصورة أسرع من المجتمع ذاته. فلم يبدأ الحكام المحليون في إنشاء مستعمرات زراعية لمرضى الاعتلال العقلي إلا في عام 1861 بعد إلغاء العبودية. وأكثر مما كان الأمر عليه في النمسا، فإن البحث العلمي كان يتطور خارج المشافي، ولكن ازداد الأمر تعقيدا لكون الصفوة الروسية ممزقة بين تيار القومية السلافية وتيار يميل إلى الغرب. ولقد نظر الأطباء النفسيون من ممثلي هذا التيار في سان بطرسبرج وموسكو إلى فرنسا وألمانيا، خاصة في عهد جريزينجر. أنشئ أول كرسي أستاذية للطب النفسي في روسيا عام 1857 بالأكاديمية الطبية العسكرية بسان بطرسبرج. ومنح لإيفان بالينسكي (1827-1902) الذي أسس عام 1861 جمعية بطرسبرج لطب الأمراض العقلية. منذ عام 1869، شرع في توفير مصحات للأمراض العقلية في عدة مدن روسية. ويعد فلاديمير بيشتيريف (1857-1927) أحد خلفائه. بعد أن درس الطب في سان بطرسبرج، مارس عمله في عدة خدمات في ألمانيا وأيضا في مستشفيات شاركو وسالبيتريير بفرنسا. وفي عام 1893، عين أستاذا للأمراض العقلية والعصبية بسان بطرسبرج، حيث مكث عشرين عاما أعاد خلالها تنظيم التعليم الإكلينيكي. وأسس في عام 1907 معهدا للأبحاث حول المخ (وقبيل وفاته، كان ينوي إنشاء مبنى يشبه البانثيون لتدريس علم التشريح العصبي «ويصلح لتخزين ودراسة أمخاخ العباقرة»). مثل الكثير من الأطباء النفسيين وأطباء الأعصاب الروسيين، اهتم بيشتيريف أكثر بالبحث عن الممارسة داخل مصحة. وفي روسيا مثل فرنسا، لم يهتم الأطباء النفسيون الكبار بالذهاب لمواجهة الحياة اليومية داخل مصحات الأمراض العقلية. كذلك إيفان بافلوف (1849-1936) وسيرجي كورساكوف (1854-1900) اللذان ذاعت شهرتهما عالميا في مجال البحث. وقد عكف الأخير - الذي سنأتي لاحقا على ذكر متلازمة الأعراض التي اكتشفها - على تحسين الإصلاح في مؤسسات العلاج النفسي. كما انشغل فلاديمير سيربسكي (1855-1917) - إلى جانب عمله الجامعي - (كان يشارك بفاعلية في أنشطة جمعية الطب النفسي وعلم الأعصاب بموسكو) بالطب النفسي والطب الشرعي، وبالتالي سعى إلى الحصول على ضمانات للخبرة في مجال الأمراض العقلية.

في إيطاليا،

ناپیژندل شوی مخ