شكر وتقدير
تمهيد
مقدمة
1 - قصة التاريخ الإسلامي
2 - شعوب وثقافات
3 - المؤسسات
4 - المصادر
5 - مناهج متضاربة
6 - الأهمية الدينية للتاريخ الإسلامي
7 - الأهمية السياسية للتاريخ الإسلامي
خاتمة
مراجع وقراءات إضافية
شكر وتقدير
تمهيد
مقدمة
1 - قصة التاريخ الإسلامي
2 - شعوب وثقافات
3 - المؤسسات
4 - المصادر
5 - مناهج متضاربة
6 - الأهمية الدينية للتاريخ الإسلامي
7 - الأهمية السياسية للتاريخ الإسلامي
خاتمة
مراجع وقراءات إضافية
التاريخ الإسلامي
التاريخ الإسلامي
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
آدم جيه سيلفرستاين
ترجمة
إيناس المغربي
مراجعة
شيماء عبد الحكيم طه
تخليدا لذكرى
مايكل فوكس (1934-2009)
شكر وتقدير
يعكس هذا الكتاب إلى حد كبير محتوى المحاضرات التي ألقيتها عن التاريخ الإسلامي في جامعتي كامبريدج وأكسفورد. وعلى الرغم من أن التدريس في مثل هذه الجامعات المرموقة لا شك ميزة، فالتجربة أيضا يمكن أن تكون «مدرسة حياتية» لمحاضر شاب يجرب أفكارا جديدة. ولم يكن طلابي - الذين كانوا دائما أكثر ذكاء وأفضل استعدادا مني - ليسمحوا بمرور أي شيء غير واضح أو غير واف مرور الكرام. أشعر ببالغ الامتنان لهم جميعا لكل ما استقيته منهم على مدار السنوات، وأخص بالذكر إيموجين وير التي أعدت فهرس الكتاب.
أود أيضا أن أتوجه بجزيل الشكر لزملائي آنا أكاصوي، وباتريشيا كرون، وديفيد باورز، وتشيس روبنسون الذين طالعوا بكل ترحاب المسودات الأولى للكتاب، وجنبوني أخطاء عديدة تقترن بالأحكام والحقائق المغلوطة.
أود أيضا أن أشكر لوشيانا أوفلاهرتي وآندريا كيجان اللتين أوكلتا لي مهمة تأليف الكتاب، وكذلك إيما مارشانت، وكيريستين ديماتا، وكيرا ديكنسون لمتابعة الكتاب أثناء عملية النشر، وإريكا مارتن لما قدمته من مساعدة في إعداد الصور التوضيحية.
وأخيرا، قرأ والداي وزوجتي صوفي إحدى مسودات الكتاب، وقدموا لي الكثير من التعليقات المفيدة، لكنهم أمدوني أيضا بكل ما له أهمية في الحياة، ولا أستطيع التفكير في كيفية توجيه الشكر لهم جميعا عن كل ذلك. إذا بدا لهم في أي وقت أني مستغرق في التفكير، فلا بد أن يعلموا أني أجهد تفكيري في السبل التي يمكنني بها تعويضهم، أو أني أفكر في العمل.
تمهيد
في السنوات الأخيرة، يزداد وضوحا يوما بعد يوم لأهل الغرب من غير المسلمين أن الإسلام دين شديد الأهمية. ولا يزال الحديث عما إذا كان هذا الأمر جيدا أم غير ذلك يحتل مكانة بارزة في المنتديات العامة ووسائل الإعلام. يبدو الأمير تشارلز من المؤيدين، بينما لا يبدو البابا بينيديكت السادس عشر كذلك، استنادا إلى بعض التصريحات التي أدليا بها مؤخرا. وقد أثارت رؤية المسلمين المتزايدة في العناوين الرئيسية للصحف وفي شوارع مدن أوروبا وأمريكا الشمالية قضايا مهمة تتعلق بالتكامل والتعددية الثقافية والعلاقات بين الأديان، بل امتد الأمر إلى حد التساؤل عما يعنيه أن يكون المرء «بريطانيا» أو «أمريكيا» أو «غربيا» إجمالا. هل للحجاب والنقاب مكان في المجتمعات الغربية المعاصرة أم أنهما - على حد قول أحد وزراء الخارجية البريطانيين وكذلك الحكومة الفرنسية - يعيقان مسألة التواصل، ويهددان «قيمنا الأساسية» وأمننا؟
بصرف النظر عن آراء المرء بشأن هذه الموضوعات، من الواضح للكثيرين أن ثمة صراعا يختمر بين «الإسلام» والثقافة المسيحية اليهودية التي يعتقد بأنها الأساس الذي تقوم عليه الحضارة الغربية. لكن لم ينبغي أن يكون الوضع كذلك؟ في النهاية، الإسلام هو شكل من التوحيد ظهر في مجتمعات كانت تهيمن عليها الديانتان المسيحية واليهودية في الشرق الأدنى. وحينما انتشر المسلمون الأوائل خارج حدود شبه الجزيرة العربية، افترض بعض المسيحيين المعاصرين أنهم يهود، بينما اعتقد بعض اليهود أنهم مسيحيون. كيف نفسر إذن الفجوة الثقافية الهائلة التي يبدو أنها تفصل بين المجتمعات الغربية اليهودية المسيحية وبين المجتمعات الإسلامية؟
كي نجيب عن هذا السؤال لا بد أن نتحول إلى التاريخ الإسلامي. فالدور الذي يلعبه التاريخ الإسلامي في المجتمعات الإسلامية المعاصرة دور بالغ الأهمية، وإن كان يهمل عادة، إذ ليس له نظير في الغرب الحديث. لهذا السبب، فإن فهم ملابسات ظهور الإسلام وما شهده من تطور لاحق ربما يتيح لنا فهم المجتمعات الإسلامية المعاصرة وفهم صلتها - وعلاقتها - بالمجتمعات الغربية.
مقدمة
يدور هذا الكتاب حول وقائع التاريخ الإسلامي ودراسته وأهميته. سنحاول في الفصول التالية أن نجيب عن ثلاثة أسئلة ذات صلة، وهي: ماذا حدث؟ (من الفصل
الأول
حتى الفصل
الثالث )؛ كيف عرفنا ذلك؟ (الفصلان
الرابع
و
الخامس )؛ وما أهميته؟ (الفصلان
السادس
و
السابع ). لكن لا بد أن نفكر أولا في سؤال أعم: ما التاريخ الإسلامي؟ هل هو تاريخ تلك الأماكن التي تبوأ فيها المسلمون الحكم؟ أم هو تاريخ المسلمين أينما كانوا وأينما يكونون؟ ربما يكون التاريخ الذي يمثل أهمية للمسلمين؛ فلو طلبنا من أحد مسلمي ما قبل الحداثة أن يعين حدود التاريخ الإسلامي، لتملكته الحيرة على الأرجح من فكرة أن للتاريخ الإسلامي حدودا زمانية أو مكانية من الأساس. فطبقا للموروث الإسلامي كان آدم ونوح وإبراهيم وموسى والإسكندر الأكبر ويسوع جميعا مسلمين؛ والواقع أنهم جميعا يعدون أنبياء (أجل، هذا ينطبق أيضا على الإسكندر).
بدأ المؤرخون المسلمون أمثال الطبري (توفي عام 923) - الذين انشغلت أذهانهم بالقضايا الدينية دون غيرها - دراستهم للتاريخ بخلق الله للعالم فيما قبل مولد محمد بنحو 6500 عام وفقا لتقديرهم. وثمة منهج «إسلامي» آخر اتخذ من هجرة محمد من مكة إلى المدينة عام 622 نقطة البداية؛ وهي التي - على نحو ما سنرى - سجلت بداية التقويم الإسلامي، وإن كان يصعب القول بأنه لا يعتد إلى حد ما بالسنوات بين 610 و622 ميلادية حيث نزول الوحي على محمد (وتحول الكثيرين إلى الدين الجديد). فوفقا للتقدير المتبع فيما يلي، بدأ التاريخ الإسلامي في القرن السابع. لكن ينبغي أن يوضع في الاعتبار من البداية أن الإجابة - كما هي الحال مع معظم الأسئلة المطروحة في هذا الكتاب - هي: «الأمر يتوقف على من يطرح عليه السؤال». فالتاريخ الذي يعد «إسلاميا» بدءا من القرن السابع فصاعدا هو ذلك الذي كان فيه الإسلام قوة مهيمنة سياسيا أو دينيا أو ثقافيا.
شكل 1: الإسكندر الأكبر يزور الكعبة في مكة.
1
التاريخ الإسلامي هو نتاج الشعوب وأفعالها، لكن الشعوب في عالم ما قبل الحداثة كانوا نتاج بيئتهم. فلم يكن بمقدورهم أن يتجاهلوا الخلفية الطبيعية التي تكشفت في إطارها أحداث التاريخ الإسلامي، وهكذا حالنا أيضا.
التقسيم الجغرافي
في الوقت الحاضر، يوجد الإسلام في كل مكان، لكنه حتى بداية العصر الحديث كان موجودا في «مكان ما»، وعلى وجه التحديد في الأراضي الواقعة ما بين المحيط الأطلسي في الغرب وآسيا الوسطى في الشرق. يشار إلى هذه المنطقة أحيانا باسم «المنطقة القاحلة الكبرى»؛ إذ اتحد بمرور الوقت الهواء (السيبيري) البارد القادم من شمال المنطقة وشرقها مع الهواء (الصحراوي) الساخن القادم من الجنوب والغرب ليكونا منطقة داخلية شديدة الحفاف. وتشكل الصحراء جزءا كبيرا من شبه الجزيرة العربية وسوريا وإيران وغيرها، أما «المنطقة القاحلة الكبرى» ففي الأغلب قاحلة أو شبه قاحلة.
ثمة حلان رئيسان للمشكلات التي يسببها المناخ الجاف، هما: إيجاد موارد مائية بخلاف الأمطار، أو إيجاد سبل حياة لا تعتمد كثيرا على المياه. وقد طبق كلا الخيارين في التاريخ الإسلامي. فكانت مياه الأمطار غير الكافية في المنطقة تكملها نظم للري تشمل النظم الطبيعية مثل الفيضان السنوي لنهر النيل، علاوة على القنوات والأحواض والأقنية الأرضية التي شقها الإنسان، والتي وجهت مسار نهري دجلة والفرات وأنهار إيران (بالإضافة إلى مياه الأمطار في المنطقة) إلى الأماكن الخصبة منذ العصور القديمة. وهذه النظم تفرض مجموعة من المشكلات المرتبطة بها والمتمثلة في صعوبة الحفاظ عليها وسهولة إعاقتها.
شكل : خريطة العالم الإسلامي.
أما الحل الثاني لقحول المنطقة - الذي أفاد المناطق التي تفتقر إلى وجود الأنهار مثل شبه الجزيرة العربية - فهو الجمل الذي كان محل اعتماد وله تأثير كبير على المجتمع العربي في القرن السادس، وعلى انتشار الإسلام في القرن السابع، وشكل المدن والقرى الإسلامية فيما بين القرنين الثامن والحادي عشر. إن ما يميز الجمال هو قدرتها المذهلة على التكيف مع الموارد الشحيحة على مدار فترات طويلة؛ لذا فهي تتميز بالكفاءة من الناحية الاقتصادية، فضلا عن أن إعالتها لا تتطلب الكثير. أما ما يعيبها فهو أن أقدامها الحساسة لا يمكنها التكيف مع الأرض الباردة أو غير المستوية. ربما أوى محمد إلى الجبل، لكن خلفاءه لم يفعلوا ذلك - في البداية على الأقل - وعلى مدار التاريخ الإسلامي أثبتت سلاسل الجبال - بطريق الصدفة أم قصدا - أنها ملاذ آمن لأولئك الذين يسعون لمقاومة الضغوط التي تمارس عليهم كي يتحولوا عن دينهم أو يبدوا التزاما بالأعراف أو تعاونا أكبر بوجه عام. وبسبب ما تتصف به الجبال من وعورة نسبية، فإنها ساعدت السكان المحليين وكذلك الوافدين الجدد الباحثين عن ملجأ يحتفظون فيه بتقاليدهم الدينية (المسيحيون في شمال إسبانيا، والأناضول، وأرمينيا، ولبنان، ومرتفعات إثيوبيا؛ والزرادشتيون وغيرهم من مؤيدي مذهب الثنائية في شمال إيران) وموروثاتهم الثقافية (الفارسيون في إيران؛ والبربر في شمال أفريقيا؛ والأكراد في شمال العراق)، مثلما كانت مأوى للهاربين من السلطات المركزية بوجه عام (الإسماعيليون في سوريا وشمال إيران؛ والزيدية في اليمن؛ وطالبان في أفغانستان). ولسبب وجيه أشارت السلطات السياسية المغربية إلى مناطقها الجبلية باسم أراضي العصيان. أدركت القوات السوفييتية ومن بعدها القوات الأمريكية في أفغانستان هذه الحقائق بالتجربة العملية، في حين عرفها المسلمون المحليون منذ البداية.
على الرغم من ذلك لم تكن الجبال عائقا أمام جميع الجمال؛ فالجمال ذات السنامين أكثر قدرة على التحمل من الجمال العربية أحادية السنام. عندما شقت أعداد كبيرة من البدو الترك طريقها - بداية من القرن الحادي عشر - من آسيا الوسطى متجهة غربا إلى الشرق الأدنى، لم تقف الجبال في شمال إيران والأناضول (وأيضا المناخ البارد نسبيا في هذه المناطق) حجر عثرة في طريقها، ولهذا السبب يطلق اسم «تركيا» الآن على ما كان يعرف آنذاك باسم «الأناضول». على الرغم من ذلك بزغ الإسلام بين العرب في القرن السابع، وبدأ انتشاره أول الأمر بواسطة العرب وبعيرهم. لذا فإن فتوحات العرب - حاملين لواء دين جديد - لمعظم المناطق القاحلة وشبه القاحلة في العالم القديم ليست أمرا غريبا، ومثلها حقيقة أن الظروف المناخية وضعت حدا أمام تقدمهم؛ إذ ربما كانت الظروف الجوية الرطبة في أوروبا عائقا فعالا أمام تقدم الإسلام بقدر ما كانت الجيوش المحلية للبلاد.
لكن لماذا لم يمكث العرب في شبه الجزيرة العربية؟ الحقيقة أنهم فعلوا ذلك على مدار فترة طويلة للغاية، والشعر الجاهلي يصف مجتمعا كان يعرف عن حضارات جيرانه الراسخة، وإن كان لا يطمح إلى اللحاق بركبها؛ إذ كان العرب يشيدون بالرجولة والشدة، بينما يرون أن الملابس الحريرية والخواتم تناسب الضعاف الجبناء. لم يكن لأحد في عام 600 أن يتوقع أنه في غضون قرن من الزمان سيحكم العرب الغلاظ آكلي السحالي (على حد وصف المسلمين غير العرب لهم بعد قرون لاحقة) إمبراطورية هائلة من القصور في دمشق وبعدها بغداد. وعلى الرغم من أن تعداد المسلمين في العالم اليوم يفوق مليار مسلم، لم يكن هناك مسلم واحد عام 600؛ وما حدث في غضون هذه الفترة هو موضوع الفصل التالي.
هوامش
الفصل الأول
قصة التاريخ الإسلامي
600-800 ميلادية
بدأ الإسلام في شبه الجزيرة العربية طبقا لما جاء في الموروث الإسلامي وما ورد عن معظم المؤرخين المعاصرين، ويؤمن المسلمون بأن الإسلام لم يبدأ مع محمد، بل مع إبراهيم الذي بنى - مع ابنه إسماعيل، الجد الأعلى للعرب - الكعبة في مكة التي يتوافد إليها ملايين المسلمين لأداء فريضة الحج حتى اليوم. يتجاهل المؤرخون المعاصرون هذا الأمر، ويبدءون بسيرة محمد في مكة، ونحن أيضا سنبدأ من هذه النقطة.
شبه الجزيرة العربية مكان شاسع اتصف بالتنوع العرقي والطوبوغرافي والثقافي، بل والديني قبل ظهور الإسلام. والمنطقة التي نخصها بالاهتمام في شبه الجزيرة العربية هي المنطقة الغربية المعروفة باسم الحجاز، التي تقع بها مدينتا مكة والمدينة. ولد محمد في مكة نحو عام 570 في قبيلة قريش صاحبة الزعامة بالمدينة، وإن كان ينتمي لفرع أقل مكانة نسبيا في القبيلة، وتيتم في سن صغيرة. وفي عام 610، بينما كان محمد يناهز من العمر 40 عاما نزل عليه الوحي الذي اتخذت منه آيات القرآن التي عرضها على أصحابه وأهله، وأخيرا على أهل مكة. كانت رسالة التوحيد التي دعا إليها تتعارض مع ثقافة تعدد الآلهة السائدة في مكة، وفي عام 622 أجبر على الفرار من مكة مع أنصاره. استقر محمد في المدينة، وهي واحة يقطنها - إلى جانب آخرين - عدد كبير من اليهود، وفيها كانت رسالته عن الله، والأنبياء السابقين، ويوم القيامة، والصيام، والصدقة، وما شابه مألوفة لا تشكل أي تهديد أو خطر. لاقى محمد الترحيب في المدينة، وفيها قام بدور الحكم للفصل في بعض النزاعات التي كانت سببا في الشقاق بين أهلها. هذه الهجرة هي نقطة البداية لسيرة محمد كرجل دولة وأيضا للتقويم الإسلامي.
شرع محمد - من القاعدة التي اتخذها في المدينة - في تأسيس مجتمع جديد (أمة) تألف من رفاقه المهاجرين معه من مكة ومن أنصاره في المدينة. وعلى مدار السنوات العشر التالية ظل الوحي ينزل على محمد بآيات وثيقة الصلة باحتياجات الأمة وظروفها، وبما يعكس نفوذها وثقتها المتزايدتين. تحتل معاملات محمد مع وثنيي مكة ويهود المدينة جزءا كبيرا من الروايات المنقولة عن حياته في المدينة؛ ومع تدهور علاقاته باليهود، طردت قبائلهم تدريجيا من المدينة، بل وقتل بعضهم في إحدى المرات. وأخيرا هزم أهل مكة عام 630، وعلى مدار العامين التاليين استطاع محمد أن يوحد قبائل شبه الجزيرة العربية تحت لواء الأمة. اتخذت نجاحاته دليلا على تأييد الله له، ولا بد أن هذا الأمر شجع القبائل في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية على الانضمام إليه واعتناق الدين الجديد. وبعيدا عما تردد عن تأييد الله لمحمد، فقد وصف في المصادر الأولى بأنه بشر فان عاش حياته شخصا عاديا بل وغير معصوم من الخطأ (إذ عاتبه الله أكثر من مرة في القرآن مع أن الموروث الإسلامي لاحقا سيعتبره معصوما من الخطأ). وفي عام 632 وافته المنية كغيره من البشر.
أدت وفاة محمد إلى بدء سلسلتين من الأحداث أسفرتا عن نتائج مهمة للغاية؛ إذ أسفرت إحداهما عن ظهور الطوائف الإسلامية، في حين أسفرت الأخرى عن ظهور إمبراطورية إسلامية. في سلسلة الأحداث الأولى، اعتبرت جماعات بعينها وفاة النبي بداية عهد جديد، بينما نظرت مجموعات أخرى في سلسلة الأحداث الثانية إلى وفاته على أنها نهاية عهد قائم. كانت بداية عهد لأولئك المسلمين الذين خضعوا لحكم الخليفة الذي تولى قيادة الأمة بعد وفاة محمد بوقت قصير. قضى الخليفة الأول أبو بكر (الذي امتدت خلافته من عام 632 وحتى عام 634) أغلب فترة حكمه في التعامل مع سلسلة الأحداث الثانية.
كانت وفاة محمد نهاية عهد لتلك القبائل التي كان تحولها إلى الإسلام وثيق الصلة بمحمد نفسه، فلما مات محمد ذهبت تلك القبائل إلى أن مبايعتها له لاغية. احتفظت بعض القبائل بهويتها الدينية الجديدة (وهو ما كان أمرا جيدا) لكنها امتنعت عن دفع الزكاة وحجبت ولاءها عن الأمة (وهو ما لم يكن بالأمر الجيد). ارتدت قبائل أخرى أيضا إلى الديانات التي كانت تعتنقها قبل الإسلام (كان تغيير الولاءات الدينية شائعا في شبه الجزيرة العربية الوثنية آنذاك). اعتبرت هذه المجموعات في تعداد المرتدين سياسيا ودينيا، وكان لا بد من عودتهم إلى صفوف المسلمين. ولم تنجح «حروب الردة» التي نشبت إثر ذلك في تحقيق أهدافها الأساسية فحسب، بل نجحت أيضا في خلق الزخم والحاجة لخوض غمار الفتوحات فيما وراء شبه الجزيرة العربية. كان الكثيرون من سكان شبه الجزيرة العربية بدوا رعويين، ومن ثم اعتمدوا إلى حد كبير على الإغارة على الآخرين من أجل توفير أسباب العيش. وغرس توحد القبائل العربية العديدة تحت لواء ديني جديد فيهم إحساسا جديدا بالترابط الاجتماعي، وأوجد غاية روحانية كبحت جماح رغبة البدو في الإغارة على الآخرين (وهو ما أدغم في مفهوم «الجهاد» الذي سنعود لمناقشته في الفصل
الثالث )، بينما جردهم أيضا من الخصوم الواضحين؛ ولما لم يكن بوسع المسلمين الإغارة بعضهم على بعض، فقد أغاروا على جيرانهم في سوريا ومصر وشمال أفريقيا والعراق وإيران.
غير أن تلك الغارات اتسمت بطابع مختلف. فللمرة الأولى، بدلا من نهب الشعوب المستقرة في الشرق الأدنى وسلبها، جلب البدو معهم شيئا خاصا بهم، وهو رسالة دينية جديدة. لم تكن هذه الرسالة محل ترحاب من الحكام البيزنطيين في الغرب، ولا الحكام الساسانيين في الشرق (وفقا للموروث الإسلامي، أرسلت الرسائل بالفعل في عهد محمد إلى القادة الإمبراطوريين تدعوهم للدخول في الإسلام)، أما رعاياهم فكانوا أكثر تقبلا؛ إن لم يكن للدين نفسه، فللهيمنة الإسلامية على الأقل.
شكل : الفتوحات الإسلامية الأولى.
والدليل على أن الفتوحات الإسلامية في الشرق الأدنى تركت أثرا قويا في نفوس من عاصروها مثلما هي لنا الآن أن من قاموا بتلك الفتوحات ومن فتحت بلادهم كانوا على يقين من أن إرادة الله هي التي توجه الأحداث ؛ فالمسلمون فسروا نجاحهم على أنه مكافأة الله لهم على خضوعهم لمشيئته، بينما كان المسيحيون على يقين من أن هزيمتهم عقاب من الله لهم على خطاياهم، وبعض اليهود نظروا إلى الإسلام على أنه جزء من المخطط الإلهي لنشر التوحيد بين الوثنيين في أقاصي الحجاز، أو أنه تحقق لنبوءات مسيحية. (لا نعلم يقينا كيف نظر الزرادشتيون في إيران إلى صعود الإسلام، لكن لا بد أنهم لم يكونوا راضين عن ذلك بسبب فقدانهم الرعاية والدعم اللذين كانت الإمبراطورية الساسانية تقدمهما إليهم حتى ذلك الوقت.)
بحث المؤرخون المعاصرون عن تفسيرات أخرى لتلك الفتوحات، وخلصوا إلى ثلاث نظريات أساسية. أولا، كانت القوى الإمبراطورية واهنة بسبب محاربة بعضها لبعض حتى وصلت إلى طريق مسدود مضن وباهظ التكاليف على مدار القرون السابقة. ثانيا، كان الكثيرون من سكان الشرق الأدنى يتلهفون لأن يستبدلوا بحكامهم حكاما أحسن خلقا بعدما عانوا من مظالم عديدة ومتراكمة على مدار قرون بسبب سياسات مستهجنة دينيا واقتصاديا. ولا بد أن كون الأراضي التي فتحت في أول الأمر مأهولة بشعوب سامية موحدة (مسيحيين ويهود يتحدثون اللغة الآرامية في سوريا البيزنطية، وفلسطين، والعراق الساساني) قد مثل أهمية كبرى في هذا الصدد. ثالثا، تفوق العرب عسكريا على الجيوش الساسانية والبيزنطية، وتمكنوا من استغلال حماسهم الديني، وعنصر المفاجأة، ومعرفتهم باستراتيجيات الحرب لدى الساسانيين والبيزنطيين (حيث نهض بعض العرب بأدوار عسكرية من قبل في هذه الإمبراطوريات) علاوة على قدرتهم على التقهقر إلى الصحراء على صهوات خيولهم.
يعيدنا هذا الأمر ثانية إلى الجمال. أيا كانت مسوغات نجاح العرب، فقد وصلوا إلى الشرق الأدنى وشمال أفريقيا في الفترة من منتصف وحتى أواخر القرن السابع، ومكثوا هناك، وأقاموا ثكنات عسكرية في شمال أفريقيا ومصر والعراق وشرق إيران. سوريا هي الدولة الوحيدة التي استقر فيها الفاتحون في المدن القائمة بالفعل (إذ انضموا إلى عرب آخرين كانوا قد استقروا هناك في أزمان سابقة لظهور الإسلام). وبحلول نهاية القرن الثامن صارت الثكنات مدنا متطورة تماما، وغامر العرب بالخروج في مدن الشرق الأدنى وقراه تاركين وراءهم علامة دائمة؛ فانتشار تربية الجمال في جميع أنحاء البلاد المفتوحة عجل باستبدال الجمال العربية الأبسط والأكثر توفيرا للمال بالمركبات ذات العجلات غير الفعالة والأكثر تكلفة التي تتطلب توفير طرق ممهدة. وفي الأقاليم التي فتحت من الإمبراطورية البيزنطية، استبدلت بالطرق الرومانية الواسعة المستقيمة الشوارع الضيقة المتعرجة التي لا تزال ترى في الأحياء القديمة في مدن الشرق الأدنى التي تأثر تصميمها بانعدام حيز عام مميز في المدن الإسلامية الأولى وأيضا بانتشار هذه «التقنية» العربية الفريدة من نوعها. صارت حاميات المدن نفسها مراكز اقتصادية مهمة جذبت إليها غير المسلمين من المستوطنات المجاورة وأعادت رسم خريطة الشرق الأدنى.
غير أن انتشار اللغة العربية والإسلام كان أهم نتائج الفتوحات الإسلامية الأولى. ومع أن الانتصارات الجوهرية على الإمبراطوريات تحققت أثناء فترة حكم الخليفة الثاني عمر (من عام 634 حتى عام 644)، فإن عهد الخلفاء الأمويين (من عام 661 وحتى عام 750) هو الذي شهد انتشار الثقافة العربية والحكم الإسلامي - بدرجة أو بأخرى - من شبه الجزيرة الأيبيرية حتى البنجاب؛ الأمر الذي أسفر عن تثبيت حدود العالم الإسلامي إلى حد ما على مدار قرون قادمة.
يرى بعض المسلمين في أواخر القرن السابع، وكل المسلمين تقريبا منذ ذلك الحين، أنه ما كان ينبغي للأمويين أن يكونوا خلفاء. كان أسلافهم الأربعة - أبو بكر وعمر وعثمان (الذي امتدت خلافته من عام 644 وحتى عام 656) وعلي (الذي امتدت خلافته من عام 656 وحتى عام 661) يرتبطون بمحمد إما برباط النسب أو الدم (أو كليهما معا كما في حالة علي)، علاوة على أن حكم هؤلاء الخلفاء الأربعة الذين عرفوا (بين أهل السنة في القرون التالية) بالخلفاء الراشدين كان عصرا ذهبيا حكمت فيه الأمة طبقا للمبادئ الإسلامية. (الشيعة هم الذين يؤمنون بأن عليا كان الأحق بخلافة محمد.) وعلى النقيض، لم يكن للأمويين صلة مباشرة بالنبي، بل قيل إنهم جاهروا بمعارضته، ولم يدخلوا في الإسلام إلا اضطرارا، وفي وقت متأخر نسبيا من حياة محمد. ومع أن عثمان نفسه كان ينتمي للأسرة الأموية، فقد اعتنق الإسلام وهو بعد صغير، وكان صهر محمد ، ويحسب له أنه أمر بجمع نسخة موثوقة من القرآن (مع أن البعض أخذوا عليه ذلك في هذا الوقت) إلى جانب أفعال أخرى حميدة. ساءت الأوضاع عندما قتل عثمان، وظهر اثنان يدعيان الحق في تولي الخلافة: علي، الذي كان أنصاره يرشحونه للخلافة منذ عام 632، ومعاوية، أحد أقرباء عثمان الأمويين الذي طالب بالثأر لمقتل عثمان. تولى علي الخلافة عام 656، وحاول جاهدا بسط نفوذه على نطاق واسع؛ وبحلول عام 657، دخل في مفاوضات مع معاوية. رأى الكثيرون من أنصار علي أنه ما كان ينبغي لأمر كهذا أن يحدث - إذ كان شعارهم «إن الحكم إلا لله» - وانشقوا عن معسكره؛ ولهذا السبب عرفوا باسم «الخوارج». دفعتهم آراؤهم المتعنتة بشأن أحقيتهم في الحكم إلى اعتبار المنشقين كفارا يستحقون الموت. وكان أشهر ضحاياهم هو علي نفسه عام 661، على الرغم من أن الخوارج ظلوا يعارضون الخلفاء طوال القرن التالي وما تلاه.
انتهى عصر «الخلفاء الراشدين» بوفاة علي، وعرف الصراع الدموي الذي أدى إلى وصول معاوية إلى الحكم بأنه أول حرب أهلية أو «فتنة» في التاريخ الإسلامي، وهي التي حددت نهاية فترة من التآلف الملموس داخل نسيج الأمة. لذا استهل الأمويون خلافتهم ببداية حافلة بالأخطاء، واستمرت الأوضاع في التدهور وفقا للمصادر المكتوبة على أيدي المعادين لهم. نقل معاوية عاصمة الدولة الإسلامية إلى دمشق، واختار ابنه يزيد (الذي امتدت خلافته من عام 680 حتى عام 683) خلفا له؛ مما أرسى مبدأ توريث الخلافة، وهو ما أخذ على الأمويين (من قبل أشخاص أنشئوا هم أنفسهم سلالات حاكمة). وسرعان ما تورط يزيد في القلاقل عندما قتل الحسين بن علي في كربلاء (العراق) عام 680؛ وهو ما رسخ سوءاته في أذهان الشيعة، فضلا عن أن نفوذه قد لاقى مجابهة من خليفة آخر في الحجاز. لم يدم حكم يزيد أو ابنه معاوية الثاني (الذي تولى الخلافة عام 683) طويلا. وتسببت أحداث فتنة ثانية في حالة خلل شديد في تلك الفترة (680-692)، ولم تسترد سلطة الأمويين إلا مع تولي عبد الملك بن مروان (692-705) الخلافة. ومن هنا عرف عام 692 باسم «عام الوحدة »، واتخذت تدابير إدارية لتشديد سلطة الخليفة على رعاياه بهدف الحيلولة دون وقوع أي تحديات مستقبلية لسلطته.
يعترف لعبد الملك وخلفائه بالفضل على مضض لما قدموا من إسهامات دام أثرها على الحضارة الإسلامية، وإن عابت عليهم مصادرنا أنهم كانوا ملوكا لا يعرفون الورع (وليس خلفاء ورعين). لقد فرضوا اللغة العربية لغة إدارية رسمية في الأراضي الإسلامية، وعملوا على توسيع رقعة تلك الأراضي غربا وصولا إلى إسبانيا والمغرب، وشرقا وصولا إلى باكستان وآسيا الوسطى. شدد نفوذ الخليفة على الأقاليم الخاضعة لحكمه، واستبدلت بالتقاليد القبلية اللامركزية تقاليد إمبراطورية أفضل تنظيما، وتشكلت عن وعي هوية عربية وإسلامية فرضت على مؤسسات الخلافة. سكت العملات «الإسلامية»، وحلت اللغة العربية محل اللغات اليونانية والفارسية والقبطية في المكاتب الإدارية (مما أفسح المجال أمام مشاركة المسلمين). وأكثر ما يلفت النظر أن «قبة الصخرة» شيدت فوق جبل الهيكل في القدس في تحد لنبوءات اليهود عن المسيح (أو في توافق معها وفقا لآراء بعض الباحثين)، علاوة على أنه حفر عليها نقش يتعارض مع العقائد الأساسية للمسيحية. كان المغزى واضحا بما يكفي لأن يدركه الجميع؛ وهو أن الإسلام قد وصل.
لكن ماذا كان يعني «الإسلام» في هذه الفترة؟ كبرى مشكلات الأمويين أن إجابتهم عن هذا السؤال اختلفت اختلافا جوهريا عن تلك التي قدمها علماء الدين (المنصبون ذاتيا) الذين حظوا بتأييد شعبي في ذلك الوقت، والذين وضعوا كتب التاريخ فيما بعد. اعتبر الأمويون وفاة محمد نهاية عهد. فلما كان محمد خاتم الأنبياء، فلن تبلغ إرادة الله بعد الآن من خلال بشر يحملون الكتب المقدسة. بدلا من ذلك كان الخلفاء ممثلي الله في الأرض. ذاك هو عهد الخلفاء، وهم مالكو السلطة الدينية. أما علماء الدين، فاعتبروا هذا الكلام محض هراء. فقد أمد الله الأمة بكل ما تحتاج إلى معرفته؛ ويمكن استنباط كل ما لم يرد ذكره في القرآن من السنة النبوية. ولأن العلماء هم الأكثر دراية بتلك الأمور، كان ينبغي أن تترك السلطة الدينية لهم.
شكل 1-2: قبة الصخرة في القدس. تضم النقوش المحفورة على قناطر المبنى مثمنة الأضلاع آيات قرآنية تتحدى بعض العقائد الأساسية للديانة المسيحية.
1
من سوء حظ الأمويين أن قطاعا كبيرا من رعاياهم المسلمين أيدوا العلماء، فضلا عن أن عددا كبيرا من المسلمين الآخرين كانت لديه اعتراضات لاهوتية على ادعاء الأمويين بأحقيتهم في الخلافة. وعلاوة على ذلك فإنه طوال الجزء الأكبر من حكم الأمويين (فيما عدا استثناء واحد أو اثنين) كان الخلفاء سببا في إثناء الشعوب المفتوحة بلادها عن الدخول في الإسلام، وهو ما يعني أمرين: أن عددا كبيرا من الأشخاص كانوا يمقتونهم (وهم غير المسلمين المطالبين بدفع ضرائب أكثر)، وأن أغلب رعايا الخلفاء كانوا من غير المسلمين. بذا كان لدى المسلمين العرب، والمسلمين غير العرب، وغير المسلمين العرب، وغير المسلمين غير العرب سببا لمعارضة الخلفاء في دمشق. وفي عام 750 أطاحت ثورة شيعية من الشرق بالأمويين، ووصلت بالأسرة العباسية إلى الحكم.
زعم العباسيون (750-1258) أنهم ينتسبون لأحد أعمام محمد، وتعهدوا - بالأقوال والأفعال المنتقاة - بالبعد كل البعد عن الظلم الذي مارسه الأمويون. نقل العباسيون مركز السلطة من سوريا إلى الشرق، وأسسوا عاصمة جديدة في بغداد عام 762، واتخذوا ألقابا مسيحية بغرض الإشارة إلى اختلاف الوضع عما كان عليه. وبالتأكيد كان الوضع مختلفا في نواح عدة؛ فهم أيضا - مثلما فعل الأمويون قبلهم - أراقوا دماء القادة المسلمين الذين يتمتعون بحضور لدى العامة (فقد نفذوا أعمال القتل الوحشي في مهندسي الثورة العباسية)، وأقاموا سلالة حاكمة، وادعوا الحق في السلطة الدينية. وعزز العباسيون أيضا الانتقال من دولة مفككة قائمة على القبلية إلى إمبراطورية متشابكة. وكان عبد الملك بن مروان قد بدأ في تنفيذ هذا الأمر قبل نصف قرن، لكن في دمشق وهي مدينة لم تكن قط مركزا لأي إمبراطورية على الرغم من عراقتها الهائلة. وفي بغداد كان العباسيون قريبين من العاصمة الساسانية القديمة قطيسفون، ومع أن حياة الخمر والنساء والغناء التي سادت شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام بدت شبيهة بحياة الخمر والنساء والغناء في البلاط العباسي، فإنه مع تولي هارون الرشيد (786-809) الحكم، كان الشرق الأدنى قد شهد تحولا جذريا من نواح عديدة.
800-1100
يعزى وجود الإسلام إلى الأحداث التي وقعت في الفترة ما بين عامي 600 و800، أما الصورة التي يظهر بها الإسلام الآن فتعزى في المقام الأول إلى الأحداث التي وقعت في الفترة ما بين عامي 800 و1100. ومثلما ميزت الجمال الفترة الأولى، يمكن القول إن القوافل ميزت الفترة الثانية. تتكون القافلة من عدة جمال (أو حيوانات نقل أخرى) تقودها مجموعة من المسافرين، وهو ما يعكس أحد الاختلافات الرئيسية بين الأمويين والعباسيين الأوائل؛ فقد أنشأ الأمويون ما يشبه إمبراطورية «عربية» حصرية، بينما أسس العباسيون عن وعي إمبراطورية شاملة غير محلية تمنح سلطات لغير العرب (ممن يحملون الثقافة الفارسية في الأساس، حتى إن كلمة قافلة هي كلمة فارسية الأصل)، وضموهم تحت راية الإسلام. لعبت القوافل أيضا دورا محوريا في هذه الفترة؛ إذ كانت تذرع الطرق التي تربط الأقاليم العباسية المنتشرة من أجل نقل الحجاج والرسل والتجار وطلبة العلم والجنود عبر شبكة من الطرق التي شجعت على ظهور مستوى من الدولية والتعددية الثقافية والترابط قد يربطه معظم أبناء الغرب بالحداثة.
تتشابه أسس هذا الإنجاز تمام الشبه مع تلك الأسس التي ينسب إليها ظهور الغرب الحديث. لكن بدلا من ثورة في عالم الطباعة، شهد العالم الإسلامي في هذه الفترة ثورة في تصنيع الورق أدت إلى استبدال هذه الوسيلة الأقل تكلفة بأكثر وسائل الكتابة تكلفة واقتصارا على النخبة (أوراق البردي والبرشمان على سبيل المثال). ويعتقد أن الإلمام بالقراءة والكتابة زاد آنذاك بمعدلات هائلة؛ مما أدى إلى ظهور جمهور جديد من القراء استهلك (وأيضا أنتج) ألوانا جديدة من الأدب. دون كل شيء بدءا من الشعر الجاهلي وحتى المؤلفات التي تناولت التوحيد والفلسفة والطب والعلم والأدب والتاريخ. نتج عن ذلك ثورة متكافئة في الثقافة والحضارة الإسلامية أدت إلى ظهور نخبة مدنية متنوعة في العالم الإسلامي بحلول القرن التاسع.
انتعشت حركة السفر والتجارة أيضا في هذه الفترة متأثرة بهذا التطور الثقافي ومؤثرة فيه. لم يقتصر الأمر على أن أدب الرحلات (سواء الحقيقي أم الخيالي)، والخرائط، والمؤلفات الجغرافية قد أنتجت على أساس تجارب جديدة في أراض بعيدة - وإن كان هذا قد حدث بلا شك - ولكن تجار الشرق الأدنى زادوا أيضا من نطاق تعاملاتهم إلى ما وراء حدود الدولة العباسية. يحدثنا أحد كتاب القرن التاسع عن اليهود العراقيين متعددي اللغات الذين جابوا أوراسيا متنقلين بين فرنسا والصين (مرورا بالأراضي الإسلامية، وجنوب روسيا، والهند في طريقهم)، كما أن اكتشاف الآلاف من عملات الدولة العباسية في إسكندنافيا يشهد باتساع نطاق هذا النشاط التجاري. حتى انتشار صناعة الورق من الصين إلى الشرق الأدنى يفيدنا في هذا السياق؛ فالمصادر المتاحة لدينا تخبرنا بأن المسلمين هزموا أحد الجيوش الصينية عام 751، وأسروا صانعي الورق في تلك الأثناء، وتعلموا منهم تقنيات الصناعة. ما يثير الاهتمام أن مثل هذه الظروف العدائية - حيث نشوب حرب دموية في آسيا الوسطى - لم تمنع التفاعل الثقافي بين الشعوب، وانتشار السلع والأفراد والأفكار. كان لدى المسلمين في هذه الفترة مناطق حدودية قائمة في كل من إسبانيا، وجنوب أوروبا، وآسيا الوسطى والهند، وأفريقيا؛ وهو ما أتاح للحكام والأفراد فرصة لاستقاء المجد من رفع راية الجهاد. تذكرنا قصة صانعي الورق الصينيين (وهي بلا شك مجرد قصة) أن مثل تلك المواجهات من وجهة نظر مؤلفي القصة كانت تتيح مزيدا من الفرص للتفاعل الثقافي بقدر ما قد تعيقه.
