شكر وتقدير
1 - الفجوة الكبرى
2 - بزوغ نجم الغرب
3 - الثورة الصناعية
4 - صعود الأثرياء
5 - الإمبراطوريات العظمى
6 - الأمريكتان
7 - أفريقيا
8 - النموذج القياسيوالتحول المتأخر للتصنيع
9 - التصنيع في نموذج«الدفعة القوية»
خاتمة
المراجع
قراءات إضافية
شكر وتقدير
1 - الفجوة الكبرى
2 - بزوغ نجم الغرب
3 - الثورة الصناعية
4 - صعود الأثرياء
5 - الإمبراطوريات العظمى
6 - الأمريكتان
7 - أفريقيا
8 - النموذج القياسيوالتحول المتأخر للتصنيع
9 - التصنيع في نموذج«الدفعة القوية»
خاتمة
المراجع
قراءات إضافية
التاريخ الاقتصادي العالمي
التاريخ الاقتصادي العالمي
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
روبرت سي آلن
ترجمة
محمد سعد طنطاوي
مراجعة
هبة نجيب مغربي
شكر وتقدير
أتوجه بخالص الشكر والامتنان إلى كل من عمل معي مساعدا بحثيا في إعادة بناء تاريخ الأجور والأسعار في العالم: ستيورات موراي، وتشيري ميتكاف، وإيان كاي، وأليكس وولي، وفيكتوريا بيتمان، ورومان ستادر، وتومي ميرفي، وإريك شنايدر. وقد كان انتباههم إلى التفاصيل، فضلا عن أفكارهم حول المشروع ونص الكتاب، ذا قيمة هائلة بالنسبة لي. وأتوجه بالشكر أيضا إلى العديد من الأصدقاء الذين قرءوا المسودات الأولى وناقشوا هذه الموضوعات معي: بول ديفيد، ولاري إلدردج، وستان إنجرمان، وجيمس فنسكي، وتيم ليفنج، وروجر جودمان، وفيل هوفمان، وكريس كيسان، وبيتر لندرت، وبرانكو ميلانوفيتش، وباتريك أوبراين، وجيلز بوستل فيناي، وجيم روبنسون، وجين لوران روزنتال، وكين سوكولوف، وأنطونيا ستريتشي، وفرانسيس تيل، وبيتر تيمن، وجان لوتن فان زاندن، ولورانس وايتهيد، وجيف ويليامسون، ونيك وولي. كان ابني ماثيو آلن وزوجتي دايان فرانك يشعران بالسرور البالغ لعملي على هذا المشروع، كما قدما لي كل الدعم رغم استغراقي الشديد فيه وطلباتي التي لا حصر لها بالتعليق على المسودات. لقد خرج هذا الكتاب بصورة أفضل بفضل قراءتهما إياه.
وإنه لمن دواعي سروري أن أعرب عن تقديري لمجلس بحوث العلوم الاجتماعية والإنسانية الكندي، ومؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية، من خلال مجموعة تاريخ الأسعار والدخل العالمي، لتوفير التمويل اللازم لأبحاثي على مدار سنوات عديدة.
أهدي هذا الكتاب إلى ابني ماثيو، وإلى أبناء جيله، آملا في أن يساعدهم فهم كيف أصبح العالم ما هو عليه الآن في جعله عالما أفضل.
الفصل الأول
الفجوة الكبرى
إن التاريخ الاقتصادي درة العلوم الاجتماعية؛ فموضوعه الرئيسي يدور حول «طبيعة وأسباب ثروة الأمم»؛ وهو عنوان الكتاب العظيم لآدم سميث. يبحث خبراء الاقتصاد عن «الأسباب» في نظرية خالدة عن التنمية الاقتصادية، فيما يجدها المؤرخون الاقتصاديون في عملية ديناميكية من التغير التاريخي. وقد صار التاريخ الاقتصادي مجالا مثيرا للاهتمام في السنوات الأخيرة؛ منذ أن أصبح نطاق السؤال: «لماذا ثمة دول ثرية وأخرى فقيرة؟» نطاقا عالميا. قبل خمسين عاما، كان السؤال هو: «لماذا اندلعت الثورة الصناعية في إنجلترا وليس فرنسا؟» وقد أكدت الأبحاث التي أجريت حول الصين والهند والشرق الأوسط على الديناميكية المتأصلة في أعظم حضارات العالم، ومن ثم يجب أن يكون السؤال اليوم هو: لماذا انطلق النمو الاقتصادي في أوروبا وليس في آسيا أو أفريقيا؟
لا تتوفر بيانات كثيرة حول الدخول في الماضي البعيد، لكن يبدو كما لو أن الاختلافات بين الدول في مستوى الازدهار في عام 1500 كانت صغيرة. ظهرت الفجوة الحالية بين الأثرياء والفقراء منذ أن أبحر فاسكو دا جاما إلى الهند واكتشف كولومبس الأمريكتين.
يمكن تقسيم الخمسمائة عام الأخيرة إلى ثلاث فترات؛ تمثل الفترة الأولى - التي استمرت منذ عام 1500 إلى حوالي عام 1800 - «العصر الاتجاري». بدأت هذه الفترة برحلات كولومبس ودا جاما، وأدت إلى تكامل الاقتصاد العالمي وانتهت بالثورة الصناعية. أقيمت المستعمرات في الأمريكتين اللتين قامتا بتصدير الفضة والسكر والتبغ؛ وشحن الأفارقة كعبيد إلى القارتين لإنتاج هذه السلع، كما صدرت آسيا البهارات والمنسوجات والخزف الصيني إلى أوروبا، وسعت الدول الأوروبية الرائدة إلى زيادة تجارتها من خلال إقامة المستعمرات، وفرض التعريفات الجمركية، وشن الحروب لمنع الدول الأخرى من الاتجار مع مستعمراتها. وقد روجت الصناعة الأوروبية على حساب المستعمرات، غير أن التنمية الاقتصادية في حد ذاتها لم تكن هي الهدف.
تغيرت الأوضاع في الفترة الثانية - «المواكبة» - في القرن التاسع عشر. ففي الوقت الذي هزم فيه نابليون في معركة ووترلو في عام 1815، كانت بريطانيا قد حققت الريادة في المجال الصناعي وتفوقت على الدول الأخرى، وقد جعلت أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية التنمية الاقتصادية أولوية لها، وسعت إلى تحقيقها من خلال بناء قياسي يتألف من أربع سياسات؛ ألا وهي: إنشاء سوق وطنية موحدة من خلال إلغاء التعريفات الداخلية وإقامة بنية تحتية للنقل، ووضع تعريفات خارجية لحماية صناعاتها من المنافسة البريطانية، وتأسيس بنوك للحفاظ على ثبات أسعار العملات وتمويل الاستثمارات الصناعية، وتوفير التعليم العام للارتقاء بمهارات القوى العاملة. وقد حققت هذه السياسات نجاحا في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية؛ حيث انضمت الدول في هذه المناطق إلى بريطانيا لتشكل ما صار معروفا اليوم بنادي الدول الغنية، بينما تبنت بعض دول أمريكا اللاتينية هذه السياسات بصورة غير كاملة ولم تحقق نجاحا كبيرا. أدت المنافسة البريطانية إلى إعاقة التنمية الصناعية في معظم مناطق آسيا، فيما اكتفت أفريقيا بتصدير زيت النخيل والكاكاو والمعادن عند انتهاء تجارة بريطانيا في العبيد في عام 1807.
في القرن العشرين، أثبتت السياسات التي حققت نجاحا في أوروبا الغربية - لا سيما في ألمانيا وفي الولايات المتحدة - عدم فعاليتها في الدول التي لم تحقق التنمية بعد. تبتكر معظم التكنولوجيا في الدول الغنية، وهذه الدول تحتاج إلى رأس مال بصورة متزايدة لزيادة إنتاجية الأيدي العاملة فيها التي تتقاضى أجورا هي الأعلى على الإطلاق. لا تعتبر معظم هذه التكنولوجيا الجديدة اقتصادية في الدول التي تنخفض فيها أجور الأيدي العاملة، لكنها في المقابل تمثل أهم ما تحتاج إليه هذه الدول للحاق بركب الغرب. تبنت معظم الدول تكنولوجيا حديثة بدرجة أو بأخرى، لكنها لم تتبنها بالسرعة الكافية التي تمكنها من تخطي الدول الغنية. أما الدول التي نجحت في رأب الصدع مع الغرب في القرن العشرين، فقد نجحت في ذلك من خلال نموذج «الدفعة القوية»، والذي استخدم التخطيط وتنسيق جهود الاستثمار لتحقيق طفرة.
قبل أن نتعرف على «كيف» صارت بعض الدول غنية، يجب أن نحدد «متى» صارت هذه الدول غنية. بين عامي 1500 و1800، حققت الدول الغنية اليوم تقدما طفيفا يمكن قياسه من خلال إجمالي الناتج المحلي لكل فرد (الجدول
1-1 ).
1
في عام 1820، كانت أوروبا بالفعل هي أكثر القارات ثراء؛ فكان إجمالي الناتج المحلي لكل فرد في أوروبا يساوي ضعف مثيله في معظم أنحاء العالم. كانت أكثر الدول ازدهارا هي هولندا التي وصل متوسط الدخل فيها (إجمالي الناتج المحلي) إلى 1838 دولارا أمريكيا للفرد. ازدهرت الدول المنخفضة خلال القرن السابع عشر، وتمثل السؤال الرئيسي للسياسة الاقتصادية في كل البلدان الأخرى في كيفية اللحاق بالاقتصاد الهولندي، وكان البريطانيون يحاولون تحقيق ذلك. كان فتيل الثورة الصناعية قد اشتعل قبل جيلين، وكانت بريطانيا العظمى ثاني أغنى اقتصاد؛ حيث وصل متوسط الدخل فيها إلى 1706 دولارات أمريكية في عام 1820 للفرد، أما دول أوروبا الغربية والدول التي كانت تتبع بريطانيا (كندا وأستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة الأمريكية) فقد تراوح متوسط الدخل للفرد فيها بين 1100 و1200 دولار أمريكي. تخلفت باقي دول العالم حيث تراوح متوسط دخل الفرد بين 500 دولار أمريكي و700 دولار أمريكي، وكانت أفريقيا هي القارة الأكثر فقرا؛ حيث بلغ متوسط دخل الفرد فيها إلى 415 دولارا أمريكيا.
جدول 1-1: إجمالي الناتج المحلي للفرد حول العالم 1820-2008. *
1820
1913
1940
1989
2008
بريطانيا العظمى
1706
4921
6856
16414
23742
هولندا
1838
4049
4832
16695
24695
دول أوروبا الغربية الأخرى
1101
3608
4837
16880
21190
الدول الأوروبية المتوسطية
945
1824
2018
11129
18218
أوروبا الشمالية
898
2935
4534
17750
25221
الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، نيوزلندا، أستراليا
1202
5233
6838
21255
30152
أوروبا الشرقية
683
1695
1969
5905
8569
الاتحاد السوفييتي
688
1488
2144
7112
7904
الأرجنتين، أوروجواي، تشيلي
712
3524
3894
6453
8885
دول أمريكا اللاتينية الأخرى
636
1132
1551
4965
6751
اليابان
669
1387
2874
17943
22816
تايوان وكوريا الجنوبية
591
835
1473
8510
20036
الصين
600
552
562
1834
6725
شبه القارة الهندية
533
673
686
1232
2698
دول شرق آسيا الأخرى
562
830
840
2419
4521
الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
561
994
1600
3879
5779
دول أفريقيا جنوب الصحراء
415
568
754
1166
1387
باقي دول العالم
666
1524
1958
5130
7614 *
يقيس متوسط إجمالي الناتج المحلي إجمالي ما ينتج من السلع والخدمات في أحد الاقتصادات، فضلا عن إجمالي الدخل الذي يولده. في هذا الجدول، يجري قياس إجمالي الناتج المحلي استنادا إلى قيمة الدولار الأمريكي في عام 1990، ومن ثم يمكن مقارنة حجم الإنتاج (الدخل الحقيقي) مع مراعاة الفارق الزمني واختلاف المناطق.
ملاحظة: تضم بريطانيا العظمى أيرلندا الشمالية ابتداء من عام 1940.
ما بين عام 1820 والوقت الحاضر، اتسعت الفجوات في الدخول مع وجود بعض الاستثناءات القليلة. حققت الدول التي كانت الأكثر ثراء في عام 1820 أعلى معدلات النمو؛ يتراوح متوسط الدخول في الدول الغنية اليوم بين 25000 دولار و30000 دولار، ويتراوح هذا المعدل في معظم دول آسيا وأمريكا اللاتينية بين 5000 دولار و10000 دولار، فيما وصل هذا المعدل في دول أفريقيا جنوب الصحراء إلى 1387 دولارا أمريكيا فقط. يبين الشكل
1-1
ظاهرة الفجوة في الدخول؛ حيث يوضح أن المناطق إلى يمين الشكل التي حققت دخولا أعلى في عام 1820 توافرت لديها أكثر عوامل نمو الدخل، بينما يوضح أن المناطق إلى يسار الشكل التي حققت دخولا أقل ابتداء من العام نفسه توافرت لديها عوامل نمو أقل. حققت أوروبا والدول التي كانت تتبع بريطانيا زيادات في الدخول تراوحت بين 17 و25 ضعفا. بدأت أوروبا الشرقية ومعظم مناطق آسيا بتحقيق دخول منخفضة، ثم انطلقت لاحقا لتحقق زيادات قدرها عشرة أضعاف، أما مناطق جنوب آسيا والشرق الأوسط ومعظم دول أفريقيا جنوب الصحراء فقد كانت أقل حظا؛ حيث إنها كانت أكثر فقرا في عام 1820، ولم تحقق زيادات في متوسط الدخل إلا في حدود من ثلاثة إلى ستة أضعاف؛ فقد تخلفت عن الغرب أكثر فأكثر. تلخص «معادلة الفجوة» هذا النمط.
شكل 1-1: الفجوة الكبرى.
