147

تاریخ جنون

تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا

ژانرونه

وخضعت الآنسة بوتار إلى الترتيب الطبقي، الذي يعطي تدرجا للرتب في الجيوش؛ ففي المصحة، يدعى «الرقيب» كبير المشرفين، وتكون له سلطة على الحراس، فيفتش دون إبطاء منطقته بدءا من المناطق المهجورة في أوقات معينة من اليوم، ويكون عليه مراقبة قائمة العاملين والقيام بدور رئيس العمال في الورشة، ويتولى أيضا تفتيش الداخلين، وأي عمليات تفتيش، ويراقب الممرات والبهو، وأخيرا - وعلى وجه الخصوص - يكون هو المتحدث أمام الإدارة والطبيب؛ فمن بين المفارقات داخل المصحة أن يضطر المريض عقليا - إذا ما أراد مخاطبة كبير الأطباء - إلى توجيه الحديث في البداية إلى كبير المشرفين الذي يحكم هو إذا ما كان الأمر يستدعي مقابلة كبير الأطباء أم لا. أليست هناك زيارة يومية؟ ولكننا رأينا كيف تتم تلك الزيارة. يكون كبير المفتشين هو السيد، وعلى كبير الأطباء الذي يرفض التفاهم معه أن يتوقع أياما صعبة داخل المصحة ...

ولكن أين كبير الأطباء من كل هذا؟ يجب ألا تجعلنا الأسماء الكبيرة والشهيرة - التي تظهر على الأبحاث الضخمة، والتي تطلق على كيانات متخصصة في العلاج النفسي - ننسى الجزء المختفي من الجبل الجليدي للطب العقلي؛ أي هؤلاء الأطباء المغمورين المحبوسين داخل مستشفياتهم بعيدا عن المؤتمرات وأضواء الأحداث الجارية. فحقا، لا يصنع هؤلاء تقدم النظريات، وإنما يتولون هم مسئولية تطبيقها وتشغيل المصحة، حتى ولو بشكل سيئ. ربما يمكننا الاعتقاد بأن قلة ظهور كبير الأطباء وضعف حضوره يرجع لكونه أعلى قمة في المصحة والمدير بلا منازع، إلا أن هذا ليس صحيحا.

حقا، يتخذ كبير الأطباء قرارات الاحتجاز والخروج، وهذا ليس بقليل. ويتحدث المرضى باحترام للحراس، وخاصة كبير المفتشين، الذين يتحدثون بدورهم بإجلال مع كبير الأطباء. وهذا أيضا ليس بالأمر الهين. وفي النهاية، فإنه يتلقى أجرا جيدا؛ ففي المصحات العامة يتراوح راتبه بين ثلاثة آلاف وستة آلاف فرنك سنويا تبعا للخمس فئات التي تحدد مسيرته المهنية (ولنتذكر راتب الحارس)، ولكن هذا لا ينفي كم الهموم التي يحملها على عاتقه. في البداية، يجب أن يتقاسم كبير الأطباء (ويسمى هكذا حتى وإن كان الطبيب الوحيد كما هي الحال عادة في النصف الأول من القرن التاسع عشر) السلطة مع المدير أو الرئيس (وفي الأغلب يكون امرأة) لمؤسسة دينية. ويخضع مرسوم عام 1852 تعيينه في المستشفيات الخاصة إلى موافقة المحافظ - الذي يمكنه رفضه - بينما يجري تعيينه في المصحات العامة بقرار من الوزير. وفي الواقع، يشكل هذا الأمر نوعا من الاختلاف، إلا في حالة اختلاط المنصبين، وهو أمر شائع (ولقد كان هناك اثنتان وثلاثون مصحة بهذه الحالة عام 1874). أما بالنسبة إلى المصحات الخاصة، فلا يكون كبيرو الأطباء أكثر من موظفين - بالطبع محترمين ومكرمين - ولكن يمكن استبدالهم بكل تأدب. وإذا كان في مشفى عام أو خاص أو حتى خاص تابع لجهة عامة، على كبير الأطباء أن يقاوم ضد إدارة تافهة ومتدخلة؛ ففي مصحة بون سوفور، تملأ الراهبات التقارير الصحية للمرضى، بالطبع بناء على تعليمات الطبيب، ولكن بأسلوب وعبارات من اختيارهن. لا يشعر كبير الأطباء القابع في أعماق مصحته في الأقاليم يمارس عمله كطبيب أمراض عقلية على أرض الواقع بأنه مهتم بحركات الإصلاح والاكتشافات «الباريسية»، ولكنه قد يحاول دون جدوى إدخال بعضها إلى خدمته. وعن هؤلاء - وهم الأكثر عددا في الواقع - يكون من الصعب الحديث عن «ارتداد الشخصية الطبية» (ميشيل فوكو).