تحقق هذا «العصر الذهبي» للحضارة الإسلامية (حسبما يسميه البعض) بفضل وجود توازن دقيق بين ظروف ملائمة، وخصوصا التدفق الثابت للدخل في خزينة الخلافة معززا بالإمساك الكفء للدفاتر، وكذلك وجود استقرار نسبي داخل أراضي الدولة العباسية. اختل هذا التوازن بدءا من النصف الثاني من القرن التاسع فصاعدا، ولم يكن ممكنا أبدا تحسن الظروف اللازمة لعولمة الدولة العباسية. وبدأت الثروة الناجمة عن التجارة وفرض الضرائب تتضاءل لعدد من الأسباب. فقد انخرط إقليم «السواد» في جنوب العراق - الذي كان مصدرا لجزء كبير من الحاصلات الزراعية للعباسيين - في حالة من الفوضى بسبب تمرد قام به عبيد شرق أفريقيا العاملين في البصرة بتحريض من الخوارج («ثورة الزنج» 869-883)، كذلك بدأ الحكام في المناطق البعيدة استثمار إيرادات الضرائب محليا بدلا من إرسال الأموال إلى العاصمة؛ إذ عادة ما كان يعقب الاستقلال الاقتصادي استقلال سياسي. علاوة على ذلك، هذه هي الفترة التي أدى فيها اعتناق غير العرب الواسع لدين الإسلام إلى نتيجة محمودة هي انتشار الإسلام، لكنه أدى أيضا إلى نتيجة غير محمودة هي تضاؤل إيرادات الجزية. وما زاد الأمور سوءا أن ما تبقى في خزانات البلاد كان يبدده سريعا بلاط مسرف ازداد اتساعا على نحو فاق قدراته واحتياجاته؛ مما أدى إلى ظهور نخب حاكمة جديدة كثيرا ما كانت مكلفة أكثر من كونها فعالة. هذه الفترة هي التي فقد فيها العباسيون سلطتهم السياسية والعسكرية والدينية كما سيتضح فيما يلي.
من الناحية السياسية، ناضل العباسيون للإبقاء على وحدة أقاليم دولتهم الواسعة؛ ففي ظل وجود إمبراطورية امتدت نحو 6500 كيلومتر من الشرق إلى الغرب، ودون التمتع بمزايا سبل الاتصالات الحديثة، كان واردا أن يسعى بعض رعاياهم للحصول على قدر من الاستقلال. ربما كان باستطاعة الرسل السراع، والحمام، والمنارات وغيرها من سبل الاتصال أن تغطي إلى حد ما الاتساع الهائل للإمبراطورية، لكن التفتت السياسي كان في الأغلب مسألة وقت فحسب. والواقع أنه في حالة الأندلس لم يكن الأمر حتى كذلك؛ فأثناء خضوعها لحكم العباسيين، فر أحد الأمراء الأمويين إلى شبه الجزيرة الأيبيرية، وأقام ولاية مستقلة أصبحت فيما بعد - تحت حكم عبد الرحمن الثالث (الذي امتد حكمه من 912 إلى 961) وخلفائه - خلافة ومركزا جليلا لثقافة راقية. وحينما نقل العباسيون السلطة والاهتمام إلى الشرق، انفصلت الأقاليم الغربية للخلافة تدريجيا؛ المغرب تحت حكم الأدارسة (789-926)، وبقية دول شمال أفريقيا تحت حكم الأغالبة (800-909)، ومصر تحت حكم الطولونيين (868-905) والإخشيديين (935-969)، يليه حكم الفاطميين في شمال أفريقيا ومصر وسوريا (909-1171). وحتى الأقاليم الشرقية سعت إلى الحصول على قدر من الاستقلال، حيث حكم الطاهريون خراسان (821-873)، وخلفهم في حكمها السامانيون (874-1005) والغزنويون (977-1186) الذين اتخذوا من شرق أفغانستان قاعدة لهم. ومع استثناء واحد أو اثنين (مثل الصفاريين في شرق إيران، 861-900)، مالت تلك السلالات الحاكمة في الأقاليم الشرقية إلى التعاون مع السلطات العباسية والاعتراف الرسمي بها، على عكس السلالات الحاكمة في الأقاليم الغربية مثل الأدارسة، والأمويين الأندلسيين، والفاطميين. وعلى الرغم من ذلك، فإنه على أرض الواقع ولأسباب جغرافية محضة، غالبا ما كان للعباسيين قدر من التفاعل - الإيجابي والسلبي على حد سواء - مع كل من مصر وسوريا اللتين لا تدينان لهم بالولاء أكبر مما كان عليه الوضع مع شرق إيران وآسيا الوسطى المخلصتين لهم اسما.
من الناحية العسكرية، بدأ العباسيون في بداية القرن التاسع يستبدلون بالجيش الذي جاء بهم إلى الحكم جنودا عبيدا أتراك («المماليك» أو «الغلمان») جرى شراؤهم أو أسرهم من آسيا الوسطى. تمتع هؤلاء الأتراك بثلاث مزايا جذبت إليهم الخليفة المعتصم (الذي امتدت فترة حكمه من عام 833 حتى عام 842)، والذي كان أول من جلبهم بأعداد كبيرة. أولا، نظرا لأنهم كانوا من خارج البلاد، لم يكونوا مهتمين بالولاءات الداخلية أو الضغوط الشعبية؛ بل كان ولاؤهم للخليفة نفسه. ثانيا، كانوا رماة سهام راكبين بارعين تفوقوا عسكريا على قوات خراسان التي حلوا محلها. ثالثا، على الرغم من اعتناقهم الإسلام وإعتاق رقابهم في كثير من الأحيان، فإن وضعهم كعبيد أتراك لن يمكنهم أبدا من ادعاء الحق في الخلافة. من الناحية النظرية، كان اختيار الجنود العبيد فكرة رائعة، لكنهم - عمليا - سرعان ما خرجوا عن نطاق السيطرة. في البداية أسست عاصمة جديدة في سامراء (838-883) لتأويهم وتبعدهم عن سكان بغداد الذين كانوا يصطدمون بهم. وفي النهاية وصل بهم الأمر إلى حد انتزاع القوة المؤثرة من المسلمين أحرار المولد في جميع أنحاء العالم الإسلامي، ليتصرفوا بوصفهم صناع ملوك من منتصف القرن التاسع فصاعدا (حينما اغتالوا الخليفة المتوكل وخلفاءه الثلاثة). كذلك جردوا الخزانة من أموالها ليزيدوا من تقويض حكم الخليفة ويتسببوا في نزف موارد الخليفة ونفوذه على نحو خارج عن نطاق السيطرة.
ومن الناحية الدينية، كما حدث مع الغلمان، وقع الخلفاء العباسيون ضحايا لإحدى مبادراتهم. وفي هذه الحالة، كان تركيزهم على مركزية محمد للإسلام عامة ولمنصب الخلافة خاصة هو ما أضعفهم. لقد برروا إطاحتهم بالأمويين عن طريق التأكيد على بعد صلة الأمويين بمحمد ، بينما بالغوا في إظهار صلتهم الضعيفة به؛ فكون أحد أسلاف المرء واحدا من أعمام النبي محمد لا يتساوى مع كون المرء سليلا مباشرا للنبي نفسه على نحو ما أوضح الشيعة الساخطون. ومع ذلك كانوا هم من نجحوا في تولي السلطة، وذلك في حد ذاته أمر يستحق الاهتمام. ومشكلة استمداد الشرعية والهيبة من محمد هي أن الخلفاء العباسيين - عندما فعلوا ذلك - كانوا يرفعون النبي إلى منزلة أعلى مما كان يتمتع به في السابق؛ وهو ما ترك مجالا ضئيلا أمام ادعاءات العباسيين بالحق في السلطة الدينية. لقد منح محمد العباسيين الحق في الحكم، لكنه أيضا منح العلماء الحق في تحديد المعتقد التقليدي؛ إذ كان يعتقد أن العلماء - لا الخلفاء - هم من احتفظوا بسجل دقيق لسلوكه النموذجي (السنة). تقبل الخلفاء في النهاية مكانة العلماء ولكن بعد مقاومة؛ فقد حاول المأمون (الذي امتدت فترة خلافته من عام 813 حتى عام 833) التأكيد على النفوذ الديني لمنصبه عن طريق إخضاع العلماء لتحقيق (عرف باسم «المحنة»)، وفيها كان يفرض رأي الخليفة بشأن مسألة لاهوتية على جميع العلماء مع التحقق الدوري من آراء العلماء كل على حدة. ظلت هذه «المحنة» سياسة للخلافة حتى تخلى عنها الخليفة المتوكل عام 848، وعندها بات واضحا أن الخلفاء خسروا المعركة والحرب كلها؛ والمثير للدهشة أنه سرعان ما أيد الخلفاء العلماء بعد ذلك عن طريق شمولهم بالرعاية الفائقة في كثير من الأحيان.
بحلول منتصف القرن العاشر، لم يكن لدى الخلفاء العباسيين سوى أثر من النفوذ في العراق نفسه. وحتى هناك، تعرضوا للإهانة مع وصول البويهيون الشيعة العاصمة، وهم غزاة غلاظ من شمال إيران أحيوا بعض التقاليد الساسانية لكنهم أبقوا العباسيين على عرش الخلافة. منذ ذلك الوقت - ومع القليل من الاستثناءات - كان الخلفاء العباسيون في أفضل الأحوال رؤساء روحانيين للعالم الإسلامي. حكم البويهيون العراق وغرب إيران لما يزيد عن قرن (945-1055)، ليطيح بهم السلاجقة السنة (1037-1157 تقريبا) الذين مثلوا أولى موجات عدة من الأتراك تدخل العالم الإسلامي طواعية.
مع أن كل هذا يبدو سلبيا للغاية - وهو ما كان حتما كذلك من منظور الخلفاء العباسيين والعراق بصورة عامة - كان «الإسلام» بوصفه دينا وحضارة في أزهى صوره بنهاية هذه الفترة. ففي ظل التقسيم السياسي للخلافة ووجود خلافتين أخريين متمركزتين في قرطبة والقاهرة، انتقلت ملامح السلطة العباسية والحضارة الإسلامية بصورة عامة إلى البلاطات المتعددة التي ظهرت في كل أنحاء العالم الإسلامي، بما لذلك من تبعات دينية وثقافية مهمة حقا. فوجود مراكز إقليمية للثقافة الإسلامية - تشكل العديد منها عن قصد على شاكلة البلاط العباسي - كان يعني إمكانية تركيز الطاقات السياسية على مناطق كانت بعيدة للغاية بحيث لم تكن تسترعي اهتمام الخليفة في قرون سابقة. تحقق انتشار الإسلام فيما وراء حدوده التقليدية في المنطقة القاحلة الكبرى بفضل الإجراءات التي اتخذها الحكام الإقليميون؛ إذ شن الفاطميون والبربر في شمال أفريقيا غارات في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، مثلما فعل الغزنويون في الهند، حيث شن السلطان محمود (الذي امتدت فترة حكمه من عام 997 حتى عام 1030) ما لا يقل عن 17 غارة في شبه القارة. وهكذا لانت شوكة أفريقيا والهند وجنوب شرق آسيا تمهيدا لاعتناق شعوبها الإسلام على نطاق واسع في القرون التالية.
جدير بالذكر أن هذه الفترة هي أيضا التي وضع فيها أهل السنة والشيعة بعضهم البعض داخل القوالب التي تميز كل جماعة منهم حاليا. كان للصراع بين البويهيين والفاطميين الشيعة من ناحية، والسلاجقة والغزنويين السنة من ناحية أخرى طابع طائفي أيديولوجي. فقد أيد كلا الجانبين العلماء، وشيد المكتبات، ومدارس القانون ابتداء من القرن الحادي عشر، وأرسل المدرسين والإرساليات في جميع أنحاء الأراضي الإسلامية وما وراءها. حكمت الخلافة الفاطمية في ذروة مجدها مصر، وشمال أفريقيا، وصقلية، وسوريا، واليمن، والحجاز، وأجزاء من شرق أفريقيا، وامتد نفوذ الدولة الفاطمية أيضا إلى مجتمعات في الهند. وكان المذهب الشيعي الذي نشره الفاطميون مختلفا عن ذلك الذي اعتنقه البويهيون (أو الذي اعتنقه معظم الشيعة في العالم الحديث). اتبع كل الشيعة مبدأ الإمامة - أي زعامة الأمة - بدءا من الإمام علي مرورا باثنين من أبنائه ونسلهم. وبعد وفاة الإمام السادس جعفر بن محمد الصادق عام 765، انقسمت الحركة إلى مجموعتين؛ فتبع البعض ابنه إسماعيل (ومن هنا أطلق عليهم الشيعة الإسماعيلية) في حين تبع آخرون ابنا آخر اسمه موسى. واصلت المجموعة الأخيرة اتباع الأئمة حتى عام 874 حينما اختفى الإمام الثاني عشر (ومن هنا أطلق عليهم الشيعة الاثني عشرية) أو مات حسبما يقول معارضوهم. وفي ظل الرعاية الفاطمية خضعت الشيعة الإسماعيلية (والشيعة الاثني عشرية تحت حكم البويهيين) لتنظيم دقيق، وتحدى الفاطميون منافسيهم السنة ناحية الشرق على جميع المستويات. كان رد فعل أهل السنة لتحدي الشيعة مذهلا؛ إذ جمعت كتب الأحاديث النبوية الست الأعلى مقاما في الفترة من عام 800 حتى 1100، وتوافقت الاتجاهات الفلسفية واللاهوتية والصوفية في الإسلام مع المذهب السني، وظهرت المذاهب الإسلامية الأربعة. وبحلول نهاية القرن الحادي عشر، اعتقد أن المذهب السني قد تبلور أخيرا، مع تأكيد العلماء أن باب الاجتهاد قد أغلق من الآن فصاعدا.
في التسعينيات من القرن الحادي عشر أغلقت أيضا الأبواب التي انتقلت عبرها سلطة ونفوذ السلاجقة والفاطميين؛ فبوفاة الخليفة الفاطمي عام 1094 انقسمت الحركة الفاطمية إلى مجموعتين عرفت إحداهما في أوروبا باسم «الحشاشين» الذين شرعوا في هزيمة أعدائهم ليس عن طريق التغلب على جيوش هؤلاء الأعداء ولكن عن طريق استهداف قادتهم (واسم الحركة مشتق من استخدامهم المشتبه فيه للحشيش لتثبيت أعصاب منفذي الاغتيالات قبل أن يندفعوا إلى موت شبه مؤكد). ومن أشهر ضحاياهم الأول الوزير السلجوقي نظام الملك الذي كان المحور الذي تدور حوله سلطة دولة السلاجقة. بعد ذلك ضعف الحكام الفاطميون والسلاجقة في إيران والعراق واحدا تلو الآخر. لكن بحلول ذلك الوقت كان أهل السنة والشيعة قد استقروا على دروبهم، وصار اعتمادهم على رعاية الدولة أقل من ذي قبل. علاوة على ذلك، فإنه بانتهاء تلك الفترة، فاق المسلمون غيرهم عددا في الأراضي الإسلامية؛ فبلغ الإسلام سن الرشد بكلا المعنيين.
1100-1500
كثيرا ما يشار إلى الفترتين الأوليين على أنهما الفترتان «التأسيسية» و«الكلاسيكية» من التاريخ الإسلامي، وهما القرون الأكثر أهمية لدى معظم المسلمين (الذين يجدر الإشارة إلى أنهم لا يميلون إلى استخدام هذه المصطلحات أو التقسيمات المرتبة زمنيا). لكن من شبه المؤكد أن الأغلبية الساحقة من المسلمين في العالم كانت ستظل على إلحادها لولا الأحداث التي وقعت في الفترة ما بين عامي 1100 و1500. ومع أن الإسلاميين المعاصرين (الذين يرون الإسلام نظاما سياسيا ودينيا أيضا) يسلطون الضوء على عهد النبي والخلفاء «الراشدين»، فإن الحركات الإسلامية لم تظهر إلا استجابة لأحداث هذه الفترة. من منظور أوروبي، تلك هي الفترة التي لولاها لما كانت لتركيا حجة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي (ولا لأن تكون هناك «تركيا» من الأساس)، ولولاها لما كانت لروسيا «مشكلات» مع المسلمين في الجنوب. وإليك ما حدث.
في ظل هيمنة المسلمين على جيرانهم طيلة قرون وتحديدهم مسار تاريخهم، كثيرا ما وجد المسلمون أنفسهم بدءا من نهاية القرن الحادي عشر فصاعدا يستجيبون لأفعال الآخرين - مسلمين وغير مسلمين - الذين عاشوا خارج حدود الإسلام السياسية. وهؤلاء الأجانب اتخذوا ثلاث صور: الأتراك المسلمون، والغزاة غير المسلمين (المسيحيون في الغرب والمغول في الشرق)، وأخيرا الغزاة المسلمون (التيموريون).
في النصف الثاني من القرن الحادي عشر، واصلت موجات من القبائل التركية الهجرة غربا متخذين طريق المراعي التي اعتمدوا عليها عبر شمال إيران وفي أذربيجان والأناضول. ومن هناك شنوا غزوات (كثيرا ما كانت ذات دوافع دينية) داخل الأراضي البيزنطية، مما أثار رد فعل عسكريا. هزم الأتراك القوات البيزنطية في معركة «ملاذ كرد» عام 1071، وفي غضون عقدين كانت معظم أجزاء سوريا وفلسطين والأناضول تحت سيطرتهم. وبحلول القرن الثالث عشر، صارت الأناضول تضم عددا كبيرا من السكان المسلمين، وساهم وصول موجات متتابعة من الأتراك في القضاء على انتشار الثقافة اليونانية في المنطقة. كان الحكم التركي في الأناضول لامركزيا تحكمه - كما كان من قبل - سلالات حاكمة متنافسة لا ينتسبون إلا من بعيد إلى السلاجقة الكبار في إيران. أدت الغزوات المستمرة للأتراك داخل الأراضي البيزنطية إلى سعي الإمبراطور لطلب المساعدة من المسيحيين الغربيين؛ الأمر الذي ينقلنا إلى الصورة الثانية من التدخل الخارجي في الأراضي الإسلامية.
لم تكن الحروب الصليبية استجابة لطلب الإمبراطور البيزنطي العون ضد الأتراك فحسب ؛ فامتدادها على نطاق ثلاث قارات طيلة خمسة قرون يمثل الكثير للعديد من الأشخاص. حتى الحملة الصليبية الأولى التي شنت عام 1095 كان ارتباطها بالنزاعات التركية البيزنطية أقل من ارتباطها بالسياق الأعم للاعتداءات المسيحية على الإسلام وبالطبع استعادة القدس والأرض المقدسة. فسر المؤرخون المسلمون - على حد اهتمامهم بالحملات الصليبية (وكثيرون منهم لم يكونوا مهتمين) - في ذلك الوقت الحملات الصليبية في سياق المكاسب المسيحية ضد المسلمين في شبه الجزيرة الأيبيرية وإيطاليا وفي أماكن أخرى. أعيد غزو صقلية التي كانت خاضعة للحكم الإسلامي منذ منتصف القرن العاشر على يد قوة مشتركة من النورمان من إيطاليا والجنود الإيطاليين فيما بين عامي 1061 و1091 على الرغم من أن رحيل آخر المسلمين منها لم يحدث إلا في الأربعينيات من القرن الثالث عشر. كذلك أعيد غزو الأندلس تدريجيا: فبقدر ما كانت مقاومة المسيحيين الكبيرة للحكم الإسلامي في الشمال والغرب منذ القرن الثامن، استغرقت «حروب الاسترداد» نحو 800 سنة إجمالا، لتكتمل فقط بسقوط غرناطة على يد فرديناند وإيزابيلا عام 1492. ومع ذلك لم يستطع المسيحيون إحراز تقدم حقيقي في المنطقة إلا بدءا من نهاية القرن الحادي عشر مع عودة طليطلة إلى الحكم المسيحي عام 1085.
شكل : العالم الإسلامي نحو عام 1100.
زادت وتيرة «حروب الاسترداد» وزخمها في القرن الحادي عشر في ظل الاختلال السياسي للمسلمين. ففي عام 1013 استولى بعض البرابرة على قرطبة ونهبوها، وفي عام 1031 انتهت الخلافة الأموية وانقسمت أراضيها إلى دول-مدن إقليمية صغيرة حاربت بعضها البعض بلا توقف. وأمام عجز الحكام المسلمين عن التصدي لتقدم القوات المسيحية، ناشدوا المرابطين الذين كانوا يحكمون شمال أفريقيا أن يقدموا لهم المساعدة. كان المرابطون بربرا «متزمتين» هدفهم الأول نشر رؤيتهم عن مذهب سني إسلامي أكثر صرامة ليحل محل ما اعتبروها أشكالا سطحية وزائفة من الإسلام في ذلك الوقت. حكم المرابطون الأندلس من عام 1086 حتى عام 1147 حينما حلت محلهم سلالة حاكمة أخرى من البربر هم الموحدون. تراجع الموحدون أنفسهم إلى شمال أفريقيا بحلول منتصف القرن الثالث عشر حينما سقطت معظم أجزاء الأندلس في يد المسيحيين (قرطبة عام 1236، وإشبيلية عام 1248). أثارت المذاهب الدينية المتشددة لهذه السلالة الذعر في نفوس المسلمين المحليين (الذين لم يطلبوا مجيئهم) وأيضا قوات «حروب الاسترداد». وكانت المعاناة الأكبر من نصيب اليهود والمسيحيين الأصليين الذين ترعرعوا في ظل الحكم الأموي؛ فمع قدوم السلالات الحاكمة البربرية المسلحة، كثيرا ما كان هؤلاء اليهود والمسيحيون يجبرون على الاختيار بين اعتناق الإسلام أو الهجرة أو الموت. فر البعض إلى مناطق مسيحية في إسبانيا والبرتغال أو إلى أراض أخرى في دول البحر الأبيض المتوسط.
إلى جانب إشعال الأتراك المنتسبين من بعيد إلى السلاجقة بقدر ما فتيل الحملات الصليبية، فإنه ينسب إليهم أيضا الفضل في مقاومة الحروب الصليبية والانتصار عليها في نهاية الأمر. ففي أوج نفوذهم، عهد السلاجقة الكبار بأراضيهم إلى أمراء من العائلة صغار السن إلى حد لا يستطيعون معه إدارة حكم مستقل. لذا كان يرافق هؤلاء الأمراء أوصياء (أتابكة) يمارسون السلطة الحقيقية؛ لفترة مؤقتة نظريا وعلى نحو دائم عمليا. ومن بين هؤلاء «الأتابكة» زنكي حاكم الموصل وحلب (امتدت فترة حكمه من عام 1128 حتى عام 1146) الذي استطاع أن يلحق أول هزيمة منكرة بالصليبيين حينما انتزع منهم مدينة الرها عام 1146. ووحد ابنه نور الدين سوريا، واستولى أحد مرتزقة نور الدين الأكراد على مصر من الفاطميين عام 1169. وبعد ذلك وحد كردي سني آخر - معروف لدى الأوروبيين باسم صلاح الدين - مصر وسوريا؛ ليضع بذلك نهاية للسلالة الشيعية للفاطميين عام 1171 (محققا بذلك أهدافه المعلنة) ويعيد القدس للمسلمين عن طريق هزيمة الصليبيين في معركة حطين عام 1187 (محققا بذلك الشهرة).
شغل النزاع المستمر خلفاء صلاح الدين في السلالة الأيوبية التي أوجدها (1174-1250)؛ ولهذا السبب كانوا كثيرا ما يعقدون هدنات استراتيجية مع الصليبيين، ويحيطون أنفسهم بجنود عبيد أتراك تابعين لهم (يسمون المماليك). أطاح هؤلاء المماليك (الذين امتدت فترة حكمهم من عام 1250 حتى عام 1517) بالأيوبيين، وحكموا منطقة كبيرة شملت مصر، وسوريا، وأجزاء من العراق، وشبه الجزيرة العربية، وشمال أفريقيا وشرقها. أنشأ ارتباطهم بنظام جلب الجنود العبيد - الذي كان يستلزم الاستجلاب الدائم لدفعات جديدة من الأتراك - مجتمعا قويا ومستقرا عسكريا قادرا على التصدي للتحديات الخارجية . وبدلا من عقد هدنات مع الفرنجة (مثلما فعل السابقون)، طردوا الصليبيين من فلسطين بحلول عام 1291، بعد أن كانوا قد هزموا المغول في معركة عين جالوت عام 1260، وهي انتصارات وضعت نهاية لذلك التهديد الثنائي الذي كان يواجهه المسلمون في الشرق الأدنى.
على الرغم من ذلك لم ينج المسلمون في أماكن أخرى من غزوات المغول، وحتى وقت حديث نسبيا - ووقتها لا شك - حاز المغول وليس الصليبيين على انتباه المسلمين في جميع أنحاء العالم. ومثلما فعل النبي محمد، حقق «تيموجن» (الذي امتدت فترة حكمه من عام 1206 حتى عام 1227) القوة عن طريق توحيد عدة قبائل بدوية تحت حكمه، وسلطت عليه الأضواء في سن الأربعين تقريبا حينما أعيد تسميته باسم جنكيز خان (الحاكم الأعلى). ومثل محمد أيضا، لم يعش جنكيز خان حتى يشهد اتساع دولته إلى إمبراطورية عالمية؛ فمع وفاته، كان المغول قد غزوا جزءا كبيرا من آسيا الوسطى، لكن كان لا يزال أمامهم ضم أجزاء من الصين، وكوريا، وأوروبا الشرقية، والقوقاز، والعالم الإسلامي، وكلها ستشكل في النهاية الإمبراطورية المغولية. وفي وقت سابق كان المغول قد غزوا أجزاء مهمة من شمال إيران وآسيا الوسطى المسلمة، وهو ما كان له تبعات مدمرة؛ فالروايات المتداولة عن الدمار الذي أحدثه المغول تثير الفزع حتى وإن نقحت بغية تجنب المغالاة. كان غزو المغول لإيران والعراق في الخمسينيات من القرن الثالث عشر من أكثر الغزوات التي ألحقت دمارا بالمسلمين؛ إذ دمر نظام الري الضعيف الذي كانت تقوم عليه الزراعة في العراق، وحدث الشيء نفسه مع المكتبات والمساجد، وشعوب كاملة في مدن وقرى بارزة. لكن الحدث الأبرز في الذاكرة الإسلامية هو نهب بغداد عام 1258 الذي وضع نهاية للخلافة العباسية بعد 500 عام من قيامها. وفي النهاية اعتنق حكام إيران والعراق المغول (الإيلخانيون 1265-1335) الإسلام، وحاولوا كسب ود المسلمين المحليين عن طريق رعاية الفنون، وتعيين مدراء من الفرس، وخفض الضرائب. لكن وقتها - مثلما هو الآن - كان ينظر إلى المغول على أنهم أوغاد لئام لدورهم في القضاء على الخلافة العباسية .
على الجانب الآخر، ظهر المماليك في صورة الأبطال. لقد كان السبب وراء الاستعانة بالعبيد الأتراك في الفترات الأولى من الخلافة العباسية أن وضعهم كعبيد كان يحول دون ادعائهم الحق في تولي الخلافة. وعلى الرغم من أنهم لم يدعوا الحق في الخلافة، ظلت خلفيتهم القائمة على العبودية مشكلة للسلاطين المماليك؛ ولهذا الغرض قدموا أنفسهم على أنهم دعاة جهاد ضد الكفار، وجاءوا بأحد أعمام آخر خليفة عباسي إلى مصر حيث منح وجوده الشرعية للحكم المملوكي. شمل السلاطين أيضا العلماء برعايتهم، وقدموا الدعم لعدد من المؤسسات الدينية ومشروعات البناء. وكتب العلماء الذين عينوهم كتب التاريخ وقالوا خير الكلام عنهم. لكن حتى المماليك - المدافعون عن الإسلام ضد المغول والصليبيين - عجزوا عن مقاومة الطاعون الأسود في الأربعينيات من القرن الرابع عشر، وهو الذي ساعدوا دون قصد في نشره، ولم يتعافوا منه تماما.
على الصعيد السياسي ونحو نهاية هذه الفترة كانت الأراضي الإسلامية المركزية تعاني حالة من الفوضى. لم يقتصر الأمر على ضعف المماليك، لكن الحاكم المغولي التركي تيمور (تيمورلنك 1336-1405) شن حملة مدمرة من بلاد ما وراء النهر في الشمال الشرقي على غرار الغزوات المغولية الأولى. كان تيمور يعتنق الإسلام، لكن ثقافته وهويته كانتا مغوليتين عن وعي (حتى الإسلام الذي كان يمارسه هو وأتباعه كان متأثرا بالعادات المغولية)، ويبدو أنه لم يستهدف سوى الأراضي التي غزاها جنكيز وخلفاؤه. ومع أنه هزم الجيوش الإسلامية في دلهي (عام 1398)، وحلب (عام 1400)، ودمشق (عام 1401)، والأناضول (عام 1402) وأماكن أخرى، فإنه لم يؤسس إمبراطورية دائمة. وفور وفاته عام 1405، قسمت الأراضي التي كان يحكمها بين أربعة أبناء لم يكن لدى أي منهم طموح عسكري مثل والدهم.
تفيد الغزوات التي شنها تيمور في إبراز مواطن القوة والضعف لدى نظم الحكم الإسلامية المختلفة في بداية القرن الخامس عشر. وإنه لأمر كاشف أن نعرف أن ما اكتسبه من غنائم من غزواته في الهند المسلمة تفوق بكثير ما حققه من أي مكان آخر، علاوة على أنه في الهند والمناطق المجاورة حقق الحكم والدين الإسلاميين تقدما مبهرا في هذه الفترة. كانت الهند محل استهداف ممنهج من قبل الحكام المسلمين منذ عهد الغزنويين، لكن لم يتمتع المسلمون بالحكم المستقل فيها إلا بدءا من أواخر القرن الثاني عشر وبداية القرن الثالث عشر؛ أولا تحت حكم الغوريين من أفغانستان (1148-1218) ثم السلالتين التركية والأفغانية اللتين شكلتا سلطنة دلهي (1206-1526). ومثلما حدث كثيرا في التاريخ الإسلامي، انشق أحد الجنود العبيد من إحدى السلالتين عن أسياده وأسس سلالة حاكمة لنفسه. وفي هذه الحالة، كان هذا الجندي هو أيبك - أحد غلمان الغوريين - الذي غزا دلهي عام 1206 وأسس دولة المماليك في الهند. ومع أنه مات بعد خمس سنوات في حادث غريب أثناء اشتراكه في أحد سباقات الضرب بالصوالجة، فقد خلفه أحد غلمانه الذي أسس سلالة حاكمة من الجنود العبيد استمرت حتى عام 1290. وعلى مدار القرنين التاليين تشكلت ثقافة إسلامية هندية في المنطقة، وانتشر الإسلام في شبه القارة وما وراءها فيما يعرف الآن بماليزيا وإندونيسيا.
على الرغم من أن المغول وتيمور نشروا الدمار في جميع أنحاء الأراضي الإسلامية، أدت غزواتهم أيضا إلى انتشار كل شيء بدءا من الأدب الفارسي حتى أوراق اللعب. والنقطة المهمة أن ضعف الخلافة العباسية - والمؤسسات والهياكل السياسية بوجه عام - وسقوطها سارا في تواز (وترابط) مع تأسيس هياكل سياسية واجتماعية بديلة داخل المجتمعات الإسلامية، وأبرزها المؤسسات الصوفية. والصوفية - بوصفها منهجا روحيا للوصول إلى الله - قديمة كقدم الإسلام في بعض النواحي، مع أن مذاهبها الرسمية لم تظهر إلا في القرن التاسع، ولم تكتسب الفروع المحددة للصوفية طابعا مؤسسيا إلا بدءا من القرن الثالث عشر. تلك «المؤسسات» (أو الطرق)، بمقراتها (الخوانق أو الرباطات أو الزوايا حسب المنطقة المقامة فيها)، ورؤسائها (ممن يحملون لقب شيخ أو بير أو غيرها من الألقاب)، وطقوس الانتماء إليها، وشعائرها الغريبة ربما تحيي في أذهان الغرب صور الماسونية في اتخاذها من الروحانية أساسا لها. لكن على عكس الماسونية، فإن للصوفية تأثير اجتماعي وسياسي وديني حقيقي، وينسب الكثير من الفضل إلى شيوخ الصوفية المؤثرين في تعريف أجزاء كبيرة من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وجنوب آسيا وجنوبها الشرقي بالإسلام.
نجح الإسلام أولا في كسب معتنقين بين شعوب الشرق الأدنى الذين كانوا على علاقة وطيدة بعقيدة التوحيد السامية؛ فلم يكن الانتقال من اللغة الآرامية إلى العربية ومن «أبراهام» إلى «إبراهيم» كبيرا. كانت علاقة اليهودية والمسيحية بالإسلام علاقة وثيقة للغاية حتى قيل إن اليهودية والمسيحية كانتا في الأصل الدين الإسلامي نفسه، لكنه حرف بمرور الوقت؛ ولهذا السبب أراد الله أن يذكر البشرية بالصراط المستقيم بأن يبعث إليها محمدا وينزل عليها القرآن. ولا يمكن أن يتسع نطاق هذا القول ليشمل الهندوسية، أو البوذية، أو الأديان الوثنية في أفريقيا وجنوب شرق آسيا، لكن شيوخ الصوفية أثبتوا عكس ذلك. باختصار، أقنعت الدعوات التبشيرية الصوفية الوثنيين والمشركين أنهم مسلمون «بالفعل» في الأساس، لكن آلهتهم وطقوسهم تختلف في مسمياتها في لغة الإسلام. ولكن لكي ينجح هذا المنهج لا بد من نشر نسخة سطحية للغاية من الإسلام، ولا بد من ملاءمة العناصر الخاصة بالأديان السابقة للإسلام التي لا نظير لها في الإسلام مع الدين الجديد للمتحولين (مثلما وجد عيد القديس فالنتين، وعيد القديسين، وأشجار عيد الميلاد طريقها إلى الثقافات المسيحية). حدث هذا بسلاسة بين المتحولين الموحدين؛ فإعادة رواية قصص الإنجيل - المعروفة باسم «الإسرائيليات» - وجدت طريقها إلى كتب التراث الإسلامية دون أن يلحظها أحد في كثير من الأحيان. أما في حالات الوثنيين والمشركين، كانت النتيجة حدوث توفيق ديني اعتبر إهانة بالغة للمسلمين السنة. وقد تعرفنا على حالة سابقة تعكس هذا الأمر متمثلة في رد فعل المرابطين تجاه إسلام البربر، ولمعظم الحركات الإسلامية الحديثة تاريخ من محاولات مماثلة لتطهير المجتمعات الإسلامية من النماذج التوفيقية للعقيدة والعبادة وغيرها من النماذج الزائفة.
في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، كانت الحركات الصوفية فاعلة ومؤثرة بين الأتراك في الأناضول وأذربيجان (وفي معظم المناطق الأخرى). وتدريجيا في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، تفككت العناصر المختلفة للسنة والشيعة والصوفية الابتداعية وغيرها من الأفكار التي كانت قد تضافرت بعضها مع بعض في هذه المنطقة؛ ليظهر العثمانيون السنة والصفويون الشيعة الذين تشكل الشرق الأدنى الحديث من إرث إمبراطورياتهم وخلفائهم.
1500 إلى الآن
متى ينتهي التاريخ الإسلامي؟ على الرغم من أن نهايته لا تظهر بأي حال في بعض أجزاء العالم، ثمة ثلاث وجهات نظر مهمة يمكن من خلالها القول بأن التاريخ الإسلامي قد انتهى في الفترة «من عام 1500 إلى الآن». أولا، وكما سيتضح في الفصلين
السادس
و
السابع ، فإن الوقائع التي تشكل المخزون التاريخي لدى جميع المسلمين تخص الفترات الثلاث التي تعرضنا لها سابقا. ثانيا، التاريخ الذي يخص الإسلام والمسلمين في هذه الفترة هو تاريخ «عالمي» لعب فيه الإسلام والمسلمون دورا أكثر من كونه تاريخا «إسلاميا». ولأن هذا الدور كثيرا ما يكون ثانويا، فإن النظر للأحداث التي شهدتها هذه الفترة على أنها جزء من التاريخ «الإسلامي» يمنح الإسلام والمسلمين قدرا من السيطرة على مجريات الأمور، وهي فكرة مضللة على أحسن تقدير. وهكذا، فإنه عندما احتل الفرنسيون مصر عام 1798، كان البريطانيون هم من طردوهم؛ المصريون أنفسهم اكتفوا بالمشاهدة. ثالثا، تلك هي الفترة التي شهدت تلاشي العديد من السمات البارزة للتاريخ الإسلامي وللمجتمعات الإسلامية فيما قبل العصر الحديث، بما في ذلك الاعتماد واسع النطاق على الجنود العبيد (وسلاح الفرسان بوجه عام)، والتمييز القانوني بين المسلمين وغيرهم في الأراضي الإسلامية، ومحورية الحج (والشبكات الدينية الأخرى) فيما يتعلق بترابط الأمة، وسيطرة العلماء على السلطة الدينية وغيرها من الأمور الأخرى.
بسبب كل هذه العوامل، فإن نسبة كبيرة من مسلمي اليوم تنحدر أصولهم من أولئك الذين اعتنقوا الإسلام في تلك الفترة، وكما ذكر أحد المؤرخين فإنه «في القرن السادس عشر من زمننا، كان يمكن لزائر من المريخ أن يظن أن عالم البشر على وشك أن يصبح مسلما». ربما توصل ضيفنا القادم من كوكب المريخ إلى هذه النتيجة بسبب الوجود المعاصر للحضارات والإمبراطوريات الإسلامية الكبرى التي أقامها العثمانيون (1300-1922)، والصفويون (1501-1722)، والمغول (1526-1858). وإليك صورة لما بدا عليه الحال.
كانت الإمبراطورية العثمانية أول دولة إسلامية عظمى يبزغ نجمها في هذه الفترة وآخر دولة يأفل نجمها أيضا؛ إذ استمرت بشكل أو بآخر من بداية القرن الرابع عشر وحتى بداية القرن العشرين. بزغ نجمها نحو عام 1300 عندما استطاع قائد طموح لمجموعة من المحاربين على الحدود التركية في الأناضول الغربية أن يؤسس دولة إسلامية مستقلة في المنطقة. اتسعت الدولة - التي سميت باسم مؤسسها عثمان - سريعا على حساب الإمبراطورية البيزنطية. وفي عام 1453 فتح العثمانيون القسطنطينية (وتنطق بالتركية إسطنبول). وعلى مدار القرن التالي، انتزعوا القدس ومكة والمدينة من سلطنة المماليك (التي فتحوها عام 1517)، وانتزعوا بغداد من الصفويين عام 1534، إلى جانب التوسع غربا في أوروبا ليضيفوا إلى أراضيهم بلجراد والمجر ويحاصروا فيينا عام 1529. سارع السلاطين العثمانيون بالاستفادة من مكاسبهم ليحققوا النفوذ والثروة والهيبة، فاستجلبوا الأموال والمكتبات والمحفوظات والعلماء إلى إسطنبول من المناطق التي فتحت مؤخرا في مصر وسوريا، وادعى السلاطين وراثتهم لسلطة الحكام الذين فتحت بلادهم ولأراضيهم أيضا، وأطلقوا على أنفسهم ألقاب «قيصر» و«شاهنشاه» و«خليفة»؛ بل و«خليفة الله» في بعض الأحيان. وكالمتوقع، تولى السلاطين أو «الخلفاء» أدوارا دينية، فأصدروا المراسيم الدينية، وعينوا القضاة، وضموا العلماء إلى السلطة الحاكمة. وفي هذه الفترة، اشتهر السلطان سليمان (الذي امتدت فترة حكمه من عام 1520 حتى عام 1566) لدى الأوروبيين بفضل نجاحاته العسكرية باسم «سليمان العظيم»، واشتهر بين المسلمين باسم «سليمان القانوني» بسبب دمجه القانون العرفي في الشريعة.