2
هناك استثناءات لهذه الفجوة في مستويات الدخول. تعتبر شرق آسيا هي المثال الأبرز على ذلك؛ حيث تمثل الإقليم الوحيد الذي تمكن من عكس الاتجاه وتحسين وضعه. وتعتبر اليابان هي قصة النجاح الأعظم في القرن العشرين؛ حيث كانت دولة شديدة الفقر لا مراء في ذلك في عام 1820، لكنها استطاعت أن تسد فجوة الدخل مع الغرب، وبالمثل، كان نمو كوريا الجنوبية وتايوان عظيما بالقدر نفسه. ويعتبر الاتحاد السوفييتي مثالا آخر، وإن كان في صورة أقل اكتمالا، وربما تكرر الصين الأمر نفسه اليوم.
شكل 1-2: توزيع حجم التصنيع في دول العالم.
3
كانت عمليات التصنيع وإنهاء التصنيع أسبابا رئيسية في هذه الفجوة في الدخول بين دول العالم (الشكل
1-2 ). في عام 1750، كانت معظم عمليات التصنيع في العالم تجرى في الصين (33٪ من إجمالي حجم التصنيع) وشبه القارة الهندية (25٪)، وكان حجم الإنتاج لكل فرد في آسيا أقل من الدول الأكثر ثراء في أوروبا الغربية، غير أن التفاوتات كانت محدودة. بحلول عام 1913، تغير وضع العالم تماما؛ فانخفضت حصة الصين والهند من إجمالي حجم التصنيع العالمي إلى 4٪ و1٪ على التوالي. في الوقت نفسه، ساهمت المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بثلاثة أرباع إجمالي حجم التصنيع العالمي. وصل ناتج التصنيع للفرد في المملكة المتحدة 38 ضعفا لحجم نظيره في الصين، و58 ضعفا لنظيره في الهند، وليس السبب في ذلك زيادة الإنتاج البريطاني بصورة هائلة فحسب، وإنما كذلك انخفاض حجم التصنيع في كل من الصين والهند انخفاضا هائلا؛ حيث توقفت كثير من صناعات المنسوجات والصناعات المعدنية فيهما بسبب وجود المنتجين الذين يعتمدون على الماكينات في الغرب. في القرن التاسع عشر، تحولت آسيا من مركز التصنيع في العالم إلى مجموعة من الدول التقليدية غير المتطورة المتخصصة في إنتاج وتصدير المنتجات الزراعية.
يلقي الشكل
1-2
الضوء على بعض نقاط التحول الرئيسية في تاريخ العالم. بين عامي 1750 و1880، كانت الثورة الصناعية البريطانية هي الحدث الأكبر. خلال تلك الفترة، زادت حصة بريطانيا من حجم التصنيع في العالم من 2٪ إلى 23٪، وكانت المنافسة البريطانية هي السبب في القضاء على الصناعة التقليدية في آسيا. تميزت الفترة من عام 1880 إلى الحرب العالمية الثانية بتحول الولايات المتحدة الأمريكية وقارة أوروبا - لا سيما ألمانيا على وجه الخصوص - إلى دول صناعية. وصلت حصة كل من الولايات المتحدة وقارة أوروبا في عام 1938 إلى 33٪ و24٪ على التوالي من إجمالي حجم التصنيع العالمي، وفقدت بريطانيا ريادتها لصالح منافسيها؛ حيث انخفضت حصتها إلى 13٪. ومنذ الحرب العالمية الثانية، زادت حصة الاتحاد السوفييتي من إجمالي حجم التصنيع العالمي زيادة هائلة حتى عقد الثمانينيات من القرن العشرين، ثم انهارت تماما مع الانهيار الاقتصادي الذي لحق بدول الاتحاد السوفييتي بعد تفككه. شهدت المعجزة الشرق آسيوية ارتفاعا في حصتها من إجمالي حجم التصنيع العالمي متمثلة في دول اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية؛ حيث بلغت حصتها 17٪، وكانت الصين كذلك تتحول إلى دولة صناعية منذ عام 1980، ووصلت حصتها من الإجمالي العالمي إلى 9٪ في عام 2006. وإذا لحقت الصين بالغرب، ستكون الدائرة قد اكتملت تماما وعادت إلى حيث بدأت.
الأجور الحقيقية
لا يعتبر إجمالي الناتج المحلي مقياسا مناسبا للرخاء؛ إذ إنه لا يأخذ في الحسبان عوامل كثيرة مثل الصحة ومتوسط العمر والمستوى التعليمي، بالإضافة إلى ذلك، غالبا ما يجعل غياب البيانات من الصعب حساب إجمالي الناتج المحلي، كما أنه قد يكون مضللا؛ نظرا لأنه يحتسب متوسط دخول الأغنياء والفقراء معا. يمكن التغلب على هذه المشكلات من خلال حساب «الأجور الحقيقية»؛ أي قياس المستوى المعيشي الذي يتحقق من خلال دخل الفرد. توضح لنا الأجور الحقيقة الكثير فيما يتعلق بالمستوى المعيشي للفرد العادي، وتسهم في بيان أصول ومدى انتشار الصناعة الحديثة؛ إذ تتعاظم حوافز زيادة استخدام الميكنة لكل عامل مع ارتفاع أسعار العمالة.
دعنا نركز على العاملين؛ لقياس مستوى معيشتهم، يجب مقارنة أجور العاملين بأسعار البضائع الاستهلاكية، ثم يجب حساب متوسط هذه الأسعار لحساب مؤشر أسعار المستهلك. يتمثل المؤشر الذي أعتمد عليه في تكلفة بقاء الفرد حيا وفق «الحد الأدنى من متطلبات الحياة» (الطريقة الأقل تكلفة للبقاء على قيد الحياة). إن النظام الغذائي الذي يعتمد عليه العمال شبه نباتي؛ توفر الحبوب المغلية والخبز غير المختمر معظم السعرات الحرارية التي يحتاجها الجسم، وتعتبر البقوليات مكملات غذائية غنية بالبروتين، ويوفر الزبد أو الزيوت النباتية القليل من الدهون المطلوبة للجسم. كانت هذه الوجبة هي الوجبة القياسية في معظم أنحاء العالم في عام 1500. لاحظ تاجر هولندي يدعى فرانسيسكو بلسارت زار الهند في أوائل القرن السابع عشر أن الناس الذين يعيشون قرب مدينة دلهي «لا يملكون شيئا يأكلونه سوى القليل من الكيدجري المعد من البذور النباتية الخضراء مخلوطة مع بعض الأرز ... يأكلونها مع الزبد في المساء، وأثناء النهار يتناولون القليل من البذور المجففة أو الحبوب الأخرى.» لا يعرف العاملون «سوى القليل عن مذاق اللحم»، بل تعتبر معظم أنواع اللحوم محرمة.
يبين الجدول (
1-2 )
4
النمط الاستهلاكي الذي يحدد الحد الأدنى من الطعام الذي يحتاج إليه رجل بالغ. تعتمد الوجبة على أرخص أنواع الحبوب المتوفرة في كل بقعة من العالم، مثل الشوفان في شمال غرب أوروبا، والذرة في المكسيك، والدخن في شمال الهند، والأرز في سواحل الصين، وهكذا. تحدد كمية الحبوب بحيث توفر الوجبة 1940 سعرا حراريا يوميا، ويقتصر الإنفاق على غير الغذاء على شراء الملابس المستعملة، ومقدار يسير من مصدر طاقة وشمعة. يتركز معظم حجم الإنفاق على الطعام، خاصة الكربوهيدرات التي تمثل أساس النظام الغذائي.
جدول 1-2: سلة بضائع الحد الأدنى من متطلبات الحياة. *
الكمية لكل رجل سنويا
السعرات الحرارية يوميا
البروتين (جرام) يوميا
الأطعمة
الحبوب
167كجم
1657
72
البقوليات
20كجم
187
14
اللحوم
5كجم
34
3
الزبد
3كجم
60
0
إجمالي
1938
89
مواد غير غذائية
صابون
1,3كجم
كتان/قطن
3 أمتار
شموع
1,3كجم
زيت مصباح
1,3 لتر
وقود
2,0 مليون وحدة حرارية بريطانية *
ملاحظة: يعتمد الجدول على الكميات والقيم الغذائية المتوفرة في النظام الغذائي القائم على الشوفان في أوروبا الشمالية/الغربية. تعتمد الوجبة في مناطق أخرى من العالم على أرخص أنواع الحبوب المتوفرة، ومن ثم تختلف الكميات.
شكل 1-3: نسبة الحد الأدنى من متطلبات الحياة للعاملين.
5
يعتمد السؤال الأساسي المتعلق بمستوى المعيشة على ما إذا كان العامل الذي يعمل دواما كاملا يكسب ما يكفي من المال للإنفاق على أسرة في حدود الحد الأدنى من متطلبات الحياة. يبين الشكل
1-3
النسبة بين دخل دوام كامل وتكلفة الإنفاق على عائلة في حدود الحد الأدنى من متطلبات الحياة. أما اليوم، تعتبر مستويات المعيشة متشابهة عبر دول أوروبا، وقد كانت آخر مرة تحقق فيها ذلك أيضا في القرن الخامس عشر. كانت مستويات المعيشة آنذاك مرتفعة أيضا؛ إذ كان العاملون يجنون دخلا يساوي أربعة أضعاف قيمة الحد الأدنى من متطلبات الحياة. وبحلول القرن الثامن عشر، حدثت الفجوة الكبرى في أوروبا، فانهارت مستويات المعيشة في القارة، ولم يستطع العاملون سوى جني ما يكفي لشراء البنود المذكورة في الجدول
1-2
أو ما يكافئها. في العصور الوسطى، كان العاملون في فلورنسا يأكلون الخبز لكن بحلول القرن الثامن عشر لم يستطع العاملون سوى تناول العصيدة المصنوعة من الذرة التي وصلت إليهم من الأمريكتين.
في المقابل، ظل العاملون في أمستردام ولندن يحققون دخلا يساوي أربعة أضعاف قيمة الحد الأدنى من متطلبات الحياة، ولكن العاملين في لندن في عام 1750 لم يأكلوا وجبة الشوفان المذكورة في الجدول
1-2
أربع مرات، بل ارتقوا بمكونات وجباتهم فشملت الخبز الأبيض واللحم البقري والجعة. لم يأكل البريطانيون وجبات الشوفان إلا من كانوا يعيشون على حدود المناطق السلتية. وكما قال دكتور جونسون: يعتبر الشوفان «نوعا من الحبوب يقدم إلى الخيول بصورة عامة في إنجلترا، لكن في اسكتلندا يأكله البشر.» كما كان العاملون في جنوب إنجلترا يملكون الدخل الكافي لشراء الكماليات في القرن الثامن عشر، مثل الكتاب والمرآة والسكر والشاي.
وقعت فجوة بين الأجور الحقيقية مثلما وقعت فجوة في إجمالي الناتج المحلي للفرد بين الدول. يبين الشكل
1-4
الأجور الحقيقية للعاملين في لندن منذ عام 1300 إلى الوقت الحالي، وفي بكين منذ عام 1738. في عام 1820، بلغ الأجر الحقيقي في لندن أربعة أضعاف قيمة الحد الأدنى من متطلبات الحياة، وارتفعت النسبة إلى 50 ضعفا منذ عام 1870.
شكل 1-4: نسبة الحد الأدنى من متطلبات الحياة: لندن وبكين.
في المقابل، لا تزال الأجور الحقيقية في الدول الفقيرة من العالم تقف عند حدود ذلك الحد الأدنى. في عام 1990، حدد البنك الدولي خط الفقر العالمي عند قيمة دولار واحد يوميا (وهو ما ارتفع ليصبح 1,25 دولار أمريكي نظرا للتضخم). هذا الشكل - الذي يعتمد على خطوط الفقر الحالية للدول الفقيرة - يقابل الحد الأدنى من متطلبات الحياة المحددة في الجدول
1-2 . وصل متوسط سلات بضائع الحد الأدنى إلى 1,30 دولار أمريكي لكل شخص يوميا عند حسابها بأسعار عام 2010. يعيش أكثر من مليار شخص (15٪ من سكان العالم) تحت مستوى هذا الخط في الوقت الحالي، وكانت هذه النسبة أكثر بكثير في عام 1500، وكان العاملون في بكين على هذا القدر من الفقر في القرن التاسع عشر. في المقابل، رفع النمو الملحوظ للصين في العقود الأخيرة من مستوى معيشة العاملين إلى - فقط - ستة أضعاف الحد الأدنى، وهو مستوى بلغه العاملون البريطانيون منذ 150 عاما خلت.
نستطيع الآن تقدير الأجور المنخفضة المبينة في الجدول
1-1
لعام 1820؛ فقد احتسبت هذه الأجور بناء على سعر الدولار في عام 1990، وفي ذلك الوقت، كانت تكلفة الحد الأدنى من متطلبات الحياة تساوي 1 دولار يوميا أو 365 دولارا سنويا. إن متوسط دخل الفرد في أفريقيا جنوب الصحراء في عام 1820 بلغ 415 دولارا؛ أي ما يزيد بنسبة 15٪ فقط عن قيمة الحد الأدنى من متطلبات الحياة، وهو ما كان يمثل مستوى معيشة الغالبية العظمى في ذلك الوقت. في معظم مناطق آسيا وأوروبا الشرقية - التي كانت تضم نظما زراعية تتطلب رأس مال ضخما ومجتمعات هرمية - كان متوسط الدخول يتراوح بين 500 دولار و700 دولار. كان معظم الناس يعيشون على الحد الأدنى من متطلبات الحياة، وكانت الدولة والطبقة الأرستقراطية والتجار الأثرياء يجنون أي فائض في الدخل. في المقابل، بلغت الدخول في شمال غرب أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية من أربعة إلى ستة أضعاف قيمة الحد الأدنى، فقط في هذه المجتمعات كان العمال يعيشون في مستوى يزيد عن ذلك الحد الأدنى، مثلما يبين الشكل
1-3 . كانت اقتصادات هذه الدول منتجة بدرجة كافية لاستفادة الطبقات الأرستقراطية والتجار.