في النهاية، فإن «احتجاز المجانين» ليس آمنا. فلا يكون الحراس أو الأطباء دائما بمأمن من أي اعتداء. في مقال صادر بتاريخ 1911،

89

يعدد طبيب للأمراض العقلية بمصحة فيلجويف - بنوع من التضخيم - حالات القتل والإصابات البالغة التي تجاوزت الخمسين وراح ضحيتها أطباء وحراس بالمصحة؛ إلا أن هذه الأرقام تمتد خلال عشرين عاما وعلى مستوى العالم أجمع. كما أن المصحات الكبرى تعرض إراديا كافة الأسلحة التي تضبط مع المرضى: سكاكين وآلات ثقب ودبابيس، وإن كان فعل الاعتداء نفسه، حتى ولو على مريض آخر، يشكل حالات غاية في الندرة. أما عن التمرد، فهو يحدث بشكل نادر؛ مما يجعله حدثا جاذبا للصحفيين. في مايو 1890، حينما تسلق المرضى المصابون بالهياح بمصحة بيستر الأسطح للاحتجاج على الطعام، لم ينجح تفريقهم إلا بعد استخدام خراطيم رجال الإطفاء التي استخدمت لأول مرة كوسيلة للقمع، واقترح أحد الصحفيين الموجودين بنوع من الدعابة استخدامها كوسيلة لتفريق المظاهرات السياسية. وتم الأخذ بحديثه.

وإذا كان كبير الأطباء يكرس القليل من وقته وجهده لدراسة الطب النفسي، فإنه يحرر في المقابل عددا لانهائيا من التقارير: شهادات دخول ومتابعة ودفتر للزيارات (ودفتر للأدوية ليوقعه ) وتقرير نصف سنوي وبيانات إحصائية وإجابات لطلبات ضرورية دائما للمحافظين حول حالة معينة، ناهيك عن حالات الهرب أو الانتحار. ولمدة طويلة، ظل الطبيب يوزع وقته في المدينة ما بين الأنشطة الخاصة والعامة. ولم يكن يقيم في المصحة؛ ففكرة إقامة الطبيب في المصحة - وهو أمر ضروري لملاحظة المرضى - لم تبدأ إلا بعد ظهور فكرة الطبيب المساعد الذي يقوم بدور المتدرب.

عقدت أول مسابقة إقليمية لاختيار طبيب نفسي ابتداء من عام 1888، وأجريت أول مسابقة موحدة (وطنية) منذ عام 1902. وقبلت أول امرأة في هذه المسابقة في عام 1908. ويعين الأطباء المقبولون في المسابقة في وظيفة طبيب مساعد. وأحيانا ما كان يتعين عليهم الانتظار لعدة سنوات قبل أن يترقوا لمنصب كبيري أطباء. منذ عام 1922، ألغيت وظيفة الطبيب المساعد، وتحولت المسابقة إلى مسابقة اختيار أطباء لمصحة الأمراض العقلية، ثم في عام 1937، إلى اختيار أطباء للمصحات النفسية. بيد أن مهنة الطبيب النفسي - التي ظهرت بقوة - لم تجعل من كبير الأطباء السيد المطلق في المصحة؛ فالسيد المطلق هناك هو المصحة ذاتها، التي تفترس أبناءها مثل إله القدر كرونوس.

الفصل الرابع

«جولة» في مصحات الأمراض العقلية في الغرب

ناپیژندل شوی مخ