بحلول منتصف القرن السادس عشر، أسس العثمانيون إمبراطورية قوية مركزية عالمية ضمت بعض أهم المدن والموارد الإسلامية - والعالمية أيضا - لها مرتكز في كل من أوروبا وآسيا وأفريقيا. لكن عالمية هذه الإمبراطورية كانت لها نتائج إيجابية وأخرى سلبية؛ فمن ناحية نشطت التجارة والثقافة في المدن العثمانية عن طريق استيعابها عشرات الآلاف من اللاجئين اليهود من محاكم التفتيش الإسبانية. وتكونت الآلة العسكرية العثمانية في جزء منها من شباب مسيحيين («الإنكشاريين» أو «الجنود الجدد» في اللغة التركية). ولأن العثمانيين قد انتقل إليهم حكم مجموعات متباينة من التركمان الذين سكنوا الأناضول بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر، فقد حكموا عددا كبيرا من الشيعة والصوفيين (الذين كانوا أحيانا يعتنقون معتقدات غير تقليدية) وكذلك مجموعات متنوعة من المسيحيين. ولم يكن التكوين العرقي للإمبراطورية أقل تنوعا. ومن الناحية الأخرى، بات واضحا بنهاية القرن التاسع عشر أنه ليس هناك الكثير مما يمكن فعله لتوحيد هذا النسيج المتنوع من السكان. علاوة على ذلك فإنه على الرغم من أن العثمانيين اتخذوا ألقابا دينية، وسيطروا على العلماء، وأظهروا الفخر بما لهم من نفوذ على المدن المقدسة، فالحقيقة أنه حتى في ذروة مجد الإمبراطورية العثمانية كان نصف الرعايا بالكاد من المسلمين وأقل من نصف مسلمي العالم عثمانيين. وتوحيد الأمة على النحو الذي حققه الخلفاء الأوائل (وإن كان سياسيا فحسب) كان يمكن أن تكون جدواه لحاكم مسلم أكبر من جدوى السيطرة السياسية على ألبانيا وكرواتيا. علاوة على ذلك فإن التطورات التي شكلت أهمية حقيقية للإسلام والمسلمين كانت تقع أيضا في أماكن أخرى؛ أي في الأراضي الصفوية والمغولية.
قريبا من الوقت الذي كان عثمان يؤسس فيه دولته في الأناضول، أسس أحد أبناء أذربيجان واسمه صفي الدين (1252-1334) رابطة صوفية في أردبيل عرف أتباعها باسم الصفويين. وبحلول نهاية القرن الخامس عشر، تطورت هذه الرابطة إلى حركة صوفية-شيعية مقاتلة آمنت بأن قائدها إما الإمام المختفي أو الله نفسه. ومع نهاية القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر، خرج قائد الجماعة الصفوية - وهو مراهق يدعى إسماعيل - من مخبئه وشرع في غزو إيران. وبحلول عام 1501 كان قد أصبح شاه المنطقة متخذا من تبريز عاصمة له. مع ذلك هزمت القوات الصفوية عام 1514 على أيدي العثمانيين في معركة جالديران التي ترتب عليها ثلاث نتائج مهمة. أولا، رسمت الحدود الإيرانية التركية المعاصرة. ثانيا، لما خسر شاهات الصفويين المعركة (وادعاءهم الألوهية) أمام استخدام العثمانيين البارود، فإنهم استجلبوا البارود هم أيضا. ثالثا، نقل الشاهات اللاحقون عاصمتهم شرقا بسبب تعدي القوات العثمانية على أقاليمهم الغربية؛ ليستقر الصفويون في النهاية في أصفهان تحت حكم الشاه عباس الأول (الذي امتدت فترة حكمه من عام 1587 حتى عام 1629).
بالانتقال شرقا، كان الصفويون يبعدون أنفسهم عن مركز قوتهم التركماني الأصلي، ويثبتون أقدامهم في قلب الأراضي الإيرانية. تخلصت الشخصية الدينية للدولة من أفكارها الراديكالية التي حلت محلها الشيعية الاثنا عشرية (بينما حلت النخبة الفارسية محل النخبة التركية). فرض هذا الشكل من أشكال المذهب الشيعي قسرا على قطاع كبير من أهل السنة، واستقدم العلماء الشيعة من البحرين والشام والعراق إلى أصفهان حيث ازدهرت الثقافة الدينية والدنيوية. نقل عباس أيضا إلى عاصمته أصفهان سكانا من المدن الإقليمية لينشئ مركزا ثقافيا واقتصاديا. وهكذا، فإنه في ظل حكم الصفويين سلطت الأضواء على الحدود الحديثة لإيران وعلى هويتها الثقافية والدينية؛ وذلك في تناقض واضح مع التنوع المتسم بقبول الآخر الذي كان يميز الإمبراطورية العثمانية. وصل الأدب الفارسي ذرى جديدة؛ وعلى قدر استخدام العثمانيين والمغول اللغة الفارسية لغة للثقافة الرفيعة (في الأناضول قبل الحكم العثماني والهند قبل الحكم المغولي)، كان الصفويون في قلب الحضارة الإسلامية. مع ذلك بدأ أفول نجمهم بعد وفاة عباس الثاني (الذي امتدت فترة حكمه من عام 1642 حتى عام 1666)؛ إذ اجتمعت الكوارث الطبيعية (المجاعات والزلازل وانتشار الأمراض) مع وجود حكام ضعاف، مما خلف فراغا سياسيا ملأه العلماء الشيعة أو الملالي الذين أحكموا قبضة الشيعة على المجتمع. وفرض الدين بالقوة ليس بأي حال سبيلا لكسب الأصدقاء والتأثير في الناس، وهكذا أطاح رجال القبائل السنة الحانقون من أفغانستان بالصفويين عام 1722، ووضعوا نهاية لحكمهم. وعادت الوحدة السياسية - والمذهب الشيعي - إلى إيران على أيدي القاجاريين (1794-1925) الذين قادوا إيران إلى الحداثة.
من مكان آخر في أفغانستان وفي أوائل القرن السادس عشر، شن أحد الأمراء ويعرف باسم بابر غارة ناجحة على الهند. ومع ادعاء بابر أنه ينتسب لكل من جنكيز خان وتيمور، كان مؤكدا أنه سيحاول غزو بلد ما. وهذا ما فعله عام 1526 حينما هزمت قواته سلطان دلهي وأسست سلالة حاكمة في الهند. ومع ذلك، لم تؤسس الإمبراطورية المغولية إلا تحت حكم حفيده أكبر (الذي امتدت فترة حكمه من عام 1556 حتى عام 1605)، وعلى مدار قرن ونصف قرن تاليين، ازدهر حكم أكبر وخلفائه واتسعت أراضيهم. وبحلول الفترة التي حكم فيها أورنكزيب (1658-1707)، كاد المغول يحكمون جميع أجزاء شبه القارة الهندية وأجزاء من إيران وآسيا الوسطى بلغ عدد سكانها نحو 100 مليون نسمة. ومع أن الغالبية العظمى من هؤلاء الرعايا لم يكونوا مسلمين، فإنهم اندمجوا بالكامل داخل المجتمع على كافة مستوياته، وتمتعوا بدرجة غير مسبوقة من التسامح؛ إذ أعفوا من دفع الجزية، وتزوج الأباطرة المغول زوجات هندوسيات، واستبدل السلطان أكبر بالتقويم القمري الإسلامي تقويما شمسيا. كذلك مزجت الثقافة المغولية العادات الإسلامية بالعادات الهندية لتوجد أشكالا جديدة وترسي معايير جديدة في الرسم، والشعر، والعمارة. ويمكن رؤية إرث إنجازاتهم اليوم في عظمة «تاج محل» واستخدام لفظة «المغول» إشارة إلى من يملكون النفوذ والثروة.
على الرغم من ذلك، لم يطبق خلفاء السلطان أكبر جميع أفكاره عن طيب خاطر. ففي عام 1581، وضع أكبر ما أطلق عليه اسم «الدين الإلهي» الذي يهدف إلى التوفيق بين الحقائق العديدة لجميع الأديان المعروفة له داخل منظومة واحدة. حتى الدعوات التبشيرية الصوفية لم تفلت من ذلك المخطط، وجاءت المعارضة الأعلى صوتا لهذه الهرطقة من قبل الزعيم الصوفي أحمد سرهندي (1564-1624). ولم تستمر تجربة السلطان أكبر بعد وفاته، وفي النهاية أثار فرط التسامح مع غير المسلمين تعصبا زائدا؛ إذ شن أورنكزيب الجهاد ضد الهندوس وهو ما كان له تبعات متنوعة. وصلت حدود الإمبراطورية إلى أقصى مدى يمكن الوصول إليه؛ لكن في ظل وجود الكثير من الأراضي الخاضعة للحكم وعدد أقل من السكان المستعدين لإبداء التعاون، انهار حكم المغول سريعا؛ إذ فقدوا نفوذهم المؤثر في وقت مبكر يعود إلى عام 1725 (مع أن الدولة استمرت حتى عام 1857). وفي عام 1803، وفي ظل انقسام المنطقة بين الحكام البريطانيين والهندوس المحليين، أعلن أحد قادة العلماء في دلهي أن الهند لم تعد دولة مسلمة.
لكن ما الذي كان يفعله البريطانيون - وغيرهم من الأوروبيين - في آسيا من الأساس؟ الإجابة السريعة - آنذاك والآن أيضا - هي «شراء السلع». فبدءا من القرن السادس عشر، سعت دول صغيرة لديها سفن كبيرة (هولندا والبرتغال) ولاحقا دول كبيرة لديها سفن كبيرة (بريطانيا وفرنسا) إلى بسط نفوذها على الطرق التجارية الممتدة إلى الشرق الأقصى التي يمكن منها شراء التوابل والسلع الأخرى مباشرة (ومن ثم بأسعار زهيدة ). لقد استفادت الدول والمجتمعات الإسلامية طيلة قرون من موقعها الاستراتيجي الذي كان يشكل جسرا بين أوروبا وآسيا. وفيما قبل العصر الحديث، اجتمعت مركزية العالم الإسلامي جغرافيا مع ثقافته الرفيعة، وتنظيمه السياسي، وقوته العسكرية، وهو ما أتاح للمسلمين الهيمنة على أجزاء كبيرة من أفرو-أوراسيا في وقت كان فيه الأوروبيون - بشكل نسبي - يتسلقون الأشجار ويعيشون حياة بدائية. لكن في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر تحديدا تزامن أفول نجم الإمبراطوريات الإسلامية الكبرى مع بزوغ نجم الإمبراطوريات الأوروبية.
نتيجة للثورة الصناعية، حظي الأوروبيون بمزايا مهمة في مجالي الإنتاج والاتصالات؛ ووجهت الحروب النابليونية (1793-1815) الجهود الصناعية لخدمة الأغراض العسكرية؛ وحشدت الثورة الفرنسية قطاعات كبيرة من السكان عن طريق تشجيع الحس الوطني والأفكار الخاصة بخدمة البلاد؛ وقدم عصر التنوير تبريرا علميا لوجود تسلسل هرمي من الحضارات (يقبع الأوروبيون على قمته لا شك). ولما كانت الإمبراطوريات الإسلامية الثلاث الكبرى مكونة في الأغلب من اليابسة، فقد كانت عاجزة عن محاربة السفن الأوروبية، حتى وإن كانت في ذروة قوتها، وهي لم تكن كذلك. فقد المغول والصفويون قوتهم في بداية القرن الثامن عشر، ولم يستمر العثمانيون إلا بإعادة تنظيم إمبراطوريتهم على غرار الإمبراطوريات الأوروبية. حرر الحصار العثماني الفاشل لفيينا عام 1683 والهزائم المخزية في الحرب الروسية العثمانية (1768-1774) السلاطين العثمانيين من وهم الاعتقاد بأنهم متفوقون عسكريا على القوى الأوروبية، أو حتى مساوين لها. وساهمت لامركزية الإمبراطورية، والشقاق الحزبي داخل البلاط العثماني، وانعدام الاستقرار الداخلي في تعزيز الانطباع بأن الإمبراطورية العثمانية هي «رجل أوروبا المريض». واستجابة لذلك، سعى السلاطين بدءا من عهد سليم الثالث (الذي امتدت فترة حكمه من عام 1789 حتى عام 1807) إلى إعادة التأكيد على نفوذهم عن طريق اتخاذ تدابير داخلية أدت إلى «إعادة تنظيم» الإمبراطورية فيما عرف باسم «التنظيمات» (1839-1876)، وفيها حل القانون المدني محل الشريعة، وتساوى غير المسلمين مع المسلمين، وجرى تحديث الإدارة العثمانية في معظم جوانبها. أدخل الحاكم المستبد (أو «الخليفة» كما كان يرى نفسه) عبد الحميد الثاني (الذي امتدت فترة حكمه من عام 1876 حتى عام 1909) شبكة خطوط سكة حديدية إلى الإمبراطورية [المتقلصة]، وكثف الاستثمار في مشروعات البناء. وجدير بالملاحظة أنه بينما كان السلاطين السابقون يتباهون بتكفلهم إقامة المساجد وغيرها من المنشآت الدينية الأخرى، كادت مشروعات عبد الحميد تكون كلها دنيوية بحتة. كان التحديث واسع النطاق باهظ التكلفة؛ ولذا وجدت الدول الإسلامية نفسها مدينة بمبالغ كبيرة إلى الدول الأوروبية، وسرعان ما وجد الأوروبيون أنفسهم يتولون السلطة السياسية على الأراضي الإسلامية.
غير أنه لم يكن هناك مفر من كل ذلك، وفي بعض المناطق في العالم الإسلامي تحركت الأوضاع في اتجاه مختلف تماما. ففي القرن السادس عشر، تحرك البدو من الصحراء الكبرى نحو الشمال ليسيطروا على قلب الأراضي المغربية مؤسسين سلالة من «الأشراف» (هؤلاء الذين زعموا انتسابهم إلى النبي) تولوا حكم البلاد من مراكش؛ ومن يومها وهم يحكمون المغرب. استطاعت سلالة السعديين (التي امتدت فترة حكمها من عام 1554 حتى عام 1659) أن تجتاز الصحراء التي كانت تعتبر في السابق منيعة عسكريا، ودمرت دولة سنغاي في غرب أفريقيا وعاصمتها الشهيرة تمبكتو عام 1591. قادت هذه السلالة أيضا حركة المقاومة ضد القوات الإسبانية والبرتغالية عام 1578، وصمدت أمام التحديات العثمانية جزئيا عن طريق تأليب البريطانيين والإسبان ضد بعضهم البعض، وجميعها عوامل ساعدتهم على البقاء دولة إسلامية مستقلة. نجحت الدول الخاضعة لحكم الأشراف في درء خطر الأوروبيين حتى أواخر القرن التاسع عشر، وكان الأشراف العلويون (الذين امتدت فترة حكمهم من عام 1666 حتى الآن) أول من يعترف بدولة الولايات المتحدة الأمريكية حين نالت استقلالها. مع ذلك، حتى هذه السلالة لم تسلم من الاستعمار في النهاية؛ ففي عام 1912 فرض الفرنسيون وصايتهم على المغرب، ولم ينل المغاربة استقلالهم إلا عام 1956 في عهد السلطان محمد الخامس (الذي امتدت فترة حكمه من عام 1927 حتى عام 1961).
خضعت معظم المجتمعات الإسلامية للحكم الأجنبي على مدار الألفية السابقة عندما حكم الأتراك، والمغول، والبرابرة، وكذلك العرب - في بعض الفترات والمناطق - بوصفهم أجانب، وعادة ما كان يصاحب ذلك عدم مراعاة للعادات والاهتمامات المحلية. الاستعمار الأوروبي على وجه التحديد لاقى مقاومة لثلاثة أسباب . أولا، كانت القوى الاستعمارية - مثلها مثل الصليبيين - غير مسلمة، وكثيرا ما كانت في تنافس مباشر مع المسلمين لنشر عقيدتها (وهي منافسة عادة ما كان يفوز فيها المسلمون). لكن على عكس الصليبيين، كانت هذه القوى تتمتع بحضور دائم وعلى علاقة بجميع المسلمين تقريبا. ثانيا، كانت المجتمعات الإسلامية في هذه الفترة قد أصبحت على دراية بآليات مقاومة الاستعمار وبدائله، وذلك بعيدا عن مفهوم الجهاد الذي ناصره البعض. حذت الحركات المنادية بالوحدة الإسلامية والوحدة العربية والوحدة التركية حذو حركات التحرير الوطنية في أماكن أخرى؛ الأمر الذي زاد من تطلع المسلمين إلى التغلب على الحكم والنفوذ الأجنبيين. ثالثا، في ظل انتشار وسائل الإعلام والاتصالات الحديثة ذاعت الحقائق المرتبطة بالنقطتين السابقتين في كل مكان.
بداية من القرن التاسع عشر (وقبل ذلك)، بزغ في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي نجم عدة حركات تهدف إلى إعادة تمكين الإسلام وتطهيره، واستهدفت تلك الحركات القوى الخارجية (الاستعمار) والقوى الداخلية (ما أطلق عليه الممارسة السطحية أو التوفيقية للإسلام، وكذلك علمنة المجتمعات الإسلامية وحكامها). وعلى الرغم من أن الحركات الفردية عادة ما كانت لديها شكاية معينة، فإنه مع الوقت أصبح عدد كبير من هذه الجماعات - ومعظم أتباعها - يجمع بين عدد مختلف من صرخات الحرب أو يختصر الشكايات في مجرد شعور عام بأن «الأمور ليست على ما يجب أن تكون عليه»، وأن الحل هو التغيير على خطى إسلامية متشددة. وما أثار حنق هذه الجماعات على وجه الخصوص أنها كانت ترى أن القيادة الإسلامية تساهم في المشكلة بدلا من حلها. وقد مال هؤلاء المفكرون والناشطون إلى تسمية أنفسهم باسم «المجددين»، بينما نميل إلى تسميتهم باسم «الإسلاميين» (وهو مصطلح يشمل مجموعات أخرى عديدة أيضا). ومع أن جذور الإسلام السياسي غالبا ما تعود إلى محمد بن عبد الوهاب (الذي توفي عام 1787)، فإنه قد شهد تحولا في القرن العشرين بتأسيس حسن البنا (الذي توفي عام 1949) جماعة الإخوان المسلمين (مصر 1928) وتأسيس أبو الأعلى المودودي (الذي توفي عام 1979) الجماعة الإسلامية (الهند 1941). استهدفت الجماعة الأولى المستعمرين الأجانب والعلمانيين من أهل البلاد، بينما انصب تركيز الجماعة الثانية على البريطانيين وحلفائهم الهندوس. وسرعان ما اتسع نطاق هذه الحركات دوليا، وأصبحت لها فروع عديدة؛ فقد أثرت أفكار المودودي في المفكر الإسلامي المصري البارز سيد قطب (الذي توفي عام 1966) الذي ينتمى هو نفسه لجماعة الإخوان المسلمين (التي أسس أعضاؤها حركة حماس عام 1987).
يقال إن أساس فهم المجتمعات الإسلامية في القرن التاسع عشر هو الاستعمار، مع أن ثمة عاملا آخر لا يسلط الضوء على أهميته الكبرى، هو انتشار الطباعة في جميع أنحاء الأراضي الإسلامية في هذه الفترة. لقد أدت الطباعة - وأشياء أخرى - إلى انتشار الصحف، فظهرت الصحف الحكومية في مصر (1824)، وتركيا والأقاليم العثمانية الأخرى (1831)، وإيران (1837)، وأماكن أخرى في سنوات لاحقة. والجدير بالذكر أن الرواد من الإصلاحيين الإسلاميين أشرفوا على تحرير الصحف، ونشروا أفكارهم عبرها. أصدر الأيديولوجيون أمثال محمد عبده (الذي توفي عام 1906) وجمال الدين الأفغاني (الذي توفي عام 1897) صحيفة دينية مجانية اتخذت منبرا لبث الأفكار الإسلامية والمناهضة للبريطانيين، ووصلت إلى القراء في أنحاء العالم الإسلامي (فيما عدا مصر والهند حيث حظرها البريطانيون). أيضا أشرف رشيد رضا (الذي توفي عام 1935) - وهو أحد تلاميذ محمد عبده - على تحرير المجلة الإسلامية «المنار» لمدة تصل إلى 40 عاما قام خلالها بنشر أفكار أستاذه على نطاق واسع بالإضافة إلى مقترحاته بشأن تأسيس خلافة إسلامية موحدة.
أسفرت الطباعة أيضا - وإن كان بغير قصد - عن إضفاء طابع الديمقراطية على السلطة الدينية. ففي الماضي، كانت التعاليم الإسلامية تنتشر من خلال التفاعلات الشخصية مع العلماء أو الزعماء الصوفيين. وحدهم الزعماء المبجلون الذين يستطيعون - بفضل تعليمهم الديني وسمعتهم - اجتذاب جماعة من الأتباع هم من كانوا يتركون تأثيرا لدى الناس. أما في ظل انتشار وسائل الإعلام الحديثة (بدءا بالطباعة وليس انتهاء بها)، كان بوسع أي شخص يستطيع الوصول إلى التقنية المطلوبة أن يؤثر في ملايين الأشخاص. لم تعد السمعة المحلية والشهادات الدينية تحظى بأهمية وسائل الاتصال. وكثيرا ما تسبب هذا التطور في اختلال التوازن المتحقق بين العلماء والسلطات السياسية؛ وهو توازن كان بقاؤه يعتمد على السيطرة على العلماء أو مساندة المذعنين منهم على حساب الطرق الصوفية الشهيرة. وهكذا تعقدت المصفوفة بظهور الإسلاميين الذين كان لديهم وقت قليل لمعظم الصوفيين وللسياسيين المسلمين المتغربين (أو العلماء الذين تنازلوا لهم عن كل شيء).
كل هذا يوضح بلا شك أنه من السطحية اعتبار الإسلام السياسي رفضا تفاعليا للغرب ولمناهجه. لقد سعد الإسلاميون بحصولهم على معدات الحضارة الغربية الحديثة وبرامجها والاستفادة منها في خدمة قضيتهم. ولا يخفى على أحد أن آية الله الخميني نشر رسالته الثورية من خلال شرائط التسجيل المسموعة، واستفاد تنظيم القاعدة أقصى استفادة من تكنولوجيا الاتصالات في بث رسائله إلى القنوات الإعلامية، والتواصل عبر غرف الدردشة المتاحة عبر شبكة الإنترنت، واستغلال الاهتمام الإعلامي الذي يثار حول عملياته في اجتذاب أعضاء جدد. ومن الأمثلة الأخرى على هذا الاستعداد للاستفادة من مثل هذه التقنيات رسائل الاستشهاد ومقاطع قطع الرءوس المروعة المتداولة على المواقع الإلكترونية. أما فيما يتعلق بالبرامج، فقد استغلت الأفكار الغربية حتى من قبل من يسعون إلى التحرر من تأثير الغرب؛ ومع أنه قد يقال إن الوحدة الإسلامية تمتد جذورها إلى ما قبل العصر الحديث، فإن حركات التحرير الوطنية - بدءا من الشيشان إلى فلسطين وشينجيانج - منقولة من الغرب. وبالمثل، فإن النظريات المعادية للسامية المؤيدة على نطاق واسع من قبل المسلمين بهدف التصدي لآثار الاستعمار (التي يسأل عنها اليهود على حد زعم هذه النظريات) هي نفسها منتجات غربية إمبريالية؛ إذ لم تظهر مثل هذه النظريات في المجتمعات الإسلامية إلى أن استجلب العرب [المسيحيون] الأفكار من أوروبا إلى الأراضي الإسلامية في القرن التاسع عشر. وفيما يتعلق بالغالبية العظمى من المسلمين الذين يرفضون أيديولوجيات الإسلاميين، فإنهم يستخدمون التقنيات الحديثة ويعتنقون الأفكار الغربية على نحو يتزايد يوما بعد يوم، مما أدى إلى ظهور نتائج مثيرة للاهتمام؛ فقد أوضح البعض (على نحو مقنع) دور الإسلام في نشأة العلم الحديث والطب والتكنولوجيا، بينما حاول آخرون (على نحو أقل إقناعا) بيان أن أفكار الغرب من ديمقراطية وحقوق إنسان ومساواة بين البشر ترجع أصولها إلى الإسلام. ومع أن هذا الأمر قد يشير إلى عملية التغريب المتزايدة للمسلمين، فإنه يوضح أيضا مدى سهولة تكيف التغريب مع الإسلام.
شكل : العالم الإسلامي نحو عام 1700.
ملخص
إذن ذلك هو ما حدث بوجه عام. وكما يتوقع من أي استعراض لفترة تساوي 1400 عام من التاريخ على نطاق ثلاث قارات، فقد تطرقنا إلى قدر كبير من الحكام، والمعارك، والتواريخ، والأسماء التي تبدو متشابهة. ولقد حاولت أن أوازن بين ذلك وبين بيان كيفية تطور الإسلام نفسه في كل فترة، وسوف أقتصر هنا على استنتاج واحد يرتبط بالتطورات السياسية والدينية المشار إليها أعلاه.
فور قيام إمبراطورية في أعقاب الفتوحات الإسلامية الأولى، لم يكن يحدث تداخل بين انتشار الإسلام بوصفه دينا من ناحية وبين القوة السياسية من ناحية أخرى؛ فالواقع أنه في حالات عديدة كان الإسلام يبلي بلاء حسنا حين كان أداء الحكام المسلمين سيئا للغاية. ولذا اعتنق الإسلام الكثيرون أثناء الحكم الاستعماري الأوروبي بخلاف أي فترة أخرى، وفي فترة ما بعد الاستعمار ازداد التوزيع الجغرافي للمسلمين زيادة هائلة؛ فبدون وجود البريطانيين في الهند والفرنسيين في شمال أفريقيا، لكان هناك قلة من الباكستانيين في بريطانيا وقلة من الجزائريين في فرنسا. ومع أن حركة الديوبندية قد بدأت كرد فعل تجاه الحكم البريطاني في الهند، فإن ذراعا تبشيريا للحركة يتحكم الآن فيما يقرب من نصف المساجد في المملكة المتحدة، ويقدر عدد أفرادها بأكثر من ثلاثة أرباع رجال الدين المسلمين المدربين داخليا، وتخطط لإقامة أكبر مسجد في أوروبا بجوار الموقع الذي أقيمت فيه دورة الألعاب الأوليمبية عام 2012 في لندن. ومن التبعات المثيرة للاهتمام لذلك أنه حتى لو نجحت محاولات إقامة خلافة إسلامية عالمية - على افتراض دوام الاتجاهات التاريخية - فلن يصاحبها بالضرورة انتشار للإسلام نفسه. والواقع أنه لو دامت الاتجاهات الديموغرافية والإحصائية، فإن ثلث البشر قد يكونون من المسلمين - حتى دون قيام خلافة - قبل مرور وقت طويل.
هوامش
الفصل الثاني
شعوب وثقافات
على نحو ما ذكرنا آنفا، يخضع جزء كبير من قصة التاريخ الإسلامي للعوامل نفسها التي تشكل تاريخ المجتمعات الأخرى ، وهي الحقائق الجغرافية وانتشار التكنولوجيا ؛ من الجمال إلى السيارات ومن البردي والبرشمان إلى الورق ثم الطباعة. الحج مثلا تطور من كونه طقسا دينيا يعتمد على القوافل إلى عمل تجاري تخدمه الطائرات. وعلى الرغم من أن التكنولوجيا الحديثة مكنت عددا غير مسبوق من المسلمين من الذهاب إلى مكة لأداء فريضة الحج، فإنها قللت أيضا من دور الحج كوسيلة لنشر الأفكار، والسلع، والأخبار، والإحساس بوجود أمة موحدة. قد يكون مشوقا أن نتعرف على كيفية تأثير التطورات «المحايدة» على التقاليد «الإسلامية» مثل الحج، لكن هذا في حد ذاته لا يشكل تاريخا «إسلاميا» على وجه الخصوص؛ إنه مجرد تاريخ عالمي عبر نماذج إسلامية. أما ما يقترن بالتاريخ الإسلامي بصورة خاصة فهو تلك الشعوب - العرب والفرس والأتراك - التي شكلته عن طريق توجيه الجغرافيا والتكنولوجيا (من بين عوامل أخرى) في اتجاهات محددة للغاية.
العرب
عام 2003، كتب روبرت كيلروي-سيلك - وهو سياسي وإعلامي بريطاني بارز - مقالا في مجلة «ذا صنداي إكسبريس» بعنوان «نحن لا ندين للعرب بأي شيء»، وفيه ذكر أن العرب ليسوا سوى «منفذي عمليات انتحارية، وباتري أطراف، وقامعي نساء». جاءت إدانة المقال ومؤلفه سريعة كالمتوقع، وقاد المجلس الإسلامي البريطاني الاحتجاجات. ليس غريبا على الإطلاق أن تسفر الأفكار البغيضة عن اعتراضات. ولكن الغريب في هذه الحالة أن يأتي الاعتراض على مقال عن «العرب» من مسلمين «غير عرب». وعلى الرغم من أنه معروف على نطاق واسع أن معظم المسلمين ليسوا عربا، فمن الواضح أن العرب لعبوا دورا محوريا للغاية في الحضارة والتاريخ الإسلاميين حتى إن مؤيدي الإسلام ومعارضيه على حد سواء يجمعون دائما بين «العرب» و«المسلمين».
على نحو مثير للاهتمام، تكشف المتابعة الدقيقة للتاريخ الإسلامي منذ بدايته الأولى أن الجمع بين العرب والمسلمين ليس أمرا غير عقلاني تماما. يمكن القول إن الإسلام بدأ دينا لأشخاص مصطفين وإنه استهدف العرب على وجه القصر. يذكر القرآن (سورة يوسف: الآية 2، وسورة الزخرف: الآية 3) أنه أنزل باللغة العربية
لعلكم تعقلون ، وهي عبارة تفترض أن من يخاطبهم يتحدثون اللغة العربية. علاوة على ذلك، كان اعتناق غير العرب للإسلام في عهد الخلفاء الأمويين يلقى تثبيطا عادة، وأولئك الذين اعتنقوا الإسلام أصبحوا «تابعين» للقبائل العربية. بعبارة أخرى، كي تكون مسلما لا بد أن تكون عربيا؛ أو على الأقل تكون عضوا فخريا. وطيلة قرون قال اليهود في الأراضي الإسلامية (عادة في بلاد فارس) إن محمدا كان حقا نبيا صادقا أرسله الله لنشر التوحيد، لكن بين العرب الوثنيين الذين احتاجوا إليه فحسب. (لم يعد اليهود الفرس يؤيدون هذا الرأي.) يأتي تأييد مثل هذه الفكرة من القرآن ذاته (سورة الأحقاف: الآية 12) الذي يقول:
ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا ...
على الرغم من ذلك، من الواضح أن هذه ليست الطريقة الوحيدة التي ينظر بها للأمور، وليس ذلك بالطبع ما آلت إليه الأمور. غير أن العرب وثقافتهم كانت لهم أهمية لدى كل المسلمين في عدد من النواحي. إن الربط الأولي بين الإسلام والعرب - علاوة على الاعتراض الأزلي (والبائد حاليا) على ترجمة القرآن - أسفرا عن أنه حتى المسلمين غير العرب كان لديهم سبب لتعلم أساسيات اللغة العربية على الأقل. ولا ضير في النظر إلى اللغة العربية - حتى بين الفرس - على أنها لغة الله (على الرغم من أن معظم المؤرخين المسلمين يعتقدون أن آدم وحواء تحدثا اللغة الآرامية). لابد لمن يريد قراءة الأعمال المهمة في الفقه الإسلامي وعلم اللاهوت والدراسات القرآنية وعلم الحديث والتاريخ وما إلى ذلك أن تكون لديه معرفة شاملة باللغة العربية. ولأن الإسلام انتشر في الأغلب في مناطق وفترات كان فيها الإلمام بالقراءة والكتابة محدودا للغاية، كثيرا ما تتضمن أولى تجارب المسلم في الإلمام بالقراءة والكتابة تعلم قراءة لغة الله وكتابتها.
نتيجة لذلك، حتى اللغات غير العربية صارت تكتب في صورة من الخط العربي جرى تعديلها لتلائم الطبيعة الخاصة للغات المنطوقة. فاللغات الفارسية والأردية (الهندية بالخط العربي) والتركية - حتى وقت حديث نسبيا - علاوة على مجموعة من اللغات الأخرى تستخدم الحروف الأبجدية العربية وتحتوي على كلمات عربية عديدة. لهذه الأسباب كان كل المؤلفين - بصرف النظر عن انتمائهم العرقي - في القرون القليلة الأولى من التاريخ الإسلامي يكتبون أعمالهم باللغة العربية. لذا قد تقارن اللغة العربية باللغة الصينية التي أتاح ثباتها على مدار آلاف السنين للدارسين الصينيين الاطلاع على أفكار من سبقوهم واتخاذها أساسا لأفكارهم؛ مما أدى إلى أن العديد من الابتكارات التي غيرت العالم قد نشأت هناك؛ بدءا من الورق، والطباعة، والبوصلة، والبارود إلى الألعاب السحرية والكونغ فو. وكلغة أكاديمية يتشاركها المتحدثون غير الأصليين لها، تستدعي اللغة العربية إلى الأذهان أيضا استخدام اللغة اللاتينية في أوروبا قبل الحداثة وأثناء العصر الحديث المبكر. لقد سمح انتشار اللغة العربية كلغة أكاديمية للدارسين - مسلمين وغير مسلمين على حد سواء - بنقل أفكارهم عبر الحدود والأجيال، ونتج عن ذلك نتائج مبهرة حقا في العديد من المجالات. فقد ترجم على سبيل المثال قدر كبير من المؤلفات اليونانية القديمة إلى اللغة العربية تحت رعاية الخلفاء في القرن التاسع، وذلك في وقت فقد فيه معظم أهل الغرب القدرة على الاستمتاع بهذا التراث؛ ومن خلال ترجمات هذه النسخ العربية من اليونانية إلى اللاتينية، أعادت أوروبا اكتشاف الكثير من هذه الأعمال والأفكار التي تتضمنها. ومن ثم قيل (إن لم يكن قد أقر على نطاق واسع) إن «عصر النهضة» كما نعرفه ما كان ليحدث إن بقي العرب ولغتهم في شبه الجزيرة العربية.
لا شك أن تأسيس حضارة إسلامية لم يكن ليحدث إن بقي العرب في شبه الجزيرة العربية، والعرب هم من فتحوا الشرق الأدنى، وشمال أفريقيا، وشبه جزيرة أيبيريا، وآسيا الوسطى. علاوة على ذلك، أرسى العرب الأسس السياسية والأيديولوجية التي بنيت عليها الإمبراطوريتان العباسية والأموية. لكن في حين احتفظت اللغة العربية وثقافتها بأهميتهما للإسلام في الأزمان الحديثة، تخلف العرب أنفسهم في بعض النواحي؛ فحتى في ذروة الثقافة الإسلامية العربية في القرنين التاسع والعاشر، كانت معظم الشخصيات الثقافية اللامعة من غير العرب. عرف الكندي (الذي توفي عام 873) باسم «فيلسوف العرب»؛ ليس لأن معظم الفلاسفة كانوا من العرب ولكن لأنهم لم يكونوا كذلك تحديدا. وبدءا من القرن العاشر فصاعدا، كثيرا ما وجد العرب أنفسهم خاضعين لحكم آخرين؛ عادة ما كانوا إخوة في الدين من الفرس أو البربر أو الأتراك.
شهد انقسام الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى إعادة تشكيل عام للعناصر الدينية والعرقية في الشرق الأدنى مع تسابق جماعات مختلفة للتأسيس لهويات قومية وفوق قومية. ومع أن البحث عن هوية اجتماعية بدأ مع الإسلام - الذي قدم عامل توحيد جاهز من خلال فكرته عن الأمة - كان العديد من المفكرين العرب مسيحيين، وسعوا لتعزيز الهوية «العربية» بدلا من الهوية «الإسلامية». لذا كانت القومية العربية والوحدة العربية عن قصد حركتين علمانيتين (وكثيرا ما كانتا اشتراكيتين). لكن بسبب فشل تجربة الوحدة العربية التي تبناها عبد الناصر (1958-1961)، وعجز الدول العربية عن هزيمة إسرائيل، وعوامل أخرى كثيرة، بزغ نجم الأيديولوجيات الإسلامية مجددا لتحل محل الوحدة العربية كعامل توحيد في الشرق الأدنى وما وراءه.
في هذا السياق كانت الحدود الفاصلة بين الحركات المتمركزة حول العرب وتلك المتمركزة حول الإسلام أحيانا غير واضحة؛ فقد أكد ميشيل عفلق (الذي توفي عام 1989) - أحد دعاة القومية العربية البارزين - أن الإسلام هو الإنجاز الأعظم للعرب، وأن محمدا أعظم أبطاله؛ هذا مع أنه كان مسيحيا سوريا. علاوة على ذلك، استطاع أفراد وأمم كاملة في الوقت ذاته تشجيع هويات متعددة؛ فقد ناصر معمر القذافي كلا من الوحدة العربية والأفريقية، واستكشف بعض اللبنانيين جذورهم الفينيقية، وكذلك استكشف الفلسطينيون خلفيتهم الكنعانية وذلك على سبيل المثال لا الحصر. والمثير للاهتمام أنه على الرغم من أن «الإسلام» و«العرب» كانا متلازمين في البداية - كي تكون مسلما لا بد أن تكون عربيا - فبحلول منتصف القرن العشرين كانت الأيديولوجيات العربية والإسلامية في صراع مباشر من أجل اجتذاب قلوب وعقول شعوب الشرق الأدنى. ففي العالم العربي كانت الهيمنة للحركات الإسلامية، لكن صوب شرق هذا العالم - في إيران - نجد السباق بين الولاءات الدينية والعرقية سباقا حامي الوطيس.
الفرس
يدين العرب والأتراك - كما سنرى - للإسلام بالفضل في تصدرهم للمسرح العالمي. أما الفرس، فليسوا كذلك. للفرس تاريخ طويل باعث على الفخر من الاستقلال يرجع إلى حكم الأخمينيين (559-330 قبل الميلاد)؛ وحينما هزم الفاتحون العرب الإمبراطورية الساسانية (التي حكمت من 224-651)، كانوا يضعون نهاية لنحو 12 قرنا من استقلال سياسي وحكم ذاتي فارسي كاد يكون متواصلا. لذا، بينما كان ظهور الإسلام نجاحا تاما للعرب والأتراك، كان أشبه بنعمة ونقمة للفرس الذين فازوا بالتوحيد والدين الحنيف لكنهم خسروا إمبراطوريتهم واستقلالهم. ومع أن المسلمين الأوائل أقاموا دولتهم في الأراضي البيزنطية والساسانية سابقا، فالساسانيون هم من تكبدوا تكلفة باهظة؛ إذ كان بإمكان الرعايا البيزنطيين الذين فتحت أراضيهم أن يفروا إلى أجزاء أخرى من الإمبراطورية لم تخضع للفتح الإسلامي، وكان بإمكان أي ثقافة مسيحية أو يونانية اجتثتها يد الفتوحات أن يعاد غرسها من جديد في الأراضي البيزنطية الباقية. على النقيض، فتح المسلمون الإمبراطورية الساسانية بالكامل، ومع أن بعض الزرادشتيين فروا إلى الهند (حيث عرفوا باسم «البارسيين» منذ ذلك الحين)، فلم يكن أمام الثقافة الفارسية سوى الاندثار. وكان لكل هذا تبعات قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل.
على المدى القصير، تصدى الشعب الفارسي (وأراضيه) للجيوش العربية بشراسة، وهو ما كان يعني أن الخضوع لحكم الخلافة، والتحول إلى الإسلام، واستيطان العرب، والتعريب في بعض الأقاليم كانت أمورا ظاهرية. وفي معظم المناطق سمح لشخصيات فارسية بارزة بأن تحتفظ بقدر من السلطة، ولذا بقيت العادات الإدارية الفارسية. وعلى نحو غريب، نظر الكثيرون من الفرس إلى الفتوحات الإسلامية على أنها تحول مؤقت يمكن الرجوع عنه. وعلى مدار القرنين التاليين ظهر عدد كبير من «المخلصين» هدفهم المعلن استعادة الوضع الديني والاجتماعي والسياسي الذي كان قائما قبل الفتح الإسلامي. وقد نظر بعض المؤرخين المعاصرين وحتى بعض المراقبين آنذاك (على نحو خاطئ) إلى أحداث مختلفة في التاريخ الإسلامي على أنها أمثلة لحركات تحرير الفرس، ومن بينها الثورة العباسية، وتأسيس بغداد، وظهور البويهيين والسامانيين والصفويين، وتبني الحكام الصفويين ورعاياهم للمذهب الشيعي. ومثل هذا التفسير للأحداث غير صحيح في كل حالة، لكنه دقيق في إدراكه العام للتأثير المربك الذي خلفه ظهور الإسلام على كثير من الفرس.
على المدى المتوسط، وبدلا من القضاء على الآثار التي ترتبت على مجيء الإسلام، تأسلم الفرس وثقافتهم الفارسية. حدث هذا على نحو أكثر وضوحا تحت حكم العباسيين الذين أسسوا قاعدتهم السياسية من أنقاض المؤسسات الساسانية، عن طريق الانتقال إلى العراق. لم يقتصر الأمر على أخذ العباسيين التنظيم الحكومي والسياسي من التقاليد الفارسية (مثلما أخذ الأمويون في سوريا أشكال التنظيم البيزنطي)، بل إن جوانب كثيرة من الحضارة العباسية - بما في ذلك الأدب والتاريخ والعلوم الدينية والدراسات القرآنية بل والشعر العربي واللغويات - تشكلت وتأثرت بأشخاص ألفوا الكتب باللغة العربية لكنهم كانوا يتحدثون اللغة الفارسية في حياتهم اليومية. كان الفرس مدركين كثيرا لتفوقهم الثقافي، وظهرت حركة أدبية تدعم الثقافة الفارسية وتذكر العرب بما يدينون به من فضل لها. حتى العلامة ابن خلدون (الذي توفي عام 1406) - الذي كان يكتب في الغرب الأقصى من العالم الإسلامي - أورد في كتابه «المقدمة» فصلا تحت عنوان «في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم».