ينطوي الحد الأدنى من متطلبات الحياة على تداعيات أخرى تؤثر على الرفاهة الاجتماعية والتقدم الاقتصادي؛ أولا: الأشخاص الذين يتناولون وجبات الحد الأدنى قصار القامة؛ فانخفض متوسط طول الإيطاليين الذين التحقوا بجيش هبسبورج من 167 سنتيمترا إلى 162 سنتيمترا؛ نظرا لأنهم تحولوا من تناول الخبز إلى تناول العصيدة. في المقابل، بلغ متوسط طول الجنود البريطانيين في القرن الثامن عشر 172 سنتيمترا؛ نظرا لتغذيتهم بصورة أفضل. (في الوقت الحالي، يبلغ متوسط طول الرجل في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وإيطاليا 176-178 سنتيمترا، فيما يبلغ متوسط طول الرجل في هولندا 184 سنتيمترا.) عندما يقل طول الأشخاص نظرا لنقص الطعام، ينخفض متوسط أعمارهم أيضا، وتتردى صحتهم أيضا بصورة عامة. ثانيا: يتلقى الأشخاص الذين يعيشون عند مستوى الحد الأدنى تعليما أقل جودة. يحكي السير فردريك إيدن - الذي أجرى مسحا لدخول العمال وأنماط إنفاقهم في إنجلترا في تسعينيات القرن الثامن عشر - قصة بستاني لندني كان ينفق ستة بنسات من دخله أسبوعيا لإرسال اثنين من أبنائه إلى المدرسة. كانت عائلة البستاني تشتري خبز القمح واللحم والجعة والسكر والشاي، وكان دخله (37,75 جنيها إنجليزيا سنويا) يساوي تقريبا أربعة أضعاف الحد الأدنى (أقل من 10 جنيهات استرلينية). إذا انخفض دخل هذا البستاني إلى مستوى الحد الأدنى بصورة مفاجئة، كانت ستجرى عمليات توفير كثيرة، ومن يشك في احتمالية أن الأطفال كانوا سيتركون المدرسة؟ لقد أسهمت الأجور المرتفعة في تحقيق النمو الاقتصادي من خلال الحفاظ على الصحة ودعم التعليم. أخيرا، من المفارقات أن العيش على الحد الأدنى من متطلبات الحياة يزيل الحافز الاقتصادي لدى أي دولة للتطور على المستوى الاقتصادي. فالحاجة إلى تحقيق المزيد من الإنتاج في اليوم كبيرة، لكن العمالة رخيصة، حتى إنه لا يتوفر لدى الشركات الحافز الكافي لابتكار أو استخدام ماكينات ترفع من مستوى الإنتاجية، فالعيش على الحد الأدنى من متطلبات الحياة ما هو إلا فخ للفقر. ولقد اندلعت الثورة الصناعية نتيجة للأجور المرتفعة، ولم تكن سببا لها فقط.
هوامش
الفصل الثاني
بزوغ نجم الغرب
لماذا تزداد اللامساواة في العالم؟ لعبت العوامل «الأساسية»، مثل الجغرافيا أو المؤسسات أو الثقافة و«المصادفات التاريخية»، دورا في ذلك.
تمثل الجغرافيا عاملا مهما؛ فالملاريا تعوق نمو المناطق الاستوائية، في حين لعبت مناجم الفحم في بريطانيا دورا أساسيا في انطلاق الثورة الصناعية. ولكن، نادرا ما تقدم الجغرافيا وحدها تفسيرا كاملا؛ إذ تعتمد أهميتها على الفرص التكنولوجية والاقتصادية، بل وتتمثل إحدى غايات التكنولوجيا في الحد من المعيقات الجغرافية. في القرن الثامن عشر - على سبيل المثال - حددت مواقع مناجم الفحم والحديد مواقع أفران صهر المعادن. حاليا، صار النقل عبر المحيطات رخيصا للغاية، حتى إن اليابان وكوريا صارتا تستوردان احتياجاتهما من الفحم والحديد الخام من أستراليا والبرازيل.
لطالما كانت الثقافة تفسيرا شائعا للنجاح الاقتصادي؛ فيرى ماكس ويبر - على سبيل المثال - أن المذهب البروتستانتي جعل سكان أوروبا الشمالية أكثر عقلانية وجدية في العمل من غيرهم، وقد بدت نظرية ويبر مقنعة في عام 1905 عندما كانت بريطانيا البروتستانتية أكثر ثراء من إيطاليا الكاثوليكية، أما اليوم فالعكس صحيح، ومن ثم لم تعد نظرية ويبر قائمة. وهناك رأي ثقافي آخر يزعم أن المزارعين في العالم الثالث فقراء نظرا لتمسكهم بالأساليب التقليدية وعدم الاستجابة إلى الحوافز الاقتصادية، ولكن العكس هنا أيضا صحيح؛ إذ إن المزارعين في الدول الفقيرة يجربون محاصيل وأساليب زراعة جديدة، ويوظفون العمالة بقدر ما هي مفيدة، ويستخدمون الأسمدة والبذور الحديثة عندما تكون موفرة اقتصاديا، ويغيرون المحاصيل التي يزرعونها استجابة لتغيرات الأسعار مثل المزارعين في الدول الغنية. يعاني المزارعون الفقر لأنهم يتلقون أسعارا منخفضة مقابل محاصيلهم، ولعدم توفر التكنولوجيا المناسبة، لا لأنهم يرفضون استخدامها.
رغم أن التفسيرات الثقافية القائمة على اللاعقلانية والكسل لا يمكن التعويل عليها دوما، إلا أن هناك جوانب ثقافية تؤثر على الأداء الاقتصادي. فالقدرة على القراءة والمهارات الحسابية على وجه خاص كانت شروطا ضرورية (إن لم تكن أساسية) لتحقيق النجاح الاقتصادي منذ القرن السابع عشر، تسهم هذه المهارات العقلية في ازدهار التجارة وتطور العلوم والتكنولوجيا. وتنتشر القدرة على القراءة والمهارات الحسابية من خلال التعليم العام الذي صار استراتيجية عالمية للتطور الاقتصادي.
لا تزال أهمية المؤسسات السياسية والقانونية محل نقاش محتدم؛ ويرى الكثير من خبراء الاقتصاد أن النجاح الاقتصادي إنما ينشأ عن تأمين حقوق الملكية، وخفض الضرائب، وتقليص التدخل الحكومي. يعتبر استبداد الحكومات أمرا سيئا للنمو؛ حيث يؤدي إلى زيادة الضرائب واللوائح والفساد ونزعة الجباية، وهي جميعا عوامل تقلص من حوافز الإنتاج. تطبق هذه الرؤى تاريخيا من خلال القول بأن الملكيات الاستبدادية - مثلما كان الحال في إسبانيا وفرنسا، أو في الإمبراطوريات مثل الصين أو روما أو الأزتك - ضيقت الخناق على النشاط الاقتصادي عن طريق منع التجارة الدولية، أو تهديد الملكية الخاصة، بل وتهديد الحياة نفسها. تردد هذه الآراء بالطبع آراء آدم سميث وغيره من ليبراليي القرن الثامن عشر بأن التنمية الاقتصادية الناجحة تعزى إلى استبدال الحكومات المنتخبة بالحكم المطلق. وقد ثارت هولندا على الحكم الإسباني في عام 1568، ثم أعادت تنظيم نفسها كجمهورية، وبعدئذ شهدت هولندا نموا سريعا. عانى الاقتصاد الإنجليزي أوائل القرن السابع عشر تحت حكمي الملكين جيمس الأول وتشارلز الأول اللذين فرضا ضرائب مشكوكا في شرعيتها، مثلما فرضوا ضرائب على القروض الإلزامية. وقد فشلت محاولات تشارلز الأول في الحكم بدون برلمان، فاندلعت الحرب الأهلية، وفي عام 1649 أدين الملك بتهمة الخيانة وأعدم. وبعد عصر إعادة الملكية في المملكة المتحدة، استمرت النزاعات بين الملك والبرلمان وانتهت باندلاع الثورة المجيدة في عام 1688، عندما فر الملك جيمس الثاني هاربا من البلاد، فيما منح البرلمان التاج إلى ويليام وماري. وفي ظل تمتع البرلمان بالسلطة العليا، كبح جماح الحكم المطلق وازدهر الاقتصاد؛ هكذا يرى خبراء الاقتصاد تاريخ الاقتصاد.
ومن ناحية أخرى، بينما كان خبراء الاقتصاد يحتفلون بتفوق المؤسسات الإنجليزية، كان المؤرخون يبحثون في كيفية نجاح الملكيات المطلقة والديكتاتوريات الشرقية، وكانت نتيجة البحث المعتادة تتمثل في أن هذه الملكيات والديكتاتوريات قد دعمت السلام والنظام والحكم الرشيد؛ وازدهرت التجارة نتيجة ذلك، وزاد التخصص الإقليمي في إنتاج سلع محددة، وتوسعت المدن. ومع زيادة تخصص الأقاليم، ارتفع الدخل القومي فيما صار يطلق عليه «النمو وفقا لنموذج آدم سميث»، وصار التهديد الأكبر للازدهار هو الغزو من قبل الجماعات البربرية الذين تجذبهم ثروة الحضارة القائمة - وليس مصادرة الأملاك أو التدخل من قبل الملك.
العولمة الأولى
في حين تكمن المؤسسات والثقافة والجغرافيا في الخلفية دوما، يتكشف أن التحولات التكنولوجية والعولمة والسياسة الاقتصادية تمثل الأسباب المباشرة في حدوث تنمية غير متساوية. بالإضافة إلى ذلك، كانت الثورة الصناعية نفسها نتيجة المرحلة الأولى من العولمة التي بدأت في نهاية القرن الخامس عشر مع رحلات كولومبس وماجلان وغيرهما من المستكشفين العظام، ومن ثم فإن الفجوة الكبرى بدأت مع العولمة الأولى.
تطلبت العولمة سفنا تبحر في أعالي البحار، ولم يتوفر ذلك لدى الأوروبيين حتى القرن الخامس عشر، وكانت تلك السفن المبتكرة حديثا ذات ثلاث صوار؛ كانت الصاريتان الأمامية والوسطية مشرعتين في صورة مربعات، فيما كانت الصارية الخلفية مشرعة في صورة مثلث. ساعد وجود هياكل السفن الأقوى واستخدام دفة القيادة بدلا من المجاديف على ظهور سفن قادرة على الإبحار حول العالم.
في البداية، ظهر الأثر التجاري للسفن ذات الصواري الثلاث في أوروبا. في القرن الخامس عشر، بدأ الهولنديون في شحن الحبوب البولندية من جدانسك إلى هولندا، وبحلول القرن السادس عشر، كانت عمليات الشحن تجري إلى إسبانيا والبرتغال ودول البحر الأبيض المتوسط، وسرعان ما تبعها شحن المنسوجات. كانت المدن الإيطالية تسيطر على صناعة القماش في العصور الوسطى، غير أن المنتجين الإنجليز والهولنديين نجحوا في صناعة ملابس صوفية خفيفة الوزن محاولين تقليد صناعة الأقمشة الإيطالية. وبحلول أوائل القرن السابع عشر، أغرقت دول حوض البحر المتوسط بهذه «الأقمشة الجديدة»، واستطاع الإنجليز والهولنديون التفوق على الإيطاليين في هذه الصناعة. كان هذا تغييرا مشهودا ومثل بداية انتقال مركز التصنيع في أوروبا إلى شمال غرب أوروبا.
ولكن كان الأثر الأكبر للسفن ثلاثية الصواري هو الرحلات الاستكشافية؛ فكانت شبكات من التجار الهنود والعرب والفينيسيين تشحن الفلفل والبهارات من آسيا عبر منطقة الشرق الأوسط إلى أوروبا، في الوقت الذي كان البرتغاليون يأملون في التفوق على هؤلاء التجار في نقل البضائع من خلال اكتشاف طريق مائي بالكامل. في القرن الخامس عشر، أبحر البرتغاليون جنوبا على طول الساحل الأفريقي بحثا عن طريق بحري إلى الشرق.
وفي عام 1498، وصل فاسكو دا جاما إلى كوتشن في الهند وملأ سفينته بالفلفل، وكان سعر الفلفل في كوتشن حوالي 4٪ من سعر الفلفل في أوروبا (الشكل
2-1 )، في حين كانت نسبة 96٪ الفرق بين السعرين هي تكاليف النقل. بحلول عام 1760، تقلصت الفجوة بين الأسعار الهندية والإنجليزية في الشكل
2-1
بمقدار 85٪، وهذا الانخفاض يمثل مقياسا للمكسب المتحقق من كفاءة استخدام طريق بحري بالكامل. في القرن السادس عشر، لم يستفد من الانخفاض في تكلفة النقل سوى البرتغاليين؛ حيث إن الشركة التجارية المملوكة للدولة آنذاك أبقت على سعر الفلفل في حدود أسعار القرون الوسطى واحتفظت بالفارق كأرباح، ولم يتحطم ذلك الاحتكار البرتغالي البحري وتنخفض الأسعار الأوروبية بمقدار الثلثين إلا بظهور شركتي الهند الشرقية الإنجليزية والهولندية في أوائل القرن السابع عشر. أما السعر الحقيقي الذي تلقاه التجار الهنود فلم يزد إلا زيادة طفيفة؛ حيث جنى المستهلكون الأوروبيون معظم فوائد تحقيق الكفاءة في التجارة مع آسيا.
شكل 2-1: سعر الفلفل، معدلا وفق مستوى الأسعار في عام 1600.
اقترح البحار كريستوفر كولومبس - وهو من مدينة جنوة - الطريق البديل للإبحار غربا من أوروبا إلى آسيا مباشرة، وقد أقنع كولومبس الملك فرديناند والملكة إيزابيلا في إسبانيا بتمويل رحلته، ورست سفن كولومبس في جزر البهاما في 12 أكتوبر 1492، مقتنعا بأنه وصل إلى الهند الشرقية، لكنه في الحقيقة كان قد «اكتشف » الأمريكتين - الحدث الذي غير من تاريخ العالم.