على المدى الطويل، اصطبغت الثقافة الإسلامية نفسها بصبغة فارسية، رغم وجود بدائل أخرى ممكنة. بدأت هذه العملية بظهور السلالات الحاكمة الفارسية شبه المستقلة في الشرق العباسي، حيث اتخذ الحكام ألقابا ساسانية، وتتبعوا سلاسل النسب الساسانية لأسرهم الحاكمة، والأهم من ذلك أنهم وفروا الرعاية للأدب باللغة الفارسية. ربما يكون العمل الأدبي الأكثر شهرة والمكتوب باللغة الفارسية «شاهنامه» («كتاب الملوك») قد كتب أثناء حكم السامانيين وأهدي إلى أحد الحكام الغزنويين. يسرد الكتاب بأسلوب ملحمي كل ما اعتقد أنه ذو أهمية حقيقية في التاريخ الإيراني، بدءا من خلق العالم وانتهاء على نحو مفاجئ وشديد الأثر بهزيمة المسلمين للقوات الساسانية في معركة القادسية (عام 637).
علاوة على كل العوامل الأخرى، أدى انتشار الأتراك، والمغول، والمغول الأتراك في الأراضي الإسلامية وداخلها إلى ازدهار الأدب الفارسي حتى - أو خصوصا - خارج إيران. لعبت الدعوات التبشيرية الناطقة بالفارسية دورا محوريا في انتشار الإسلام إلى الشرق، وليس من قبيل الصدفة أن المصطلحات الدينية المستخدمة من جانب المسلمين الصينيين تفضل كلمات فارسية مثل «نماز» (بمعنى الصلاة) على مرادفاتها العربية. وقبل دخول القبائل التركية التي ينحدر منها العثمانيون والسلاجقة إلى العالم الإسلامي في أواخر القرن العاشر، كانت هذه القبائل قد تحولت إلى الإسلام على أيدي الفرس؛ وهكذا غربل الدين الذي وصلهم بفعل مصفاة فارسية. وعندما أقام السلاجقة سلالة حاكمة في إيران/العراق، كانت نماذجها الإدارية والأدبية فارسية، وعندما انتقل أقاربهم غربا لفتح الأناضول وتأسيس الإمبراطورية العثمانية، اتخذت الفارسية هنا أيضا لغة للثقافة.
أيضا ساهمت فتوحات المغول والتيموريين - رغم طبيعتها التدميرية - في نجاح اللغة الفارسية. من ناحية، لما لم يكن للمغول في إيران (الذين استعانوا بإداريين إيرانيين محليين) علاقة باللغة العربية كلغة دينية، فإنهم شملوا برعايتهم المنح التعليمية الفارسية حتى في تلك المجالات التي كانت قاصرة حتى ذلك الوقت على اللغة العربية. ومن الناحية الأخرى، أجبرت الفوضى التي تسببت فيها الفتوحات الباحثين الإيرانيين البارزين على السعي وراء الأمان (والرعاية) في مكان آخر؛ الهند الإسلامية في الأغلب. وفي ظل حكم سلاطين دلهي وسلاطين المغول على وجه الخصوص، كان الأدب الإسلامي الهندي، والفنون (الرسم على وجه الخصوص)، وشئون الإدارة الإمبراطورية فارسية لغة وشكلا، وكذلك شهدت الأراضي المغولية إنتاج بعض أرقى نماذج الثقافة الفارسية. لذا كانت الفارسية اللغة البارزة للثقافة الرفيعة في جميع أنحاء العالم الإسلامي بدءا من القرن الحادي عشر وحتى القرن التاسع عشر (بل وحتى وقت متأخر عن ذلك في بعض المناطق). وحتى عندما أفل نجم الفارسية أخيرا على يد اللغة الإنجليزية ثم الأردية والهندية في الهند، وعلى يد اللغة التركية والعربية في الأقاليم فيما بعد الحكم العثماني، كان أثرها لا يزال ملموسا على عدة مستويات؛ فالأدب الأردي لا يزال يقتفي أثر النماذج الفارسية، وأهل الغرب العصريون يقرءون الكتابات الصوفية للرومي (توفي عام 1273) الذي قيل عنه إنه «لم يكن نبيا لكنه أوتي الكتاب». كذلك وجد الأدب الفارسي معجبين في أعمال جوته (الديوان الغربي الشرقي) وبوتشيني (توراندوت) من بين عدة مؤلفين غرب آخرين.
من الواضح أن هناك الكثير من الأمور التي يفخر بها الفرس؛ بوصفهم قادة إمبراطوريين في عصور ما قبل الإسلام ورواد ثقافة وإدارة في العصور الإسلامية. كفل الوصول المتأخر للهيمنة الغربية غير المباشرة إلى إيران عام 1907 (حينما قسمت البلاد إلى مناطق نفوذ على يد بريطانيا وروسيا) عدم ضعف الوطنية الإيرانية قط. وعلاوة على ذلك، ساهمت مقاومة الفرس لانتشار اللغة العربية - بالإضافة إلى الهوية الشيعية لإيران - في نشر مشاعر التفرد القومي طيلة قرون.
الجانب الآخر لكل هذا أنه حينما عجزت مكانة إيران في العالم عن تلبية الطموحات والتطلعات القومية، كان يجري بين الحين والآخر البحث عن المسوغات في مواضع غريبة (وخطيرة). فمنذ بداية القرن العشرين حينما كان التدخل الأجنبي في البلاد في ذروته، شاعت على نحو واسع - حتى بين النخب الدينية والسياسية في البلاد - نظريات المؤامرة التي تربط المحن التي مرت بها إيران بمخططات سرية وضعها الروس، والبريطانيون، والأمريكيون، والصليبيون/المسيحيون، والصهاينة/اليهود، والماسونيون، والبهائيون، بل والشيطان.
شكل 2-1: جدارية على السفارة الأمريكية السابقة في طهران بإيران تشير إلى وجود مؤامرة أمريكية-إسرائيلية-شيطانية للسيطرة على العالم.
1
بعض هذه النظريات أقل غرابة من البعض الآخر؛ فجهاز المخابرات الأمريكية أدار انقلاب عام 1953 الذي أطاح بالحكومة الإيرانية، لكن من المنافي للعقل القول إن آية الله الخميني كان عميلا بريطانيا أو أمريكيا، أو أن اليهود والماسونيين تآمروا منذ البداية لنشر الهلينية (!) على حساب إيران. ومما لا شك فيه أنه كان لإيران والفرس تأثير تشكيلي على حدود الحضارة الإسلامية ومضمونها، غير أنهم - في نواح عدة - ما كانوا ليستطيعوا تحقيق هذا دون مساعدة الأتراك.
الأتراك
تزخر علاقة الأتراك بالتاريخ الإسلامي بالمفاجآت التي يكاد جميعها يكون سارا. المفاجأة الأولى هي أنهم لم يسعوا قط للدخول في تلك العلاقة. فقد أقام الأتراك - في تاريخ ما قبل العصور الإسلامية - سلسلة من الإمبراطوريات (في الفترة ما بين 552-840 تقريبا، وفي القرن العاشر في المناطق الغربية من السهل الأوراسي)، واعتنقوا عددا من الأديان في تلك الأثناء، من بينها المانوية والبوذية والمسيحية النسطورية واليهودية، بالإضافة إلى الإبقاء على الأشكال التقليدية من الشامانية. علاوة على ذلك وعلى عكس العرب والفرس، لم يكن الأتراك سكانا أصليين للشرق الأدنى ؛ إذ كانت منغوليا موطنهم الأصلي . ولما كان الأترك بدوا من السهل الأوراسي، فقد عاشوا بالقرب من حضارات مستقرة يذرعون الطرق من الشرق إلى الغرب، وأحيانا يقيمون دولا خاصة بهم. ثمة علاقات وثيقة جمعت بين إمبراطورية الأتراك الأويغور (744-840) - على سبيل المثال - والصينيين، فكانوا يستبدلون بالخيول الحرير (بأسعار مميزة للأتراك) ويقيمون علاقات مصاهرة بين الحين والحين مع الأسر الحاكمة الصينية. وكشعوب الهون في القرون الأولى والمغول في القرون اللاحقة، كانت الحضارة الصينية الهدف الجوهري للأتراك. وإن ترك الخيار للأتراك في هذه المسألة، لانضموا على الأرجح إلى العالم المتوطن في الصين بدلا من الشرق الأدنى. لذا، كان دخولهم العالم الإسلامي أول مرة ضد إرادتهم حينما دخلوه عبيدا عسكريين في العشرينيات من القرن التاسع.
من المهم أن نلاحظ أنه على الرغم من الروابط اللغوية والعرقية التي جمعت ما بين الأتراك، فإنهم يتألفون من مجموعات عديدة غير وثيقة الترابط؛ حتى الشعوب التركية المترابطة اليوم - وإن كانت مستقلة بعضها عن بعض في الأساس - تنتشر انتشارا واسعا عبر آسيا؛ من تركيا عبر جنوب روسيا وإيران وآسيا الوسطى إلى غرب الصين أو «تركستان الشرقية». وبينما دخل الأتراك العالم الإسلامي أول مرة كصغار جنود عبيد، فإن الأتراك اللاحقين دخلوه طواعية بعد أن اعتنقوا الإسلام في نهاية القرن التاسع على يد التجار والزعماء الصوفيين (الذين لا بد أنهم شابهوا الشامانات في أديانهم). وفي حالة القراخانيون في بلاد ما وراء النهر (992-1212)، فالعالم الإسلامي هو الذي جاء إلى الأتراك، لكن في معظم الحالات الأخرى كان الأتراك هم من ذهبوا إلى العالم الإسلامي.
المفاجأة الثانية هي أن الجنود العبيد (الغلمان) الأتراك الذين أبدوا ولاء شديدا لخليفتهم وافتقروا إلى الطموح السياسي سرعان ما هيمنوا على البلاط العباسي في القرن التاسع وأسسوا في النهاية دولا خاصة بهم، بدءا من المماليك في الغرب (الذين كانوا غلمانا أيوبيين) حتى الغزنويين (الغلمان السامانيين) وسلاطين دلهي (الغلمان الغوريين) في الشرق. وقد نسبت أهمية سياسية كبيرة لأولئك الأتراك الذين جاءوا إلى العالم الإسلامي من موضع قوة - كغزاة حازوا النفوذ والشهرة على الطريقة التقليدية - بالجمع بين الدبلوماسية، والاستراتيجية، وأيديولوجية موحدة، والقوة العسكرية. وإلى هذه الفئة ينتمي السلاجقة والعثمانيون والمغول والصفويون. حينما بدأ الخليفتان المؤمن والمعتصم في جلب الأتراك إلى الأراضي الإسلامية في القرن التاسع لم يتوقعا قط أن الأتراك (الذين ولدوا أحرارا) سيكونون آخر الشعوب التي تتولى منصب الخليفة حينما ألغاه العثمانيون عام 1924.
وهكذا عاش معظم المسلمين على مدار ما يزيد عن ألف سنة تحت حكم الأتراك أو في حمايتهم. ولا غرو إذن في أن علم المصطلحات التركية والممارسات الإدارية التركية قد تركتا بصمتهما على التاريخ الإسلامي، وخصوصا في العصور الكلاسيكية والحديثة المبكرة. والواقع أن كلمة «دمغة» - مرادف «طابع» في اللغة العربية الحديثة - هي كلمة تركية قديمة (كانت تنطق في الأصل «تمغة») وتعني «وسما قبليا» في عصور ما قبل الإسلام و«رسما تجاريا» في العصر المغولي. وهذه الرحلة وليدة الصدفة لهذه الكلمة بدءا من منغوليا القديمة إلى العالم العربي الحديث توضح على نحو منظم نطاق نشاط الأتراك ومداه في التاريخ.
والمفاجأة الثالثة (للتاريخ وليس لنا حتى الآن) هي أن الأتراك كثيرا ما كانوا يفضلون نشر اللغة الفارسية وتطويرها بدلا من الأدب التركي. أنتج الأتراك أعمالا أدبية خاصة بهم؛ فالوثائق التركية الأولى يرجع تاريخها إلى القرن الثامن، وبحلول القرن الحادي عشر، كانت تكتب الأعمال التركية الإسلامية التي حظي اثنان منها - عمل ينتمي لأدب «مرايا الأمراء» أو «الآداب السلطانية» من عام 1068 ومعجم عربي تركي من عام 1077 - بشهرة واسعة. وعلى الرغم من ذلك، اعتمد الأتراك على الفرس في كل الأعمال الأدبية، وتلك حقيقة مسجلة في قول مأثور يعود تاريخه للقرن الحادي عشر، ووفقا لهذا القول فإنه «لا يوجد تركي من دون إيراني مثلما لا توجد قبعة من دون رأس». بدأ تأليف الأدب باللغتين التركية الغربية (العثمانية) والشرقية (الشاغاتية) في البلاط التركي، وزاد في القرن الخامس عشر. لذا كتبت السيرة الذاتية للقائد المغولي بابر باللغة الشاغاتية مع أن الثقافة الرفيعة في البلاط المغولي كانت فارسية اللغة. مع ذلك، فإنها مفارقة أن يكتب أحد مؤسسي الثقافة الأدبية التركية - علي شير نوائي (الذي توفي عام 1501) - عملا جدليا عن تفوق اللغة التركية على الفارسية، وأن يكون نحو ثلثي اللغة المستخدمة في العمل فارسية.
ثمة مفاجأتان أخريان تتعلقان بالثقافة، وهما حقيقة أن رمز «الهلال والنجمة» الذي كثيرا ما يقرن بالإسلام تعود أصوله إلى التركية القديمة (وليس العربية أو الفارسية)، وأن الأتراك غذوا حرفيا الحضارات الإسلامية (وحضارات أخرى) بتأثيرهم فيما يتعلق بفنون الطهي؛ فالزبادي ومحشو ورق العنب (دولمة) والكباب والشاورما والبقلاوة وغيرها الكثير من الأطعمة المعروفة تنسب للأتراك (مع أن القهوة التركية ليست كذلك). وإن ثبتت صحة الرواية القائلة إن خبازي فيينا قد ابتكروا الكعكة الهلالية احتفالا بفشل الحصار العثماني لمدينتهم عام 1683، فإننا ندين لهم - على الأقل بصورة غير مباشرة - بالفضل في معرفة الكعك الهلالي أيضا.
المفاجأة الأخيرة أن شعبا مثل الأتراك المعروفين على مدار زمن طويل بالبسالة العسكرية طالما اتصف بالتسامح الملحوظ تجاه الثقافات والأديان الأخرى والانفتاح عليها. ربما كان ترحال الأتراك عبر طريق السهل الأوراسي سببا في احتكاكهم بثقافات عديدة لا يرتبط بعضها ببعض، على نحو لم يحدث مع بدو آخرين. (على النقيض، احتك العرب أثناء ترحالهم الموسمي بشعوب جاورتهم من الشمال والجنوب والشرق - بينما كان البحر الأحمر يحدهم من الغرب - وكانت في الأساس شبيهة بهم غير أنها كانت قليلة الترحال.) لهذا السبب فإن للأتراك تاريخ طويل من التضمين الطوعي لعناصر من ثقافات أخرى داخل ثقافتهم، مثلما يتضح من اقتباسهم أدب الآخرين حسبما كان الحال مع الثقافة الرفيعة الفارسية، وأيضا من مرورهم بأبجديات عدة إلى أن استقروا على الأبجدية العربية مثل غيرهم من الشعوب الإسلامية الأخرى. وعلى نحو معبر، فإن قدرتهم على التكيف مع الظروف المتغيرة قد دفعتهم - على النقيض من العرب أو الفرس - إلى استخدام الأبجدية اللاتينية في القرن العشرين؛ وهو تغير لم يمر به الأتراك في تركيا فحسب، ولكن مر به أيضا الأتراك في أوزبكستان وتركمانستان وأذربيجان. نوعا ما، أثبت الأتراك حنكتهم في تحديد الاتجاهات الفائزة ومهارتهم الكبيرة في تكييف مجتمعاتهم معها. يمكن ملاحظة هذا الأمر في اعتناقهم الإسلام، وتبنيهم الحداثة ، واستخدامهم اللغة الفارسية كلغة أدبية والبارود (على عكس ما قد يرتبط بعاداتهم الأصلية). ربما يحتج العرب والفرس بكونهم شديدي الفخر بعاداتهم بما لا يسمح لهم بالتخلي عنها تحت ضغط الغرباء، لكن قد يرد الأتراك بأنهم إلى جانب تبني الثقافة السائدة - وهي الحداثة في هذه الحالة - والتكيف معها، فإنهم أيضا يحافظون على عاداتهم.
ملخص
أشار الفقهاء المسلمون منذ القرن التاسع إلى العالم الإسلامي على أنه دار الإسلام، ومع أن المصادر لا تستطرد في الحديث عن هذا المجاز، فإنني أميل إلى فعل ذلك. وفقا لهذه الصورة المجازية، فالأرض التي بنيت عليها الدار حصل عليها أول الأمر العرب الذين وضعوا أيضا أسس الدار وخططها المعمارية. كان معظم الطوب الذي بنيت منه الدار فارسيا وكذا معظم البنائين؛ وعلى مدار جزء كبير من التاريخ الإسلامي - من القرن التاسع حتى القرن التاسع عشر - كان الأتراك (الذين كانت لهم إسهاماتهم أيضا فيما يتعلق بالطعام المقدم في تلك الدار وبما احتوت عليه من بسط) ملاكها. أما عن الشيعة، فقد اعتقدوا منذ زمن طويل أن الدار بنيت على أسس متزعزعة، واليوم انقسم البناء إلى شقق فردية ذات أحجام متباينة. ومنذ القرن الثامن عشر، هيمنت على التصميم الداخلي للبناية الطرز الغربية التي تعارضت مع الديكور التقليدي في بعض الشقق؛ الأمر الذي أدى إلى ظهور بقع قبيحة المنظر. قد يقول الإسلاميون إن الشقق ليست سوى غرف في فندق رديء بحاجة إلى اهتمام عاجل؛ الأمر الذي يجعلهم يتمنون إزالة البناية بأكملها وإعادة بنائها من جديد. تحاول هذه الصورة المجازية الممتدة توضيح كيف أن شعوب التاريخ الإسلامي المختلفة تفاعلت بعضها مع البعض، واتحدت من أجل بناء شيء لكل منهم نصيبه الجوهري وقدره من المساهمة فيه مع اختلاف السبل.
هوامش
الفصل الثالث
المؤسسات
نعرف من قصة التاريخ الإسلامي كيف كانت المجتمعات الإسلامية المختلفة على مر العصور، ونعرف أيضا أن مصائر المسلمين والإسلام تأرجحت باختلاف الزمان والمكان؛ بل أحيانا في الزمان والمكان الواحد. وحتى لو قصرنا اهتمامنا على زمان ومكان معينين، ثمة مقاييس متنوعة يمكن في ضوئها قياس المجتمعات الإسلامية؛ فرغم كل ما يقال عن «العصور الذهبية» - تحت حكم الخلفاء الراشدين أو العباسيين الأوائل أو الأمويين الأندلسيين أو في أي وقت آخر - نادرا ما كان اعتناق الإسلام، والإنتاجية الثقافية الإسلامية، والحكم السياسي الإسلامي يتزامن بعضها مع بعض في أي مكان.
إلى حد ما، يمكن تفسير هذا التنوع اللافت للنظر عن طريق التعريف بالشعوب المختلفة التي برزت في التاريخ الإسلامي؛ كل بما يحمله من مخزون ثقافي خاص به. لكن ضيق المساحة يجبرنا على تقديم بعض التعميمات (التي نأمل التماس العذر فيها)؛ فبالطبع ليس كل الأتراك متفتحي الذهن مثلما أنه ليس كل الفرس فخورين أشد الفخر بثقافتهم رفيعة الشأن. ثمة طريقة أخرى لتفسير هذا التنوع وتوضيحه، وهي دراسة المؤسسات التي كانت طابعا مشتركا - من الناحية النظرية - في كل المجتمعات الإسلامية، وإن كانت مختلفة - على أرض الواقع - في الأماكن والأزمنة المختلفة من التاريخ الإسلامي. ودراسات الحالة الثلاثة المختارة هنا هي المسجد، والجهاد، والخلافة (أو الإمامة). الأولى مؤسسة مادية، والثانية دينية قانونية، أما الثالثة فتجمع بين سمات المؤسستين الأولى والثانية معا.
المسجد
في الحلقة الأولى من المسلسل التليفزيوني البريطاني الشهير «الحضارة» الذي يدور حول تاريخ الفن، علق لورد كلارك على أن المباني الرومانية الإغريقية تميزها:
نفس اللغة المعمارية، ونفس التصوير الخيالي، ونفس المسارح، ونفس المعابد؛ فيمكنك العثور عليها في أي وقت على مدار 500 سنة في جميع أرجاء دول البحر المتوسط - في اليونان، أو إيطاليا، أو آسيا الصغرى، أو شمال أفريقيا، أو جنوب فرنسا ... هذا المبنى ... هو معبد إغريقي صغير ربما وجد في أي مكان في العالم الروماني الإغريقي.
اتصفت بعض المساجد الأولى التي بنيت في الأقاليم المفتوحة بالسمات المعمارية الرومانية الإغريقية أيضا، ولكن بدلا من الإشارة إلى أن الثقافة الإسلامية كانت الوريث للتقاليد الكلاسيكية، أظهرت تلك المساجد العكس تماما. لم يحاول الحكام المسلمون أن يفرضوا طراز بناء (رومانيا إغريقيا) موحدا في كل مكان ذهبوا إليه؛ بل كانت العادات المحلية هي التي تؤثر في المسلمين الذين كيفوا المباني القائمة - ومواد البناء وأساليبه حينما كانوا يبدءون من لا شيء - بما يتلاءم واحتياجاتهم. وفقا لذلك، أثر الموروث الثقافي الروماني الإغريقي على المعمار الإسلامي فقط في الأراضي التي استولى عليها المسلمون من أيدي البيزنطيين.
ما الذي يحتاجه المسجد؟ على وجه التدقيق، ثمة نوعان من المساجد؛ الأول هو المسجد أو «مكان العبادة»، والثاني هو الجامع، وهو مسجد يقام في المدينة، ومثلما يشير الاسم فإنه يجمع المسلمين معا من أجل الصلاة وغيرها من الأمور الدينية الأخرى. ولما كانت المساجد مكانا للعبادة، فإنها تستلزم في المقام الأول وجود متعبدين وأئمة للصلاة. ومع أن بعض المتعبدين يبقون في المسجد بين الصلوات (بل يتناولون الطعام وينامون هناك)، فهؤلاء الأشخاص ربما يمثلون جزءا من أثاث المسجد وليس تصميمه المعماري. يستلزم المكان نفسه وجود مكان للوضوء قبل الصلاة (بما في ذلك المصدر الضروري للمياه النقية)، و«محراب» يحدد مكان مكة التي يتخذها المسلمون قبلة للصلاة، وأيضا - في أغلب الأحيان وليس جميعها - «منبر» تلقى منه الخطب، ومئذنة يدعى من خلالها المسلمون للصلاة خمس مرات يوميا.
شكل 3-1: مسجد في غرب أفريقيا (جينيه، مالي).
1
شكل 3-2: المسلمون في مسجد نيوجيه (بكين، الصين).
2
شكل 3-3: مسجد الحسن الثاني (الدار البيضاء، المغرب).
3
لا غرو أن أكبر مسجد في العالم هو المسجد الحرام الذي بني حول الكعبة في مكة التي يتوافد إليها ملايين الحجاج كل عام. وعلى نحو غير متوقع إلى حد ما، يقال إن ثاني أكبر المساجد هو مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء بالمغرب. المسجد الذي تم بناؤه على مدار سبع سنوات (1986-1993) على يد أكثر من 6000 شخص (عادة ما كانوا يعملون ليل نهار) يتسع لعدد 25000 شخص، وبه أطول مئذنة في العالم (نحو 213 مترا). إنه مبنى مذهل بكل المقاييس؛ حيث الأرضية الزجاجية (المبنية جزئيا فوق سطح الماء)، والسقف المنزلق الأوتوماتيكي، وأشعة الليزر التي تشير إلى مكة أثناء الصلوات الليلية، والأرضيات الرخامية الدافئة، والأبواب الكهربائية، والأسقف المزينة بالرسوم والنقوش، وأعمدة الجرانيت الأبيض، والثريات الزجاجية المستوردة من إيطاليا. ما لا يقل إثارة للدهشة عما سبق حقيقة أن الشعب المغربي (حتى الفقراء منه) تحملوا بالكامل تكلفة بناء هذا المسجد التي بلغت 800 مليون دولار.
من منظور الشريعة الإسلامية، ليست المساجد ضرورية بالأساس؛ فكل ما يحتاجه المسلم لأداء الصلوات هو سبيل للوضوء، وسطح نظيف للسجود، ودراية بموقع مكة. لذا كثيرا ما يرى زوار العالم الإسلامي مجموعات كبيرة من الرجال يؤدون الصلاة في شوارع المدن ظهر يوم الجمعة. لم تبنى المساجد من الأساس إذن؟ ولم ينفق عليها 800 مليون دولار؟ قدم الفقهاء منذ زمن عددا من الإجابات عن السؤال الأول مؤكدين على التأثير الزائد للصلاة الجماعية والأهمية الخاصة للأماكن المقدسة (مثل مكة والمدينة؛ تماما مثلما يصلي اليهود عند «حائط المبكى» مع أنهم - مثل المسلمين - يؤمنون بوجود الله في كل مكان). أما الإجابة عن السؤال الثاني فأكثر تعقيدا. من الواضح أن المسجد يتعدى كونه قاعة للصلاة؛ فقد لعبت المساجد دورين آخرين لهما أهمية تاريخية كبرى على مر القرون؛ الأول أنها رمز للانتصار والقوة موجه للمسلمين وغير المسلمين على حد سواء، والثاني أنها أداة عملية لتداول الأفكار داخل الأمة.
على مر القرون، عندما كان يفتح المسلمون أرضا، كانت لهم حرية بناء المساجد أينما شاءوا. والواقع أنه بقدر ما كانت الشريعة الإسلامية تحمي الكنائس والمعابد التابعة لغير المسلمين (ما دامت لا تطغى على دور العبادة الإسلامية)، فإن الأماكن الوحيدة المحظورة على المسلمين في هذا السياق هي دور العبادة القائمة بالفعل. على الرغم من ذلك، يزخر العالم الإسلامي - بدءا من القرن السابع وحتى القرن الحادي والعشرين - بمساجد كانت في وقت من الأوقات كنائس ومعابد. فقد بني المسجد الأقصى وقبة الصخرة المجاورة له فوق جبل الهيكل في القدس، والمسجد الأموي في دمشق كان فيما سبق كنيسة يوحنا المعمدان (وقبلها كان معبدا رومانيا)، وكنيسة آيا صوفيا تحولت على يد السلطان محمد الثاني إلى مسجد آيا صوفيا بإسطنبول (واستكمالا للقصة، فقد حول المسجد مرة أخرى إلى متحف عام 1935). وتوجد مئات الأمثلة على هذه العملية، وكذلك حالات عديدة حدث فيها التحول ولكن في الاتجاه الآخر؛ فأثناء الحملات الصليبية، حولت المساجد (التي كان العديد منها كنائس في الأساس) إلى دور عبادة مسيحية، ولم تعد مساجد مرة أخرى إلا عندما طرد الفرنجة من الأرض المقدسة عام 1291. بالمثل، بني جامع قرطبة في القرن العاشر في مكان كان معبدا ثم كنيسة حتى عاد في الثلاثينيات من القرن الثالث عشر كنيسة (وظل هكذا حتى اليوم).
وهكذا كان بناء المساجد وسيلة فعالة لنقل رسالة مفادها تفوق الإسلام على الأديان الأخرى. فالقضاء على الحضور الأبرز لثقافة منافسة في إحدى المدن يعطي إشارة واضحة بأن ميزان القوى قد انتقل بعيدا عن الموروث الأقدم، ويعيد الحسابات لصالح الإسلام. يريد معظم الناس أن يكونوا على الجانب الفائز من التاريخ، وعادة ما كان فتح الأراضي يتبع بتحول السكان المحليين إلى الإسلام على نطاق واسع. ويمكن أن تكون رسالة الانتصار التي يحملها المسجد موجهة أيضا إلى المسلمين أنفسهم، وثمة أمثلة عديدة لمساجد فريدة من الناحية المعمارية كان الهدف من تشييدها ترك انطباع محدد لدى المسلمين المحليين. لذا من المرجح أن يكون مسلمو العراق الذين شهدوا تشييد مسجد سامراء ومئذنته في القرن التاسع قد ربطوا شكل المبنى - المكون من الطوب اللبن الرافدي على شكل زقورة بابلية قديمة - بموروثات قديمة من الشرق الأدنى عن ملوك مفوضين من السماء يمكنهم الصعود إليها للحديث مباشرة مع الآلهة.
منذ العصور الأولى، استخدم الحكام المسلمون المساجد لنقل رسائل سياسية مهمة إلى المجتمعات الإسلامية البعيدة. فممثل الخليفة في المدينة كان يستحوذ على انتباه المجتمع حينما يحتشد الناس في الجامع أيام الجمعة وغيرها من الاحتفالات الدينية، وفي مثل هذه الظروف كان بإمكانه أن يذيع الرسائل الرسمية على نحو موثوق به. بالمثل، كانت الجماعات المحلية تتعهد بالولاء لخليفتها في الصلوات الأسبوعية عن طريق ذكر اسمه في الخطبة. كانت أسهل طريقة للتمرد على السلطات عدم ذكر اسم الحاكم في الخطبة أو - الأسوأ من ذلك - محاولة ذكر اسم أحد المنافسين. في عالم اليوم، تخلى في الأغلب القادة السياسيون المسلمون الذين يسعون إلى الوصول إلى أكبر جمهور ممكن عن هذه الوسيلة من وسائل التواصل مع رعاياهم ، ولجئوا بدلا من ذلك إلى وسائل الإعلام الحديثة. وبدلا من انتهاء دور المساجد، آل دورها كمدخل يستخدمه الإسلاميون للوصول إلى المؤمنين، ويتكون جمهور الإسلاميين المعتاد في الأغلب من رواد المساجد على أية حال، وهم يستفيدون أيما استفادة من حرمة المساجد. فما من سياسي - مهما بلغت درجة استبداده - يود أن يظهر بمظهر من يغير على المساجد، وحتى الرسائل المعارضة للمؤسسة الحاكمة يمكن نقلها داخل جدران المساجد مع التمتع بالحصانة.
شكل 3-4: المئذنة الملوية بالمسجد الكبير في سامراء (العراق).
4
شكل 3-5: زقورة عقرقوف (دور كريكالزو، العراق). بنيت الزقورة على يد الكيشيين (1531-1155 قبل الميلاد) وأعيدت جزئيا إلى الحكومة العراقية في السبعينيات من القرن العشرين.
5
ليس المسجد رمزا لتنوع الإسلام فحسب، وإنما يجسد أيضا مدى «طبيعية» الثقافة الإسلامية. فالمساجد في الصين تبدو «صينية» وليست عربية أو سورية أو عراقية أو رومانية إغريقية. ومن السهل تمييز المساجد التي تنتمي لعهد المغول عن تلك التي تنتمي للعهد العثماني، مع أن كلا النوعين هما - في الظاهر على الأقل - نتاج للثقافة الإسلامية التركية نفسها. الواقع أن مساجد المغول تمزج بين عناصر إسلامية وهندية، بينما تمزج المساجد العثمانية بين عناصر إسلامية وبيزنطية. وحتى عندما كان بناء المساجد وسيلة لتأكيد انتصار الإسلام على الأديان الأخرى، كان الإسلام ومعالمه تعرف بالارتباط المباشر مع المعالم الخاصة بالموروثات الدينية المحلية. وبينما كان الرومانيون متعنتين في طمس معالم الموروثات المعمارية للثقافات الأخرى، كان المسلمون مدركين دوما للسياقات المحلية، ودمجوا سمات المجتمعات السابقة داخل مجتمعاتهم، فأوجدوا في كثير من الأحيان مزيجا فريدا في نوعه بين الأنماط القديمة والحديثة. بصورة ما، يعد الإسلام أول حضارة «خضراء» (لكن لا بد من الاعتراف أن هذا قد حدث عن غير قصد) بما له من تاريخ طويل من إعادة تدوير المواد الأقدم واستخدام المنتجات والموروثات المحلية في الغالب. وهذا ليس سبب قراءة الهيبيين لشعر الرومي، لكنه لن يضر بالطبع.
الجهاد
الهيبيون القارئون لشعر الرومي أقل ولعا بالجهاد الذي قد يأتي تأييده من جهات أخرى غير متوقعة؛ فقد صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك وعضو البرلمان البريطاني جيني تونج بأنهما لو كانا قد نشآ في ظل الظروف التي يعيشها الفلسطينيون، لأصبحت تونج «انتحارية» و«لانضم باراك إلى إحدى المنظمات الإرهابية» على حد قولهما. وما لم يكن باراك وتونج مسلمين سرا في ذلك السيناريو الافتراضي الذي تحدثا عنه، فإنهما مخطئان على الأرجح في هذا الشأن. ومع أن دوافع منفذي العمليات الانتحارية معقدة من غير شك، فمن الواضح أن الانضمام إلى صفوفهم يستلزم توافر معيارين: الأول أن يكون مرتكب الجريمة مشتعل غضبا من أمر ما، والثاني أن يكون خيار تهدئة غضب هذا الشخص عن طريق العنف متاحا ومبررا تبريرا قاطعا من وجهة نظره. وفي حالة القضية الفلسطينية، نجد أن الفئة العامة المسماة جهادا - التي يعتقد أن الهجمات الانتحارية تنتمي إليها - هي التي تعطي التبرير المطلوب، وهذا يفسر سبب عدم لجوء آلاف الفلسطينيين المسيحيين لمثل هذه الأساليب مع أنهم يعيشون في ظل الظروف البائسة نفسها (وكذلك ملايين الأفارقة والهنود غير المسلمين الذين يعيشون في ظروف أسوأ بكثير). ولا شك أن الغالبية العظمى من المسلمين لا يؤيدون التفجيرات الانتحارية - ناهيك عن لجوئهم إليها - (وعادة ما يدينونها أشد الإدانة)، علاوة على أن التفسيرات غير المقترنة بالعنف لكلمة الجهاد انتشرت بين المسلمين طيلة قرون. والحقيقة أن مؤسسة الجهاد مثال رائع على التنوع الشديد للتاريخ الإسلامي في ظل تفسير عدد لا حصر له من الحكام والعلماء والمجموعات الدينية ومجتمعات بأكملها فريضة الجهاد كل على طريقته.
ظاهريا، ينبغي إفساح القليل من المجال لتلك التأويلات المتناحرة لمفهوم الجهاد، لأن القرآن يتحدث عنه (وإن كان ذلك باستخدام كلمات مبهمة، ولأن الجهاد أيضا كلمة عربية قياسية. تتكون الكلمات العربية من جذر ساكن (من ثلاثة حروف عادة)، ومجموعة من الأنماط أو الأشكال اللفظية التي يدخل فيها الجذر. ولكل من جذور الكلمات وأشكالها معان أساسية؛ وفي مثالنا فإن جذر الكلمة وهو (ج ه د) له علاقة بالنضال، وكلمة «الجهاد» نفسها اسم مشتق يعني في الأساس «فعل شيئا من أجل (أو ضد ) شخص ما». ومن ثم تعني كلمة «الجهاد» حرفيا «النضال ضد شخص آخر». يخبرنا القرآن أن الجهاد يكون «في سبيل الله» وضد «المشركين» (سورة التوبة: الآية 5) أو «أهل الكتاب» ما لم يفوا بشروط معينة (سورة التوبة: الآية 29). وإجمالا، قد يكون المعنى الأساسي لكلمة «جهاد» «النضال الديني ضد المشركين و[مجموعات معينة] من غير المسلمين». دعونا نركز فحسب على مصطلح «الجهاد».
مع أن هذا التعريف قد يبدو مباشرا، فإن له العديد من التأويلات (المتعارضة عادة)، وذلك لعدد من الأسباب. أولا، نادرا ما يستقي المسلمون التعاليم الدينية مباشرة من القرآن. لقد صيغت الشريعة عن طريق تحليلات العلماء الذين يفهمون الآيات القرآنية ويفسرونها بما يتفق والمصادر الأخرى لأحكام الدين. يرى معظم هؤلاء العلماء أن الجهاد يعني «حربا تهدف إلى نشر الإسلام»، وهي عبارة مفتوحة في حد ذاتها أمام التأويل. هل كان نشر الإسلام يهدف إلى كسب النفوذ السياسي على الآخرين (كما كان الحال مع الرومان والمغول) أم اعتناق الدين (كما الحال مع الإرساليات البوذية والمسيحية)؟ اتفق الجميع على أن الإجابة هي «كلا الأمرين معا» مع إعطاء الأولوية للتحول إلى الدين، واعتبار النفوذ السياسي حجر الأساس في طريق الاعتناق النهائي. اتفق أيضا على أن «الجهاد» فرض على المجتمع ككل؛ وإن كان للمسلمين الأفراد حرية السعي وراء أشكال الجهاد التي يختارونها لنيل الرضا الإلهي، بصرف النظر عن الجهود الجماعية. وما لم يتفق عليه بالإجماع هي تلك الأسئلة بشأن من يستهدفهم الجهاد والظروف التي يشن فيها (وغيرها من القضايا الأخرى). المرتدون عن الإسلام صيد مباح وفقا لتقدير الجميع، لكن ماذا عن اليهود، والمسيحيين، والهندوس، والوثنيين؛ وأيضا - وهو الأهم في نظر الكثيرين في الغرب - الملحدين والمرتدين عن الأديان الأخرى؟ تتحلى معظم السلطات الحاكمة برؤية سمحة للأمور، وتمنح صفة «غير المسلمين الذين يمكن التعايش معهم» لنطاق واسع من المجموعات. على الطرف الآخر، ينظر بعض المتطرفين إلى غير المسلمين جميعهم وحتى أولئك المسلمين الذين يختلفون معهم بشأن أمور تخص العقيدة أو الشريعة على أنهم زنادقة لا بد من هزيمتهم. ويرى بعض رجال الدين أن الجهاد ينبغي أن يكون مبادرة إسلامية، في حين يرى آخرون أنه لا يجب اللجوء إليه إلا كرد فعل لاستفزاز خارجي.
ثانيا، مثلما يرى أي شخص مرور السيارات في الشوارع، فإن نص القانون لا يطبق دوما على أرض الواقع؛ لذا فإنه حتى لو حدث اتفاق بين كل العلماء المسلمين حول جميع القضايا، فسوف تكشف الحقائق على أرض الواقع عن تنوع (وما إن تنشأ السوابق حتى تجد سبيلها للتكرار). ومن ثم فإنه كان من الأسهل جغرافيا على الحكام في الأناضول وشبه الجزيرة الأيبيرية والهند مثلا بسط حدود الإسلام من الحكام في شبه الجزيرة العربية أو العراق. ومن الناحية السياسية، يمكن ألا يلتزم بإملاءات كتب الشريعة المكتوبة في ظل خلافة قوية حينما يعتري الدولة ضعف، فضلا عن أن حقائق شن الجهاد كثيرا ما تعارضت مع النظرية القانونية.
ثالثا، أفسحت المناهج الدينية المتنوعة على مر القرون المجال أمام التأويلات العديدة لمفهوم الجهاد. فبدءا من القرن التاسع، وتحديدا في القرن العاشر، قسم العديد من المسلمين - الذين تأثروا بالاتجاهات الصوفية (الشيعة الاثني عشرية على سبيل المثال)، والاتجاهات الروحانية (الصوفيين)، وبالهجمات المسيحية ضد زعم الإسلام بأنه دين سلام - الجهاد إلى نوعين؛ النوع الأول أطلقوا عليه اسم «الجهاد الأصغر» وهو الالتزام المألوف بنشر الإسلام على حساب الأديان الأخرى، ولا يلجأ إليه إلا كإجراء دفاعي. والنوع الثاني هو «الجهاد الأكبر»، وهو واجب عام يقع على عاتق جميع المسلمين لدرء أهوائهم الآثمة. ومع أن هذا التمييز منسوب إلى النبي محمد نفسه، فواضح من السجل التاريخي أن معظم الحكام (والعديد من المسلمين) عارضوا مثل هذه التأويلات. ومع ذلك، فالنقطة المهمة أن هذه التأويلات كانت موجودة ليتبناها أولئك الذين يمقتون العنف حتى وإن كان دفاعيا، ويتبناها - حديثا - المدافعون عن الإسلام الذين يزعمون أن الجهاد كان دفاعيا أو صراعا داخليا طوال الوقت.