أطلقت رحلات كولومبس ودا جاما صراعا حول إقامة الإمبراطوريات، وكان البرتغاليون والإسبان هم أول الفائزين. في معركتي ديو (1509 و1538)، استطاعت القوات البرتغالية هزيمة القوات الفينيسية والعثمانية والآسيوية، ورسخت سيطرتها في منطقة المحيط الهندي. توغل البرتغاليون شرقا في اتجاه إندونيسيا، حيث أقاموا سلسلة من المستعمرات إبان ذلك. في نهاية المطاف، وصل البرتغاليون إلى جزر التوابل الأسطورية (أي جزر الملوك في إندونيسيا)؛ حيث كانت تزرع بذور جوزة الطيب والقرنفل وقشور جوزة الطيب، وقد اكتشف البرتغاليون البرازيل مصادفة في عام 1500، والتي صارت أكبر مستعمراتهم.
كانت إمبراطورية إسبانيا أكثر ثراء، وتمثلت أعظم نجاحات إسبانيا في غزو إمبراطورية الأزتك في عام 1521 على يد هرنان كورتيس، وإمبراطورية إنكا بعد 11 عاما على يد فرانثيسكو بيثارو. في كلتا الحالتين، هزمت قوات إسبانية قليلة العدد جيوشا ضخمة من السكان الأصليين، من خلال استخدام الأسلحة النارية والجياد والخداع والجدري. أدى نهب إمبراطورياتي الأزتك والإنكا إلى إثراء إسبانيا ثراء فاحشا في الحال، وقد تبع تلك الغزوات اكتشاف مناجم هائلة للفضة في بوليفيا والمكسيك، وقد ساهم تدفق الفضة إلى إسبانيا في تمويل جيش هبسبورج الذي كان يحارب البروتستانتيين عبر أوروبا، كما وفر السيولة النقدية للأوروبيين لشراء السلع الآسيوية، وأطلق عقودا من التضخم صارت تعرف باسم ثورة الأسعار.
أما الإنجازات الإمبراطورية للأوروبيين الشماليين، فكانت متواضعة في القرن السادس عشر. أرسل الإنجليز جيوفاني كابوتو (جون كابوت) غربا في عام 1497؛ حيث وصل كابوت إلى جزيرة كيب بريتون، أو نيوفاوندلاند، وقد عد ذلك اكتشافا على الرغم من أن بحاري إقليم الباسك كانوا يصيدون في منطقة جراند بانكس لقرون. كما أرسل الفرنسيون بدورهم جاك كارتييه إلى كندا في ثلاث رحلات بحرية خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن السادس عشر، ولم تكن تجارة الفراء مع السكان الأصليين ذات قيمة كبيرة بالنسبة للفرنسيين مقارنة باكتشاف المكسيك أو جزر الملوك.
لم يصبح الأوروبيون الشماليون قوى استعمارية ذات ثقل حتى القرن السابع عشر، وكانت المنظمة المفضلة لديهم هي شركة الهند الشرقية التي جمعت بين النشاط الاستعماري والنشاط التجاري الخاص. كانت هذه الشركات عادة شركات مساهمة ذات رأس المال مرتفع تمارس الأنشطة التجارية في آسيا أو الأمريكتين، وكانت تمتلك قوات عسكرية وبحرية، وأقامت مواقع تجارة محصنة خارج أراضيها. امتلكت جميع القوى الشمالية شركات كهذه، وقد تأسست شركة الهند الشرقية الإنجليزية في عام 1600، ثم نظيرتها الهولندية بعدها بعامين.
أنشأت شركة الهند الشرقية الهولندية إمبراطورية هولندية في آسيا على حساب البرتغاليين؛ فقد استولى الهولنديون على جزر الملوك في عام 1605، وملاكا في عام 1641، وسيلان في عام 1658، وكوتشن في عام 1662. وقد جعل الهولنديون جاكرتا عاصمة مستعمراتهم الإندونيسية في عام 1619، واستولى الهولنديون أيضا على البرازيل في ثلاثينيات وأربعينيات القرن السابع عشر، كما استعمروا جزر إنتاج السكر في الكاريبي، وأنشئوا مدينة نيويورك في عام 1624، ومستعمرة كيب في جنوب أفريقيا في عام 1652.
أقام الإنجليز أيضا إمبراطورية في القرن السابع عشر. في آسيا، هزمت شركة الهند الشرقية الإنجليزية البرتغاليين في معركة سوالي البحرية التي تقع قرابة سورات في عام 1612، تلا ذلك تأسيس مواقع تجارية محصنة في سورات (1612)، ومدراس (1639)، وبومباي (1668)، وكلكتا (1690). بحلول عام 1647، وصل عدد منشآت شركة الهند الشرقية في الهند إلى 23 منشأة. وفي الأمريكتين أقام عدد كبير من الأفراد والجماعات عدة مستعمرات، وقد أقيمت أول مستعمرتين ناجحتين، جيمس تاون وفرجينيا، في عام 1607، أتت على إثرهما المستعمرة الأسطورية بلايموث في عام 1620، ثم مستعمرة ماساتشوستس باي الأكثر أهمية بعد عشر سنوات، ثم استولت إنجلترا على جزر البهاما وعدد من الجزر في منطقة الكاريبي خلال عقدي العشرينيات والثلاثينات من القرن السابع عشر، ثم انضمت جامايكا إلى سلسلة المستعمرات في عام 1655.
توسعت الدولة الإنجليزية في بناء إمبراطوريتها خاصة على حساب الهولنديين. اتخذ أوليفر كرومويل الخطوات الأولى خلال فترة الكومنولث (1640-1660)، واستمرت عملية التوسع بعد عصر استعادة الملكية، وقد ازداد الإنفاق على البحرية زيادة هائلة، ومرر قانون الملاحة الأول في عام 1651، وكان هذا الإجراء الاتجاري يهدف إلى استبعاد الهولنديين من التجارة مع مستعمرات الإمبراطورية الإنجليزية. اندلعت الحرب الإنجليزية الهولندية الأولى (1652-1654) لأسباب تجارية، لكنها فشلت فشلا ذريعا. وبعد استعادة الملكية خلال عهد الملك تشارلز الثاني الذي بدأ عام 1660، أعيد تطبيق قوانين الملاحة وتوسيع نطاقها، وازداد حجم البحرية (التي أصبحت تحمل صفة «الملكية»)، وخاضت بريطانيا المزيد من الحروب ضد الهولنديين في 1665-1667 و1672-1674. استولت إنجلترا على نيويورك في عام 1664، وأقيمت المستعمرات الإنجليزية بطول الساحل الأمريكي من جورجيا إلى مين، وقد نما اقتصاد المستعمرات البريطانية نموا سريعا من خلال تصدير التبغ والأرز والقمح واللحم إلى إنجلترا والكاريبي. وبحلول عام 1770، بلغ تعداد سكان أمريكا المستعمرة البريطانية 2,8 مليون نسمة، أو ما يقدر بنصف تعداد سكان إنجلترا.
جدول 2-1: توزيع السكان وفقا للقطاع بالنسبة المئوية، 1500-1750.
1500
1750
قطاع حضري
قطاع ريفي غير زراعي
قطاع زراعي
قطاع حضري
قطاع ريفي غير زراعي
قطاع زراعي
التحول الأكبر
إنجلترا
7٪
18٪
74٪
23٪
32٪
45٪
تحديث هائل
هولندا
30
14
56
36
22
42
بلجيكا
28
14
58
22
27
51
تطور طفيف
ألمانيا
8
18
73
9
27
64
فرنسا
9
18
73
13
26
61
النمسا/المجر
5
19
76
78
32
61
بولندا
6
19
75
4
36
60
تغيير طفيف
إيطاليا
22
16
62
22
19
59
إسبانيا
19
16
65
21
17
62
ساهمت تجارة إنجلترا وهولندا مع مستعمراتيهما في تطوير اقتصادهما؛ فقد نمت المدن وكذلك عمليات التصنيع الموجهة إلى التصدير، وتغير الهيكل الوظيفي للسكان تبعا لذلك. يقسم الجدول
2-1
1
سكان الدول الأوروبية الرئيسية إلى ثلاث مجموعات: زراعية، وحضرية، وريفية غير زراعية. في العصور الوسطى، كان ثلاثة أرباع السكان يعملون في الأنشطة الزراعية، وكانت معظم عمليات التصنيع تجري في المدن، وتألفت مجموعة «السكان الريفيين غير الزراعيين» من الحرفيين القرويين، ورجال الدين، والحمالين، والخدم العاملين في المنازل الريفية. وفي عام 1500، كانت إيطاليا وإسبانيا أكثر الدول تقدما من الناحية الاقتصادية، وكانت مدنهما هي الأكبر والتي تنتج أفضل المصنوعات، وكانت الدول المنخفضة (دولة بلجيكا في العصر الحديث) تعتبر امتدادا لهذا الاقتصاد، وكان تعداد هولندا صغيرا للغاية، فيما لم تكن إنجلترا أكثر من مجرد مزرعة لتربية الخراف.
قبيل حلول الثورة الصناعية، كانت تغيرات واسعة النطاق قد طرأت. كانت إنجلترا أكثر الدول التي شهدت تحولات كبيرة؛ إذ انخفضت نسبة السكان العاملين في القطاع الزراعي إلى 45٪، وباتت إنجلترا أسرع دول أوروبا تحولا إلى الحضرية؛ إذ نمى عدد سكان لندن من 50 ألف نسمة في عام 1500 إلى 200 ألف نسمة في عام 1600، ثم إلى 500 ألف نسمة في عام 1700، ثم أخيرا إلى مليون نسمة في عام 1800. وبلغت نسبة السكان «الريفيين غير الزراعيين» 32٪ من إجمالي عدد السكان في عام 1750، وكان معظم هؤلاء السكان يعملون في ممارسة الأنشطة التصنيعية، وكانت منتجاتهم تصدر عبر أوروبا، وفي بعض الأحيان حول العالم. وكان الحرفيون في ويتني وأكسفوردشاير - على سبيل المثال - يبيعون الأغطية إلى شركة خليج هدسون التي كانت تقايضها مقابل الفراء مع سكان كندا الأصليين. تطور اقتصاد الدول المنخفضة بنمط مشابه، بل وقد كانت هولندا أكثر حضرية من إنجلترا، كما كان لديها أيضا صناعات ريفية ضخمة موجهة إلى التصدير.
في المقابل، لم تشهد باقي دول أوروبا تحولات كبرى. شهدت الدول القارية الكبرى انخفاضا طفيفا في حصتها من السكان العاملين في قطاع الزراعة، وزيادة مماثلة في السكان العاملين بالصناعات الريفية، مع إحراز القليل من التقدم على المستوى الحضري. بدت إسبانيا وإيطاليا ساكنتين بلا تغيير في توزيع سكانهما.
لم يحالف الحظ إسبانيا بصورة خاصة؛ ففي القرن السادس عشر، بدت إسبانيا أكثر الدول الاستعمارية نجاحا؛ حيث تدفقت عليها الفضة من أمريكا اللاتينية، ولكن أدت واردات الفضة إلى حدوث تضخم أكبر في إسبانيا من أي دولة أخرى؛ ونتيجة لذلك، خرجت الزراعة والصناعة الإسبانية من المنافسة. يخفي ثبات النسب السكانية للمناطق الحضرية في إسبانيا تغيرات هائلة؛ إذ انخفض تعداد سكان المدن الصناعية القديمة انخفاضا هائلا، فيما تضخم عدد سكان مدريد بسبب عمليات النهب التي جرت لثروات المستعمرات الأمريكية. لقد دفعت العولمة بدول شمال غرب أوروبا إلى الأمام، لكنها كبحت جماح دول جنوبي أوروبا في المؤخرة.
كان للنجاح في الاقتصاد العالمي آثارا هائلة على التطور الاقتصادي، منها:
أولا: أدى النمو الحضري والتصنيع في المناطق الريفية إلى زيادة الطلب على الأيدي العاملة، وأدى إلى خلق سوق عمالة محدودة وارتفاع الأجور. كانت مستويات المعيشة مرتفعة في لندن وأمستردام (الشكل
1-3 ).
ثانيا: أدى نمو المدن وارتفاع الأجور في الاقتصادات المزدهرة إلى زيادة الطلب على الزراعة للحصول على الغذاء والأيدي العاملة؛ مما تمخض عنه ثورات زراعية في إنجلترا وهولندا؛ فارتفع إنتاج كل مزارع بنسبة تصل إلى حوالي 50٪ في كلتا الدولتين، ووصل إلى أعلى المستويات في أوروبا.
ثالثا: أدى نمو الطلب في المناطق الحضرية إلى حدوث ثورات في توفير الطاقة في إنجلترا وهولندا. في العصور الوسطى، كان الفحم النباتي وخشب الأشجار مصادر الطاقة الرئيسية في المدن، ومع نمو المدن زادت أسعار الأخشاب زيادة هائلة، وجرى تطوير بدائل للوقود. في هولندا كان البديل هو الخث، فيما كان الفحم هو البديل في إنجلترا. كان الفحم يستخرج من دورام ونورثمبرلاند ثم يشحن عبر الساحل إلى لندن. كانت إنجلترا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تمتلك صناعة هائلة لاستخراج الفحم في القرن الثامن عشر، وهو ما مكنها من الحصول على أرخص مصادر الطاقة في العالم، كما يشير الشكل
2-2 .
شكل 2-2: أسعار الطاقة.
جدول 2-2: معرفة القراءة والكتابة بين البالغين، عامي 1500 و1800. النسبة المئوية للسكان البالغين الذين يمكنهم كتابة أسمائهم.
1500
1800
إنجلترا
6
53
هولندا
10
68
بلجيكا
10
49
ألمانيا
6
35
فرنسا
7
37
النمسا/المجر
6
21
بولندا
6
21
إيطاليا
9
22
إسبانيا
9
20
رابعا: أدى ارتفاع الأجور في الاقتصادات المزدهرة إلى زيادة مستويات معرفة القراءة والكتابة، والمهارات الحسابية، وتشكيل المهارات بصورة عامة. يبين الجدول
2-2
2
تقديرات لمعرفة القراءة والكتابة (مقاسة بالقدرة على كتابة الاسم بدلا من استخدام العلامات) في عامي 1500 و1800. زادت معرفة القراءة والكتابة في كل مكان في أوروبا، غير أن الزيادة الكبرى كانت في منطقة شمال غرب أوروبا. لا يفسر الإصلاح الديني سبب هذه الزيادة - كما يفترض في كثير من الأحيان - حيث كانت معرفة القراءة والكتابة مرتفعة في شمال شرق فرنسا وبلجيكا ووادي الراين - وهي جميعها مناطق كاثوليكية - كما كانت مرتفعة في هولندا أو إنجلترا. ويعزى الارتفاع في معرفة القراءة والكتابة إلى الاقتصاد التجاري الذي يتميز بارتفاع الأجور. زاد التوسع في النشاط التجاري والتصنيع من الطلب على التعليم من خلال جعله ذا قيمة اقتصادية، وفي الوقت نفسه، جعل الاقتصاد الذي يتميز بارتفاع الأجور الآباء قادرين على تعليم أبنائهم.