وأخيرا، حتى لو استقر المرء على تأويل معين لواجب «الجهاد» - لنقل تأويلا لينا لا يكون الجهاد المادي وفقا له سوى وسيلة دفاعية، ولا ينبغي أن يستهدف مدنيين أبرياء بأي حال - فربما تظل هناك اختلافات كبيرة في فهم المصطلحات ذات الصلة. مما لا شك فيه أن التأويل اللين المستخدم هنا سوف يروق للغالبية العظمى من المسلمين الذين يرون الجهاد معركة شخصية ضد الإغواء، والذين سيجرون إلى الحرب المادية فقط عندما يتعرضون للاستفزاز على يد أولئك الذين يهددون الإسلام نفسه. وحتى عندئذ، لن تزهق أرواح الأبرياء. النقطة المهمة هنا أنه من المرجح أن يكون المتطرفون أمثال الضالعين في الهجمات التي استهدفت شبكة النقل والمواصلات في لندن في السابع من شهر يوليو عام 2005، مؤيدين لهذا التأويل الذي يبدو لينا. لكن المتطرفين يرون أن الإسلام يتعرض للهجوم (بدليل الاستخدام المتسم بقلة التمييز لعبارة «الحرب على الإرهاب» من قبل بعض الحكومات الغربية)؛ ومن ثم يكون الجهاد الدفاعي ضرورة، ولا يكون غير المقاتلين الذين قتلوا في الهجمات أبرياء على الإطلاق؛ ففي الدول الديمقراطية يتحمل الناخبون المسئولية الكاملة عن أفعال حكوماتهم (ويقصد بها في هذه الحالة عداء بريطانيا (حسبما يراه المتطرفون) للمسلمين في العراق وأفغانستان).
هكذا تكون الميزة الرئيسية التي يروج لها المتطرفون الإصرار على أن جهود الجهاد العالمية ذات طابع دفاعي. وهذا الأمر يجعل الجهاد على الفور مغريا للمسلمين الذين ربما يشعرون بأنهم محاصرون بشيء ما؛ إما الثقافة الغربية، أو المجتمعات غير الإسلامية التي يعيشون فيها، أو مسار التاريخ (الذي يشعرون أنه يتجاوزهم مع أن أسلافهم حكموا العالم في وقت من الأوقات). إذا استشعر المسلمون في المجتمعات الغربية أنهم معرضون لرهاب الإسلام أو ممنوعون من ممارسة الإسلام، فسيكون لزاما عليهم حينئذ إيجاد الظروف الضرورية لتطبيق الشريعة، وذلك عن طريق إقامة دولة إسلامية في مكان لا توجد به بالفعل. يرى بعض الإسلاميين (أمثال أسامة بن لادن وأتباعه) أنه لا توجد دولة إسلامية مقبولة في أي مكان، وأنه لا بد من إقامة الخلافة من الأساس وبالقوة. وهكذا فإنه كي نستوعب مفهوم الجهاد الذي يتبناه تنظيم القاعدة، لا بد أن نعي الطبيعة (المبهمة إلى حد ما) لمفهوم الخلافة نفسه.
الخلافة أو الإمامة
العديد من المجموعات الإسلامية - إن لم يكن معظمها - تحدوها الآمال في إقامة الخلافة؛ أي دولة إسلامية موحدة يقودها خليفة. والبعض (أمثال «حزب التحرير») يرى أن إقامتها هو هدفهم الوحيد. وعلى الأرجح يرحب الكثيرون من المسلمين ممن يتبعون النهج السائد في المجتمع نظريا بتجديد عهد الخلافة، لكنهم يشعرون بأنهم ليسوا هم المسئولين عن تحقيق ذلك. أما الإسلاميون فيعتقدون أنه لزام على المجتمع ككل شن الجهاد من أجل توسيع حدود الدولة الإسلامية. ولكن في ظل عدم وجود دولة إسلامية ولا مجتمع موحد، لا بد أن يكون هدف الجهاد - في الوقت الحالي - هو إقامتهما. وحتى من وجهة نظر أولئك المسلمين الذين يرون الجهاد مجرد امتناع عن تناول الفطائر المعدة باستخدام لحم الخنزير أو عن ألعاب الكمبيوتر غير اللائقة، ثمة الكثير من العوامل التي تزكي فكرة العيش تحت مظلة الخلافة. فحينئذ فقط، سوف تتسنى للمسلمين الحرية الحقيقية لممارسة طقوس الدين دون تقديم اعتذارات عن ذلك. علاوة على ذلك، سوف تعمل الخلافة على توحيد الأمة، ومن ثم سوف تحرر القدرات السياسية والاقتصادية والعسكرية الهائلة في العالم الإسلامي. يقول الإسلاميون إن علل المجتمعات الإسلامية الحديثة ترجع كلية إلى الانقسامات داخل الأمة؛ حيث الحدود الزائفة التي تفرضها قوى الغرب، والأشكال المتنوعة من الحكومات (الفاسدة كلها) التي يعيش تحت حكمها المسلمون (كجزء من مخطط غربي مرة أخرى)، وغير ذلك. بتوحيد الأمة، سوف تعيد الخلافة المسلمين إلى قيادة العالم. فأي ضير في ذلك؟
لا شيء بالطبع، وليست المشكلة في رفض المسلمين فكرة الخلافة على مدار التاريخ، وإنما في عدم اتفاقهم على شكلها وتفاصيلها. المفارقة أنه بدلا من توحيد الأمة، تسببت النزاعات بشأن الخلافة في تقسيمها - سياسيا ودينيا - أكثر من أي فكرة أو مؤسسة أخرى. إلى هذا الحد، تكون الخلافة مثالا نموذجيا لتنوع المجتمعات الإسلامية والتاريخ الإسلامي.
توفي النبي محمد عام 632 بعد أن حكم الدولة الإسلامية سياسيا ودينيا منذ قيامها عام 622، وكان لا بد من شخص آخر يتولى مسئولية شئون الدولة في غيابه. لكن من يكون هذا الشخص، وكيف يجري اختياره؟ أشار أحد الحلول المقترحة باجتماع زعماء القبائل معا واختيار المرشح الأنسب من بين قبيلة محمد (قريش). هذا ما يظنه أهل السنة، ومبدأ الشورى هذا هو الأساس الذي اختير وفقه بعض الخلفاء الأوائل. لكن ماذا لو كان محمد نفسه - بوحي من الله - قد رشح بالفعل خليفة مناسبا في حياته؟ يظن الشيعة أن هذا هو ما حدث، وأن عليا هو من وقع عليه الاختيار، ومن ثم يعتقدون أن الخلافة ينبغي أن تنتقل عبر الذرية المباشرة لعلي من جيل لآخر. وكما رأينا في الفصل
الأول ، طالما اختلف الشيعة على الخط الفاصل الدقيق لسلالة الإمام؛ الأمر الذي أوجد مزيدا من الانقسامات. وماذا لو اتضح أن عليا قائد مخيب للآمال في ظن أولئك الذين وصفوا بالخوارج؟ هؤلاء يرون أن الخليفة ينبغي أن يكون أكثر المرشحين ملاءمة للمنصب بغض النظر عن نسبه (وعندما اتضح لهم أن عليا ليس الشخص الملائم، قتلوه). رأى آخرون أن الكلمة الفصل ينبغي أن تكون لقدرة القائد على الإمساك بزمام الدولة. وعلى كل حال، إذا كانت كل الأحداث بيد الله، وكان الله هو من يهب السلطة لشخص معين أو أسرة معينة، فمن ذا سيعترض؟ هذه كانت وجهة نظر الأمويين. يمكن الاستطراد في طرح المزيد من وجهات النظر، لكن لا بد من توضيح أمر؛ وهو أن الخلافة لم تفشل في توحيد الأمة فحسب، بل كانت السبب الرئيسي وراء حدوث الانقسامات داخلها. وبدلا من إطلاق العنان للقوة الجمعية للأمة، أهدر المسلمون على مدار التاريخ الإسلامي جل طاقاتهم الفكرية والجسدية في صراعات نشبت بينهم وبين بعضهم البعض بشأن هذا الأمر.
ثمة تنوع كبير أيضا شهدته الآراء في العالم الإسلامي بشأن طبيعة مؤسسة الخلافة. ماذا كان دور الخليفة (أو الإمام وهو المصطلح المستخدم نظريا لدى أهل السنة وعمليا لدى الشيعة)؟ كان الحكم السياسي للأمة حقيقة مسلما بها، لكن ماذا عن الزعامة الدينية؟ اعتبر البعض ومن بينهم الأمويون والعباسيون الأوائل والشيعة أيضا أن للخليفة/الإمام سلطة دينية. هذا الافتراض تؤيده حقيقة أن الخلاف بشأن مؤهلات الخليفة تسبب في ظهور طوائف وليس أحزابا سياسية. واختلف معهم آخرون مثل العلماء والعباسيين الذين جاءوا بعد «محنة خلق القرآن» (فيما عدا استثناء واحد أو اثنين في القرن الثاني عشر). وما الذي يمكن فعله حينما يعلم الناس من يكون الخليفة/الإمام - مثلما يفعل الشيعة أو مثلما فعلوا - غير أن الحكم السياسي للأمة مخول للشخص غير المناسب؟ هل ينتظرون حتى يعيد الله السلطة إلى إمامه، أم يشرعون في تحقيق ذلك على الفور؟ حلت هذه المشكلة لدى الكثيرين من الشيعة عندما اختفى إمامهم المختار في نهاية القرن التاسع، الأمر الذي حثهم على التصوف. الشيعة الآخرون الذين استمر وجود أئمتهم عادة ما تبنوا مذهب الفعالية، وظهر أشهرهم في ظل حكم الفاطميين.
بدءا من منتصف القرن العاشر تلقت هيبة منصب الخلافة ضربة قاصمة؛ ففي الأراضي العباسية وأثناء حكم البويهيين الشيعة، اختزل الخليفة (السني) إلى شخص يضفي الشرعية على الحكم «الفعلي» لآخرين. وفي الوقت نفسه، ظهر معارضو الخلفاء وذلك في ظل حكم الفاطميين والأمويين الأندلسيين. وبحلول القرن الثالث عشر تدنت مكانة المنصب أكثر بعد قضاء المغول على الخلافة العباسية في العراق، وتنصيب المماليك لخليفة عباسي «صوري» في القاهرة. والغريب أن هذا الخليفة أجاز بدوره مرتبة الخلافة لآخرين، وأبرزهم العثمانيون (الذين لم يستطيعوا ادعاء انتسابهم إلى سلالة شريفة؛ إذ لا يمتد نسبهم إلى قريش، بل ينتسبون - حسب الأسطورة - إلى أنثى ذئب رمادي، كما كان حال الرومان القدماء). ووصل الأمر إلى حد أن الخليفة العباسي في القاهرة عين خلفاء آخرين توافق منصبهم مع منصبه؛ ففي عام 1484 منح الخليفة العباسي المملوكي لقب «الخليفة» إلى علي جاجي بن دوناما الذي حكم بورنو (في الفترة 1476-1503)، بعد أن كان قد قام بالأمر نفسه قبل سنوات قليلة مع أسكيا محمد الذي حكم سونغاي (في الفترة 1493-1528).
عندما كان يريد معارضو الخليفة القضاء على ادعاءاته بالشرعية، كانوا عادة يطلقون عليه لقب «الملك». في القرآن، الملكية قاصرة على الله، وفي عهد محمد كان الرجال الذين يحملون هذا اللقب كفارا مستبدين مثل القيصر البيزنطي والشاه الساساني. وعلى الرغم من أنه أعيد إحياء الألقاب القديمة - ومن بينها لقب «ملك» - في الأراضي الفارسية بدءا من القرن العاشر، فإن الحكام المسلمين غرب إيران لم يتخذوا هذا اللقب لأنفسهم طواعية إلا تحت التأثير الغربي، وهو ما بدأ مع الشريف حسين («ملك الحجاز» من عام 1916) وابنه فيصل (ملك سوريا ثم العراق). وسرعان ما ظهر الملوك المسلمون في مصر، والحجاز، ومملكة نجد والحجاز المعروفة منذ عام 1932 باسم المملكة العربية السعودية. بعدها حذت المغرب وليبيا والأردن الحذو نفسه. ويرى الإسلاميون أن هذا دليل آخر على هيمنة الغرب على الأراضي الإسلامية؛ فوجود «مملكة» تحكم مكة والمدينة أمر يثير الحنق الشديد، ولا عجب في أن منظمات مثل «حزب التحرير» محظورة في المملكة العربية السعودية.
على مدار التاريخ الإسلامي، زعم بعض الرجال أنهم صنوف أخرى من زعماء الأمة المفوضين من الله. بعض هؤلاء أعلنوا أنهم المخلصون المسيحيون («المهديون»، وهم كثر وربما يكون أشهرهم مهدي السودان في الفترة 1881-1889)، بينما لم يكن الآخرون سوى مصلحين دينيين مثل السلطان المغولي أكبر، وحاكم إيران الأفشاري نادر شاه (الذي حكم البلاد في الفترة 1736-1747). ومع ذلك جمع آخرون سمات زعماء شتى؛ فقد زعم والاس فارد محمد - مؤسس حركة «أمة الإسلام» - أنه المهدي المنتظر وأيضا نسخ لروح المسيح (وجعل إلايچا محمد نبيا له). وأحيانا كانت الطبيعة الهرطقية لادعاء أحد القادة أكبر بكثير من أن يتحملها حتى كيان مرن كالإسلام، وهو ما كان يؤدي إلى نشأة أديان منفصلة مثل الدرزية والبهائية.
إن كان أحد أهدافك في الحياة أن تقابل خليفة أو إماما، فلا تبتئس؛ إذ الخلفاء والأئمة موجودون حتى في عصرنا اليوم؛ فآغا خان الرابع هو الإمام الحالي للجماعة الإسماعيلية النزارية (وهو الإمام التاسع والأربعون من نسل علي)، والجماعة الإسلامية الأحمدية تتبع الخليفة ميرزا مسرور أحمد (الذي تولى خلافة الجماعة منذ عام 2003 حتى اليوم)، وهو الخليفة الخامس لميرزا غلام أحمد الذي زعم عام 1889 أنه المهدي، والمسيح، ومجدد الإسلام. الأحمدية والنزارية منتشرتان على نطاق واسع، ولهما ملايين من الأتباع في جميع أنحاء العالم. وهناك خلفاء آخرون - مقبولون على نطاق أضيق يظهرون من آن لآخر - من بينهم ميتين كابلان (ولد عام 1952) الذي نصب نفسه «خليفة كولونيا» والذي يقضى عقوبة السجن مدى الحياة في أحد السجون التركية لمحاولته الإطاحة بالحكومة التركية وإقامة خلافة محلها.
حري بنا أن نضع في الاعتبار أنه حتى المحاولات الناجحة لإعادة حكم الأمة إلى الخليفة/الإمام الشرعي تكاد دائما أن تقاد - بفعل مطالب الحكم الفعلي - نحو التخلي عن أهدافها وادعاءاتها الأولى، والرجوع إلى الممارسات نفسها التي استنكرتها في مراحلها الثورية. هكذا كان حال العباسيين، والفاطميين، والمرابطين، والصفويين، وآخرين كثيرين في التاريخ الإسلامي وتاريخ العالم بصورة عامة (فيما يتعلق بالثورات السياسية). أما عن الدعوات الحالية لإعادة إقامة الخلافة، فهي تتبع نماذج متوقعة؛ وما يصعب توقعه هو الشكل النهائي لأي خلافة مستقبلية.
هوامش
الفصل الرابع
المصادر
كيف نعرف ما نعرف من معلومات عن التاريخ الإسلامي؟ نظريا، لما كان التاريخ «الإسلامي» فرع من التاريخ بصورة عامة، فإن الأدوات والوسائل التي يستخدمها مؤرخو المجتمعات الأخرى متاحة أيضا - بدرجة أكبر أو أقل - لمؤرخي الإسلام. وبطبيعة الحال، فإن مصادر كل فرع من فروع التاريخ تكون خاصة به، ومصادرنا عن بعض الفترات والمناطق أفضل من تلك المتاحة عن غيرها؛ ففي بعض الحالات يكون لدينا عدد قليل من المصادر التي تكشف عن الكثير، وفي حالات أخرى يكشف قدر هائل من المصادر عن معلومات أقل بكثير مما يتوقع منها.
في عامي 1977 و1978 نشرت أربعة كتب خاطبت مؤرخي الإسلام بأن أداءهم دون المستوى؛ فقد انتقد كتاب «الاستشراق» للكاتب إدوارد سعيد الباحثين الإسلاميين على أمور عدة من بينها إيجاد مجال دراسة يتعالى على المجتمعات الإسلامية التي يدرسونها ويوجه النقد لها. أيضا أخبرت كتب «دراسات قرآنية» و«البيئة الطائفية» لجون وانسبرو و«الهاجرية» لكل من باتريشيا كرون ومايكل كوك الإسلاميين بأنهم ليسوا ناقدين بدرجة كافية (بالمعنى البحثي لا التقييمي للكلمة). على مدار العقود الثلاثة الماضية، أجبر الباحثون على الانشغال بالأفكار المطروحة في هذه الكتب، ولو من أجل تفنيدها فحسب. عموما، يعمل المؤرخون على نوعين من المواد المكتوبة: مصادر رئيسية (كتبها أشخاص «تحت» مجهر التاريخ)، ومصادر ثانوية (كتبها أشخاص ينظرون «من خلال» المجهر). يهتم كتاب إدوارد سعيد بالمصادر الثانوية، وسوف نتطرق إليه في الفصل التالي؛ بينما تتعلق أعمال وانسبرو وكل من كرون وكوك بالمصادر الرئيسية، وسوف نناقشها في هذا الفصل.
مصادرنا عن التاريخ الإسلامي بعد عام 1100 (وفقا للتسلسل الزمني الوارد في الفصل
الأول ) في الأغلب من النوع الذي سيكون مألوفا لمؤرخي المجتمعات الأخرى. لقد كتب الناس في هذه القرون كتبا عديدة عن العديد من الموضوعات، وما إن نقرأ هذه الكتب حتى يصبح بوسعنا محاولة إعادة بناء وتحليل العالم الذي تصفه. ولا شك أن المؤرخ الحذر سوف يحترز من الروايات المضللة أو المتحيزة (أو مما قد يظنه البعض انحيازا لا مفر منه يصطحبه كل كاتب إلى كتاباته)، لكن فيما عدا ذلك ستكون دراسة التاريخ الإسلامي شبيهة بوجه عام بدراسة التاريخ الأوروبي على سبيل المثال. والواقع أنه بحلول هذه الفترة، وبسبب أحداث أشرنا إليها في الفصل
الأول ، فإن بعض مصادرنا عن المجتمعات الإسلامية هي وثائق وتقارير أوروبية. على سبيل المثال، ترك لنا جان شاردان (الذي توفي عام 1713) سردا عن رحلاته من فرنسا إلى الشرق الأدنى وإيران، جاء في عشرة مجلدات. بالمثل، تأتي معرفتنا بالعلاقات الأوروبية-العثمانية من الوثائق الأوروبية والعثمانية أيضا. الأمر نفسه ينطبق على مجتمعات دول البحر الأبيض المتوسط في الفترات السابقة عندما تفاعل المسيحيون من جنوب أوروبا والمسلمون من شمال أفريقيا والشرق الأدنى على نحو متكرر؛ تاركين كما وفيرا من الآثار الأدبية والوثائقية عن هذا التفاعل يمكن للمؤرخين الآن الاستفادة منه. ومن هذا السياق يأتي أحد أهم مصادرنا عن التاريخ الإسلامي، وهي جنيزة القاهرة. يستحق هذا المصدر - الذي لا مثيل لطبيعته ومحتوياته في المجتمعات الأوروبية - تسليط الضوء عليه في هذا الفصل.
تتكون جنيزة القاهرة من نحو 250000 مخطوطة اكتشفت في معبد يهودي مصري في نهاية القرن التاسع عشر. يعارض اليهود (والمسلمون أيضا) التخلص من الوثائق التي يذكر فيها اسم الله. ولهذا السبب، تودع الوثائق الدينية التي لم يعد يرجى منها فائدة (لأنها ممزقة أو غير ذات صلة) في مكان آمن. ويبدو أن اليهود في القاهرة الفاطمية قد وسعوا هذا النطاق ليشمل الوثائق التي تتعلق بالله أو بالقضايا الدينية بوجه عام، بل والوثائق المكتوبة بالأبجدية العبرية (المقدسة في نظرهم). ولأن اليهود الذين عاشوا في الأراضي الإسلامية عادة ما كانوا يكتبون باللغات المحلية (مثل العربية والفارسية) مستخدمين الحروف الأبجدية العبرية، تضم جنيزة القاهرة مجموعة من الوثائق فائقة التنوع تتعلق بكل جوانب الحياة في ظل الإسلام في مصر الفاطمية، وفلسطين، وسوريا، وكذلك جنوب أوروبا، وشمال أفريقيا، واليمن، وأراضي أخرى كان هذا المجتمع اليهودي على صلة بها. ومع أن معظم المصادر الواردة من الأراضي الإسلامية قد كتبتها يد النخبة المثقفة، تضم مصادر الجنيزة بوجه عام سجلا لأحداث الحياة اليومية بين عامة الناس، وتمدنا بعرض سريع ثري بالتفاصيل للتاريخ الإسلامي فيما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر. «في أرض قديمة» رواية تاريخية للروائي أميتاف جوش اعتمدت على هذه الوثائق؛ وكتاب «مجتمع بحر أوسطي» الواقع في خمسة مجلدات للمؤرخ شلومو جويتين هو تحليل وإعادة بناء بارعة لحياة أولئك الذين أسهموا في تكوين الجنيزة. لذا فالجنيزة هي أهم مصادرنا لتكوين رؤية تصاعدية للتاريخ الإسلامي.
الفترة ما بين عامي 800-1100 التي ترجع إليها العديد من وثائق الجنيزة هي أيضا الفترة التي تنعكس فيها الرؤية التنازلية للتاريخ الإسلامي في مجموعة هائلة من الأعمال الأدبية كادت جميعها تكتب باللغة العربية (الاستثناءات العارضة كانت أعمالا فارسية من الشرق). وبسبب الثورة الورقية المشار إليها في الفصل
الأول
من ناحية، والمسار الممتد حتما الذي تتطورت خلاله مثل هذه الموروثات المركبة والمعقدة، فإن أي عمل ذا أهمية أساسية للفقه الإسلامي، واللاهوت، والدراسات القرآنية وعلم الحديث، والتأريخ - الأكثر أهمية لنا - يرجع إلى هذه الفترة. قبل ذلك الحين، كانت الوثائق الإدارية هي وحدها التي تدون بانتظام. جدير بالملاحظة أنه حتى الأعمال المنسوبة للمؤلفين الأوائل ارتبطت بالكتابة أول ما ارتبطت في هذه الفترة. من المؤكد أن المسلمين كتبوا أعمالا في الفترة من عام 600 إلى عام 800؛ فبعض أجزاء القرآن نفسه وبعض قصائد الشعر الإسلامي الأولى مثلا يمكن القول استنادا إلى دليل داخلي (هو أنه يغلب عليها ألفاظ مهجورة لغويا) أنها كتبت قبل القرن الثامن، لكن لا يوجد الكثير بخلاف ذلك. نقل ابن إسحاق (الذي توفي عام 767) إلى تلاميذه سيرة محمد، وقرأها الناس (في صورة كتاب) وتحدثوا عنها، وأعادوا صياغتها. ونحن نعلم عن هذا الأمر ليس لأن سيرة ابن إسحاق قد بقيت، وإنما لأن إحدى النسخ المنقحة التالية - التي كتبها ابن هشام (الذي توفي عام 838) - باقية. حتى الشعر العربي الجاهلي المعروف لنا هو شعر جاهلي «كما حفظه أدباء القرن التاسع». وهكذا فإن المصادر الأدبية من الفترة 800-1100 ذات أهمية كبيرة لنا، لإعادة تجميعها الأمور التي وقعت في الفترة السابقة لها. يثير هذا الأمر العديد من الأسئلة (التي تؤدي بدورها إلى العديد من الإجابات) المهمة جدا في دراسة التاريخ الإسلامي كما سنرى الآن.
مصادر الفترة 600-800 (وأوجه قصورها)
في عام 1972 اكتشفت «جنيزة» إسلامية في اليمن تحتوي على عشرات الآلاف من المخطوطات القرآنية التي يرجع تاريخ بعضها إلى نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن. حتى ذلك الحين، كان دليلنا الأول على الآيات القرآنية يأتي من قبة الصخرة في القدس (نحو عام 692)، أما «اللغة» الإسلامية الأولى والثقافة بوجه عام فنقلت إلينا من آلاف الوثائق التي لا تزال باقية (وهي في الأغلب ورق البردي من مصر) والنقود المعدنية من القرنين السابع والثامن. يخبرنا ورق البردي شيئا عن إدارة مصر منذ القرن الأول للحكم الإسلامي، موضحا كيف غير أو لم يغير ظهور الإسلام هناك من الأوضاع القائمة على أرض الواقع. وتوجد النقود المعدنية من مختلف أنحاء الخلافة بأعداد هائلة، وهي تخبرنا بمعلومات عن الخلفاء، والولاة، والمتمردين ضعاف التأثير في الأقاليم البعيدة. تمدنا التواريخ الخاصة بعهد أحد الحكام، والألقاب التي اختارها لنفسه، والنقوش التي حفرها على عملاته بتفاصيل ترتبط بالمشهد السياسي في زمان ومكان معينين.
لكن حتى عند تجميع هذه المصادر، فإنها لا يمكن أن تمدنا بسرد تفصيلي متواصل للقرن الأول أو نحو ذلك من التاريخ الإسلامي. ولهذا السبب لا بد أن نعتمد على السجلات الأدبية الغزيرة والمفصلة إذن لهذه الفترة، والمكتوبة (على الأقل في شكلها الحالي) في الفترة من عام 800 حتى عام 1100. يخبرنا القرآن بالقليل عن محمد وظهور الإسلام؛ وتأتي الأحاديث المروية عن محمد وأصحابه، وسيرة محمد، وأخبار الفتوحات الإسلامية الأولى هي التي تملأ هذه الفجوات. تتميز تسجيلات الأحداث العربية بأنها مفصلة للغاية وتطرح المعلومات الخاصة بتلك المصادر الأخرى ضمن إطارها التاريخي الأعم، فتبدأ غالبا بخلق العالم وتستمر في القرنين التاسع والعاشر. أما من حيث الكم، فإننا نستفيد من المصادر التي تصف هذه الفترة أكثر من مؤرخي غرب أوروبا، أو بيزنطة، أو الهند، أو الصين في الفترة نفسها. وتلك هي الأخبار السارة. أما الأخبار الأقل إثارة للسرور فهي أن هذه المصادر تكتنفها إشكاليات تأريخية على نحو ما حدده (عموما لا حصرا) الباحثون المعاصرون.
شكل 4-1: «تانكا» ذهبية لسلطان دلهي قطب الدين مبارك شاه الأول (الذي حكم البلاد من عام 1317 حتى عام 1321). تعكس فئة «التانكا» وكذلك شكلها المربع التأثير الهندي فيما قبل العصر الإسلامي. أما النقش العربي على العملة - الذي يوصف فيه السلطان بأنه «أمير المؤمنين» و«الخليفة» - فهو لا شك إسلامي.
1
حتى عندما يصف كتاب العصر العباسي النصف الأول من القرن الثامن (الذي ربما قد عاصروه بصورة مباشرة)، لا بد من غربلة رواياتهم من الدعاية المناوئة للأمويين؛ فهذه المصادر ليست تؤيد العباسيين عن وعي فحسب، بل تؤيد الشرق (عن وعي أقل) أيضا، بمعنى أنها تركز على إيران والعراق أكثر من تركيزها على سوريا ومصر وشمال أفريقيا وشبه الجزيرة الأيبيرية (مع أن هذه المناطق الفردية قدمت أعمالا خاصة بها أقل بكثير كما وتأثيرا). ويمكن فهم هذه التحيزات إلى حد ما؛ فلماذا قد يفعل المؤرخون العباسيون المقيمون في العراق والمنحدرون من أصل فارسي (وهذا وصفهم إجمالا) خلاف ذلك؟ في النهاية كلنا نعرف أن التاريخ يكتبه المنتصرون، وهؤلاء المنتصرون لم يحملوا عبء المفاهيم المرتبطة بالصواب السياسي. لكن المصادر العباسية المتاحة عن بداية الإسلام مشكوك فيها أيضا لأسباب أقل وضوحا.
تخيل أنك وجدت ضيفنا المريخي أمام بابك. العقبة الأولى المتمثلة في محاولة فهم من يكون هذا الكائن، ومن أين أتى، ولماذا أتى، هي عقبة لغوية. فما إن نعرف لغته، حتى يمكننا سؤاله أي شيء. لكن ما الذي سنفهمه من إجاباته؟ هل نفترض أن معايير الدقة التي نطبقها في الغرب المعاصر يطبقها أهل المريخ أيضا؟ حتى لو قررنا أنه ملم بمعاييرنا وصادق في محاولاته الوفاء بتلك المعايير، هل نتوقع منه أن يتذكر أي شيء عن مولده وطفولته، أو أن تكون آراؤه عن والديه وأسرته وأصدقائه منصفة (لا تشوبها شائبة)؟ وما الذي نفهمه من التناقضات العديدة التي قد نجدها في شهاداته؟
في بعض النواحي، يكون التعامل مع المصادر الأدبية لتاريخ الأديان العالمية المبكر أكثر صعوبة من التعامل مع الشهادات التي يدلي بها سكان المريخ. يسوء فهمنا لليهودية الأولى والمسيحية الأولى (إذا أخذنا مثالين) بسبب أوجه القصور التي تضفي غموضا إلى صورتنا عما حدث في الفترة التشكيلية لهاتين الديانتين؛ وأهمها حقيقة أنه لا توجد فعليا مصادر معاصرة يمكن التحقق منها، وأن هذه أحداث تاريخية مخاطرها اللاهوتية والروحانية والسياسية مرتفعة للغاية (مما يجعلنا نتشكك في الروايات التي قد تفيد سارديها).
ودراسة صدر الإسلام لا تختلف عن ذلك. حتى لو افترضنا أن مصادرنا اللاحقة قد راعت الدقة في نقل رواياتها (وهو افتراض سنعود إليه تفصيلا فيما يلي)، فلا تزال هذه المصادر تطرح مشكلتين مرتبطتين إحداهما بالأخرى. أولا، يمكن أن تكون المصادر متعارضة؛ فتمدنا في بعض الحالات بعشرة روايات متعارضة لحدث واحد. ثانيا، كثيرا ما ترتبط هذه المصادر بموضوعات مثقلة بالمعاني السياسية والدينية مثل حق مجموعة معينة في الحصول على الأموال التي تقدمها الدولة (إذ كانت لأسبقية الدخول في الإسلام، أو المشاركة في الفتوحات الأولى تبعات مالية مباشرة على كثير من المسلمين)، أو الممارسة الصحيحة للشعائر الإسلامية (فإذا أوضحت رواية تاريخية أن محمدا أو أصحابه فعلوا شيئا ما بطريقة معينة، يمكن لتلك الطريقة أن تكون سابقة ملزمة قانونا). لذا، فإن ما قد يبدو لنا تاريخ «دنيوي» تشكله في الواقع وإلى حد كبير قضايا دينية وقانونية. لهذا السبب فإن مؤرخا بارزا مثل الطبري (الذي سنلتقيه لاحقا) قد قدم «عدة» روايات للحدث نفسه، دون أن يعبر عن رأيه بشأنها؛ فلكي يكون مؤرخا نافعا وموضوعيا، كان عليه أن يقصر مهمته على تقديم الخيارات الموجودة لقرائه الذين قد يوظفون واحدة من الروايات دعما لوجهة نظرهم. وقد أوضح الباحثون المعاصرون أن العديد من الأحاديث النبوية أو الأخبار التاريخية المتضاربة تشكلت كجزء من مناظرة فقهية بين المذاهب المحلية وأتباعها؛ وهو ما قد يفسر سبب تعدد روايات الأحداث التي دونها الطبري في عمله الجليل.
علاوة على ذلك، لا ينبغي أن نسلم جدلا بأنه ما إن نتغلب على المعوقات اللغوية، سيصبح معنى النصوص واضحا لنا. قد يكون التشابه بين اللغة العربية في القرنين التاسع والتاسع عشر أكبر من التشابه بين اللغة الإنجليزية المعاصرة والإنجليزية القديمة، لكن الفهم الحرفي للغة رواية ما لا يضمن فهم الحقائق التاريخية. أوضح الباحثون أن الروايات العربية عن هذه الفترة (حياة محمد والفتوحات الأولى على وجه الخصوص) زاخرة بالمجاز. والمجاز صورة بلاغية أدبية غرضها نقل المعنى دون النظر إلى معناه الحرفي. على سبيل المثال عندما تتباهى طفلة بأن والدها «أقوى عشر مرات من والد بينلوب»، فنحن نعرف أنه في 99٪ من الحالات (وهذا مجاز في حد ذاته) لم تقس هذه الطفلة القوة النسبية لكل من والدها ووالد بينلوب، ولم تجد النسبة 10 : 1. «أقوى عشر مرات» هي وسيلة أخرى لقول «كثيرا». ومن الأمثلة على ذلك في المصادر الإسلامية الأولى التأكيد على أن محمدا قد جاءه الوحي في الأربعين من عمره. يتفق الجميع - باستثناء أكثر المنقحين ولعا بالافتراضات - على أن محمدا قد عاش بعد سن الأربعين، لذا لا بد وأنه قد فعل «بعض» الأشياء في ذلك العام. حتى هنا، لا مجال للشك في هذه المعلومة من السيرة. مع ذلك، يدرك الباحثون المطلعون على ثقافات الشرق الأدنى ولغاته من القرون السابقة والتالية لظهور الإسلام أن سن «الأربعين» مجاز عن «النضج الروحي». والقول إن محمدا قد جاءه الوحي في هذه السن تعني القول إنه كان ناضجا روحيا، لا إنه كان في الأربعين من عمره حرفيا. إذا وافقنا على أن «سن الأربعين» مجاز بلاغي، فلن يضيرنا ذلك شيئا لأنه لا علاقة له بالمعتقدات والشعائر الإسلامية. ذكر الباحثون المعاصرون عشرات الصور المجازية في الروايات المنقولة عن حياة محمد وخصوصا الفتوحات الأولى، وحتى لو لم تكن هذه الصور الأساسية هادمة تماما لفهمنا التاريخ الإسلامي نفسه، فإنها تزعزع ثقتنا في جدوى هذه المصادر. بعبارة أخرى، ما «تقوله» هذه المصادر وما «تخبرنا به» ليسا متطابقين دوما، ولكي نفهمها تماما، لا بد أن ندرس ما لدينا من مصادر ضمن سياق لغات الشرق الأدنى وأدبه الوارد من العصور القديمة، وتلك عملية لا تزال في مهدها.
ذكر أيضا أن المصادر العربية الأولى عن القرن الأول من التاريخ الإسلامي لا بد من فهمها ضمن السياق الأعم لهذا اللون الأدبي. فلكي نحدد قيمة رواية أو عمل معين، من المجدي أن نكون ملمين بالروايات السابقة واللاحقة لهذا الموضوع. أظهرت الدراسات في هذا الاتجاه أن المصادر العربية الأولى المعتمدة على روايات منقولة شفهيا متعلقة بظهور الإسلام تتزايد بمرور الوقت في الحجم والتفاصيل بدلا من أن تتضاءل. وهذا ينطبق على التفاصيل المتعلقة بحياة محمد في كل من السيرة والحديث. لذا قيل إن ابن عباس نقل في أحد أعماله في القرن الثامن ما لا يزيد عن عشرة أحاديث نبوية، وبحلول القرن التاسع قيل إنه نقل 1710 حديث. بعض هذه الأحاديث ربما يكون مجموعة الأحاديث القليلة التي يعتقد أنه نقلها، لكن أيها تحديدا؟
للإجابة عن هذا السؤال، ابتكر الباحثون وسائل لفصل ما اعتبروه أحاديث صحيحة وروايات تاريخية موثوق بها عن الأحاديث الموضوعة والروايات التاريخية المبتدعة. قبل التطرق إلى هذه الوسائل، يجدر بنا التأكيد على أن الجدال حول موثوقية مصادرنا عن التاريخ الإسلامي الأول كثيرا ما يساء فهمه على أنه جدال ما بين المؤمنين الذين يثقون في تلك المصادر وغير المؤمنين الذين لا يثقون فيها. وهذا خطأ لعدة أسباب. سنرى في هذا الفصل والفصل التالي أنه كان ولا يزال هناك غير مسلمين يقبلون المصادر الأولى كما هي، مثلما أن هناك مسلمين يطبقون أساليب الدراسة النقدية على هذه المصادر. الواقع أن المنهج النقدي في التعامل مع هذه المصادر ابتدأه المسلمون في القرن التاسع؛ فتعريف الكلمات الأجنبية في القرآن - وهو إجراء يرفضه المسلمون المعاصرون باعتباره عملا «استشراقيا» عدائيا - بدأ على يد مؤلفي المعاجم المسلمين في العصر العباسي. والأكثر أهمية أن عملية تمييز القليل من الأحاديث الصحيحة عن الكم الهائل من الأحاديث الموضوعة قد بدأت وتطورت على يد المسلمين. لذا قيل إن البخاري (توفي عام 870) - الذي جمع واحدا من أمهات كتب الحديث الستة (لدى أهل السنة) - اختار مجموعته من الأحاديث الصحيحة البالغة نحو 7400 حديث من بين نحو 600000 حديث. ونحو ثلثي هذه الأحاديث البالغ عددها 7400 حديث هي أحاديث مكررة؛ لذا فالعدد الفعلي للأفعال والأقوال المنسوبة إلى محمد أقل من 3000. وجدير بالذكر أن الباحثين المعاصرين النزاعين إلى الشك يحسبون حسابا أكثر مما ينبغي للإحصائيات الواردة هنا. ومع أن هؤلاء الباحثين يتجاهلون حقيقة أن العدد «600000» هو مجاز بلاغي استخدمه أهل الشرق الأدنى للتعبير عن «مجموعة هائلة» (راجع سفر الخروج، إصحاح 12: آية 37)، فإن 7400 حديث تظل مجرد كسر بسيط من المجموعة الأصلية. كيف فعل البخاري (ورفاقه) ذلك؟
الأسانيد: الحل التقليدي
للفصل بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة، وضع المسلمون واستخدموا علم الإسناد في القرنين الثامن والتاسع. يتكون أي حديث (وهذا ينطبق أيضا على المصادر التاريخية الأولى) من شقين: الأول المتن وهو تصريح عن شيء قاله أو فعله النبي أو أي مرجعية أخرى، والثاني «الإسناد» الذي يعد كحاشية من دول الشرق الأدنى تخبرنا بكيفية وصول كل رواية إلينا (على سبيل المثال: رواه الطبري عن (س) عن (ص) عن (ع) الذي كان شاهدا على الحدث). وقد أخذ تحليل الإسناد على محمل الجد إلى حد أن لونا إضافيا كاملا من أدب السير وجد من أجل تحديد ما إذا كانت الحلقات المختلفة في أحد الأسانيد موثوقا فيها ووارد أن تكون منقولة من وإلى حلقات أخرى في السلسلة أم لا. معاجم السير الذاتية هذه هائلة، واللون نفسه لا مثيل له فعليا في الموروثات التاريخية الأخرى. وهكذا، فإن المشكلات المتعلقة بالمصادر المتاحة عن صدر الإسلام لدى معظم المسلمين قد حلت على النحو التالي: ابتكر أسلوب (تحليل الإسناد)؛ ووضعت أدوات (معاجم السير) لتمكين الباحثين من تطبيق هذا الأسلوب؛ واضطلع باحثون ثقات (بقيادة البخاري وخمسة آخرين في حالة الأحاديث، والطبري وآخرين في حالة الروايات التاريخية) بغربلة جميع المصادر؛ والآن نعلم تحديدا ما فعله النبي محمد وما قاله، وكيف تكشفت بقية أحداث التاريخ الإسلامي.