هوامش
الفصل الثالث
الثورة الصناعية
كانت الثورة الصناعية (تقريبا من 1760 إلى 1850) نقطة تحول في تاريخ العالم؛ حيث دشنت عهدا من النمو الاقتصادي المتواصل. ولم تكن الثورة الصناعية حدثا مفاجئا مثلما يوحي اسمها، بل كانت نتيجة تحولات في أوائل الاقتصاد الحديث مثلما ناقشنا في الفصل السابق. كان معدل النمو الاقتصادي الذي تحقق في القرن الذي تلا عام 1760 (1,5٪ سنويا) منخفضا للغاية، وفقا لمعايير معجزات النمو الاقتصادي الحديثة التي يصل فيها معدل نمو إجمالي الناتج المحلي إلى 8-10٪ سنويا. كانت بريطانيا توسع الحدود التكنولوجية للعالم باستمرار، وهذا يجعل النمو يسير في بطء مقارنة باللحاق بالدولة الرائدة من خلال استيراد التكنولوجيا التي تصنعها، وهي الطريقة التي تحقق بها الدول نموا سريعا. بالإضافة إلى ذلك، تمثل الإنجاز الأهم للثورة الصناعية البريطانية في أنها أفضت إلى حدوث نمو متواصل، بحيث أدت زيادة الدخل المتواصلة إلى تحقيق الازدهار الذي نعيشه اليوم.
كان التغير التكنولوجي هو محرك الثورة الصناعية؛ فقد جرى ابتكار العديد من الاختراعات المشهورة مثل المحرك البخاري، وماكينات غزل القطن ونسجه، والعمليات الجديدة لصهر وتنقية الحديد والصلب باستخدام الفحم بدلا من الخشب. بالإضافة إلى ذلك، ظهرت آلات كثيرة أخرى بسيطة أدت إلى زيادة إنتاجية الأيدي العاملة في صناعات عادية، مثل صناعة القبعات والدبابيس والمسامير، كما ظهرت مجموعة من المنتجات الإنجليزية الجديدة والتي كان معظمها - مثل خزف ودجوود - مستوحاة من المصنوعات الآسيوية.
في القرن التاسع عشر، وسع المهندسون تطبيق الاختراعات الميكانيكية التي ظهرت في القرن الثامن عشر على كافة المجالات. استخدم المحرك البخاري على سبيل المثال في قطاع النقل باختراع السكك الحديدية والسفن البخارية، واستخدمت الآلات التي تعمل بالمحركات - التي كان استخدامها مقصورا على مصانع المنسوجات - في المجال الصناعي بصورة عامة.
يظل السؤال هو: لماذا اخترعت التكنولوجيا الثورية في إنجلترا وليس في هولندا أو فرنسا، أو حتى في الصين أو الهند؟
السياق الثقافي والسياسي
اندلعت الثورة الصناعية في سياق سياسي وثقافي محدد مناسب للابتكار، وهو ما قد يساعد في تفسيرها.
لطالما كان الدستور الإنجليزي نموذجا لليبراليين الأوروبيين وخبراء الاقتصاد في العصر الحديث على حد سواء، لكنه كان أبعد ما يكون عن الديمقراطية؛ إذ لم يمتلك حق التصويت سوى 3-5٪ فقط من الإنجليز وأقل من ذلك من الاسكتلنديين، وظل قسط كبير من السلطة في يد الملك ، خاصة سلطة إعلان الحرب وتوقيع اتفاقيات السلام. وفي حين أنه كان لدى البرلمان حق دستوري في رفض تمويل الحرب، فإنه لم يفعل ذلك مطلقا.
توفرت في الدستور الإنجليزي سمات كثيرة جعلته يدعم النمو الاقتصادي، رغم أن تلك السمات ليست هي التي أكد عليها خبراء الاقتصاد في العصر الحديث، الذين ركزوا أكثر على تقليص الضرائب وتوفير حماية الملكية الفردية. فلقد أدى وضع السلطة العليا في يد البرلمان إلى نتائج عكسية؛ ففي حين زعم الملوك الفرنسيون امتلاكهم سلطة مطلقة، لم يكن بإمكانهم زيادة الضرائب دون الحصول على موافقة، وكانت أزمة في التمويل العام هي التي أدت إلى اندلاع الثورة الفرنسية، من خلال إجبار لويس السادس عشر على عقد مجلس طبقات الأمة في عام 1789. كانت طبقة النبلاء في فرنسا معفاة من دفع الضرائب، ولكن فرض البرلمان الإنجليزي ضريبة الأملاك في عام 1693، والتي فرضت على النبلاء والعوام على حد سواء، إلا أن معظم عائدات الضرائب تحققت من فرض الضرائب على السلع الاستهلاكية مثل الجعة، والسلع المستوردة مثل السكر والتبغ. وكان العمال - الذين لم يكونوا ممثلين في البرلمان - هم من يتحمل دفع هذه الضرائب بالأساس. ربما يحد البرلمان من سلطة الملك، لكن - في غياب الديمقراطية - من يحد من سلطة البرلمان؟
في الواقع، كانت الدولة الإنجليزية تجمع ضعف الضرائب التي تجمعها الدولة الفرنسية لكل فرد، وتنفق قسطا أكبر من الدخل القومي. يجادل البعض بأن بنود الإنفاق هذه ساهمت في دعم النمو الاقتصادي، ولكن معظم الأموال كانت تنفق على الجيش والبحرية؛ إذ كان الجيش يستخدم من حين لآخر في تنفيذ أهداف خارجية، ولكنه كان متاحا دائما للحفاظ على النظام العام في الداخل عن طريق قمع الاحتجاجات المناهضة لاستخدام الآلات، أو التي تنادي بتحقيق الديمقراطية. وكانت البحرية موجهة لتوسيع الإمبراطورية البريطانية ودعم تجارة البلاد، وقد استفاد العمال من ذلك؛ إذ كانت الإمبريالية أساس الاقتصاد مرتفع الأجور، وهو ما أدى بدوره إلى النمو من خلال تحقيق تغيير تكنولوجي يوفر في الأيدي العاملة. فإذا توفرت لدى لويس الرابع عشر السلطة اللازمة لفرض الضرائب، لربما استطاع زيادة الازدهار الفرنسي من خلال الإبقاء على البحرية الفرنسية في حال تأهب دائم، بدلا من زيادة حجم قواتها أو تقليصها كرد فعل لأوضاع الحرب والسلام.
كما أن سلطة البرلمان للاستيلاء على أملاك الأفراد ضد رغباتهم عززت من النمو أيضا. لم يكن هذا ممكنا في فرنسا؛ بل وربما يمكن القول بأن فرنسا عانت لأن الملكية الفردية تمتعت بحماية زائدة عن الحد، فلم تنفذ مشروعات الري المربحة في إقليم بروفانس؛ نظرا لأن فرنسا لم تمتلك قوانين مناظرة لقوانين البرلمان البريطاني الخاصة، وهي القوانين التي سمحت بالتعدي على ملكية الأفراد الذين عارضوا ضم أراضيهم أو شق قنوات أو طرق عبرها. فلقد كانت الثورة المجيدة في واقع الأمر تعني أن «السلطة الاستبدادية» للدولة التي «كانت موجودة بصورة متقطعة قبل عام 1688 ... صارت موجودة بصورة دائمة بعد ذلك.»
بالإضافة إلى النظام السياسي الملائم، ساهم بزوغ الثقافة العلمية في اكتمال الثورة الصناعية؛ فقد تمخض عن الثورة العلمية التي اندلعت في القرن السابع عشر عدد من الاكتشافات الخاصة بالعالم الطبيعي، والتي استغلها المخترعون في القرن الثامن عشر. بالإضافة إلى ذلك، أضفى نجاح الفلسفة الطبيعية مصداقية على الأسلوب العلمي؛ أي الرأي القائل بأن العالم تحكمه قوانين يمكن اكتشافها من خلال الملاحظة وتطبيقها لتحسين الحياة الإنسانية، وكان نموذج نيوتن للنظام الشمسي أعظم الإنجازات، وهو الإنجاز الذي أعاد تشكيل أفكار الطبقة العليا حول الدين والطبيعة.
لا توجد إجابة شافية على مدى مساهمة الثقافة الشعبية في عملية إعادة التشكيل هذه، وثمة أمثلة مهمة على مخترعين ينتمون إلى الطبقة العاملة تبنوا نموذج نيوتن. على سبيل المثال، اقترض جون هاريسون نسخة من محاضرات سوندرسن حول الفلسفة الطبيعية - وهو كتيب يتضمن بعض أفكار نيوتن - من أحد رجال الدين، وقام بنسخه؛ فهل دفع هذا الاهتمام المبكر بنيوتن هاريسون إلى اختراع الكرونوميتر (جهاز قياس الوقت بدقة متناهية)؟ من ناحية أخرى، كان هناك اهتمام شعبي مستمر بالسحر، وهو المعادل الموضوعي في القرون الوسطى للعلم. وعلى الأرجح كان عدد أكبر من الناس يؤمنون بالسحر أكثر من قوانين نيوتن للحركة، وكانت عظات جون ويسلي تجذب الملايين من الأتباع، وكان يرى أن «التخلي عن السحر يعتبر في الحقيقة تخليا عن الكتاب المقدس.»
تأثرت الثقافة الشعبية بالتغيرات الاجتماعية بصورة مباشرة أكثر من كتاب نيوتن «المبادئ الرياضية»، وتمثلت أبرز التغيرات في عمليات التحضر ونمو التجارة، وقد شجعا على نشر معرفة القراءة والكتابة وتطوير المهارات الحسابية من خلال زيادة قيمتها. وبحلول القرن الثامن عشر، قضى معظم أبناء الحرفيين والصانعين وأصحاب المحال الصغيرة والمزارعين وعدد أقل من أبناء العمال عدة سنوات في مرحلة التعليم الأساسي، كما تلقت العديد من الفتيات التعليم أيضا. ترتب على ذلك قدرة العامة على قراءة الصحف ومتابعة الشئون السياسية بدرجة غير مسبوقة. لقد تغيرت ملامح العالم إلى عالم جديد عندما استطاع رجل متطرف الآراء مثل توم بين تحقيق شهرة كبيرة من خلال بيع مئات الآلاف من نسخ كتاب «حقوق الإنسان».
تفسير الثورة الصناعية
كانت الاكتشافات العلمية معروفة في جميع أنحاء أوروبا، وكان شغف الطبقة العليا بالفلسفة الطبيعية عالميا؛ ومن ثم، فإن التطورات الثقافية لا يمكنها تفسير لماذا كانت الثورة الصناعية بريطانية، بل يكمن التفسير في الهيكل البريطاني الفريد للأجور والأسعار. لقد جعل اقتصاد الأجور المرتفعة والطاقة الرخيصة في بريطانيا من اختراع واستخدام الابتكارات التكنولوجية التي تمخضت عنها الثورة الصناعية؛ أمرا مربحا.
في الفصلين
الأول
و
الثاني ، رأينا كيف كانت الأجور في بريطانيا مرتفعة بدرجة كافية لمعظم الناس، بحيث سمحت لهم بتناول الخبز واللحم البقري والجعة، بدلا من الاعتماد على الشوفان كوجبة أساسية. ولنكون أكثر دقة، فيما يتعلق بالتكنولوجيا، كانت الأجور البريطانية مرتفعة مقارنة بتكلفة رأس المال (الشكل
3-1 ). في أواخر القرن السادس عشر، كانت معدلات الأجور بالنسبة لتكلفة خدمات رأس المال متقاربة في جنوب إنجلترا وفرنسا والنمسا، وهي المعدلات التي كانت تمثل المعدلات السائدة في أوروبا آنذاك. وفي منتصف القرن الثامن عشر، كانت أجور الأيدي العاملة بالنسبة لتكلفة رأس المال أعلى بنسبة 60٪ في إنجلترا عن نظيراتها في القارة الأوروبية. وفي بداية القرن التاسع عشر، وهي المرة الأولى التي يمكن فيها عقد مقارنة مع آسيا، صارت أجور الأيدي العاملة بالنسبة لتكلفة رأس المال في الهند أقل تكلفة من نظيرتها في فرنسا أو النمسا؛ ومن ثم، كان حافز ميكنة العملية الإنتاجية في الهند أقل من نظيره في كلتا الدولتين.
شكل 3-1: الأجور مقارنة بتكلفة خدمات رأس المال.
ينطبق الأمر نفسه على الطاقة. كانت بريطانيا تمتلك أرخص مصادر للطاقة في العالم، خاصة في مناجم الفحم في الشمال وفي وسط البلاد؛ ومن ثم، كان سعر الطاقة أقل كثيرا مقارنة بأجور الأيدي العاملة في بريطانيا عن أي مكان آخر.
نتيجة لهذه الاختلافات في الأجور والأسعار، وجدت الشركات في إنجلترا أنه من المربح استخدام تكنولوجيا توفر عليها تكلفة الأيدي العاملة المرتفعة عن طريق زيادة استخدام الطاقة ورأس المال الرخيص. وفي ظل توفر رأس مال ومصادر طاقة أكثر، صار العمال البريطانيون أكثر إنتاجية، وهو ما يمثل السر وراء النمو الاقتصادي. أما في آسيا وأفريقيا، فقد أدى توفر الأيدي العاملة الرخيصة إلى نتيجة عكسية.