جزء كبير من هذا العمل ينسب - على الأقل بصورة غير مباشرة - إلى باحث معروف باسم الشافعي (توفي عام 820). كان الفقه الإسلامي قبله متمركزا محليا؛ إذ كان لكل منطقة تراثها وفقهاؤها الموثوق بهم. لذا كان يقتفي أثر الأحاديث الأولى عودة إلى الفقهاء البارزين في كل تراث محلي. وأدرك الشافعي أن هذا التنوع خطر على ترابط الأمة، ووضع قاعدتين وافقت عليهما بوجه عام جميع المذاهب؛ أن الأحاديث المنسوبة إلى النبي محمد نفسه فحسب هي التي تتبع (ومن ثم إلغاء الأحكام المحلية الذاتية)؛ وأن مثل هذه الأحاديث «لا بد» وأن تتبع (حتى وإن تعارضت مع القرآن، لأن أقوال محمد تؤخذ على أنها «تفسير حي» سماوي للقرآن نفسه). بعد الشافعي، شرعت مذاهب محلية متنوعة في جمع الأحاديث ذات الأسانيد الصحيحة؛ مما أسفر في النهاية عن ست كتب يعتبرها أهل السنة جديرة بالثقة. (جدير بالذكر أن العلاقة بين أحاديث الشيعة والفقه الشيعي أبسط من ذلك بكثير؛ لأن الأحاديث المنسوبة للأئمة كانت تنقل منذ البداية مع وجود تنوع محلي ضئيل نسبيا.)
رصد الباحثون المعاصرون مشكلات مرتبطة بهذه العملية ونتائجها، وبحثوا في متن الحديث (وكذلك إسناده) عن دليل يؤيد صحة الرواية أو ينقضها. وبالفعل ذكر إجناتس جولدتسيهر (الذي توفي عام 1921) في نهاية القرن التاسع عشر أن الأحاديث تخبرنا عن الجدل الفقهي الذي شهده القرن الثامن وأوائل القرن التاسع أكثر مما تخبرنا عن حياة النبي محمد. سار على نهجه جوزيف شاخت (توفي عام 1969) الذي أوضح نقطتين مهمتين. أولا، انتهى جوزيف بدراسة مجموعة كبيرة من الأحاديث الأولى إلى أنه في منتصف القرن الثامن فقط كانت الأسانيد التي تنتهي إلى محمد هي المنتشرة على نطاق واسع. ثانيا، أدرك أنه كلما زاد اتساق سند ما مع قاعدتي الشافعي، زاد احتمال كونه لاحقا في التاريخ لهاتين القاعدتين. وهكذا، فالأمر لا يقتصر على أن الأسانيد التي تنتهي إلى محمد لا تثبت صحة حديث ما، بل إنها تكاد تثبت النقيض (على الأقل فيما يتعلق بالإسناد نفسه؛ فربما يكون هو بدوره مقترنا بنص صحيح).
أثير اعتراضان آخران على علم تحليل الإسناد: أولا، يمكن أخذ أي إسناد جرى التحقق منه بالطرق التقليدية ووضعه على أي حديث أو رواية تاريخية يسعى أحدهم إلى اعتمادها. ثانيا، حقيقة أن بعض الأحاديث «الصحيحة» لم يستشهد بها في خلافات القرنين الثامن والتاسع مع أنها كانت ستقدم لها حلا حاسما تشير إلى أن هذه الأحاديث لم تكن موجودة بعد. وعلى النقيض، سلم الباحثون المعاصرون أن أي حديث يتعلق بمسألة كانت قد أصبحت مهجورة بحلول نهاية القرن الثامن أو مسألة تتناقض مع عادة أصبحت مقبولة لدى كل المسلمين من المرجح أن يكون حديثا قديما على نحو أصيل، حتى لو كانت أسانيد هذه الأحاديث ضعيفة (ومن ثم ففي مثل هذه الحالات، يكون الباحثون المعاصرون أكثر تقبلا لموثوقية إحدى الروايات من الباحثين المسلمين القدامى).
يشترك هؤلاء الباحثون مع المسلمين القدامى في الاقتناع بأن الأحاديث والروايات الأولى عن ظهور الإسلام تحتوي على بيانات مفيدة يمكن على أساسها إعادة بناء التاريخ الإسلامي، لكنهم يختلفون في أساليبهم لتحديد الروايات الجديرة بالثقة. ولأنه لا توجد قضايا دينية أو لاهوتية تعتمد على مسألة الموثوقية (بصرف النظر عن أي تحيزات ثقافية أو سياسية قد تنطوي عليها)، يجيز الباحثون المعاصرون لأنفسهم افتراض عدم جدارة الأحاديث بالثقة ما لم يثبت عكس ذلك، بينما يفترض الباحثون القدامى العكس. مع ذلك، يتفق مؤيدو كلا المنهجين على أن الأحاديث والروايات التاريخية الأولى قد تكون مفيدة للمؤرخين غير ضارة.
يتعلق جزء كبير مما طرحناه آنفا بجدوى (أو عدم جدوى ) تحليل الإسناد. ولأن الأسانيد استخدمت من قبل جامعي الأحاديث ومعظم المؤرخين الأوائل على حد سواء، فالقضايا المرتبطة بها تتعلق نظريا بكل الروايات المكتوبة عن أول قرنين في التاريخ الإسلامي. لكن عمليا، تعاملت معظم الدراسة الحديثة المرتبطة بهذه المسائل مع الأحاديث على وجه الخصوص، بينما كانت أكثر تقبلا تماما للروايات «التاريخية». وكانت مسألة وقت فحسب قبل أن يحاول الباحثون تطبيق معايير التشكك نفسها على الروايات التاريخية مثلما كانت تطبق على الأحاديث، وهو ما يأخذنا إلى كتابي وانسبرو وكتاب «الهاجرية» لكرون وكوك. الفكرة الأساسية لهذه الدراسات أنه على الرغم من اتخاذ روايات السيرة والأحداث التاريخية للقرون الإسلامية الأولى شكلا يشبه المصادر التاريخية «الحقيقية» - باتباعها تسلسلا زمنيا، واتصافها بالاتساق الداخلي إلى حد كبير، وكونها تزخر بالأسماء والتواريخ والأماكن والأحداث مرجحة الحدوث (فالروايات المنقولة عن حياة محمد تخلو من العناصر التي تبدو في ظاهرها زائفة بدرجة تفوق توقعاتنا) - فإنها عرضة لنفس الاعتراضات المثارة ضد الأحاديث، وهي أيضا وثيقة الارتباط بعضها ببعض في قضايا تتعلق مباشرة بالمعتقدات والممارسات الإسلامية إلى حد أنه لا يمكن اعتبارها شيئا آخر غير أنها أدب ديني. ومن ثم لا يمكن إعادة بناء التاريخ الإسلامي الأول على أساس هذه المصادر.
يختلف وانسبرو عن مؤلفي كتاب «الهاجرية» في استجابتهم لهذه المشكلة. رأى وانسبرو أننا لا نستطيع معرفة كيفية ظهور الإسلام وتطوره في القرنين السابع والثامن. ويطرح كل عمل من أعماله هذه النقطة عن طريق التركيز على مجموعة مختلفة من المصادر؛ فكتابه «دراسات قرآنية» يبحث في القرآن والأعمال التفسيرية الأولى، بينما يهتم كتاب «البيئة الطائفية» بالموروث التاريخي الإسلامي المبكر. ويرصد الكتاب الثاني العديد من الصور المجازية في السيرة النبوية - على نحو ما بينا أعلاه - ويذكر أن الإسلام ظهر عندما سعى العرب الفاتحون لتمييز أنفسهم عن مسيحيي ويهود البلاد التي فتحوها. يطرح الكتاب الأول عددا من الأسئلة عن القرآن نفسه: لماذا يحتوي القرآن على آيات متعارضة وأجزاء متطابقة؟ ولماذا - على غرار ما ذكرنا عن الأحاديث - لم يستشهد بالآيات القرآنية دليلا في الخلافات الفقهية الأولى التي ترتبط بها بوضوح؟ ولماذا لم يظهر تفسير القرآن إلا بعد مرور قرن أو نحو ذلك على تجميع القرآن في صورته التقليدية؟ (يرفض معظم الباحثين المعاصرين أن ينسبوا إلى مسلمي القرن الثامن الأعمال التفسيرية التي تحمل أسماءهم.) وردا على هذه الأسئلة وغيرها، رأى وانسبرو إجابة واحدة مقنعة، وهي أنه لم تكن هناك نسخة تامة من القرآن قبل نهاية القرن الثامن ومطلع القرن التاسع. بوجه عام، قال إنه مثلما ظهرت الفنون والإدارة والثقافة الأدبية الإسلامية تدريجيا على مدار قرون من الاتصال بين الفاتحين العرب وشعوب الشرق الأدنى الذين فتحت بلادهم، لا بد وأن الإسلام بوصفه دينا قد تطور تدريجيا هو الآخر.
خلص مؤلفا كتاب «الهاجرية» أيضا إلى أن الإسلام والقرآن كما نعرفهما ليسا كما عرفهما مسلمو القرنين السابع والثامن. وافترضا - اعتمادا على المصادر غير الإسلامية عن تلك الفترة - أن مكة ليست المقدس الأصلي للإسلام؛ وأن الفتوحات الأولى حدثت قبل ظهور الإسلام كدين مميز عن أحد أشكال اليهودية؛ وأن «الإسلام» و«المسلمين» بناء على ذلك لم يكونا المسميين الأصليين للدين وأتباعه. بدلا من ذلك، كان المسلمون معروفين بكلمة مشتقة من الجذر السامي (ه ج ر) الذي كان يشير إلى كل من الهجرة متمثلة في الخروج من شبه الجزيرة العربية إلى الأرض المقدسة (بدلا من الفرار من مكة إلى المدينة)، وإلى انحدار العرب من هاجر أم إسماعيل. لم يلق كتابا وانسبرو أو كتاب «الهاجرية» قبولا واسع النطاق؛ لأن الحجج التي ساقها المؤلفون محل خلاف (وفي بعض النقاط يمكن تفنيدها في الحال على ضوء أدلة جديدة مثل نسخ القرآن اليمنية)، ولأن المناهج المعاصرة تجاه التاريخ الإسلامي تشكلت بفعل مجموعة فريدة للغاية من الاهتمامات والاعتبارات قد تثني عن السعي وراء حجج مؤكدة عن التاريخ الإسلامي المبكر كما سنرى الآن.
هوامش
الفصل الخامس
مناهج متضاربة
مع أن كثيرا من مؤرخي الإسلام الغرب ليسوا مسلمين، قد يكون من الصعب تحديد ذلك من كتاباتهم عن القرون الأولى من التاريخ الإسلامي. وهذا يتناقض تناقضا واضحا مع حال مؤرخي اليهودية والمسيحية الذين يميلون إلى تبني موقف الغريب تجاه موضوعهم حينما يكتبون عنه في سياقات أكاديمية (على الرغم من كونهم هم أنفسهم يهودا ومسيحيين في كثير من الأحيان). لم الاختلاف؟ قبل تناول الإجابات، حري بنا أن نسلط الضوء على السؤال أولا. تخبرنا الروايات القديمة عن ظهور الإسلام أنه في منطقة بعيدة ومعزولة من شبه الجزيرة العربية (الحجاز)، وفي مدينة وثنية لم تألف التوحيد (مكة)، بدأ رجل أمي يتلو آيات حافلة بإشارات إلى شخصيات مذكورة في الإنجيل، وأرسى أفكارا توحيدية. إذا قبلنا هذا الملخص الأساسي - ومعظمنا يفعل - فكيف لنا أن نفسر معرفة محمد بهذه الأفكار؟ من وجهة نظر المسلمين ذوي التفكير التقليدي، الإجابة واضحة؛ وهي أن الله قد أوحى له - بواسطة أحد الملائكة - بهذه الآيات. والواقع أنه من الصعب أن تكون مسلما مؤمنا بالمعنى التقليدي دون أن تقبل هذه الرواية. لكن بالمثل قد يرى وانسبرو أنه من الصعب قبول الخطوط العريضة لهذه القصة دون أن تكون مسلما (أو على الأقل دون أن تقبل أن لله يدا في تلك الأحداث)، ولهذا السبب رأى وانسبرو أن الإسلام والقرآن تطورا في وقت لاحق وفي مكان آخر حيث كانت الأفكار اليهودية والمسيحية سائدة. حاول كتاب «الهاجرية» أن يعيد خلق ظروف هذا التطور الديني اللاحق. ومثلما أشرنا أعلاه، يكاد الجميع يتفقون على أن كلا من وانسبرو وكتاب «الهاجرية» مخطئان في بعض التفاصيل (مع أن النقد الموجه لكتاب «الهاجرية» يكاد يركز فحسب على الجزء الأول منه؛ ويبدو أن عددا قليلا من النقاد يدرك أن الجزأين الثاني والثالث يحتويان نقاطا بارزة عن تطور الحضارة الإسلامية في سياقها في دول الشرق الأدنى ربما تستحق المزيد من التحقيق). ومع أن وانسبرو وكتاب «الهاجرية» لم يقدما إجابات مقنعة تماما عن الأسئلة المتعلقة بظهور الإسلام، فلماذا غض الطرف على وجه العموم عن الأسئلة نفسها؟
يرى باحثون كثيرون أن الحكم على هذه الكتب يكون على أساس استنتاجاتها، وإذا كانت الاستنتاجات مغلوطة، يكون كل ما يرتبط بهذه الأعمال مغلوطا أيضا. أما المتشككون، فيعولون على المنهجية ؛ إذ ربما تكون الإجابات المقترحة مغلوطة ، لكن تظل الأسئلة بحاجة إلى إجابات (وبالأحرى إذا كانت الإجابات السابقة غير مرضية). وهناك أدلة تشير إلى أنه توجد الآن اعتبارات تتخطى حدود النقاش والجدال الأكاديمي المعتاد. ربما لا يجب أن نفاجأ بأن «الهاجرية» لم تشتهر قط بوصفها مصطلحا يشار به إلى «الإسلام»، لكن لماذا هجر مصطلح «المحمدية» في النصف الثاني من القرن العشرين؟ حتى ذلك الحين، كانت الكلمة مقبولة تماما ومتماشية مع «الزرادشتية»، و«البوذية»، و«الكونفشيوسية»، والمصطلح الفارسي «الموسوية» إشارة إلى اليهود. ومع أن هذا الأمر قد يبدو شكليا وغير ذي صلة كبرى، فإنه يمتد إلى أسئلة أعم تتعلق بالتفرد الإسلامي. وبينما يبدأ مؤرخو الأديان الأخرى بالنماذج التاريخية ويقرءون المصادر الرئيسية في ضوئها، يبدأ الكثيرون من مؤرخي الإسلام بالمصادر الإسلامية ثم ينتقلون إلى تنظيمها؛ فيستبعدون المواد التي تتجلى عدم مصداقيتها (مثل الإشارات إلى المعجزات، والأرقام الصحيحة، وما شابه) ويتقبلون المادة الباقية دون تمحيص. لماذا يعفى الإسلام - والتاريخ الإسلامي على وجه الخصوص - من قواعد التحقيق التاريخي المقررة؟
إحدى إجابات هذا السؤال أن الإسلام ودراسة التاريخ الإسلامي حديثا العهد نسبيا. وحداثة الإسلام مقارنة باليهودية والمسيحية دفعت إرنست رينان (الذي توفي عام 1892) إلى القول إن محمدا «ولد في وضح التاريخ»، وهو ما عارضه معظم الباحثين (بمن فيهم الباحثون المسلمون فيما قبل العصر الحديث)، وتناقضه أيضا الأدلة الواردة في الفصل السابق. تعد حداثة التاريخ الإسلامي تفسيرا مقنعا للنزوع إلى تصديق الروايات التقليدية يقينا، وهكذا فإن طبعة مهمة من كتاب «تاريخ الطبري» الجامع (الذي لا غنى عنه للتاريخ الإسلامي الأول) قد نشرت أول مرة في نهاية القرن التاسع عشر، واكتملت الترجمة الكاملة لهذا العمل في نهاية القرن العشرين. فالكثير من الأعمال الخاصة بالتاريخ الإسلامي في نهايتي القرنين التاسع عشر والعشرين اشتمل على البحث عن المصادر الرئيسية، وتحريرها، وفك شفراتها، وإعداد تحليلات أساسية لمحتوياتها. أما القلة من الباحثين - أمثال يوليوس ڤلهاوزن (الذي توفي عام 1918) - الذين استطاعوا في هذه المرحلة المبكرة أن يحللوا التاريخ الإسلامي تحليلا نقديا، فقد قدموا إلى الدراسات الإسلامية من الدراسات الإنجيلية أو دراسات الشرق الأدنى بوجه عام، ولا يزال عملهم عن التاريخ الإسلامي المبكر ينزع إلى كونه أكثر تحفظا من عملهم عن الثقافات الدينية الأخرى للشرق الأدنى.
إجابة أخرى أن الروايات الواردة عن صدر الإسلام كالمحفوظة في «تاريخ الطبري» يصعب تجاهلها للغاية في ظل ما تزخر به من أوصاف تفصيلية بالغة التفصيل للأشخاص والأحداث التي تثير اهتمام العلماء والدارسين. إن تجاهل الإجابات الجاهزة عن أسئلة محورية يشكل تحديا بالغا في ظل غياب البدائل المناسبة للروايات التقليدية. ومفهوم أن معظم الباحثين قد يفضلون قبول نسخة معيبة من التاريخ عن ألا تكون لديهم أي نسخة منه على الإطلاق. وما إن تطرح الرواية التقليدية داخل الفصول المدرسية، يحدث الآتي: يصبح الطلاب الذين تعلموا هذه الرواية التقليدية عن التاريخ الإسلامي أنفسهم أساتذة ويخلدون الرواية والمنهج.
إجابة ثالثة هي أن الضغوط المجتمعية والسياسية قد أثنت المؤرخين المسلمين والغرب أيضا - لأسباب مختلفة - عن التشكيك في الروايات التقليدية والمصادر الخاصة بظهور الإسلام وتطوره قديما. أحيانا ينظر المسلمون إلى المؤرخين المسلمين الذين يثيرون الشكوك حول تراثهم على أنهم يستحقون اللوم أكثر ممن يفعل ذلك من مؤرخي الغرب. فمنذ أن اتهم المسلمون الأوائل اليهود والمسيحيين بالتشويه المتعمد لكتاب الله، كانت مثل هذه الأكاذيب المناهضة للإسلام متوقعة من الباحثين غير المسلمين. لكن يعتقد أن الباحثين «المسلمين» ينبغي حقا أن يكونوا أكثر معرفة. لذا حينما ذكر سليمان بشير (الذي توفي عام 1991) أن الإسلام تطور تدريجيا - كحال الأديان الأخرى - ألقى به طلابه في جامعة نابلس (فلسطين) من نافذة بالطابق الثاني. ولأن الباحث المصري نصر حامد أبو زيد أشار إلى أن القرآن نص أدبي ولا بد من قراءته على هذا الأساس، اعتبر مرتدا، وصدر حكم بالتفريق بينه وبين زوجته (فرا من مصر على إثره). وقبل نحو سبعين عاما - في عام 1926 - قال وزير التعليم والمفكر المصري البارز طه حسين (الذي توفي عام 1973) إن الكثير من الشعر الجاهلي منحول، وهو ما جلب له اتهاما بالردة هو الآخر (مع أن الفكرة لا تحمل سوى صلة طفيفة بالموروث الإسلامي ). مما لا شك فيه أن مواقف التعصب الدراسي هذه نادرة للغاية، لكن مجرد وجود عدد قليل ذائع الصيت من هذه الأمثلة يمكن أن يكون له تأثير مروع على من يعيشون داخل العالم الإسلامي ممن كانوا سيجنحون - لولا وجود تلك الأمثلة - إلى تطبيق منهج الغرباء إزاء دراسة التراث.
كان الباحثون الغرب الذين درسوا التاريخ الإسلامي - خصوصا منذ الحرب العالمية الثانية - منتبهين إلى حساسية المسلمين أيضا. ويرتبط هذا بدرجة ما بالتوجهات الأكاديمية الحديثة التي نشأت في العلوم الاجتماعية، والتي تركز على أهمية فهم «تجربة المؤمن» قبل أي شيء. ويرتبط أيضا بدرجة أخرى بمحاولات الباحثين المعاصرين تدارك الأخطاء التي وقعت فيها الأجيال السابقة من المستشرقين، وهو ما يأخذنا إلى كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد.
إدوارد سعيد وكتاب «الاستشراق»
في بداية الأربعينيات من القرن العشرين، قال ساطع الحصري (الذي توفي عام 1967) - وهو مفكر سوري ومؤيد بارز للقومية العربية - إن الكتب الغربية عن التاريخ «العربي» «متحيزة و[مستخدمة] كأدوات من قبل الاستعماريين الذين حاولوا دوما بشتى السبل المتاحة لديهم أن يقمعوا أو يشوهوا الوعي التاريخي من أجل تخليد حكمهم». وهناك رأي ذو صلة ورد في كتاب «الاستشراق»، وهو عمل بالغ الأثر ساعد في إرساء قواعد الدراسات ما بعد الاستعمارية. ومع أن الكتاب يدور في الأساس عن الشرق كما ينعكس في الأعمال الأدبية، فإنه يركز أيضا على السير المهنية لمستشرقين بعينهم (بدءا من نحو عام 1800 فصاعدا)، وتدور نقاطه الرئيسية الثلاثة حول مجال الاستشراق نفسه. النقطة الأولى أن الاستشراق مال لكونه «جوهريا»، مفترضا أن للعرب (والمسلمين بوجه عام، وإن كان سعيد مهتما في الأساس بسكان الشرق الأدنى) طبيعة جوهرية ثابتة يمكن تحديدها ووصفها والتحكم فيها سياسيا. النقطة الثانية أن الاستشراق - وخصوصا كما مارسه الباحثون البريطانيون والفرنسيون - كانت تحركه دوافع سياسية. إذا أمكن إظهار «طبيعة» المجتمعات العربية أو الإسلامية على أنها أقل شأنا من مجتمعات الغرب، حينئذ يمكن تبرير الهيمنة السياسية الغربية على العرب والمسلمين. والنقطة الأخيرة أن هذه الانطباعات الخاطئة عن جوهر «الشرقيين» المتدني والحاجة إلى التفكير في الشرق على قدر ارتباطه بالغرب فحسب قد احتفظت بمكانها داخل مجال دراسة معيب ذاتي التخليد.
على الرغم من أن الكثير مما قاله سعيد لم يكن جديدا في الأوساط الفكرية الغربية والعربية/الإسلامية، فإن كتابه جذب لهذه القضايا اهتمام جمهور أكبر من القراء اشتمل غالبا على مفكرين من مجالات أخرى. أيضا ساهم نشر الكتاب عام 1978 في شهرته؛ إذ كانت هذه فترة دائمة التغير في حقول النظرية الأدبية التي ركزت على دور الثقافة في الهيمنة على عناصر المجتمع الضعيفة أو إخضاعها سياسيا (وفي هذا السياق تبرز على وجه التحديد نظريتا النسوية وما بعد الاستعمار). كان كتاب «الاستشراق» محل ثناء على نحو بارز في مجال الدراسات الثقافية، لكنه على الرغم من ذلك كان مثار جدل على نحو متوقع بين المستشرقين أنفسهم.
أبرز نقاد كتاب «الاستشراق» - والكثيرون منهم باحثون بارزون في التاريخ الإسلامي - عددا من الأخطاء في الكتاب تطعن في صحة كل من تفاصيله وأطروحته الرئيسية. فقد أشير مثلا إلى أنه في القرن التاسع عشر وفي أوج الهيمنة الاستعمارية الأوروبية على العالم الإسلامي، لم يكن مجال الاستشراق خاضعا لهيمنة باحثين بريطانيين أو فرنسيين، بل متحدثين للغة الألمانية من دول لم تتمتع بحكم مباشر على المسلمين في أي مكان. ذكر أيضا أن الكثيرين من المستشرقين البريطانيين والفرنسيين في ذلك الوقت لم يكونوا مؤيدين لسياسات بلادهم. ومن ثم كان إدوارد براون أستاذ اللغة الفارسية في جامعة كامبريدج - (الذي توفي عام 1926) - ناقدا صريحا للمواقف والسياسات البريطانية تجاه المسلمين، وكانت جهوده وإنجازاته سببا في تسمية أحد شوارع طهران باسمه اعترافا بفضله (ولا يزال هناك تمثال شبيه به). ومن الاعتراضات الأخرى على كتاب «الاستشراق» أنه يتجاهل الإسهامات العديدة الحيوية التي قدمها المستشرقون لمجال الدراسات الإسلامية؛ فإنتاج طبعات نقدية للمخطوطات - على سبيل المثال لا الحصر - مهمة تخدم المسلمين أيضا وليست عرضة سهلة للتحيزات السياسية. مع ذلك لا يمكن للباحثين الغرب المهتمين بالمجتمعات الإسلامية أن يتجاهلوا كتاب «الاستشراق»، وحتى منتقدي الكتاب يوافقون على أن تأثيره على مجال الدراسات الإسلامية كان هائلا ؛ ففي العقود الأخيرة، وجه الدراسات الإسلامية جهد واع للتعاطف مع المجتمعات الإسلامية - في الماضي والحاضر - وأيضا احتراز من تقديم حجج تاريخية قد تسيء إلى المسلمين. ولم يكن من المتوقع أن تجد الأسئلة والأفكار المطروحة في كتابي وانسبرو وكتاب «الهاجرية» مكانا راسخا في مثل هذه البيئة الدراسية القاحلة.
حقيقة أنه ينبغي لأهل الغرب الدارسين للمجتمعات الإسلامية أن يتحلوا بالرقة والحساسية تجاه الشعوب الخاضعة لدراستهم هي محمودة (وبديهية) لا شك. رغم ذلك، فإنه من التبعات غير المتوقعة لتأثير كتاب «الاستشراق» أن محاولات التودد الواعية قد تقضي على النقاش الأكاديمي المفتوح والجاد؛ ومن ثم تحول دون اتخاذ الدراسات الإسلامية للموقف المهني الذي تتمتع به الفروع الأخرى من دراسات الشرق الأدنى. ويتساوى ذلك مع تبني وجهة نظر متعالية تجاه أحد الموروثات الدينية التاريخية التي تستحق أن تعامل بالاحترام نفسه الذي تعامل به موروثات شبيهة؛ فلا يمكن لأحد الباحثين في التاريخ الإنجيلي أن يقدم بحثا أكاديميا عن الدقة التاريخية لقصة موسى الرضيع في سلة في نهر النيل، ثم يتوقع أن يؤخذ على محمل الجد من قبل زملائه من الجمهور. على الرغم من ذلك وفي العديد من الحالات، يمكن لباحث في التاريخ الإسلامي أن يتحدث عن التفاصيل الأكثر تقليدية في سيرة محمد ويتلقى الابتسامات العذبة والثناء الرفيع. إن معاملة الدراسات الإسلامية بلين استثنائي تشير ضمنا (حتى وإن كان دون وعي) إلى أن الإسلام لا ينبغي أن يتعرض للتحليل الصارم نفسه الذي خضعت له الديانات الأخرى، خشية ألا يكون صلدا بما يكفي لتحمل الفحص الدقيق. والمفارقة أنه على الرغم من أن هذا المنهج في تناول الموروث الإسلامي «لطيف»، فإن افتراضاته المتعالية ترتبط ارتباطا وثيقا بنوع الاستشراق الذي انتقده إدوارد سعيد مع أن هذا المنهج غير النقدي يتبناه عادة مؤيدو الحجج التي طرحها سعيد.
مارشال هودجسون وكتابه «مغامرة الإسلام»
هناك طرق للتلطف يمكن أن يحافظ المرء معها على المعايير الأكاديمية المهنية، وربما يكون المثال الأكثر وضوحا على ذلك أعمال مارشال هودجسون (الذي توفي عام 1968). والكتابان اللذان اشتهر بهما هودجسون هما «مغامرة الإسلام: الوعي والتاريخ في حضارة عالمية» و«إعادة التفكير في تاريخ العالم: مقالات عن أوروبا والإسلام وتاريخ العالم»، وكلا الكتابين نشرا بعد وفاته على أساس بحث أجري في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. أما عن كتاب «مغامرة الإسلام» فهو سجل جامع من ثلاثة مجلدات عن جميع حقب التاريخ الإسلامي ومناطقه، في إطار السياق الأوسع للتاريخ العالمي. على هذا النحو، يوصف الكتاب بأنه حجة دامغة ضد التفرد الإسلامي؛ فظهور الإسلام والحضارة الإسلامية وتطورهما منسوجان داخل بساط من الأبعاد العالمية، وينظر إليهما على أنهما يتماشيان مع اتجاهات التاريخ لا يقاومانها. قادت تلك النظرة العامة للتاريخ هودجسون إلى عدد من الاستنتاجات الأساسية عن التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، وعن المنهجية التي ينبغي للمؤرخين دراستهما بها. ومع أن كتابه هو ملخص رفيع للموروث الاستشراقي بأكمله، فهو من عدة جوانب أيضا محاولة لتحديد أوجه ضعف هذا الموروث وتصحيحها. وبينما كان كتاب «الاستشراق» نقدا للموروث من الخارج، فإن «مغامرة الإسلام» نقد له من الداخل.
شكل 5-1: مارشال هودجسون.
1
شكل 5-2: ابن خلدون.
2
هناك عدة طرق تنبأ بها هودجسون بانتقادات سعيد (وغريب أن كتاب «الاستشراق» لم يشر إلى كتاب هودجسون). على سبيل المثال، رفض هودجسون مرارا وتكرارا المناهج الجوهرية تجاه الإسلام، موضحا أن «كل جيل يتخذ قراراته». علاوة على ذلك، كان هودجسون منزعجا للغاية من المناهج أوروبية التركيز تجاه التاريخ الإسلامي، حتى إنه شرع في تطهير الحقل من المفاهيم والمصطلحات المستعارة من التاريخ الأوروبي. ولهذا الغرض صاغ مجموعة من الألفاظ الجديدة كي تحل محل الألفاظ التي اعتبرها مثقلة بالمعاني الثقافية، أو معيبة شوهت دراسة المجتمعات الإسلامية. فمصطلح «الشرق الأوسط» الذي يضع أوروبا في مركز العالم أصبح «المنطقة الممتدة من النيل إلى نهر أوكسوس»، و«الثورة الصناعية» أصبحت «التحول الغربي العظيم». وصحيح أن حلوله قد تكون غير متقنة وتصنيفاته مبهمة، لكن وكما يشير العنوان الفرعي للكتاب، كان الضمير والدقة (وليس التنميق) القوتين الموجهتين لمنهج هودجسون تجاه التاريخ الإسلامي. ومع أن التدقيق الإملائي المتاح على أجهزة الكمبيوتر يرفض كل تعبيراته الجديدة، كان الباحثون أكثر تقبلا لبعضها مثل مصطلح «إسلاماتية» في الإشارة لا إلى الإسلام بوصفه دينا بل إلى «العقدة الثقافية والاجتماعية المرتبطة تاريخيا بالإسلام والمسلمين».
بسبب منهج هودجسون الحساس تجاه دراسة المجتمعات الإسلامية وجهده في وضع التاريخ الإسلامي ضمن الصورة الكبيرة للتاريخ العالمي، توصل ألبرت حوراني (الذي توفي عام 1993) إلى أن «مارشال هودجسون أعطانا إطار عمل لفهم ربما لا يقل قيمة عن سلفه الجليل ابن خلدون».
الطبري وابن خلدون
كيف نظر المؤرخون المسلمون أنفسهم إلى التاريخ الإسلامي؟ إن عقد مقارنة موجزة بين حياة وأعمال كل من الطبري (838-923) وابن خلدون (1332-1406) - أهم المؤرخين المسلمين في رأيي - تمدنا بإجابتين مختلفتين تمام الاختلاف لهذا السؤال. في كثير من النواحي، تطرق الاثنان إلى التاريخ الإسلامي من طرفين متعارضين؛ فكان الطبري شرقيا (إيراني من مدينة آمل الواقعة جنوب بحر قزوين)، بينما كان ابن خلدون غربيا (عربي أندلسي ولد فيما يعرف الآن باسم تونس). عاش الأول وعمل في أوج الحضارة الإسلامية العربية، بينما عاش الثاني في إحدى فترات ركودها (إذ فرت أسرته إلى شمال أفريقيا أثناء حروب الاسترداد). وبينما كان الطبري منعزلا بوعي منه عن الأوساط الحكومية ومستقلا عن التأثير السياسي، قضى ابن خلدون الكثير من حياته في الكبر مستغرقا في الدسائس السياسية والخطط التي تخدم مصالحه الشخصية، وهو ما قربه من أشخاص مثل بيدرو ملك قشتالة (الملقب بالقاسي) وتيمور.
ليس من المدهش إذن أن تكون للظروف المختلفة التي شكلت أعمالهما التاريخية تأثير على منهجيهما تجاه التاريخ. كالمتوقع، ضم الطبري في عمله روايات عن الأقاليم الشرقية أكثر اكتمالا من مثيلاتها عن الأقاليم الغربية، والعكس صحيح في كتابات ابن خلدون. علاوة على ذلك، بذل الطبري - بحكم كونه فارسيا - جهودا مهمة نحو التوفيق بين الروايات الفارسية القديمة والمسيحية اليهودية عن تاريخ ما قبل الإسلام. أما ابن خلدون فلم يكترث من جانبه بهذه الأمور.
الأقل توقعا أن نظرتيهما لمسار التاريخ وكذلك أسبابه ونتائجه كانتا مختلفتين اختلافا جذريا. لو كان للطبري بطاقة عمل لكتب عليها على الأرجح أنه «فقيه » أو «عالم» أو شيء من هذا القبيل لا «مؤرخ». والواقع أن الطبري كان معروفا في زمانه على أنه باحث ديني بارز، بل ويقال إنه أنشأ مدرسة للفكر الإسلامي خاصة به (المذهب الجريري)، وهو مشهور أيضا بين المسلمين بتفسيره الزاخر للقرآن قدر شهرته بكتابه «تاريخ الطبري». وهكذا كانت رؤيته للتاريخ الإسلامي محكومة باهتمامات دينية. فهو يرى أن الله خلق العالم، وأنه بعد نحو 7000 عام (وفق توضيحه للعملية الحسابية في مقدمة كتابه) سيضع نهايته. التاريخ بيد الله، ومساره يتقدم بخطى ثابتة نحو نهاية الأزمان (وهي فكرة ذات أصول إيرانية وسامية).
على النقيض، نظر ابن خلدون للتاريخ على أنه نتاج عمليات ديناميكية معينة يمكن تحديدها، مثل التفاعل بين البربر المفعمين بفكرة التماسك القبلي (العصبية) والحضارات المستقرة التي تاخموها. تقول نظرية ابن خلدون عن التاريخ إن البربر سوف يتحدون من حين لآخر كي يغزوا الحضارات المجاورة ويصبحوا متحضرين هم أنفسهم؛ ليتعرضوا للغزو بعدها على يد دفعة جديدة من البربر حيث تتوالى العملية بلا توقف. ومن ثم، على عكس رواية الطبري الخطية اللاهوتية الخاضعة لتوجيه الله، نظر ابن خلدون إلى التاريخ على أنه عملية دورية خاضعة للقواعد والأنماط. وهذا هو المنهج الذي يتبناه المؤرخون وعلماء الاجتماع المعاصرون، وبقدر ما ينسب إلى ابن خلدون من وضع هذا المنهج، يمكن اعتباره مؤسس هذه المجالات الأكاديمية (وإن لم يكن هناك دليل على أن مؤسسيها اللاحقين يدينون بالفضل لابن خلدون). قال أرنولد جوزيف توينبي عن مقدمة ابن خلدون (المقدمة النظرية لعمل ابن خلدون التاريخي التي وردت هذه الملاحظات فيها) إنها «فلسفة تاريخ لا شك أنها العمل الأعظم من نوعه الذي يضعه أي عقل في أي زمان أو مكان». وكان رونالد ريجان أيضا من المعجبين المؤكدين بابن خلدون.
لا تقتصر المناهج المتضاربة تجاه التاريخ الإسلامي على الدراسة الغربية الحديثة؛ فقديما نظر أهل السنة والشيعة إلى التاريخ من منظورين مختلفين تماما، وفي العصور الحديثة، لاقت التفسيرات «الإسلامية» و«المعاصرة» (أو «الإصلاحية») للتاريخ التأييد من قبل أنصارها المسلمين. يرى معظم أهل السنة (على الأقل منذ القرن التاسع) أن التاريخ ليس أقل من تنفيذ لإرادة الله على الأرض؛ ومن ثم فالمسار الذي اتخذه التاريخ لا جدال فيه. أما الشيعة فيرون أن التاريخ الإسلامي قد قطعته سلسلة من الأخطاء الكارثية؛ إذ كان ينبغي لعلي أن يخلف النبي، لكنه تعرض للتجاوز (وكانت السنوات الست التي قضاها خليفة قصيرة ومتأخرة للغاية)، ثم استشهد مثلما حدث مع ابنه الحسين. وكان المفترض بالثورة العباسية أن تعيد الشيعة إلى الحكم، لكن زعماء الحركة غيروا آراءهم في آخر لحظة؛ وبعدها سعى الخليفة المأمون لتعيين إمام شيعي خليفة له، لكن الأخير مات في ظروف غامضة (ومعظم الأئمة الاثني عشر - إن لم يكن جميعهم - تعرضوا إما للسجن أو القتل أو كليهما معا). واستطاع البويهيون الشيعة الوصول إلى الحكم في بغداد، لكنهم اختاروا عندئذ الإبقاء على الخليفة العباسي على العرش. والفاطميون والصفويون طبقوا حكما شيعيا، لكنهم سرعان ما تخلوا عن معظم وعودهم الثورية. وفي معظم أجزاء العالم الإسلامي (والغربي) كانت الهيمنة لرواية أهل السنة عن التاريخ الإسلامي. وفي إيران الحديثة يجتمع الحنين الفارسي للأمجاد الاستعمارية الماضية مع إحساس الشيعة بالاضطهاد ليوجدا شعورا قويا بالظلم التاريخي.
حتى داخل الدوائر السنية، ظهرت على مر القرون مناهج متضاربة تجاه التاريخ الإسلامي. يرى المنهج السني التقليدي أن إرادة الله تقف وراء الأحداث، وأن علينا الاستجابة للحقائق التي تشكلت في الفترة من عام 600 إلى 800 لا أن نوجد حقائق جديدة. وبداية من القرن الثامن عشر أيدت مجموعات ممن قد يطلق عليهم الآن اسم «الإسلاميين» - و«المعاصرين» بداية من القرن التاسع عشر - قراءات متعارضة للتاريخ الإسلامي (المبكر). يرى الإسلاميون أن مياه الإسلام تكدرت على مدار القرون بسبب تراكمات غير مرغوب فيها كتلك المرتبطة بالممارسات والمعتقدات الدينية الشائعة. من وجهة نظرهم، لا بد أن يعود المسلمون لمصادرهم الأولى (القرآن والحديث) ولا يتبعون سوى الضوابط الواردة فيهما. ويتفق المعاصرون في الرأي مع الإسلاميين بشأن المشكلة العامة، لكن يختلفون معهم في حلهم الحرفي لأنه - من وجهة نظر المعاصرين - يركز كثيرا على تفاصيل التاريخ ولا يركز بدرجة كافية على الدروس العامة المستفادة من القرآن ومن محمد وأصحابه وخلفاؤه. يعترض المعاصرون على تركيز الإسلاميين على التفاصيل بدلا من الصورة العامة؛ بينما يؤكد الإسلاميون على أن هذه التفاصيل هي من صنع الله وهو الذي أمرنا بالتركيز عليها.
المربك أن الإسلاميين والمعاصرين يعرفون باسم «السلفيين» (الذين يتبعون أسلاف المسلمين). وما يجمع بينهم هو اهتمامهم بقصة التاريخ الإسلامي المبكر واقتناعهم الأكيد بأنه ذو أهمية للمسلمين المعاصرين. والغريب أن ما يتفق فيه السلفيون - وخصوصا الإسلاميين منهم - مع مستشرقي إدوارد سعيد هو الاعتقاد بأن ثمة إسلاما أصليا أو جوهريا يرغب المستشرقون في وصفه (والتحكم فيه) بينما يرغب الإسلاميون في أن يعيدوه إلى سابق عهده. لكن لماذا تحتل أحداث وقعت على مدار ألف سنة ماضية أي أهمية عملية لأناس يعيشون في القرن الحادي والعشرين؟ هذا هو السؤال الذي سنتناوله في الفصل التالي.
هوامش
الفصل السادس
الأهمية الدينية للتاريخ الإسلامي
يقول إدموند بيرك (الذي توفي عام 1797): «من لا يعرفون التاريخ مقدر لهم أن يكرروه»؛ فهل هذا صحيح؟ قد لا يوافق الجميع على ذلك؛ فربما يقول أنصار الفلسفة التشاؤمية إنه ليس مقدرا لمعظم الناس أن يفعلوا أي شيء ذا أهمية، ناهيك عن تكرار التاريخ (ومن المستبعد أن يشكل الانتباه في فصل تدريس التاريخ فارقا). علاوة على ذلك، فإن الفكرة القائلة إن تكرار التاريخ نوع من العقاب على الجهل هي فكرة تفتقر إلى المنطقية في المجتمعات الإسلامية. والواقع أن هناك أجزاء كبيرة من التاريخ لها أهمية مباشرة وحاسمة فيما يتعلق بممارسة الإسلام، والتاريخ الإسلامي بوجه عام لعب (ولا يزال يلعب) أدوارا سياسية مهمة للمسلمين ولمن يتعاملون معهم. لهذه الأسباب، سعى المسلمون على مر القرون إلى تعلم التاريخ الإسلامي حتى يكرروه، أو على الأقل ليستقوا من تفاصيله التوجيه العملي أو فوائد أخرى. وسوف نتطرق إلى الأهمية السياسية للتاريخ الإسلامي في الفصل التالي، بينما نركز فيما يلي على أهميته الدينية.
الأمية التاريخية شائعة للغاية في كثير من دول العالم الغربي؛ فقد كشفت دراسة حديثة أن «ثلثي خريجي المدارس الثانوية [الأمريكية] لا يستطيعون تحديد نصف القرن الذي اندلعت فيه الحرب الأهلية، وثلث آخر لا يستطيعون التعرف على توماس جيفرسون، بينما يعتقد 65 بالمائة منهم أن ستونوول جاكسون كان عازف جيتار في فرقة فانكاديليك الموسيقية». بالمثل، يرى الشباب الأمريكي (وغير الأمريكي) المثالي يرتدون أحيانا أساور منقوش عليها عبارة «لنجعل الفقر تاريخا»؛ وهو هدف رائع تماما فيما عدا أنه يعكس فهما شائعا بأن التاريخ مقلب نفايات تلقى فيه الأشياء غير المرغوب فيها وليس كنزا يمكن العثور فيه على أشياء مرغوب فيها.
فئة أخرى من الشباب الأمريكي يظهرون وعيهم بأهمية الماضي لهم عن طريق ارتداء نوع مختلف من الأساور أحدها يحمل الحروف الأولى من عبارة (ماذا كان المسيح سيفعل؟) والهدف من هذه الأساور تذكير من يرتدونها باتباع تعاليم المسيح حينما تواجههم أزمات أخلاقية. وليس غريبا أن معظم المسلمين لا يريدون أن يعرفوا ماذا كان المسيح سيفعل؛ والأشد غرابة أنهم لا يريدون أن يعرفوا ماذا كان محمد سيفعل، بل يريد المسلمون أن يعرفوا ماذا فعل محمد، وهو ما جعلهم يبتكرون مصطلح «السنة»، وهو مصطلح يشمل أيضا الأفعال والأقوال المسجلة لبعض الشخصيات النموذجية الأخرى من العصور الإسلامية الأولى. ظاهريا، ثمة تشابه بين «السنة» ومفهوم «محاكاة المسيح» (الذي اقتبست منه فكرة الأساور المشار إليها سلفا)؛ ففي كلتا الحالتين يعتقد أن لسلوك إحدى الشخصيات الرئيسية في أحد الأديان تأثيرا على سلوك المؤمنين المعاصرين. لكن عند التمحيص يظهر فارق مهم بين المفهومين؛ إذ تعتمد «السنة» اعتمادا كاملا على المعرفة التاريخية، فإن كنا لا نستطيع إعادة بناء حياة محمد وليس لدينا سجل لأقواله، نكون قد ضللنا الطريق. على النقيض لا يعتمد مفهوم «محاكاة المسيح» على التاريخ؛ فكل ما يطلبه منا أن نتبع إنجيل الحب الذي جاء به المسيح، وأن نكون صالحين بوجه عام. (وفي نسخته الأصلية التي ظهرت في القرن الخامس عشر، شجع هذا المفهوم أيضا ممارسات زاهدة لم يعد يبتغيها معظم الشباب المسيحي.)
يسعى المسلمون إلى التمثل بمحمد لأسباب ثلاثة. أولا، يخبرهم القرآن مرارا وتكرارا وبطرق مختلفة أن يفعلوا ذلك (مع أنه لم يذكرها صراحة؛ والآية 21 من سورة الأحزاب هي الأقرب، وحتى هذه الآية أبعد ما تكون عن التصريح). ثانيا، ثمة اعتقاد بأن الله أوحى بمعنى آيات القرآن إلى محمد مثلما أوحى إليه بالآيات نفسها؛ وعندئذ ينظر إلى أفعاله على أنها انعكاس لكل ما أراده الله للبشر دون أن يذكر صراحة، أو أنها التفسير القاطع لهذه الآيات. وأخيرا، ما إن وصل الموروث الإسلامي إلى اعتبار محمد معصوما من الخطأ حتى ظهرت عقيدة تقول إنه لا بد من اتباع سنة محمد. وقد رأينا أن هذه الأفكار مرتبطة بالشافعي؛ وعلى هذا النحو فإنها لم تكن ملزمة قبل القرن التاسع. جدير أن نضع في الاعتبار أن ما صدر عن محمد من أقوال وأفعال من المرجح أن تكون له أهمية كبرى منذ البداية، كما هو الحال مع المؤسسين الآخرين للأديان والأمم الكبرى. لقد رفع الثوريون العباسيون في منتصف القرن الثامن شعار «نطالب بالعودة إلى كتاب الله وسنة نبيه»؛ وهو شعار غامض على نحو بارع افترض مع ذلك أن سلوك محمد يحتل مرتبة عليا لدى الناس. يشمل نطاق سنة محمد أفعال هؤلاء الذين عرفوا محمدا حق المعرفة والذين من المفترض أنهم تمثلوا به أيضا، وكذلك أجيال المسلمين اللاحقة مباشرة، وجميعهم يعرفون باسم السلف [الصالح]. ويمكن أن يكون السلف نماذج مثالية للأجيال اللاحقة، لكن سنة محمد وحدها هي التي تشكل الشريعة (مرة أخرى، منذ القرن التاسع).
في القرون الأخيرة، ظهرت مشكلتان أمام المسلمين الذين يتوقون إلى الالتزام الصارم بالسنة. أولا، وكما رأينا، أدى تنوع الممارسة الناجم عن انتشار الإسلام بين شعوب ذات خلفيات ثقافية ودينية مختلفة إلى اندماج معتقدات وطقوس داخل الإسلام تتشابه قليلا مع السنة، والأهم أنها أوجدت ما يعتبره السلفيون تنوعا دينيا لا يحتمل بين المسلمين. ثانيا، أسفرت الظروف التاريخية المتغيرة - والحداثة على وجه الخصوص - عن ظهور مواقف ليس لها إجابة واضحة في السنة، كما هو مدون في الأحاديث والسيرة والمصادر التقليدية الأخرى . سعى السلفيون - في صورتيهما الإسلامية والمعاصرة (ولكل نوع منهما فروعه الخاصة) - إلى حل هذه المشكلات عن طريق الاسترشاد بالإسلام الذي كان يمارس في عهد السلف الصالح. يرى الإسلاميون أن أيا ما كان يفعل أو لا يفعل آنذاك ينبغي أن يفعل أو لا يفعل الآن. أما المعاصرون فيتبعون من جانبهم مبادئ مختلفة؛ فهم يرون أن الله ودينه يتصفان بالعدل والرحمة في الأساس؛ وأن أيا ما فرضه في القرن السابع - من خلال القرآن والسنة - يتصف حتما بالعدل والرحمة. لكن الأزمان تتغير، وبعض تفاصيل السنة - وإن كانت مقبولة تماما أثناء الوحي - أقل قبولا هذه الأيام؛ ولهذا السبب لا بد من إعادة قراءة هذه الأحداث في ضوء الظروف المعاصرة. يؤمن المعاصرون بالمساواة بين البشر، والديمقراطية، وحقوق الإنسان تماما مثلما يؤمنون بالقرآن والسنة. ومن ثم، لا بد أن يتوافق القرآن والسنة مع مبادئ المساواة بين البشر، والديمقراطية، وحقوق الإنسان. ولهذا يلجأ المعاصرون إلى التاريخ الإسلامي - وتحديدا السيرة والوقائع التاريخية المتعلقة بالسلف لا إلى الأحاديث الأكثر حسما بوجه عام - لكي يثبتوا أن هذه المفاهيم كانت جزءا من الإسلام منذ البداية. ويرد الإسلاميون على ذلك بأن القرآن والسنة هما اللذان يعرفان «العدالة» وليس العكس.
بعبارة أخرى، يرغب كل من الإسلاميين والمعاصرين في معرفة التاريخ الإسلامي المبكر ليكرروه. كونهم يختلفون حول كيفية قراءة التاريخ الإسلامي - إما قراءة حرفية (في حالة الإسلاميين) أو قراءة كل واقعة ضمن سياقها التاريخي - يوضح مدى أهمية التاريخ وتفاصيله للمسلمين [من أهل السنة]. فمعظم المسلمين يوجدون في مكان ما بين المجموعتين، ويتبعون السنة حسبما فسرها العلماء الثقات على مر القرون. وتنعكس مركزية السنة لدى المسلمين المعاصرين في جدول برامج «قناة الإسلام» التي تبث إرسالها من لندن والتي تبث عروضا تليفزيونية مثل برنامج «السنة هي الأفضل» الذي «يهدف إلى تثقيف وتعليم المشاهدين المسلمين أهمية اتباع سنة نبينا محمد»؛ وبرنامج «النبلاء» الذي يستكشف «حياة صحابة النبي محمد النبلاء ... وهم جيل تألق في ورعه وشجاعته ومآثره الدنيوية».
الوهابية
مع أن شبه الجزيرة العربية هي مهد الإسلام، فإنه بدءا من منتصف القرن الثامن - حينما قمع الخليفة العباسي إحدى الثورات التي انطلقت من الحجاز - تعرضت هذه المنطقة للتهميش سياسيا طيلة ألف سنة؛ وهو ما منح النفوذ الديني للحكام الإمبراطوريين من الشمال الغربي أو الشمال الشرقي الذين لم يفكروا قط في التمركز هناك. استعادت شبه الجزيرة العربية الشهرة السياسية في عهد محمد بن عبد الوهاب (الذي توفي عام 1792) وأتباعه الذين اشتهروا (بين معارضيهم) باسم «الوهابيين»؛ بينما هم أنفسهم كان يفضلون مصطلح «الموحدين» بسبب تعريفهم المتشدد للتوحيد. والحركة الوهابية هي التعبير الأكثر تأثيرا عن السلفية ذات الطابع الإسلامي، وذلك لدورها في تشكيل (أو حسبما يقول البعض: «إيجاد») الإسلام السياسي المعاصر، ونشر الأفكار السلفية على أوسع نطاق في العالم الإسلامي.
أكد محمد بن عبد الوهاب من موطنه في إقليم نجد في شبه الجزيرة العربية على تعارض الممارسات الدينية الشائعة - مثل زيارة أضرحة الأولياء وقبورهم، والتمسك الأعمى بطقوس ومعتقدات لا أساس لها في القرآن أو السنة - مع التوحيد الحق، وأعلن أن من لا تتوافر فيهم معاييره الدينية كفار. وبوصف المسلمين غير الوهابيين كفارا، فإنهم كانوا أهلا لشن الجهاد عليهم، وكانت أضرحة الأولياء وقبورهم التي يتشفع بها هؤلاء عند الله عرضة للهدم. على انفراد، يمكن اقتفاء أثر هذه الأفكار لدى خوارج القرنين السابع والثامن، ومرابطي الفترة ما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر، والموحدين، وكتابات علماء القرن الرابع عشر مثل ابن تيمية (الذي توفي عام 1328) وتلميذه ابن القيم الجوزية (الذي توفي عام 1350). وهكذا تكون إنجاز ابن عبد الوهاب - مثله مثل معظم المصلحين الآخرين في التاريخ - من ابتكار شيء جديد من أفكار قديمة.
في منتصف القرن الثامن عشر، انحاز الوهابيون لمحمد بن سعود حاكم إحدى المدن القريبة، وعلى مدار القرن ونصف القرن التاليين حاربت الأسرة السعودية من أجل بسط نفوذها ونشر الإسلام الوهابي في أنحاء شبه الجزيرة العربية. جاءت المقاومة من السكان المحليين الذين فزعوا من الأساليب العنيفة وعدم احترام الأماكن المقدسة، ومن السلاطين العثمانيين الذين أرسلوا قوات مصرية لمحاربة الحركة محققين في كثير من الأحيان انتصارات ساحقة عليهم. وفي القرن التاسع عشر تعرضت الدولة السعودية الوهابية للضعف أيضا بسبب صراعات داخلية على الإمامة (إلى جانب قضايا أخرى). وعلى الرغم من ذلك فإن التفنيدات العديدة للمذهب الوهابي التي ظهرت في جميع أجزاء العالم الإسلامي في نهاية القرن التاسع عشر تشهد على تأثير الأيديولوجية الوهابية. ومع بداية القرن العشرين شهد المصير السياسي للحركة تحسنا أيضا؛ إذ استطاعت الدولة السعودية الوهابية في ظل قيادة الإمام (ثم «السلطان» ثم «الملك») عبد العزيز آل سعود (الذي حكم البلاد من عام 1902 حتى 1953) السيطرة على معظم أجزاء شبه الجزيرة العربية، وتأسيس المملكة العربية السعودية عام 1932. وعندما اكتشفت كميات كبيرة من البترول في أراضي المملكة عام 1938، ضمن الإسلام الوهابي السبل التي يمكنه بها نشر رسالته على نطاق أوسع من أي صورة أخرى للإسلام. فيوما بعد يوم، تنتشر المساجد والمدارس والمواد التعليمية الوهابية أينما وجد المسلمون.
هدأت حدة التطبيق الصارم للمذهب الوهابي بفعل الظروف المدنية المرتبطة بحكم دولة مركبة، وما قد يراه أعداء النظام الحاكم أنه فساد ناجم عن الثراء الهائل المفاجئ، وتدفق أعداد كبيرة من المهاجرين (الاقتصاديين في الغالب) من مجتمعات إسلامية أخرى يختلف إسلامهم عن الإسلام الوهابي. هذه التهدئة (العرضية) التي شهدتها السلوكيات الوهابية مهدت الطريق أمام تعاون سعودي وثيق مع مجموعات كان محمد بن عبد الوهاب سيعتبرها «كافرة» مثل الإخوة السلفية؛ وهي علاقة جعلت السعوديين الداعم المالي الأكثر سخاء للإخوة منذ الخمسينيات من القرن العشرين. بزغ نجم أسامة بن لادن من وسط المصفوفة الوهابية السلفية، مع أن الطبيعة المحددة لعلاقته بالوهابية تظل موضع خلاف. قد تساهم الوهابية أيضا في فهمنا للفجوة التي تفصل حاليا المجتمعات الإسلامية عن المجتمعات الغربية المسيحية-اليهودية (لكن عليك انتظار خاتمة الكتاب لتعرف كيف).
بوجه عام، تشكل المذهب الشيعي أيضا بفعل التاريخ، ولكن بطرق مختلفة وبقدر مختلف. فبدءا من القرن التاسع وحتى نهاية القرن الثامن عشر، مال الشيعة الاثنا عشرية إلى التصوف بينما سعى شيعة آخرون (وأشهرهم الإسماعيليون) وراء النفوذ السياسي باسم الأئمة الأحياء. أما هذه الأيام فالشيعة الاثنا عشرية المتمركزون في جمهورية إيران الإسلامية هم الذين يمثلون الفاعلية الشيعية (لاحظ السيف الذي يتوسط العلم الإيراني، وأنهم تولوا الحكم عن طريق ثورة اندلعت عام 1979)، بينما الإسماعيليون هم الأكثر تصوفا في الغالب.
هذا التغير في موقف الشيعة الاثني عشرية تجاه النفوذ السياسي يرتبط بمواقف الشيعة من التاريخ الإسلامي المبكر. لقد حاز العلماء الشيعة في أواخر القرن السابع عشر في ظل غياب حكام أقوياء في الأراضي الصفوية قدرا كبيرا من النفوذ فيما يتعلق بشئون الدولة. ومع سقوط الصفويين في القرن الثامن عشر، نشب جدال بين فرعين من الشيعة؛ رأى «الإخباريون» أنه حتى عودة الإمام الثاني عشر يتعين على المسلمين اتباع القرآن والسنة التي تشتمل في نظرهم على سوابق حددها محمد وأئمة الشيعة المعترف بهم (حسبما ورد في أحاديث الشيعة). ومن ثم فهم يرون أن التاريخ الذي يصف أقوال السلطات الشيعية وأفعالها (السلف الشيعة) له علاقة مباشرة بممارسة الإسلام. أما خصومهم فكانوا الأصوليين الذين قالوا إن ممارسات الشيعة الحالية لا بد أن تعتمد على اجتهاد كبار العلماء. ومع نهاية القرن الثامن عشر، فاز «الأصوليون» في هذا الجدال، والشيعة الأصولية هي المسئولة عن قيام الثورة الإيرانية في نواح عدة؛ فانتشار المجتهدين أدى إلى إيجاد تسلسل هرمي لرجال الدين على رأسه آيات الله العظمى الذين كان من بينهم آية الله الخميني، أشهر رموز الثورة. ويقول البيان غير الرسمي للثورة - وهو كتاب للخميني بعنوان «الحكومة الإسلامية: ولاية الفقيه» - إنه من أجل ضمان ممارسة المسلمين الإسلام الحق، لا بد أن يعيشوا في ولاية إسلامية يحكمها فقيه مجتهد بارز. وبعد نجاح الثورة، صار آية الله الخميني أول هؤلاء الحكام.
إن الاعتماد على المجتهدين الأحياء يقلل بالضرورة من تأثير السنة على الإسلام الشيعي، فضلا عن أن الفهم العام بين الشيعة بأن مسار التاريخ قد تعرض للتضليل منذ أن جرى تخطي علي في مسألة الخلافة بعد وفاة محمد، قد قلل من دور التاريخ الإسلامي في تحديد الممارسات الشيعية. رغم ذلك، ثمة طريقتان ارتبط فيهما المذهب الشيعي والتاريخ من أجل إيجاد ممارسات خاصة بالإسلام الشيعي دون غيره، وهما: التعزية، والعمليات الاستشهادية.
يعتقد جميع الشيعة أن الحسين - الابن الثاني لعلي - كان الإمام الثالث في خلافة محمد (يسبقه علي وابنه الأكبر الحسن). وعندما وصل الأمويون إلى الحكم عام 661، ازداد وضوحا أنه من المستبعد أن يتولى الحسين الحكم بوصفه إماما. وفي عام 680 قاد الحسين وأتباعه ثورة ضد الخليفة الأموي يزيد، لكنهم تعرضوا للقمع الوحشي في كربلاء في يوم العاشر من أول شهور التقويم الإسلامي الذي كان حتى ذلك الحين يوم صيام تطوعي (وهو يوافق يوم الغفران اليهودي الذي يحتفل به اليهود أيضا في اليوم العاشر من الشهر الأول). ولإحياء ذكرى استشهاد الحسين على يد يزيد، ميز الشيعة هذه الذكرى السنوية بإقامة طقوس «التعزية» التي يعاد فيها تجسيد معاناة الحسين ومقتله. والتعزية طقس شهير وشائع في المجتمعات الشيعية، ويتيح للسكان المحليين فرصة التفكر في أمور أخلاقية ودينية، وفي بعض الحالات توجيه النقد المقنع إلى السلطات عن طريق ذكر بياناتهم السياسية التي لا تلقى رواجا على لسان يزيد أثناء التجسيد. ومن ثم، فإن واقعة في القرن السابع من التاريخ أمدت المذهب الشيعي بواحد من أكثر طقوسه تميزا.
العمليات الاستشهادية أو «المهام الانتحارية» محرمة نظريا في الإسلام السني. معروف أن من يموتون أثناء الجهاد شهداء، لكن تؤكد المصادر القديمة حرمة شروع المرء في القتال عازما على الموت أثناءه (ويستشهد في هذا الصدد بالآية رقم 29 من سورة النساء).
شكل 6-1: التعزية (كراتشي، باكستان). يمثل الحصان جواد الحسين.
1
يختلف كثير من الشيعة في الرأي مع ذلك، ويرتبط استشهاد الحسين (ومعظم الأئمة الاثني عشر الآخرين) بإحساس الشيعة بأنهم كانوا ضحايا كما أسلفنا القول ليمدهم ذلك بموروث يغض الطرف عن مثل هذه الممارسات. وليس من قبيل الصدفة أن الجماعة الأكثر اشتهارا بشن الهجمات الانتحارية في التاريخ الإسلامي كانت الشيعة (الحشاشون الإسماعيليون)، وليس من قبيل الصدفة أيضا أن الهجمات الانتحارية في العصر الحديث انطلقت على يد حزب الله الشيعي (الذي وقعت أولى «عملياته الاستشهادية» في بيروت عام 1983). أسهمت فعالية هذه الوسيلة الزهيدة التي لا تحتاج تقنيات عالية في شن الحروب في لفت انتباه الإسلاميين السنة إليها، فتبناها بعضهم منذ ذلك الحين ولكن في تردد. ولا يزال جواز العمليات الاستشهادية محل جدل محتدم بين أولي الأمر من أهل السنة.
ألهمت وقائع من السير الذاتية للنبي والسلف (والأئمة لدى الشيعة) سلوك المسلمين ذوي التوجه الديني، حتى وإن لم يستعن بها بوصفها جزءا من الشريعة. فمولد الإسلام - على سبيل المثال - كان مثالا نموذجيا للثائرين الدينيين على مدار التاريخ الإسلامي. لذا أفتى الخوارج بوجوب الرحيل من الأراضي الخاضعة لحكم غير شرعي (أي حكم يتزعمه غير الخوارج)، وهو رحيل وصفوه باسم «الهجرة» سيرا على نهج النبي عندما هاجر من مكة الوثنية إلى المدينة. نفذت الثورتان العباسية والفاطمية «هجرات» خاصة بهما؛ فالعباسيون غادروا «المركز» إلى خراسان، ليعودوا إلى المركز مرة أخرى ويلحقوا الهزيمة بأعدائهم (مثلما فعل محمد)، بينما هاجر الفاطميون إلى اليمن وشمال أفريقيا قبل العودة شرقا إلى مصر غزاة يحالفهم النصر. والأكثر لفتا للنظر أولئك المصلحون والناشطون السياسيون المسلمون (عادة في أفريقيا) الذين صاغوا حركاتهم على نهج وثيق الصلة بحياة النبي. فقد قاد عثمان دان فوديو (1754-1817) أتباعه من موطنهم (هجرة) وشنوا جهادا في البلد المعروفة حديثا باسم نيجيريا ضد أهل البلاد المسلمين في بلاد الهوسا الذين عدت ممارستهم للإسلام غير مقبولة (بسبب استيعابها طقوسا شاعت قبل ظهور الإسلام). حث عثمان أتباعه على الجهاد مستعينا بمقطع شعري مقفى (راجع القرآن الذي يضم في الأغلب نثرا مقفى)، وأطلق على من خلفوه اسم «الخلفاء». ومهدي السودان الذي عاش في نهاية القرن التاسع عشر مثال آخر على هذا الأمر؛ فقد باشر الهجرة هو الآخر، وأطلق على مؤيديه اسم «الأنصار» (الاسم الذي أطلق على مؤيدي محمد في المدينة)، وجاء بعده هو الآخر «خليفة».
ثمة مثال آخر على التأثير غير الرسمي للتاريخ الإسلامي المبكر على المسلمين يأتينا من فتوى نشرت على شبكة الإنترنت للشيح يوسف القرضاوي (الذي ولد عام 1926). حينما سئل هل يجب على المسلمين أن يقاطعوا البضائع الإسرائيلية، أجاب :
يجب على العرب والمسلمين حيثما كانوا أن يقاطعوا كل الشركات المنحازة للصهاينة ... إن المقاطعة سلاح فعال من أسلحة الحرب قديما وحديثا. وقد استخدمه المشركون في العهد المكي في محاربة النبي
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه، فآذاهم إيذاء بليغا حتى أكلوا أوراق الشجر. كما استخدمه بعض الصحابة في محاربة المشركين في العهد المدني.
لا يعني رد القرضاوي أن المقاطعة جزء إلزامي من السنة، بل يقول إنها أثبتت فاعليتها تاريخيا. المغزى هنا أن التاريخ الذي يستند إليه هو من سيرة النبي، لأنها المرجع الأول لأولي الأمر السنة الذين يبحثون عن إجابات تقليدية لأسئلة معاصرة، ولأن لها صدى واسع النطاق. على نحو مماثل، حينما سعى الإسلامي البارز سيد قطب إلى نزع الشرعية من أولي الأمر المسلمين والمجتمعات الإسلامية في زمنه، أشار إليها بأنها تمثل «الجاهلية»، في إشارة متعمدة إلى العصر الذي انطلقت منه رسالة محمد وبزغ منه نجم الإسلام.
في بعض هذه الحالات، يصعب التمييز بين الأهمية «الدينية» و«السياسية» للتاريخ الإسلامي، لأن أي أهمية سياسية نتجت عن حياة محمد والسلف ترتبط ارتباطا مباشرا بمكانتهم الدينية بين شعوب متدينة. لكن هناك وسائل يمكن استغلال التاريخ الإسلامي من خلالها على يد أناس ذوي مؤهلات دينية قليلة أو ذرائع للتأثير على المسلمين الذين لا يكترثون لأمر الدين (أو من ليسوا مسلمين من الأساس) مثلما سنرى الآن.
هوامش
الفصل السابع
الأهمية السياسية للتاريخ الإسلامي
كثيرا ما يقال إن أحد أهم الاختلافات بين الغرب المسيحي-اليهودي والإسلام أن الإسلام لم يألف فصل «الدين» عن «الدولة»، على الرغم من أن هناك كتبا كثيرة تتناول مثل هذه القضايا، فهذا الكتاب ليس واحدا منها. كل ما يمكن قوله إن الأمور ليست بهذه البساطة؛ فبدءا من القرن العاشر (إن لم يكن قبل ذلك) كان هناك تمييز فعلي بين الإدارات المعنية بالشئون الدينية على صعيد والمعنية بالشئون الحكومية على الصعيد الآخر، مع وجود مجموعات مختلفة تدعي السلطة وتمارسها على كل صعيد. ربما يتداخل الصعيدان أحيانا - فشن الجهاد مرتبط بالدين والحكومة معا - لكن يظل التمييز بينهما قائما بصورة عامة. والواقع أن هذا الفصل بين «الدين» و«السياسة» هو ما يسعى الإسلاميون إلى إلغائه، وهو أيضا الذي حدد نسق هذا الكتاب؛ فقد تناول الفصل السابق تأثير التاريخ الإسلامي على الشئون الدينية، بينما يتناول الفصل الحالي تأثيره على الشئون السياسية.
جميع الناس يفكرون في علاقتهم بالماضي (حتى لو كان ذلك بدافع رفض الماضي فحسب)، والمسلمون ليسوا استثناء؛ فعندما شبه أسامة بن لادن الغزو الأمريكي للعراق بغزو المغول للمنطقة في الخمسينيات من القرن الثالث عشر، كان يضرب على وتر تاريخي لم يتوقف عن الاهتزاز طيلة 750 عاما مضت. لقد دام تدمير المغول للخلافة العباسية في الذاكرة الجمعية للأمة مثلما هو الحال مع موقعة هاستنجز (1066) لدى البريطانيين، ولا عجب أن الناس يتذكرون الأحداث المهمة. ما يميز وضع التاريخ الإسلامي بين المسلمين ليس فقط أن الأحداث الكبرى واللحظات المحورية في التاريخ مألوفة ومثيرة للذكريات لدى المسلمين في كل مكان، بل الأمر نفسه يمتد إلى الكثير من تفاصيله (العشوائية غالبا). علاوة على ذلك، فإن التقدير الذي يحظى به التاريخ في المجتمعات الإسلامية قد أدى إلى نشره في سياقات سياسية جمهورها المستهدف من غير المسلمين، وهو ما سنوضحه أدناه.
لا تحظى كل فترات التاريخ الإسلامي ومناطقه بالوقع نفسه لدى المسلمين. والقاعدة العامة تقول إنه كلما كان الحدث في زمن مبكر، زادت احتمالية شيوعه على نطاق واسع؛ فالراويات التي تتعلق بمحمد وأصحابه والفتوحات الأولى واسعة الانتشار للغاية. وفقا لذلك، ومن دون استثناء تقريبا، يتكون المخزون التاريخي الكامل الذي اعتمد عليه المسلمون في الأغراض السياسية من الفترات (600-800) و(800-1100) و(1100-1500). والسبب في ذلك أنه - حتى عهد قريب - متى انتشر الإسلام في منطقة جديدة نزع السجل التاريخي الذي يجلبه المسلمون معهم إلى الثبات، مع تكون الفصول التالية من القصة من الأحداث المحلية بدلا من تلك التي تحدث في أماكن أخرى. في فترات ما قبل العصر الحديث، أتاح الحج للمسلمين من كل مكان إطلاع بعضهم البعض على المستجدات في الأراضي البعيدة، لكن التكنولوجيا الحديثة وحدها هي التي أعادت تحديد العلاقة بين المجتمعات الإسلامية والتاريخ فيما بعد عام 1500 بلفتها انتباه المسلمين في كل مكان إلى آخر الأحداث.
تقول قاعدة عامة أخرى إن الأحداث التاريخية التي وقعت في الأراضي الإسلامية المركزية حظيت بانتشار أوسع من الأحداث التي وقعت في مناطق نائية. فكر في المثال التالي. في جزء متنازع عليه في العالم الإسلامي، أقيم جدار عازل كبير على يد إحدى الحكومات من أجل فرض رؤيتها فيما يتعلق بالحدود الدولية على منطقة متنازع عليها. يطلق معارضو هذا الحاجز الذي يمتد مسافة 2700 كيلومتر اسم «جدار العار»، وكثيرون من السكان المحليين الذين يعيشون وراء الجدار يعاملون معاملة اللاجئين. يمتد الجدار المشار إليه هنا عبر الصحراء الغربية، وبني في الثمانينيات من القرن العشرين على يد الحكومة المغربية التي تفضل أن تطلق عليه اسم «الحاجز الترابي» (هل كنت تفكر في جدار آخر؟) حقيقة أن هذا الجدار غير معروف نسبيا - بينما جدار آخر أقل ارتفاعا بكثير في الأراضي الفلسطينية-الإسرائيلية اكتسب سمعة سيئة - تعكس انعدام التوازن بين المناطق والحقب المختلفة في العالم الإسلامي؛ فبعض المناطق طالما كان لها على ما يبدو تأثير غير متكافئ على الوعي الجمعي في حين يمكن لمناطق أخرى أن تختفي سريعا من بؤرة الأحداث. لقد تأخرت المغرب في الانضمام إلى الخلافة في حين بادرت بالانفصال عنها على عكس الأراضي الإسلامية في الشرق الأدنى التي انبثقت منها القوة والنفوذ والتي بقيت فيها الخلافة قرونا تالية. حتى بين الأراضي الإسلامية المركزية، حازت الأرض المقدسة على أهمية استثنائية بتضمنها الأحداث التاريخية من السيرة، والفتوحات الأولى، وتاريخ الخلافة، وتطرقها إلى الجدل بين الأديان، وكونها موضوع مجموعة هائلة من المؤلفات الدينية على مر العصور.
يمكن تمييز أهمية التاريخ الإسلامي في اللغة السياسية المستخدمة منذ ظهور الإسلام وحتى العصور الحديثة. في بعض الحالات، ربما يقال إن التشابه الملحوظ بين الأشكال القديمة والمعاصرة من اللغة العربية يفسر استخدام المفردات «التاريخية» في السياقات المعاصرة. على سبيل المثال، استخدمت كلمة «فدائي» لأول مرة بمدلول سياسي في وقت مبكر في الفترة من عام 1100 حتى عام 1500 عند الإشارة إلى الحشاشين الإسماعيليين، لتعاود الظهور بصيغة الجمع - «فدائيين» - في منتصف القرن العشرين بين الإيرانيين، والفلسطينيين، والمصريين، والعراقيين. لكن في حالات أخرى، يكون استخدام المفردات المحملة بالمعاني التاريخية مقصودا على نحو واضح؛ فقد أشير إلى ثورات البربر ضد الفاتحين الأوائل لشمال أفريقيا باسم «الردة» (في تشابه مع حروب الردة التي أعقبت وفاة محمد)، مثلما قدم المصلحون الدينيون الذين أشرنا إليهم في الفصل السابق سيرتهم بتعبيرات مأخوذة من السيرة النبوية. بالمثل، حاولت دول إسلامية معاصرة - وعلى وجه التحديد مصر في عهد جمال عبد الناصر (الذي توفي عام 1970)، وأنور السادات (الذي توفي عام 1981)، وحسني مبارك (الذي ولد عام 1928) - تشويه سمعة المعارضين الإسلاميين بوصفهم باسم «الخوارج»، ومن ثم ربط هذه المجموعات بإحداث شقاق وبيل (فتنة) كالذي ينسب للخوارج في بداية الإسلام.
أيضا صيغت النزاعات التي شهدتها المجتمعات الإسلامية الحديثة بمصطلحات تشير إلى صراعات قديمة وقعت في التاريخ الإسلامي. ففي نزاع بين مجموعتين في السودان في القرن التاسع عشر على موارد المياه المحلية، ادعت المجموعتان أنهما تنحدران من سلالة الأمويين والعباسيين على التوالي. وما بين القرنين السابع عشر والعشرين، عندما اندلع النزاع بشأن بسط النفوذ بين الفصائل المتناحرة في لبنان وفلسطين أثناء العهد العثماني، وصف الجانبان أنفسهما باسم «قيس» و«يمن». يقال إن هذين الاسمين مشتقان من أزمان سابقة للعصر الإسلامي حينما انضم مهاجرون من الجنوب (أو اليمن، ومن ثم جاء الاسم «اليمنية») إلى سكان شمال شبه الجزيرة العربية (القيسية)؛ مما أدى إلى تكون اتحادين كبيرين من القبائل العربية. ويعتقد أن أوجه الاختلاف قد أعيدت صياغتها في منتصف القرن السابع عندما استقر أفراد من كلتا المجموعتين القبليتين في ثكنات في الشرق الأدنى، وأعادوا تتبع نسبهم لينعكس ذلك في التحالفات وأنماط الاستقرار الجديدة التي نتجت عن اضطراب المجتمع العربي بسبب الفتوحات. وبدءا من عام 700 تقريبا - عندما وضعت الحرب الأهلية الثانية (680-692) أوزارها - ظهر فصيلان «قيسي» و«يمني» هيمن النزاع بينهما على عالم السياسة في عهد الخلافة الأموية. لا يوجد اتفاق بين المؤرخين على جذور النزاع أو طبيعته أو ثقله؛ وعلى النقيض من ذلك كان الإسناد التاريخي لدى سكان فلسطين ولبنان في الماضي القريب إسنادا عفويا.
لا شك أن مدلول الاعتماد على مفردات التاريخ في السياقات السياسية قد يكون محدودا؛ فعندما يشير متحدثو الإنجليزية إلى الولادة بعبارة «عملية قيصرية»، فإنهم لا يشيرون إلى التاريخ الروماني والأساطير المتعلقة بيوليوس قيصر. من المهم إذن أن نلاحظ أن ثمة قضايا سياسية معاصرة يلعب التاريخ الإسلامي فيها أدوارا مقصودة ومتعمدة من نوعين. في بعض الحالات، يكون ذلك وسيلة لحشد الأمة ككل وراء إحدى القضايا السياسية؛ وفي حالات أخرى يكون لتوضيح وجهة نظر أحد الحكام بشأن قضية سياسية والتنويه إلى الكيفية التي يتوقع أن تحل بها، وذلك بالإشارة إلى أحداث في التاريخ الإسلامي عاقبتها معروفة بالطبع. تكفي دراستا حالة اثنتان ذواتا صلة بالقراء المعاصرين لتوضيح ذلك، وهما: الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الحالي، والحرب العراقية الإيرانية (1980-1988).
الصراع الفلسطيني الإسرائيلي
يمارس التاريخ الإسلامي نفوذا سياسيا إزاء هذه القضية أكثر من غيرها لسببين يتفقان مع القواعد العامة الموضحة أعلاه. أولا، من السهل ربط الصراع المعاصر بوقائع ذكرت تفصيلا في السيرة، وفيها توصف علاقات محمد باليهود بأنها محورية فيما يتعلق بسيرته في المدينة (وفي المرتبة الثانية في الأهمية فحسب في علاقاته بأهل مكة). وفقا لذلك، يمكن الاستشهاد بالسيرة الذاتية لمحمد (المتأثرة بعدة مئات من الأحاديث ذات الصلة) لتوضيح أن «اليهود» غير جديرين بالثقة، ومخادعون، ومتعجرفون، ومتآمرون، ويستحقون قصاص المسلمين منهم. «اليهود» هو المسمى الأكثر شيوعا عند الحديث عن «الإسرائيليين» في معظم وسائل الإعلام الإسلامية. ومن هنا سمع أعضاء حزب الله وهم يهتفون «خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود»، في إشارة إلى هزيمة محمد لليهود في واحة خيبر عام 628، وتشبيه للإسرائيليين المعاصرين باليهود في عهد محمد. بل وصل الأمر حد إلباس اليهود في إسرائيل ثوب أعداء محمد المكيين المشركين (الذين لا يمكن لنسلهم الحالي أن يجسدوا معارضة للأمة لأنهم، باعتبارهم مسلمين، جزء منها). ومن ثم، أطلق على الهجوم المصري على خط بارليف الإسرائيلي (سلسلة من التحصينات على امتداد قناة السويس) عام 1973 الاسم الرمزي «عملية بدر» في إشارة إلى هزيمة محمد لأهل مكة في غزوة بدر عام 624. وأخيرا، فإن الإصرار المتكرر لياسر عرفات على أن يكون أي اتفاق سلام مع إسرائيل «صلح حديبية» مثال على استناد أحد الزعماء المسلمين إلى التاريخ الإسلامي كتعبير عن نواياه السياسية. ربما فات المراقبون غير الملمين بالتاريخ الإسلامي المعنى الضمني بأن تكون هدنة السلام مع إسرائيل - مثلما كان اتفاق محمد مع أهل مكة في الحديبية عام 628 - عشر سنوات فقط يمكن نقضها إثر أقل استفزاز (أنهى محمد الصلح عام 629).
ثانيا، كانت فلسطين مركزا لعدد من الأحداث المحورية في التاريخ الإسلامي، ومعظمها يعتمد على قدسية المنطقة. وفقا للمصادر القديمة، توجه المسلمون في البداية في صلاتهم نحو القدس، ولم يتغير اتجاه الصلاة (القبلة) إلى مكة إلا بعد عام 624. تقول المصادر العربية الأولى أيضا إن عبد الملك بنى قبة الصخرة في محاولة منه لتحويل الحج من مكة (التي يتخذ غريمه السياسي الرئيسي منها مركزا له) إلى القدس، ويقال إنه من أجل ذلك أكدت السلطات الدينية في ذلك الوقت على تساوي القدس مع مكة، بل وأفضليتها عليها. ويوضح الباحثون المعاصرون أن فتح القدس قبل عقود مضت كانت له دلالات مسيحية لليهود المعاصرين (وللمسلمين أيضا وفقا للمجازفين من الباحثين). أقامت محاولات البيزنطيين والمحاولات ذائعة الصيت للصليبيين أن يستردوا القدس والأرض المقدسة محققين درجات متباينة من النجاح الدليل على أهمية المنطقة والحاجة إلى المحاربة من أجلها؛ وقد أوجدت الحملات الصليبية لونا من الأدب الإسلامي يلهج بتعداد فضائل القدس ويؤكد على مسئولية الأمة عن حمايتها من المعتدين الملحدين.
شكل 7-1: صدام حسين ونبوخذ نصر (الذي حكم البلاد من عام 605 حتى عام 562 قبل الميلاد).
1
وكالمتوقع، أعيدت الانتصارات التاريخية على غزاة فلسطين إلى الذاكرة من قبل سياسيين سعوا إلى تقديم أنفسهم في صورة أبطال مسلمين ذائعي الصيت؛ فكل من الرئيس السوري حافظ الأسد (الذي حكم البلاد من عام حتى عام 2000) والرئيس العراقي صدام حسين (الذي حكم من عام 1979 حتى عام 2003) بنى تمثالين لصلاح الدين في عاصمتي بلديهما.
شكل 7-2: تمثال صلاح الدين (دمشق، سوريا).