صناعة القطن
كتب إريك هوبزباوم عبارة شهيرة يقول فيها: «إذا ذكرت الثورة الصناعية ذكر القطن.» فمن بدايات متواضعة في منتصف القرن الثامن عشر، صارت صناعة القطن أكبر قطاعات الاقتصاد البريطاني؛ حيث ساهمت بنسبة 8٪ من إجمالي الناتج المحلي في عام 1830، وبنسبة 16٪ من إجمالي الوظائف المتوفرة في مجال التصنيع. كانت صناعة القطن أول صناعة تشهد تحولا من خلال العملية الإنتاجية في المصانع، وقد أدى نمو صناعة القطن إلى النمو المذهل لمدينة مانشستر، فضلا عن العديد من المدن الأصغر منها الأخرى في شمال إنجلترا واسكتلندا. وقد جاء نمو الاقتصاد البريطاني على حساب الهند والصين والشرق الأوسط، وعندما بدأت هذه الدول في نهاية المطاف في التحول إلى دول صناعية مجددا، كانت صناعة القطن هي أولى الصناعات التي التفتوا إليها.
في القرن السابع عشر، كانت الصين والهند أكبر معقلين لصناعة القطن في العالم، فكانت بنغال ومدراس وسورات تصدر الملابس القطنية عبر المحيط الهندي وحتى غرب أفريقيا، وكان القطن ينتج أيضا في مراكز صغيرة في آسيا وأفريقيا. بدأت شركات الهند الشرقية المختلفة في تصدير المنسوجات القطنية والموسلين إلى أوروبا في أواخر القرن السابع عشر؛ حيث نجحت هذه المنسوجات في منافسة الكتان والصوف، وهي المنسوجات الأوروبية الرئيسية. وقد صار القطن سلعة رائجة وناجحة؛ حتى إن فرنسا حظرت استيراده في عام 1686، كما قيدت إنجلترا من استهلاكه محليا، ولكن كان هناك سوق تصدير كبيرة في غرب أفريقيا؛ حيث كان القطن يقايض بالعبيد، وفي هذه السوق كان القطن الإنجليزي ينافس القطن الهندي.
كانت المنافسة الدولية هي الدافع الذي أدى إلى ميكنة صناعة غزل القطن. كلما كان القطن ناعما، استغرق وقتا أطول في غزله. كانت الأجور مرتفعة للغاية في إنجلترا بحيث صارت المنافسة مع الهند ممكنة فقط في الأقمشة السميكة. لقد كان هناك سوق كبيرة للأقمشة الناعمة، غير أن إنجلترا لم تكن تستطيع المنافسة إلا إذا اخترعت الآلات لتقليص عدد الأيدي العاملة. كانت الفجوة كبيرة بحق؛ ففي عام 1750، كان إقليم بنغال يغزل حوالي 85 مليون رطل من القطن سنويا، فيما كانت بريطانيا تغزل ما لا يزيد عن 3 ملايين رطلا، وكانت هناك محاولات عديدة لميكنة عملية الإنتاج، وكانت ماكينة جيمس هارجريفز للغزل - التي طورت في وسط عقد الستينيات من القرن الثامن عشر - الماكينة الأولى الناجحة على المستوى التجاري، ثم جاءت بعدها ماكينة الغزل التي تعمل من خلال الماء التي ابتكرها ريتشارد أركرايت، ثم جاء المغزل الآلي الذي ابتكره صامويل كرومبتون في سبعينيات القرن الثامن عشر ليجمع بين ماكينتي هارجريفز وأركرايت، وصار الأساس الذي اعتمدت عليه عملية الغزل المميكنة لمدة قرن كامل.
لا تدين أي من هذه الماكينات شيئا للاكتشافات العلمية، ولم تتضمن أي منها قفزات نظرية عظيمة، وإنما تطلبت هذه الماكينات سنوات من الهندسة التجريبية للتوصل إلى تصميمات يعتمد عليها في تشغيل الماكينات. وتعتبر ملاحظة توماس إديسون بأن «الإلهام لا يمثل سوى 1٪ فقط من الاختراعات، فيما يمثل الجهد 99٪» صائبة للغاية فيما يتعلق بصناعة القطن .
ومن ثم، يتمثل جوهر تفسير سبب ظهور الثورة الصناعية في بريطانيا، في تفسير سبب إنفاق المخترعين البريطانيين وقتا وأموالا طائلة على البحث والتطوير (أي «الجهد» حسب عبارة إديسون) لتنفيذ أفكار بدت في كثير من الأحيان تفتقر إلى الإبداع. تتمثل الإجابة على هذا السؤال في أن الماكينات التي اخترعوها زادت من استخدام رأس المال لتوفير الأيدي العاملة؛ بناء عليه كانت الماكينات مربحة في استخدامها حيثما كانت الأيدي العاملة باهظة وكانت تكلفة رأس المال رخيصة؛ أي في إنجلترا. لم تكن الماكينات مربحة في أي مكان آخر، ومن هنا كانت الثورة الصناعية بريطانية المنشأ.
كان غزل القطن يصنع على ثلاث مراحل؛ أولا: كانت بالات القطن الخام تفتح وتزال الأوساخ والعوالق. ثانيا: كان القطن يهذب؛ أي كانت جدائل القطن ترص في جديلة سائبة، عن طريق سحب القطن بين فتحات التهذيب التي تحتوي على مسامير. ثالثا: كانت الجديلة السائبة تغزل فتصبح خيوطا. قبل ظهور الماكينات، كان المغزل يستخدم لعمل خيوط رفيعة، بينما كانت عجلة الغزل تستخدم في عمل خيوط سميكة. في كلتا الحالتين، كانت الجديلة السائبة تمط لترفيعها، ثم تلف لتقويتها، وأخيرا كانت الخيوط تلف حول مغزل لإرسالها إلى النساجين.
تمت ميكنة جميع هذه المراحل، ويتمثل إنجاز ريتشارد أركرايت الأكبر في تصميم مصنع غزل القطن (مصنع كرومفورد رقم 2)؛ حيث كانت الماكينات ترص فيه بترتيب منطقي، وهو التصميم الذي صار النموذج لمصانع غزل القطن الأولى في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية والقارة الأوروبية. لقد كانت عملية غزل القطن تمثل جوهر المشكلة، وقد ظل المخترعون يعملون على التوصل إلى أفضل الحلول لها منذ ثلاثينيات القرن الثامن عشر على الأقل. وقد كان لويس بول وجون وايت يسيران على الدرب الصحيح في أربعينيات وخمسينيات القرن الثامن عشر من خلال نظام الغزل على بكر، غير أن مصنعهما في برمنجهام كان خاسرا طوال الوقت. وكانت ماكينة جيمس هارجريفز للغزل - التي ابتكرها في ستينيات القرن الثامن عشر - الماكينة الأولى الناجحة على المستوى التجاري، وقد طورت هذه الماكينة عجلة الغزل من خلال وجود عدة عواميد دوارة تنبثق عن عجلة الغزل، واستخدام قضبان سحب ووصلات تحاكي حركات أيدي الغازل. وظف أركرايت صانعي الساعات لمدة خمس سنوات بغرض إدخال مزيد من التعديلات على ماكينته للغزل التي تعمل بالماء، والتي كانت تستخدم البكر. وباستخدام الغزل الدائري على البكر، كانت الجديلة تمط عن طريق شدها عبر زوجين متتابعين من البكرات الدوارة التي تسحب القطن إلى الأمام مثل جهاز التجفيف، يتحرك كل زوج من البكر أسرع من سابقيهما بحيث يطيلان ويرفعان الخيوط عن طريق جذبها قبالة بعضهما.
كان مغزل كرومبتون آخر أعظم ماكينة غزل ظهرت على الإطلاق؛ حيث إنها جمعت بين قضبان السحب في ماكينة هارجريفز والبكر الدوار في ماكينة أركرايت، فصارت تغزل الخيوط أرفع كثيرا من أي ماكينة أخرى. مكنت ماكينتا هارجريفز وأركرايت إنجلترا من التنافس مع المنتجين الهنود في سوق الغزل السميك، فيما جعلت ماكينة كرومبتون من إنجلترا أقل المنتجين تكلفة للغزل الرفيع أيضا.
كانت القيمة الاقتصادية لهذه الماكينات متشابهة؛ فجميعها ساعد على تقليص عدد ساعات العمل اللازمة لإنتاج رطل واحد من الغزل. في الوقت نفسه، زادت هذه الماكينات من رأس المال اللازم لإنتاج رطل واحد؛ ونتيجة لذلك كان التوفير في التكلفة جراء ميكنة عملية الغزل أكثر في البلدان التي ترتفع فيها تكلفة الأيدي العاملة. في ثمانينيات القرن الثامن عشر، كان عائد الاستثمار على بناء مصنع غزل على طراز أركرايت 40٪ في إنجلترا، و9٪ في فرنسا، وأقل من 1٪ في الهند. وفي ظل توقع المستثمرين عائدا على رأس المال الثابت يصل إلى 15٪، لم يكن من المثير للدهشة أن يقام 150 مصنعا على طراز مصنع أركرايت في بريطانيا في ثمانينيات القرن الثامن عشر، وأربعة في فرنسا، فيما لم تقم أي مصانع في الهند. كان الأمر مماثلا فيما يتعلق بالربحية النسبية المتحققة جراء استخدام ماكينة هارجريفز؛ حيث استخدمت 20 ألف ماكينة من هذا الطراز في إنجلترا قبيل الثورة الفرنسية، و900 في فرنسا، فيما لم تستخدم أي ماكينة منها في الهند؛ إذ لم يكن هناك سبب معقول في إنفاق وقت أو أموال كثيرة لاختراع ماكينات للغزل في فرنسا أو الهند؛ حيث لم يكن من المربح استخدامها هناك.
لم يبق الوضع كما هو عليه، وهو ما يفسر لماذا انتقلت الثورة الصناعية إلى دول أخرى. أدت المغازل على طراز مغزل أركرايت إلى ظهور سلسلة متكاملة من الماكينات التي قلصت من تكلفة الإنتاج أكثر مما فعلت ماكينات هارجريفز. في الوقت نفسه، قلص مغزل كرومبتون من تكلفة إنتاج الغزل الرقيق. طورت قائمة طويلة من المخترعين مغزل كرومبتون على مدار نصف القرن التالي، وقد وفروا في رأس المال مثلما وفروا في تكلفة الأيدي العاملة. بحلول عشرينيات القرن التاسع عشر، صار من الممكن أن يحقق استخدام ماكينات إنتاج القطن المحسنة ربحا في مختلف أنحاء القارة الأوروبية، وبحلول عقد الخمسينيات من القرن التاسع عشر، صار من المربح كذلك استخدام ماكينات إنتاج قطن محسنة في اقتصادات منخفضة الأجور مثل المكسيك والهند. وبحلول سبعينيات القرن التاسع عشر، بدأ إنتاج القطن من المصانع ينتقل إلى العالم الثالث.
المحرك البخاري
كان المحرك البخاري أكثر تكنولوجيات الثورة الصناعية التي غيرت وجه العالم؛ نظرا لأنه سمح باستخدام القوى الميكانيكية في نطاق واسع من الصناعات المختلفة، فضلا عن قطاعات السكك الحديدية وسفن الشحن عبر المحيطات.
كانت الطاقة البخارية من الابتكارات التي انبثقت عن الثورة العلمية. كان الضغط الجوي أحد الموضوعات التي تشهد جدلا محتدما في فيزياء القرن السابع عشر؛ فقد بحث مسألة الضغط الجوي علماء مشهورون عبر أوروبا؛ مثل جاليليو، وتورشيلي، وفون جيريك، وهايجنز، وبويل. بحلول منتصف القرن، أثبت هايجنز وفون جيريك أنه - إذا نجحنا في خلق فراغ في أسطوانة - سيدفع الضغط الجوي المكبس عبرها. في عام 1675، استخدم الفرنسي دينيس بابان هذه الفكرة في صناعة محرك بخاري بدائي نموذجي. استكمل توماس نيوكومن ابتكار محرك بخاري عملي في عام 1712 في دادلي، بعد 12 عاما من التجريب. تضمن محرك نيوكومن غلي مياه لإنتاج البخار، ثم ملء أسطوانة به، ثم حقن مياه باردة في الأسطوانة لتكثيف البخار بحيث يدفع الضغط الجوي بمكبس داخل الأسطوانة، يتصل المكبس بقضيب هزاز يرفع مضخة أثناء دفع الضغط على المكبس.
يؤكد المحرك البخاري على أهمية توفر الحوافز الاقتصادية في تشجيع الابتكارات. كان علم المحركات ينتشر في أنحاء أوروبا، غير أن عمليات البحث والتطوير جرت في إنجلترا نظرا للعائد المتحقق من استخدامه هناك. تمثل الغرض من محرك نيوكومن في تجفيف وتفريغ المناجم، وكانت إنجلترا تضم عددا أكبر من المناجم من أي دولة أخرى؛ نظرا لوجود صناعة الفحم الضخمة. بالإضافة إلى ذلك، كانت المحركات البخارية الأولى تحرق كميات هائلة من الفحم، بحيث كان استخدامها موفرا فقط عندما تتوفر مصادر رخيصة للطاقة. كتب جون ثيوفيلوس ديزيجوليه في ثلاثينيات القرن الثامن عشر قائلا إن محركات نيوكومن «تستخدم الآن على نطاق واسع ... في حقول الفحم؛ حيث تنتج الطاقة النارية عن مخلفات الفحم، التي لم تكن ستباع بصورة أخرى.» كانت المحركات البخارية نادرا ما تستخدم في أي مكان آخر. على الرغم من الطفرات العلمية، لم يكن المحرك البخاري سيتطور إذا لم تكن هناك صناعة فحم في بريطانيا.
صارت الطاقة البخارية تكنولوجيا يمكن تطبيقها لتحقيق العديد من الأغراض واستخدامها حول العالم، لكن ذلك لم يحدث إلا بعد تطوير المحرك البخاري، لم يتحقق ذلك قبل أربعينيات القرن التاسع عشر. درس مهندسون من أمثال جون سميتون، وجيمس واط، وريتشارد ترفيثيك، وآرثر وولف المحرك البخاري وأدخلوا تعديلات عليه، وعملوا على تخفيض استهلاكه للطاقة وتطوير طريقة توليده للطاقة. خفض استهلاك الفحم لكل قدرة حصان في الساعة من 44 رطلا في محركات نيوكومن التي انتشر استخدامها في ثلاثينيات القرن الثامن عشر، إلى رطل واحد فقط في المحركات البحرية التوسعية الثلاثية التي استخدمت في أواخر القرن التاسع عشر. لقد أطلقت العبقرية الهندسية البريطانية الميزة التنافسية للبلاد من خلال تطوير التكنولوجيا إلى الدرجة التي صار من المربح استخدامها حول العالم، وقد فتح هذا الباب على مصراعيه أمام الثورة الصناعية للانتشار حول العالم، كما مهد الطريق أمام تحول العالم بأسره إلى التصنيع.
مواصلة الابتكار
تمثل أعظم إنجازات الثورة الصناعية في أن اختراعات القرن الثامن عشر لم تكن اختراعات عظيمة تحققت لمرة واحدة ثم لم تتكرر مثل اختراعات القرون السابقة، بل إن اختراعات القرن الثامن عشر دشنت سيلا متواصلا من الابتكارات.
ظل القطن الصناعة التي تركزت عليها الجهود؛ فبينما حولت اختراعات القرن الثامن عشر الغزل إلى نظام المصانع، كان النسج لا يزال يجري من خلال أنوال يدوية في أكواخ، لكن تغيرت الأمور على يد إدموند كارترايت الذي قضى عقودا من حياته، وأنفق ثروته كلها في ابتكار نول آلي. وقد استلهم كارترايت فكرته من الماكينات الآلية، مثل البطة الميكانيكية التي ابتكرها جاك دي فوكانسون التي أبهرت البلاط في قصر فرساي؛ إذ إنها كانت تخفق بجناحيها، وتتناول الطعام، وتتغوطه! (وقد كتب فولتير متهكما: «بدون بطة فوكانسون، لن يجد المرء شيئا يذكره بمجد فرنسا».) فإذا كانت آلة ميكانيكية تستطيع التبرز على هذا النحو، ألا يمكن أن تقوم بعمل نافع؟ فكر كارترايت في ذلك ثم سجل براءة اختراع أول نول ابتكره في عام 1785، ثم نسخة معدلة منه في عام 1792. إلا أن نول كارترايت لم يحقق نجاحا تجاريا. وقد أدخل العديد من المخترعين تحسينات على نول كارترايت تدريجيا. وبحلول عشرينيات القرن التاسع عشر، بدأ النول الآلي يحل محل النول اليدوي في إنجلترا، لكن ظل النول اليدوي مستخدما حتى خمسينيات القرن التاسع عشر. زاد النول الآلي من تكلفة رأس المال كثيرا، فيما قلص من تكلفة الأيدي العاملة، ومن ثم كان استخدام النول الآلي مرتبطا ارتباطا وثيقا بعوامل السعر فضلا عن الكفاءة النسبية لاستخدام النول الآلي في مقابل النول اليدوي. ومن غير المعتاد في هذا السياق أن النول الآلي قد انتشر بصورة أسرع في الولايات المتحدة منه في بريطانيا؛ إذ إنه بحلول عشرينيات القرن التاسع عشر، كانت الأجور أعلى في الولايات المتحدة، وقد عكس نمط الابتكار التكنولوجي هذا التباين.
كان القطن أيضا في المقدمة عند استخدام الطاقة البخارية في المصانع. بطبيعة الحال، كانت التجارب فقد أجريت على ذلك في وقت سابق. وفي عام 1784، استثمر باولتون وواط أموالهما في مصنع ألبيون للدقيق، أول مصنع تستخدم فيه الطاقة البخارية على نطاق واسع، وذلك بغرض الترويج لمحركاتهم البخارية. في العام التالي، استخدم البخار في مصنع قطن للمرة الأولى، وعلى أية حال، كانت معظم المصانع لا تزال تعتمد على الطاقة المائية حتى أربعينيات القرن التاسع عشر. آنذاك فقط انخفض استهلاك المحركات البخارية من الوقود بدرجة كافية جعل استخدامها مصدرا أرخص للطاقة، وبعد ذلك انتشر استخدام الطاقة البخارية في الصناعة بصورة مستمرة.
أحدثت الطاقة البخارية ثورة أيضا في النقل في القرن التاسع عشر. إن كل من اخترع محركا بخاريا عالي الضغط (كوجنت، وترفيثثك، وإيفانز) استخدمه لتشغيل مركبة برية، لكنهم جميعا لم ينجحوا؛ إذ لم يستطيعوا التغلب على عقبة الطرق غير الممهدة، فتمثل أحد الحلول في وضع المحرك البخاري على قضبان. كان الفحم والمواد الخام تشحن في عربات تسير على قضبان خشبية بدائية في المناجم. في القرن الثامن عشر، حلت القضبان الحديدية محل الخشبية، ومدت خطوط النقل لمسافات أطول. في عام 1804، بنى ريتشارد وترفيثيك أول مركبة بخارية تسير على قضبان في مصنع حديد بنيدارن في ويلز. منذ ذاك الحين، صارت خطوط النقل في مناجم الفحم الأماكن المفضلة لاختبار المركبات البخارية، وكان من المخطط أن يكون خط السكك الحديدية الذي كان يربط بين ستوكتون ودارلنجتون (1825) - الذي امتد لمسافة 26 ميلا - خطا لنقل الفحم، غير أنه تبين إمكانية تحقيق عائدات عن طريق نقل البضائع والركاب عليه. كان خط السكك الحديدية العام الأول هو الخط الذي كان يربط بين ليفربول ومانشستر، والذي امتد لمسافة 35 ميلا وافتتح في عام 1830. حقق هذا الخط نجاحا كبيرا، وأطلق حمى ترويج بناء خطوط سكك حديدية في بريطانيا، وبحلول عام 1850 كان هناك خطوط سكك حديدية بطول ما يقرب من 10 آلاف كيلومتر، وبعد ثلاثين عاما، وصل طول شبكة خطوط السكك الحديدية إلى 25 ألف كيلومتر.
استخدمت الطاقة البخارية أيضا في مجال النقل المائي، وهي وسيلة أخرى لتجنب الطرق السيئة! كانت عملية الابتكار تتسم بطابع عالمي منذ بدايتها، فكانت الحاويات الأولى العاملة فرنسية - «بالميبد» (1774)، و«بيروسكاف» (1783) - وكانت أول سفينة تجارية بخارية ناجحة هي السفينة «كليرمونت» من ابتكار روبرت فلتون، التي عبرت نهر هدسون من عام 1807، وبعدها بعامين أبحر جون مولسون - صانع الجعة الكندي - بسفن بخارية في نهر سانت لورانس مستخدما محركات بنيت في مدينة تروا ريفيير في كيبيك.
بحلول منتصف القرن التاسع عشر، كان البخار يحل محل الأشرعة في النقل عبر المحيطات. صارت بريطانيا مركز العالم في بناء السفن؛ نظرا لتفوقها في صناعة الحديد والهندسة. مثلت سفينة برونل «الغربي العظيم» (1838) علامة فارقة؛ حيث أظهرت أنه بإمكان سفينة أن تحمل فحما كافيا لعبور المحيط الأطلنطي، كما كانت السفينة «بريطانيا العظمى» (1843) التي صممها برونل أول سفينة تبنى من الحديد وتستخدم رفاصا بدلا من عجلات التبديل. استغرق الأمر نصف قرن حتى حل البخار محل الأشرعة تماما، ويرجع السبب في ذلك إلى أن السفن كانت لا بد وأن تحمل الفحم اللازم لإبحارها على متنها، وهو ما قلص كثيرا من وجود مساحة لنقل البضائع في الرحلات الطويلة، ومن ثم فقد كانت أولى الرحلات البحرية التي تتحول إلى استخدام البخار هي تلك التي تقطع مسافات قصيرة، ومع انخفاض استهلاك المحركات البخارية من الفحم، استطاعت السفن البخارية الإبحار لمسافات أطول باستخدام الكميات نفسها من الفحم، كما زادت المسافات التي كانت السفن تستطيع قطعها باستخدام البخار بدلا من الأشرعة. وكانت آخر الرحلات البحرية تحولا إلى السفن البخارية هي تلك التي تسافر بين الصين وبريطانيا؛ حيث كانت السفن السريعة ثلاثية الصواري لا تزال مستخدمة حتى نهاية القرن التاسع عشر.
تعتبر الطاقة البخارية مثالا على التكنولوجيا متعددة الاستخدامات؛ أي التي يمكن استخدامها لأغراض مختلفة، ومن أمثلة هذا النوع من التكنولوجيا أيضا الكهرباء والكمبيوتر. ويستغرق الأمر عقودا لتطوير إمكانات هذا النوع من التكنولوجيا، ومن ثم يتحقق إسهامها الفعلي في النمو الاقتصادي بعد فترة طويلة من اختراعها. وقد كان هذا هو الحال مع الطاقة البخارية؛ فحتى عام 1800؛ أي بعد حوالي قرن من اختراع نيوكومن، لم تكن الطاقة البخارية قد ساهمت سوى إسهام ضئيل في الاقتصاد البريطاني، ولكن بحلول منتصف القرن التاسع عشر، تحققت إمكانات الطاقة البخارية؛ حيث استخدمت بصورة واسعة في النقل والصناعة. يرجع تحقيق نصف معدلات النمو في إنتاجية العمالة في بريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر إلى الطاقة البخارية، وتعتبر هذه الفائدة البعيدة المدى سببا مهما في استمرار النمو الاقتصادي طوال القرن، ويتمثل أحد الأسباب الأخرى في تحقيق النمو الاقتصادي في التطبيق المتزايد للعلوم في مجالات الصناعة، وهو ما سوف نتناوله في الفصل التالي.
الفصل الرابع
صعود الأثرياء
بين عامي 1815 و1870، انتقلت الثورة الصناعية من بريطانيا إلى القارة الأوروبية بنجاح كبير. لم تكتف دول أوروبا الغربية باللحاق بالدولة الرائدة، بل انضمت إليها أيضا في تكوين مجموعة من المبتكرين الذين سعوا معا إلى تطوير التكنولوجيا في العالم منذ ذلك الحين. بطبيعة الحال، تحولت أمريكا الشمالية إلى دولة صناعية في القرن التاسع عشر، ثم سرعان ما انضمت إلى نادي الابتكار، بل وأصبحت الولايات المتحدة رائدة العالم في التكنولوجيا، لكن يجب النظر إلى أدائها كأداء «الأول بين أقران متكافئين»، وهؤلاء يشملون دول أوروبا الغربية وبريطانيا.
أما التساؤل عما إذا كان نجاح دول أوروبا الغربية مفاجأة أم لا، فإن الإجابة عليه تعتمد على نظرة المرء إلى الثورة الصناعية. يرى بعض المؤرخين أن الثورة الصناعية كان من المحتمل أن تحدث في فرنسا أو ألمانيا مثلما حدثت في بريطانيا، ومن ثم فإن المشكلة الكبرى تتمثل في تفسير لماذا اندلعت الثورة الصناعية في أوروبا وليس في آسيا. بالنسبة لهؤلاء، كانت القارة الأوروبية ستتحول سريعا إلى التصنيع. ولكن يرى بعض المؤرخين الآخرين أنه ثمة اختلافات أساسية في طبيعة المؤسسات أو حوافز الإنتاج بين بريطانيا ودول القارة الأوروبية، وهو ما يتطلب تفسير تحول أوروبا الغربية إلى التصنيع.
يرى أصحاب النظرية المؤسساتية أن التطور في القارة الأوروبية في القرن الثامن عشر كان يحول دونه المؤسسات العتيقة. وقد محت الثورة الفرنسية هذه المؤسسات العتيقة، فلم تبق منها أثرا، وهي الثورة التي صدرت إلى معظم القارة الأوروبية من خلال جيوش الجمهورية ونابليون. ففي كل مكان غزته الجيوش الفرنسية، كان الفرنسيون يعيدون تشكيل أوروبا وفق الصورة الجديدة التي رسموها، والتي تشمل إلغاء العبودية ، والمساواة أمام القانون، ووضع نظام قانوني جديد (قانون نابليون)، ومصادرة الممتلكات الكنسية، وإقامة أسواق وطنية من خلال إلغاء التعريفات الداخلية وفرض تعريفات جمركية خارجية ، ووضع نظام ضريبي رشيد، وتوفير تعليم أساسي عام علماني، والتوسع في إقامة المدارس الثانوية والمعاهد الفنية والجامعات الحديثة، ودعم الجمعيات والثقافة العلمية. أجرت دول مثل بروسيا - التي هزمها نابليون لكنها لم تصبح جزءا من إمبراطوريته - عمليات تحديث لمؤسساتها. حالت حروب نابليون دون تحقق أثر فوري لهذه الإصلاحات، لكن بعد معركة ووترلو، صارت أوروبا مستعدة للانطلاق الصناعي.
يؤكد اتجاه آخر في التفسير على دور الحوافز الإنتاجية في تبني تكنولوجيا صناعية جديدة. أولا: كانت بداية بريطانيا المبكرة تعني أن المصنعين البريطانيين يستطيعون التفوق على نظرائهم في القارة الأوروبية. وثانيا: لم تكن تكنولوجيا الثورة الصناعية ملائمة لدول القارة الأوروبية؛ حيث كانت الأجور أقل وأسعار الطاقة أعلى بصورة عامة عنها في بريطانيا، ومن ثم تطلب التحول إلى التصنيع في القارة الأوروبية ابتكار التكنولوجيا الملائمة وتوفير حماية من المنافسة البريطانية أثناء حدوث ذلك.
بينما لم يكن لدى بريطانيا أي سياسة «للتحول إلى التصنيع»، توفرت لدى معظم الدول الأوروبية استراتيجية ما لتباري نجاح بريطانيا. في القرن التاسع عشر، ظهرت حزمة من سياسات التنمية التي تبنتها دول عديدة، وضعت هذه السياسات في الأساس في الولايات المتحدة (انظر الفصل
السادس )، ثم روج لها في أوروبا عن طريق فريدريك ليست، وهو ألماني عاش في الولايات المتحدة الأمريكية من عام 1825 إلى 1832، ثم عاد إلى ألمانيا ليكتب «النظام القومي للاقتصاد السياسي» (1841). تضمنت استراتيجية التنمية القياسية - التي طورت من ثورة نابليون المؤسساتية - أربعة مبادئ: إنشاء سوق وطنية كبيرة من خلال إلغاء التعريفات الداخلية وتطوير وسائل النقل، وفرض تعريفات جمركية خارجية لحماية «الصناعات الوليدة» من المنافسة البريطانية، وتأسيس بنوك لتحقيق استقرار في أسعار العملة وتوفير رأس المال للشركات، وأخيرا، نشر التعليم العام للإسراع من عملية استخدام التكنولوجيا وابتكارها. وقد ساعدت استراتيجية التنمية هذه دول القارة الأوروبية على اللحاق بركب بريطانيا.