2
علاوة على ذلك، شبه صدام نفسه علانية بكل من صلاح الدين ونبوخذ نصر (بختنصر)؛ إذ كان الأول من تكريت (شمال بغداد) واشتهر بطرده الصليبيين من الأرض المقدسة، والثاني كان حاكما للعراق (أو بلاد بابل) واشتهر بطرده اليهود من الأرض المقدسة في الأزمان القديمة. كان غرض صدام واضحا: فهو الحاكم الذي سيقدم المساعدة للمسلمين في فلسطين عن طريق هزيمة اليهود، ومن ثم إعادة الأرض إلى الحكم الإسلامي. وهكذا أصبح «اليهود» من جانبهم نظراء «الصليبيين» في الخطابات السياسية، والنقاشات العامة، وحتى كتب الأطفال المدرسية في أجزاء من العالم الإسلامي. ولذا، شبه الحصار الإسرائيلي لبيروت عام 1982 في وسائل الإعلام المحلية بحصار الصليبيين لعكا في الفترة 1189-1191؛ وفي هذا المثال (الذي ليس سوى مثال واحد من بين عدة أمثلة) لا يقتصر الأمر على أن المسلمين عقدوا مقارنة واضحة وسطحية بين الغزاة المعاصرين لفلسطين وغزاة العصور الوسطى، لكن ما حدث أن واقعة ملتبسة نسبيا من تاريخ العصور الوسطى قد استشهد بها عرضا واعتبرت جلية بوجه عام. والانشغال التام للغرب حاليا بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي (الذي يتجاهل في الأغلب صراعات أخرى أكثر عنفا أو تكلفة) هو اعتراف من الدرجة الأولى بأهمية القضية لدى المسلمين.
الحرب العراقية الإيرانية
استغل صدام حسين التاريخ الإسلامي سياسيا على أوسع نطاق أثناء الحرب العراقية الإيرانية؛ وهو ما حدا بآية الله الخميني والإيرانيين أن يردوا بدروس تاريخية متعلقة بهم. اعتبر كلا الجانبين التاريخ الإسلامي أداة دعائية قوية يمكن من خلالها حشد التأييد العسكري والشعبي لحملتيهما، داخل كل من إيران والعراق وداخل الأمة بوجه عام.
وكالمتوقع، ركز شيعة إيران على موقعة كربلاء، واستشهاد الحسين بن علي، وطغيان الخليفة الأموي يزيد الذي استعرضه في هذا السياق الرئيس العراقي. ومن المرجح أن تكون هذه الإشارات التاريخية قد ألهبت مباشرة حماس القوات الإيرانية التي «استشهدت» منها أعداد هائلة أثناء الحرب (إذ فاقت الخسائر في أرواح الإيرانيين مليون شخص ما بين قتيل ومصاب). أطلق اسم «عملية كربلاء» على ما لا يقل عن عشر عمليات عسكرية إيرانية، وإن كان جديرا بالذكر أيضا أن القضية الفلسطينية اعتبرت جديرة بالاستغلال هنا أيضا؛ فإحدى الهجمات الإيرانية على البصرة سميت «عملية خيبر»، بينما نادى أحد الشعارات الأولى للحرب الإيرانية بأن «الطريق إلى القدس يمر ببغداد».
حتى قبل الحرب، انعكست كراهية صدام لإيران وشعبها في بيانات عامة عن دور «الفرس» في مقتل الخلفاء الراشدين الثاني والثالث والرابع. وعشية الحرب العراقية الإيرانية وطوال فترة الحرب، كان يشار إلى الإيرانيين عادة باسم «الفرس»، وهي اللفظة المستخدمة في التاريخ الإسلامي للإشارة إلى الفارسيين الذين عاشوا قبل ظهور الإسلام والذين فتحت الأمة بلادهم في القرن السابع. وقعت المعركة المحورية في غزو إيران في القادسية عام 637؛ وهو ما جعل صدام يطلق على الصراع بأكمله اسم «قادسية صدام»، مؤكدا على انتصار العرب (العراق) على الفرس (إيران). كانت تلك الإشارة التاريخية من الأهمية بمكان، حتى إن القادة الإيرانيين ردوا على ذلك بأن الحرب العراقية الإيرانية كانت بالفعل قادسية أخرى تصور انتصار إسلامي (إيراني) على قوى كافرة (الحكومة العراقية العلمانية). مع ذلك، كان العراقيون وغيرهم من أهل السنة في المنطقة هم من دأبوا على التفاخر بالانتصار في القادسية، ومن ذلك تسمية جامعات في الأردن والعراق وأندية كرة قدم في الكويت والسعودية باسم الموقعة. كذلك كان التاريخ الإسلامي أيضا مصدر إلهام لفرق كرة القدم الإيرانية المعاصرة؛ فنادي «أبو مسلم» في مدينة «مشهد» سمي باسم المخطط الرئيسي للثورة العباسية (747-750).
المغزى هنا - كما في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي - أن المسلمين لا يستندون إلى اللحظات المهمة من التاريخ فحسب، بل إلى أسماء أشخاص ومدن ومعارك وأحداث أخرى وقعت منذ نحو 13 قرنا. وحقيقة أن الاستخدامات السياسية للتاريخ الإسلامي ربما تتضمن ما يتعدى كونه تعريضا خاطفا لحدث تاريخي من القرون الأولى والأراضي المركزية للإسلام، توضح ما للتاريخ الإسلامي من تأثير حتى في عامة الشعب الذين من بينهم كثر غير مثقفين بل وأميين. يحتل التاريخ بين الشعوب الإسلامية مكانا في مقاهي المجتمع وأزقته وبين النخبة أيضا .
القومية والتاريخ الإسلامي
اتحدت الأهمية السياسية والدينية للتاريخ الإسلامي - مقرونتين بالأفكار الوليدة عن القومية والهوية والتاريخ التي جلبت إلى العالم الإسلامي من الغرب في القرن التاسع عشر - لتوجد روايات «عرقية» متمايزة. بعض هذه الروايات استعمل التاريخ الإسلامي بصورة مباشرة، بينما حرف البعض الآخر رسالته وقصته المتوارثة. وهكذا تكون القراءة العراقية «القومية» للتاريخ الإسلامي التي روج لها أثناء الحرب العراقية الإيرانية - والتي ساهمت عن قصد في تأليب الأبطال العرب ضد الأوغاد الفرس - مدينة لمنهج تبناه القوميون العرب والفرس والأتراك تجاه التاريخ قبل ثمانينيات القرن العشرين بوقت طويل.
يروى عن محمد أنه قال: «حب الوطن من الإيمان.» لكن الواقع أن ولاء المرء لوطنه كثيرا ما يتعارض مع ولائه للأمة. من ناحية، تبنت الحركات القومية أفكارا «إسلامية»؛ فالقوميون العرب مثلا قرروا عدم الانتماء إلى «شعب» عربي بل إلى «أمة» عربية. من الناحية الأخرى، تطلب التشكيل الواعي لهويات جديدة تسخير التاريخ نفسه لخدمة أحد الشعوب؛ وخصوصا بين الشعوب التي لعب التاريخ دورا تشكيليا في تحديد مكانها في العالم. ومن ثم، أعاد القوميون تفسير التاريخ الإسلامي كي يلائم الروايات الجديدة والأغراض السياسية الجديدة بدلا من التخلي عنه كلية.
بسبب تضارب المصالح المحتمل بين القومية والهوية الإسلامية، ولأن العرب والفرس والأتراك الذين روجوا للحركات القومية كانوا في العادة مسلمين علمانيين أو غير مسلمين على الإطلاق، استبدلت بالنسخ الإسلامية القديمة من التاريخ وجهات نظر تاريخية تجاوزت حدود الدين؛ فمصادر الإلهام والفخر الوطني التمست في الرموز الإسلامية، وأيضا في رموز ما قبل العصر الإسلامي الذين ربما تكون سمعتهم مطعون فيها في المصادر القديمة. وعلى هذا النحو، أصبح نبوخذ نصر والفراعنة المصريون أبطالا عربا وليسوا أوغادا من موحدي الشرق الأدنى؛ وتتبع الأتراك في تباه نسبهم إلى شعوب قديمة (غير موحدة) مثل الحيثيين والسومريين؛ واسترد اللبنانيون تراثهم الفينيقي (حقيقة كان أو خيالا)؛ وتذكر الفلسطينيون أنهم ينحدرون من سلالة الكنعانيين (وهو ما مكنهم بلا عناء من الدفاع عن أحقيتهم في الأرض المقدسة قبل الإسرائيليين).
لم يقتصر الأمر على تعظيم القوميين للشخصيات التاريخية غير الإسلامية (بل والمعادية للإسلام)، لكن التاريخ الإسلامي نفسه انعكس عبر عدسات جديدة. فالقوميون العرب على سبيل المثال مجدوا عن وعي «الجاهلية». وبالمثل، رد بعض مؤيدي الوحدة العربية الاعتبار إلى الخلفاء الأمويين الذين سجل التاريخ الإسلامي انعدام تقواهم واستيلاءهم على منصب الخلافة وفقا للباحثين في العصر العباسي ومن اعتمدوا عليهم. ووفقا لأحد الباحثين السوريين الذين كتبوا في الأربعينيات من القرن العشرين، كانت دمشق في عهد الأمويين:
موطن الملوك والخلفاء ... أهم عاصمة للعالم القديم، ومقر الحضارة والثقافة، والمركز الإداري لإمبراطورية عظمى وجيش عظيم. [كان عهد الأمويين] حينما تلاقى الشعر، والأدب والفن، وقيادة الفكر، والعلم، والحرب، والإدارة على ضفاف أنهارها الصغيرة، وحينما كانت دمشق هي العالم والعالم هو دمشق.
قد لا يرى المسلمون التقليديون هذه النسخة من التاريخ مقبولة، لكن نوع الاستخدامات السياسية التي يوضع من أجلها التاريخ في هذه الحالة ينبغي أن يكون أكثر شيوعا لديهم.
التاريخ الإسلامي والمجتمعات الغربية
من الواضح أن للتاريخ الإسلامي أهمية دينية وسياسية مباشرة للمسلمين في كل مكان، سواء أكانوا من أهل السنة أم سلفيين إسلاميين، أم سلفيين معاصرين، أم شيعة أم غيرهم. في العقود الحديثة، كانت هناك أيضا محاولات (من قبل أهل الغرب والمسلمين أيضا) لمشاركة بعض دروس التاريخ الإسلامي مع غير المسلمين في الغرب من أجل خدمة أجندات سياسية.
أفضل مثال على هذا الاتجاه الأسطورة والأسطورة المضادة للعصر الذهبي الإسباني. تقول الرواية إن المسلمين والمسيحيين واليهود عاشوا في الأندلس تحت الحكم الإسلامي في مدينة فاضلة تجمع بين مختلف الأديان وازدهروا في ظل الحماية المستقرة للحكم الإسلامي. استخدمت هذه الفكرة من قبل الباحثين اليهود الألمان الذين عرضوها في نهاية القرن التاسع عشر من أجل توبيخ زملائهم المحليين - الذين يفترض أنهم مثقفون - على عدم منحهم اليهود الألمان المستوى نفسه من المساواة الذي أتاحه (حتى) المسلمون قبل العصر الحديث. ومؤخرا، استخدمت فكرة العصر الذهبي الإسباني من قبل الإسلاميين ومعادي الصهيونية ليقولوا إن الصراع الحالي في المنطقة سببه تأسيس دولة إسرائيل، موضحين أن المسلمين واليهود عاشوا جنبا إلى جنب سابقا في سلام ووئام، وأن الحركة الصهيونية هي التي كدرت هذا الوضع الإيجابي. يرى معادو الصهيونية أنه لا بد من تفكيك إسرائيل حتى يمكن استعادة الوئام إلى المنطقة؛ أما الإسلاميون فيرون ضرورة أن يحيا غير المسلمين كافة تحت حكم إسلامي، لأنه لا يمكن لجميع الأديان أن تعيش في سلام إلا تحت مظلة الإسلام.
أثارت هذه الرواية بشأن العصر الذهبي الإسباني رد فعل على نفس الدرجة من السطحية من قبل أولئك الذين أوجدوا أسطورة مضادة (وهم في الأغلب يهود طردوا من الأراضي الإسلامية في الماضي)؛ وتقول تلك الأسطورة المضادة إن اليهود والمسيحيين كانوا دائما يتعرضون لسوء المعاملة من قبل الإسلام والمسلمين على مدار التاريخ في إسبانيا وغيرها من الأماكن أيضا. في ظل الإسلام، كان غير المسلمين مواطنين من الدرجة الثانية معرضين لنزوات حكام متعصبين نشروا الإسلام بالسيف ونهبوا ممتلكات رعاياهم الكفار كيفما اتفق. تفتقر أسطورة العصر الذهبي الإسباني والأسطورة المضادة لها إلى أدنى درجات المنطقية من عدة نواح. من ناحية، من الصعب القول إنه كانت توجد بالفعل مدينة فاضلة تجمع بين الأديان المختلفة في الأندلس؛ فحتى موسى بن ميمون (1135-1204) - خير من يمثل الوحدة الإبراهيمية والالتقاء بين الأديان - أجبر على الفرار من موحدي إسبانيا مثلما التمس الكثيرون من اليهود ملجأ من عنف المرابطين في المدن التي أعاد المسيحيون فتحها في أواخر القرن الحادي عشر. وعلى الرغم من أن الثقافة التي أوجدها غير المسلمين في الأندلس مبهرة كما وكيفا، فإن الغرض الذي وضعت من أجله فكرة العصر الذهبي لإسبانيا يتعلق بتسامح سياسي مبالغ فيه، وقلما وجدت هذه الظروف في الأندلس (ربما باستثناء قرطبة في الفترة من منتصف وحتى أواخر القرن العاشر). ومن ناحية أخرى، من الخطأ أيضا الحديث عن غير المسلمين بوصفهم مواطنين من الدرجة الثانية. فحتى مع تجاهل المفارقة التاريخية، من الواضح أن بعض المسيحيين واليهود تمكنوا في معظم المجتمعات الإسلامية على مدار التاريخ من الوصول إلى مناصب إدارية عليا، بينما كان بعض جيرانهم المسلمين يكافحون من أجل امتلاك قوت يومهم.
ما يهمنا هنا ليس الدقة التاريخية لهذه النظريات، وإنما حقيقة توظيفها من الأساس من جانب أهل الغرب ومن أجلهم. ومع أنه واضح أن للتاريخ الإسلامي أهمية دينية ضئيلة لدى غير المسلمين (على الأقل في ظل غياب خلافة عالمية)، فهناك إدراك قد بدأ لتوه لأهميته السياسية، وهي نقطة سنعود إليها في خاتمة الكتاب.
ملخص
ربما وجد المتحولون إلى الإسلام من غير العرب في القرن الأول من ظهور الإسلام أن الطابع العربي للدين غريب إلى حد ما، لكن من اعتنقوا الإسلام منذ العصور العباسية استوعبوا بسلاسة داخل الدين، واستطاعوا على الفور دمج تجاربهم وثقافتهم وماضيهم في شبكة المجتمعات الإسلامية الآخذة في النمو. علاوة على ذلك، ومثلما أشرنا في الفصلين السابقين، استطاع هؤلاء تبني مخزون تاريخي جاهز ومعروف وثري والاستفادة منه في السعي وراء تحقيق أهداف دينية وسياسية.
لهذه الأسباب، ربما يكون التاريخ الإسلامي هو الموروث الديني الوحيد الذي لا يختص تاريخه التأسيسي والكلاسيكي بقومية أو عرقية. فقليل من الأشخاص هم من يختارون اعتناق اليهودية من الأساس (ناهيك عن تاريخها)، ومع أن هناك كثيرين اعتنقوا المسيحية، فالعلاقة بين الموروث المسيحي وكيان تاريخي مميز هي علاقة ضعيفة. حتى وقائع التاريخ المسيحي التي احتفظت بأهميتها في العصور الحديثة - مثل الحملات الصليبية - لها صدى لدى بعض المسحيين (مثل الأوروبيين الغربيين) أكبر مما لها لدى آخرين (مثل الأمريكيين الجنوبيين). وقد قال جورج بوش في تصريح شهير: «أظن أننا نتفق على أن الماضي قد انتهى.» وهو ليس سوى تصريح واحد من بين عدة تصريحات يختلف معها معظم المسلمين.
هوامش
خاتمة
أدين للقارئ ببعض الإجابات عن سؤال طرحته في بداية الكتاب: لماذا تبدو المجتمعات الإسلامية والغربية متجهة نحو الصدام رغم جذورها المشتركة في عقيدة التوحيد السامية لدول الشرق الأدنى؟ يطرح هذا السؤال افتراضات سوف يعترض عليها بعض القراء. قد يقولون إنه لا يوجد مثل هذا التوتر بين المسلمين وأهل الغرب؛ أو أنه ليس هناك «مسلمون» و«غرب» على الإطلاق، بل هم مجرد أفراد أو مجتمعات فردية لا ينبغي تجميعها تحت مسميات عامة؛ أو أن السؤال نفسه يكشف عن تحيز ثقافي، لصالح أو ضد الغرب، أو لصالح أو ضد المسلمين، أو عن سذاجة. (هؤلاء القراء قطعا سينفرون مما سيلي ذكره.) ومع أنها اعتراضات منطقية، ومع أن تنوع المجتمعات الإسلامية كان موضوعا غالبا في هذا الكتاب، علينا أن نعي أنه للإجابة عن أسئلة عامة لا بد أن نلجأ أحيانا إلى تعميمات (معترف بنقصانها). علاوة على ذلك، ثمة أشخاص في مواقع بارزة في كل من المجتمعات الإسلامية والغربية يعتقدون أن صداما قد وقع بالفعل، أو يقع الآن، أو سيقع حتما بين «الإسلام» و«الغرب». ومما لا شك فيه أن التصريحات العلنية لبعض الزعماء في كلا الجانبين، وفي بعض الحالات أفعالهم على أرض الواقع لا تدع مجالا للشك بشأن مشروعية السؤال المهم الذي يطرحه هذا الكتاب. فكيف يمكن للتاريخ الإسلامي أن يساعد في الإجابة عن هذا السؤال؟
تقدم الفصول المختلفة من هذا الكتاب إجابات خاصة بموضوع كل منها. فالفصول الثلاثة الأولى تقدم أربع إجابات مقبولة، مركزة على العامل الجغرافي، والمؤثرات الثقافية «الخارجية»، والسجل السابق للعلاقات الغربية الإسلامية، والظروف السياسية المحيطة بتشكل الإسلام. لقد شكلت البيئة الجغرافية التي ظهر فيها التاريخ الإسلامي المجتمعات الإسلامية بطرق مهمة للغاية. فالمنطقة القاحلة الكبرى عرفت المسلمين على حقائق قاسية حددت كل شيء بدءا من التخطيط الحضري وحتى بزوغ نجم الحركات الطائفية وبقائها. ولما كانت للأراضي الإسلامية حدود نشطة مع أفريقيا وأوروبا وآسيا الوسطى وجنوب آسيا، فقد أدى ذلك إلى تعرض المجتمعات الإسلامية لحضارات وتأثيرات متنوعة، بالإضافة إلى التوحيد في الشرق الأدنى. ولقاؤنا مع شعوب التاريخ الإسلامي أكد أيضا على التأثيرات الحاسمة التي خلفها الفرس والأتراك على المجتمعات الإسلامية بدءا من أواخر القرن الثامن فصاعدا. ربما انطلق «الإسلام» و«الغرب» من نقاط بداية متشابهة، لكن سرعان ما «تشعب طريقاهما داخل غابة»، والواقع أن هذا هو ما أدى إلى الاختلاف كله.
ثمة إجابة أخرى معتمدة على التاريخ وهي أن الارتباط «الإسلامي» بالثقافة «الغربية» - حسبما قدمتها أوروبا لأسباب جغرافية - غلبت عليه العداوة التي تعد التوترات الحالية إما امتدادا أو انعكاسا لها. بطبيعة الحال تولدت حالة من انعدام الثقة بين «المسلمين» و«أهل الغرب» نتيجة الصراعات الأولى مع بيزنطة، يليها الحروب ضد دول البحر المتوسط المسيحية، والحملات الصليبية، و«حروب الاسترداد»، والتوسع العثماني في أوروبا ثم الانسحاب منها، وأخيرا الاستعمار. هذه السلسلة من الصراعات والذكريات - الحديثة والقديمة على حد سواء - عن عداء الغرب، والاضطهاد، والاستعمار ربما تثني المسلمين المعاصرين عن «الاستثمار» في الثقافة الغربية، وهو ما كانت له تبعات مهمة؛ فها هو كتاب صدر حديثا عن المائة شخصية المسلمة الأكثر تأثيرا في التاريخ يورد شخصية إسلامية غربية واحدة - مالكوم إكس - بالكاد يمكن اعتبارها إحدى قصص النجاح في التعاون الغربي الإسلامي. والواقع أن مالكوم إكس ليس بطلا من وجهة نظر الكثيرين في الغرب بسبب آرائه السياسية؛ وربما لا يعتبره كثيرون في العالم الإسلامي مسلما بسبب ارتباطه بحركة «أمة الإسلام». هذا الأمر يشبه الدائرة المفرغة؛ فكلما زاد الشك المتبادل بين الجانبين، تضاءل احتمال «استثمار» المسلمين بأقصى ما يستطيعون في الثقافة الغربية. وهكذا تظل قائمة الأبطال المسلمين تطغى عليها رموز غير غربية غير معاصرة يحتفي بها المسلمون وحدهم؛ وتبعا لذلك ستزداد مشاعر المسلمين بالعزلة عن المجتمعات غير الإسلامية وتدوم إلى الأبد. لكن ما يدعو للتفاؤل أن هشاشة هذه الدائرة المفرغة قد انكشفت على أيدي الأقلية غير المسيحية الأخرى في أوروبا، وهم اليهود. فعلى الرغم مما لأوروبا المسيحية من تاريخ طويل من اضطهاد اليهود وسوء معاملتهم حتى وقت قريب، فقد أنجب يهود أوروبا أينشتاين وفرويد وماركس وغيرهم الكثيرين ممن يحظون بتقدير الأوروبيين يهودا وغير يهود على حد سواء. ومن ثم، فمن المحتمل أن ينجب مسلمو الغرب أبطالا ينالون تقدير الجانبين معا حال توافر الوقت والظروف المواتية.
تنبهنا قصة التاريخ الإسلامي أيضا لاختلاف جوهري بين تشكيل المؤسسات الإسلامية من ناحية، والمؤسسات اليهودية والمسيحية من الناحية الأخرى. فمع أن محمدا وأصحابه واجهوا عقدين من الصعوبات بل والاضطهاد، مات النبي زعيما لمجتمعه بعدما هزم أعداءه في مكة وأرشد قبائل شبه الجزيرة العربية إلى الإسلام. وعلى مدار القرون التالية، انتشر الحكم الإسلامي في الوقت الذي كانت تتطور فيه المذاهب القديمة وكتب الشريعة ومؤسسات الإسلام؛ وذلك في ظل رعاية الدولة غالبا ومن مركز ذي نفوذ سياسي. وعلى النقيض، لم يحقق موسى قط نجاحا مماثلا في الأرض المقدسة، ومات المسيح مصلوبا. وإلى أن اعتنقت القسطنطينية المسيحية دينا رسميا للإمبراطورية الرومانية الشرقية في القرن الرابع الميلادي، كان المسيحيون أقلية مضطهدة منذ قرون (كتبت خلالها الأناجيل وعاش خلالها الآباء المؤسسون للدين). أما اليهودية فهي نتاج مصادر («المشناه» و«التلمود») كتبت في عهد حكم «أجنبي» في أعقاب تدمير المعبد الثاني (نحو عام 70 ميلادي). وهكذا ولدت اليهودية والمسيحية (أو تبلورت في حالة اليهودية) أثناء فترات من الضعف السياسي ودون أي رعاية أو دعم ملكي. وعلى الرغم من أن المسيحيين ومن بعدهم اليهود قد حازوا النفوذ السياسي، تسلم المصادر اليهودية والمسيحية جدلا بالجوانب العملية للعيش تحت مظلة حكم آخرين؛ وذلك استنادا إلى الخبرات المكتسبة أثناء الفترات «الكلاسيكية» لكلتا الديانتين. وعلى النقيض، عادة ما تشير أهم الأعمال الخاصة بالشريعة الإسلامية - وخصوصا التي كتبت في الفترة من عام 800 إلى 1100 - إلى أحداث وقعت في الفترة من عام 600 إلى 800. لذا لا يتصور الفقهاء المسلمون احتمالية العيش في ظل حكم «أجنبي» (وهو موقف لم يحدث إلا في منتصف القرن الحادي عشر). وبالطبع ثمة مصادر لاحقة كتبت في ظل الحكم المغولي أو الصليبي أو المسيحي في شبه الجزيرة الأيبيرية تضع في الاعتبار الظروف السياسية المتغيرة، وبعضها حظي بالشهرة والتأثير. (والكثير من هذه المصادر ينصح المسلمين الذين يعيشون في ظل حكم أجنبي بالهجرة إلى الأراضي المسلمة التي لا يقلل فيها من شأن ممارسة الإسلام.) الغاية أن أغلب المصادر الفقهية الإسلامية، وأولها ظهورا وأعلاها قدرا، تنصح المسلمين بممارسة دينهم بالتأكيد على ثقافة دينية مهيمنة. لذا، فإن ما قد ينظر إليه الكثيرون من أهل الغرب بين المسلمين الممارسين لعقيدتهم على أنه تعنت يعوق علاقات الجوار، أو على أنه إحجام عام عن تكييف عقيدتهم مع الثقافات الحالية للدول غير المسلمة ربما يمكن تفسيره بالرجوع إلى مسار التاريخ الإسلامي.
يمدنا الفصلان
الرابع
و
الخامس
بإجابتين أخريين تأتيان من طرفي نقيض السلم التأريخي. ترى النظرة الإسلامية التقليدية للتاريخ الإسلامي أن الإسلام مختلف؛ إما لأن اليهود والمسيحيين هم الذين حرفوا الدين الأصلي الإلهي، أو لأن الإسلام ظهر بعد أن تشكل تماما من شبه الجزيرة العربية اعتمادا على ما كان ينزل من وحي على نبي كان في منأى عن تأثير العصور القديمة الأخيرة في الشرق الأدنى. وفقا لذلك، يتميز الإسلام عن الثقافة المسيحية-اليهودية بسبب سياقه العربي الفريد؛ وأي مقارنة بين الموروثين الدينيين (أو الموروثات الثلاثة) مرفوضة بوصفها عملا استشراقيا مضللا. وهناك إجابة معارضة تماما تأتينا من وانسبرو الذي قال - في كتابه «البيئة الطائفية» - إن فاتحي العراق العرب في القرن الثامن ميزوا أنفسهم «عن وعي» عن اليهود والمسيحيين، موجدين دينا عربيا على نحو مخصص (بتقويم، ومكان مقدس، ونظام لاهوتي جديد) وذلك في تمييز مضاد عن الديانات المحلية التي كانت قائمة من قبل. وعلى عكس المسيحيين الأوائل الذين اعتبروا أنفسهم اليهود الجدد (أو الحقيقيين)، نظر المسلمون الأوائل - على حد رأي وانسبرو - إلى أنفسهم على أنهم اللايهود أو اللامسيحيون الجدد.
أوضح الفصلان
السادس
و
السابع
التناقض الصارخ بين ارتباط العالم الإسلامي بالتاريخ وفقدان الذاكرة النسبي لدى الغرب فيما يتعلق بتاريخهم؛ وهو ما يقودنا إلى إجابة أخرى عن سؤالنا. يمكن القول إن المسلمين ليسوا هم من حادوا عن طريق التوحيد في الشرق الأدنى، بل أهل الغرب هم من فعلوا ذلك. فأثناء عصور النهضة، والإصلاح، والتنوير انفصل الغرب المسيحي اليهودي انفصالا تاما عن الماضي (أو بالأحرى عن ماضيه الحقيقي لصالح ماض كلاسيكي خيالي). فمن ذا الذي يود إحياء فترة معروفة باسم «العصور المظلمة»؟ وهكذا، فإن الإسلام لا الغرب هو الوريث الحقيقي للحضارة المسيحية-اليهودية.
تلك هي النقطة الأساسية تحديدا من وجهة نظر كثير من المحللين؛ فالإجابة عن سؤالنا المهم لا تأتي من شيء حدث في التاريخ الإسلامي، بل من أشياء لم تحدث - ومقصود بها تحديدا «النهضة» أو «الإصلاح» - وكانت ستسمح للمسلمين بالخروج مما ينظر إليه على أنه رجعية مبدأ المحافظين «في العصور الوسطى». إنها إجابة بسيطة لمشكلة معقدة. ولا شك أن المعنى المنسوب لكل من «النهضة» و«الإصلاح» يتوقف عليه الكثير. فإذا كانت النهضة تعني حرفيا «إعادة إحياء» الحضارة الكلاسيكية، فربما نقول إن المسلمين قد شهدوا نهضة كهذه قبل أن تشهدها أوروبا بقرون عديدة، وذلك في بغداد في القرن التاسع. ومن ناحية أخرى، إذا قلنا إن النهضة تشير إلى إحياء «أي» فترة ماضية كانت تعتبر فترة مجيدة ثقافيا، فربما يقال إن هذا هو تحديدا ما ينادي به الإسلاميون طيلة قرون؛ كل ما في الأمر أن «الفترة الكلاسيكية» التي يسعون إلى إحيائها من جديد هي عهد محمد وأصحابه.
نقل أيضا عن المحللين قولهم إن المجتمعات الإسلامية سوف ترتبط مع الغرب على نحو أفضل إذا مرت بالنسخة الإسلامية من الإصلاح البروتستانتي للكنيسة الكاثوليكية (1517-1648 تقريبا). ينسب إلى «الإصلاح» أنه خفف قبضة الكنيسة على المجتمع ومهد الطريق أمام حرية الضمير في العالم المسيحي الغربي؛ وكلا الأمرين أدى إلى ارتقاء «القيم الأخلاقية» عن كل ما عداها. يستطرد هذا الرأي أن «الإصلاح الإسلامي» سوف يصبغ المجتمعات الإسلامية بأفكار التعددية، والتسامح الديني، والحرية الثقافية والفكرية، وكلها عوامل ستجعل الإسلام يتماشى مع باقي العالم «الحديث». وثمة مشكلتان ترتبطان بهذه الإجابة. أولا، أنها تتجاهل حقيقة أن الإصلاح البروتستانتي قد أعقبه ما يزيد عن قرن من العنف وتفكك المجتمع المسيحي على نحو لا رجعة فيه. لا يمكن لأحد أن يقول إن المسلمين - الذين تحتل وحدة الأمة وتحاشي الفتنة المجتمعية أهمية محورية لديهم - قد يخاطرون بجلب الاضطراب إلى أنفسهم حتى يشعر أهل الغرب من غير المسلمين بارتياح أكبر في تعاملاتهم معهم. ثانيا، يمكن القول إن المسلمين قد شهدوا إصلاحا في صورة الوهابية؛ فكل من الوهابيين والبروتستانت سعوا إلى تطهير الدين الحق من الزوائد مثل الحب الشديد للقديسين والأولياء (في كلتا الحالتين) أو تبجيل مريم (في حالة الديانة المسيحية). وبالمثل، فكما تأثر مارتن لوثر بالمفكرين الأوائل أمثال جون ويكليف ويان هوس، فقد استفاد محمد بن عبد الوهاب من كتابات ابن تيمية وابن القيم الجوزية. ومن ثم، فقد مر المسلمون بتجربة «إصلاح»، لكن بعض الغرب كانوا يفضلون أن تأخذ التجربة شكلا مختلفا وأن تسفر عن نتائج مختلفة. وبقدر ما تواصل الوهابية والأشكال الأخرى من السلفية التنافس مع التفسيرات السنية والصوفية والشيعية التقليدية للإسلام، ربما سنشهد لاحقا حل عقدة الإصلاح الإسلامي.
في بداية هذا الكتاب أشرت إلى أن الإسلام مهم، وآمل أن أكون قد أوضحت أن التاريخ الإسلامي مهم أيضا. لقد رأينا بعضا من الطرق العديدة التي يشكل بها التاريخ الإسلامي السياسة والدين في العالم الإسلامي، وتطرقنا لمساهمته في فهمنا للعلاقة بين العالم الإسلامي والغرب «المسيحي-اليهودي» المعاصر. ولا بد من التأكيد في هذا السياق على أن التاريخ الإسلامي ليس الشيء الوحيد الذي يهم على الإطلاق. فالمحللون الذين يكرسون أنفسهم لدراسة العلاقات الغربية الإسلامية (من أي من الجانبين أو بعيدا عن أي منهما) يدركون عموما أن المسلمين وأهل الغرب يشتركون في مخاوف الحياة واهتماماتها الأساسية؛ فكلنا نريد السلام، والصحة، والازدهار، والاحترام، ومستقبلا أفضل، ونخشى الاضطرار للعيش في ظل غياب هذه الأشياء. لذا تميل التفاعلات الغربية الإسلامية لأن تقاس وتفسر في ضوء علم السياسة الطبيعية، وعلم الاقتصاد، وغيرها من العوامل «المعتادة» الأخرى، مع إلقاء اللوم في التوتر بين الجانبين على انعدام التوازن في الوصول إلى الموارد الضرورية. حاول هذا الكتاب توضيح أن التاريخ الإسلامي هو أحد أجزاء اللغز التي كثيرا ما يغض الطرف عنها. ولا يدرك غير المسلمين في الغرب هذه النقطة، لأن التاريخ يلعب دورا ضئيلا نسبيا في مجتمعاتهم. وسواء أستمر قراء هذا الكتاب في تجاهل تاريخهم أم لا، آمل أن يقدروا أهمية التاريخ «الإسلامي»؛ ليس فقط للمسلمين وإنما أيضا لمن يسعون للارتباط بهم، وأن يفهموا الإسلام والمسلمين.
مراجع وقراءات إضافية
مقدمة
X. de Planhol,
The World of Islam (New York, 1959), a translation of
Le Monde islamique: essai de géographie réligieuse (Paris, 1957).
الفصل الأول
مؤلفات عامة
J. L. Esposito (ed.),
The Oxford History of Islam (Oxford, 1999).
F. Robinson (ed.),
The Cambridge Illustrated History of the Islamic World (Cambridge, 1996).
W. C. Brice and H. Kennedy,
An Historical Atlas of Islam (Leiden, 2001).
دراسات تمهيدية
J. Berkey,
The Formation of Islam: Religion and Society in the Near East, 600-1800 (Cambridge, 2003).
A. Hourani,
A History of the Arab
(London, 1991).
B. Lewis,
The Arabs in History (London, 1950, and numerous reprints).
تحليلات مفصلة
M. G. S. Hodgson,
The Venture of Islam: Conscience and History in a World Civilization (Chicago, 1974).
I. M. Lapidus,
A History of Islamic Societies (Cambridge, 1988).
الجمال والحضارة الإسلامية
R. Bulliet,
The Camel and the Wheel (Cambridge, Mass., 1975).
الثورة الورقية في العصر العباسي
J. Bloom,
From Paper to
(New Haven, 2001).
ثورة الطباعة في الأراضي الإسلامية
R. Bulliet,
The Case for Islamo-Christian Civilization (New York, 2004), chapter
2 .
وسائل الاتصال في التاريخ الإسلامي
A. J. Silverstein,
in the Pre-Modern Islamic World (Cambridge, 2007).
الفصل الثاني
العرب
R. Hoyland,
Arabia and the Arabs: From the Bronze Age to the Coming of Islam (London, 2001).
Lewis,
Arabs in History (as above).
Hourani,
Arab Peoples (as above).
الفرس
R. N. Frye,
The Golden Age of
(London, 1993).
D. O. Morgan,
Medieval Persia: 1040-1797 (London, 1988).
R. G. Hovannisian and G. Sabbagh (eds.),
The Persian Presence in the Islamic World (Cambridge, 1998).
الأتراك
C. V. Findley,
The Turks in World History (Oxford, 2004).
S. Soucek,
A History of Inner Asia (Cambridge, 2000).
الفصل الثالث
اللورد كلارك عن العمارة اليونانية-الرومانية
Lord Clark,
Civilisation: A
(BBC, 1969), episode 1: 'By the skin of their teeth’.
المسجد
R. Hillenbrand, Islamic Architecture:
Form, Function, and Meaning (Edinburgh, 2000).
M. Frishman and H.-U. Khan,
The Mosque: History, Architectural Development, and Regional Diversity (London, 2002).
الجهاد
M. D. Bonner,
Jihad in Islamic History: Doctrines and Practice (Oxford, 2006).
J. Kelsay,
Arguing the Just War in Islam (Cambridge, Mass., 2007).
J. Esposito,
Unholy War: Terror in the Name of Islam (Oxford, 2002).
الخلافة/الإمامة
Medieval Islamic
(Edinburgh, 2004).
W. Madelung,
The Succession to Muhammad: A Study of the Early Caliphate (Cambridge, 1997).
الفصل الرابع
جان شاردان
Jean Chardin,
A Journey to
Empire,
ed. and tr. R. W. Ferrier (London, 1996).
قراءات عامة
R. S. Humphreys,
Islamic History: A Framework for Enquiry (London, 1991).
C. F. Robinson,
Islamic Historiography (Cambridge, 2003).
F. M. Donner,
Narratives of Islamic Origins: The Beginning of Islamic Historical Writing (Princeton, 1998).
جنيزة القاهرة
S. D. Goitein,
A Mediterranean Society: The Jewish Communities of the Arab World as Portrayed in the Documents of the Cairo Geniza ; Vol. I,
Economic Foundations (Berkeley, 1967).
A. Ghosh,
In an Antique Land (New York, 1994).
دراسات النقد المصدري
Hagarism: The Making of the Islamic World (Cambridge, 1977).
A. Noth and L. I. Conrad,
The Early Arabic Historical Tradition: A Source-Critical Study,
tr. M. D. Bonner (Princeton, 1994).
J. Wansborough,
The Sectarian Milieu: Content and Composition of Islamic Salvation History (Oxford, 1978).
Idem,
Quranic Studies: Sources and Methods of Scriptural Interpretation (Oxford, 1977).
الفصل الخامس
اقتباس ساطع الحصري
A. G. Chejne, 'The use of history by modern Arab writers’,
Middle East Journal , 14 (1960).
الاستشراق
E. Said,
Orientalism (London, 1978).
R. G. Irwin,
For Lust of Knowing: The Orientalists and their Enemies (London, 1996).
هودجسون
M. G. S. Hodgson,
The Venture of Islam (as above).
M. G. S. Hodgson,
Rethinking World History: Essays on Europe, Islam, and World History,
ed. E. Burke III (Cambridge, 1993).
A. Hourani,
Islam in European Thought (Cambridge, 1992), chapter
3 .
ابن خلدون
Ibn Khaldun,
The Muqaddimah: An Introduction to History , tr. F. Rosenthal (Princeton, 1958).
توينبي عن ابن خلدون
A. J. Toynbee,
A Study of History (London, 1935), III: 322.
الطبري
F. Rosenthal,
The History of al-Tabari: General Introduction and from the Creation to the Flood (New York, 1989).
الفصل السادس
الأمية التاريخية بين الشباب الأمريكي
A. Ferguson,
Land of Lincoln: Advertures in Abe’s America (New York, 2007),
نظرة تقليدية على السنة واستخدام السلفيين (إسلاميين ومعاصرين) للتاريخ الإسلامي
A. Asfaruddin,
The First Muslims: History and Memory (Oxford, 2007).
قناة الإسلام
www.islamchannel.tv
الوهابية
M. Al-Rasheed,
A History of Saudi Arabia (Cambridge, 2002).
N. J. Delong-Bas,
Wahhabi Islam: From Revival and Reform to Global Jihad (Oxford, 2004).
التطور الديني في إيران الشيعية
R. P. Mottahedeh,
The Mantle of the Prophet: Religion and Politics in Iran (New York, 1986).
الخوميني حول حكم المجتهدين
H. Algar (ed./tr.),
Islam and Revolution: Writings and Declarations of Imam Khomeini (Berkeley, 1981).
الشهادة والمذهب الشيعي
D. Cook,
Martyrdom in Islam (Cambridge, 2007).
فتوى القرضاوي
www.islamonline.net (last accessed February 2009).
الفصل السابع
قيس/اليمن
J. Hathaway,
A Tale of Two Factions (New York, 2003).
التاريخ والقومية العربية
A. G. Chejne, 'The use of history’ (as above).
التاريخ والقومية التركية
C. Hillenbrand,
Turkish Myth and Muslim Symbol: The Battle of Manzikert (Edinburgh, 2007).
الخوارج في الخطاب السياسي المصري المعاصر
J. T. Kenney,
Muslim Rebels: Kharijites and the Politics of Extremism in Egypt (Oxford, 2006).
التاريخ الإسلامي في اللغة السياسية المعاصرة
B. Lewis,
The Political Language of Islam (Chicago, 1991).
العصر الذهبي الإسباني
M. Cohen,
Under Crescent and Cross: The Jews in the Middle Ages (Princeton, 1994), chapter
1 .
الاستنتاجات
M. M. Khan,
The Muslim 100: The Lives, Thoughts, and Achievements of the Most Influential Muslims in History (Leicester, 2008).
An alternative answer to this book’s big question (widely criticized for its perceived anti-Muslim bias), is provided in: B. Lewis,
What Went Wrong: Western Impact and Middle Eastern Response (Oxford, 2001).
ناپیژندل شوی مخ