تعتبر ألمانيا مثالا جيدا. في العصور الوسطى، كانت ألمانيا مقسمة إلى مئات الوحدات السياسية المستقلة، ثم انخفض الرقم إلى 38 وحدة سياسية مستقلة خلال مؤتمر فيينا في عام 1815. بدأت بروسيا - أكبر الولايات الألمانية آنذاك - في نشر التعليم العام الأساسي في القرن الثامن عشر، ثم حذت الولايات الأخرى حذوها، وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، صار التعليم الأساسي شبه عام في سائر ألمانيا.
أخذت بروسيا كذلك زمام المبادرة في إنشاء سوق وطنية من خلال إنشاء اتحاد جمركي (الزولفرين) في عام 1818 بغرض توحيد أراضيها، ثم انضمت الولايات الألمانية الأخرى إليها تدريجيا. وقد ألغى الاتحاد الجمركي التعريفات الداخلية، وفرض تعريفة خارجية مشتركة لمنع المصنعين البريطانيين من دخول السوق المحلية. شكل الاتحاد الاقتصادي الأساس الذي قامت عليه الإمبراطورية الألمانية في عام 1871.
وقد دعم بناء خطوط السكك الحديدية تكامل الأسواق. بني خط السكة الحديدية الألماني الأول (طوله ستة كيلومترات) ليصل بين نورمبرج وفورت في عام 1835، بعد خمس سنوات فقط من إقامة خط السكة الحديدية الذي كان يصل بين ليفربول ومانشستر. أقيمت الخطوط الرئيسية خلال عقد الخمسينيات من القرن التاسع عشر، فيما مدت الخطوط الفرعية في العقود اللاحقة. وبحلول عام 1913، كان قد جرى افتتاح حوالي 63 ألف كيلومتر من خطوط السكك الحديدية.
اضطلعت البنوك الاستثمارية - التي لم يكن لها دور في عملية التصنيع في بريطانيا - بدور بارز في القارة الأوروبية. تمثلت باكورة هذه التجارب في «الجمعية العامة لدعم التصنيع الوطني في هولندا»، التي أسست في عام 1822 لدعم التنمية الصناعية في الدول المنخفضة. بدأت البنوك الخاصة الألمانية في القيام بالشيء نفسه، وكان بنك «كريدي موبيليه» - الذي أسس في فرنسا في عام 1852 لتمويل بناء خطوط السكك الحديدية والصناعة - خطوة عملاقة إلى الأمام.
في العام التالي، انبثق عن ذلك بنك دارمشتاد الذي تولى الترويج لبنك الاستثمار المشترك في ألمانيا. بحلول عام 1872، كانت جميع البنوك الألمانية الكبرى (كوميرز بانك، ودريسدنر، ودويتشه، وغيرها) قد تأسست. امتلكت هذه البنوك فروعا عديدة لجمع رءوس الأموال من العديد من المودعين، وأقامت علاقات دائمة مع العملاء من المجال الصناعي، فوفرت لهم تمويلا طويل المدى في شكل سحب على المكشوف من الحسابات الجارية بمعدلات فائدة منخفضة. كانت تلك القروض تؤمن من خلال رهونات عقارية على الملكية الصناعية، وكان ممثلو البنوك يعملون على إدارة الشركات الصناعية التي كانت تتلقى هذه القروض. مولت هذه البنوك النمو الهائل في الصناعة الألمانية في الفترة ما بين عام 1880 والحرب العالمية الأولى.
بين عامي 1815 و1870، تأسست معظم صناعات الثورة الصناعية في القارة الأوروبية على أساس ربحي. لم تكن ماكينات الغزل ومصانع أركرايت الأولى مربحة في فرنسا قبل الثورة، لكن التقدم الفني اللاحق خفض من تكاليف إنتاج الغزل السميك بنسبة 42٪ بحلول منتصف عقد الثلاثينيات من القرن التاسع عشر. أدى انخفاض التكاليف في الإنتاج إلى جعل إقامة هذه المصانع ذات الطراز الحديث مربحة. بحلول عام 1840، كانت فرنسا تنتج 54 ألف طن من القطن سنويا، مقارنة ببريطانيا التي كانت تنتج 192 ألف طن، وكان إنتاج القطن قد بدأ في ألمانيا (11 ألف طن)، وبلجيكا (7 آلاف طن). من الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت في تلك الفترة تعالج 47 ألف طن من القطن الخام.
بحلول عام 1870، كانت صناعة حديد حديثة قد أقيمت في القارة الأوروبية. كان الفحم النباتي يستخدم كوقود لصهر وتنقية الحديد قبل القرن الثامن عشر، ثم حل فحم الكوك - وهو صورة أخرى من صور الفحم - محل الفحم النباتي، في واحد من أشهر ابتكارات الثورة الصناعية، وقد وضع هذا الأسلوب محل التطبيق على يد أبراهام داربي في شركة كوولبروكديل للحديد في عام 1709. وعلى أية حال، لم يكن حديد الكوك موفرا من الناحية الاقتصادية في تصنيع منتجات الحديد المدرفل (الأسياخ، والألواح، والقضبان) حتى بعد عام 1750؛ لذا كان استخدامه في البداية مقصورا على عملية السبك المتخصصة التي سجل داربي براءة اختراعها. بين عامي 1750 و1790، حل حديد الكود محل حديد الفحم النباتي في صناعة المنتجات المدرفلة، ولكن كان حديد الكوك لا يزال باهظ الثمن ما لم يسمح بالتخلص من استخدام الفحم النباتي في عمليات الصهر في القارة الأوروبية. تتمتع دول مثل فرنسا بمساحات شاسعة من الغابات التي مدتها بالفحم النباتي بأسعار زهيدة، فيما عانت من ندرة وارتفاع سعر فحم الكوك. استغرق الأمر خمسين عاما من إدخال التحسينات في تصميم الأفران لزيادة إنتاجية أفران فحم الكوك بدرجة كافية للتغلب على الفحم النباتي في القارة الأوروبية، حدث هذا التحول بسرعة بالغة خلال عقد الستينيات من القرن التاسع عشر، في الوقت الذي كانت فيه الشركات الفرنسية والألمانية تبني أفران صهر متقدمة للغاية في تصميماتها. بعبارة أخرى، حققت فرنسا وألمانيا قفزة إلى أعلى درجات التقدم في تكنولوجيا صناعة الحديد؛ حيث إنها كانت التكنولوجيا الوحيدة التنافسية في أوروبا.
وبالمثل، لم تتخلف القارة الأوروبية عن بريطانيا في صناعات منتصف القرن التاسع عشر الجديدة. أنشأت دول أوروبا الغربية خطوط السكك الحديدية، وكانت القاطرات الأوروبية متقدمة بقدر مثيلاتها في بريطانيا، وانطبق الأمر نفسه على الصلب. قبل عام 1850، كان سعر الصلب مرتفعا، وكان أحد المنتجات الثانوية لصناعة الحديد، وهي الصناعة التي كانت تنتج بصورة رئيسية الألواح المعدنية وقضبان السكك الحديدية من الحديد المطاوع المستخلص من الحديد الغفل في أفران التسليط. تمثلت المعضلة الفنية في إنتاج الصلب في صهر حديد الغفل النقي، بحيث يمكن التحكم بدقة في إضافة أي عناصر أخرى بما في ذلك الكربون، كان من الضروري أن تزيد درجة حرارة الأفران عن 1500 درجة مئوية؛ تمثل الحل الأول للمشكلة في فرن التحويل الذي اخترع بصورة مستقلة حوالي عام 1850 على يد هنري بسمر وويليام كيلي. قدم السير كارل فيلهلم سيمنز حلا آخر من خلال بناء فرن استرجاعي في خمسينيات القرن التاسع عشر، كانت الحرارة تبلغ فيه مستويات مرتفعة، وفي عام 1865، استخدم بيير إميل مارتن فرن سيمنز في صهر حديد الغفل لإنتاج الصلب. أثبت فرن المجمرة المكشوفة تفوقه على فرن بسمر التحويلي في إنتاج الألواح والرقائق والأشكال الهيكلية، وصار التكنولوجيا السائدة حتى حل محله إنتاج الصلب من خلال عملية الأكسجين الأساسية في ستينيات القرن العشرين. من الجدير بالذكر أن المخترعين الأربعة لعمليات إنتاج الصلب على نطاق واسع كانوا: رجلا إنجليزيا، وآخر أمريكيا، وثالثا ألمانيا يعيش في إنجلترا، والرابع فرنسي. ومن ثم، لم يكن هناك أي تخلف دولي عن الركب البريطاني.
بينما تخطت دول أوروبا الغربية أكبر العقبات التكنولوجية التي واجهتها بحلول عام 1870، كانت مستويات الإنتاج في القارة الأوروبية لا تزال أقل بكثير من مثيلاتها في بريطانيا، ولكن تغيرت الأمور مع اندلاع الحرب العالمية الأولى؛ حيث تخطت دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية بريطانيا في التصنيع. ففي عام 1880، كانت بريطانيا تنتج 23٪ من إجمالي الإنتاج الصناعي العالمي، فيما كانت فرنسا وألمانيا وبلجيكا تنتج مجتمعة نسبة 18٪ فقط. لكن بحلول عام 1913، تخطت الدول الأوروبية الثلاث بريطانيا؛ إذ ارتفع إنتاجها مجتمعة إلى 23٪ فيما انخفضت حصة بريطانيا إلى 14٪. في الوقت نفسه، زادت حصة أمريكا الشمالية من الإنتاج الصناعي العالمي من 15٪ إلى 33٪. كان أداء بريطانيا هو الأفضل في صناعة المنسوجات القطنية؛ حيث كانت تقوم بمعالجة 869 ألف طن من القطن الخام سنويا بين عامي 1905-1913، فيما كانت الولايات المتحدة تنتج مليون ومائة وعشرة آلاف طن، وألمانيا 435 ألف طن، وفرنسا 231 ألف طن. كان أداء بريطانيا أضعف كثيرا في مجال الصناعات الثقيلة. خلال الفترة من 1850 إلى 1854، كانت بريطانيا تصهر 3 ملايين طن من حديد الغفل في مقابل 245 ألف طن في ألمانيا، وحوالي 500 ألف في الولايات المتحدة. بحلول الفترة بين عامي 1910-1913، كانت بريطانيا تصهر 10 ملايين طن من حديد الغفل، فيما كانت ألمانيا تصهر 15 مليون طن، والولايات المتحدة 24 مليون طن.
كانت التحولات في الإنتاج الصناعي تنطوي على تداعيات سياسية مهمة. ففي منتصف القرن التاسع عشر، كانت بريطانيا «ورشة العالم» حيث كانت تنتج معظم المصنوعات التي يتم تصديرها في العالم. زادت الولايات المتحدة وألمانيا على وجه الخصوص إنتاجهما من المواد المصنعة من خلال زيادة صادراتهما، وكانت التحولات في الأداء التجاري محل نقاش واسع آنذاك. احتفظت بريطانيا بمكانتها التجارية ببيع منتجاتها إلى مستعمرات إمبراطوريتها، وقد أدى ارتفاع قيمة تكوين الإمبراطورية على هذا النحو إلى تفجر الصراع على المستعمرات بين الاقتصادات الصناعية. انطوى تفوق ألمانيا على بريطانيا في إنتاج الصلب على تداعيات في مجال تصنيع العتاد العسكري، وقد أدت المنافسة التجارية بين بريطانيا وألمانيا إلى إثارة التوترات الدولية قبيل الحرب العالمية الأولى.
لم تكتف دول القارة الأوروبية وأمريكا الشمالية بالتفوق على بريطانيا في الإنتاج الصناعي بين عامي 1870 و1913، بل نافستها بصورة واضحة في الريادة التكنولوجية. تخطت الولايات المتحدة الأمريكية بريطانيا بالفعل وصارت رائدة العالم في التكنولوجيا، ولكن ظلت الاكتشافات المهمة في معظم الصناعات تحدث في جميع الاقتصادات الصناعية الرائدة. من المنظور العالمي، ما يثير الدهشة هو الفرق بين الدول الغنية التي معا أسهمت في التقدم التكنولوجي، وبين بقية دول العالم التي يبدو أنها لم تسهم في التطور التكنولوجي على الإطلاق.
تتمثل إحدى السمات المهمة في أواخر القرن التاسع عشر في تطوير صناعات جديدة بالكامل، مثل صناعة السيارات والنفط والكهرباء والكيماويات. كانت جميع الدول الغنية منخرطة في إنشاء هذه الصناعات، وكان أول من صمم سيارة تعمل بالبنزين هو سيجفريد ماركوس - وهو نمساوي الجنسية - في عام 1870، كما اخترع ماركوس أيضا نظام إشعال مغناطيسي وكربراتير فرشاة دوارة الذي صار نموذجا قياسيا. صمم كارل بنز السيارة العملية الأولى في عام 1885، ثم جاء في إثره مباشرة جوتليب دايملر وفيلهلم مايباخ - وكانوا جميعا ألمانا. صمم ويليام لانشستر أول سيارة بريطانية في عام 1895، واخترع الكابح القرصي ومفتاح التشغيل الكهربي. كانت أول شركة أسست لصناعة السيارات هي شركة «بانار وليفاسور» في فرنسا في عام 1889، وهي التي ابتكرت أيضا المحرك رباعي الأسطوانات. ابتكرت رينو الكابح الطنبوري في عام 1902. وفي عام 1903، صمم الهولندي ياكوبوس سبايكر أول سيارة سباقات رباعية الدفع. تتطلب المركبات عددا من الابتكارات تشمل المحركات وأنظمة التشغيل والكوابح وناقلات الحركة ونظام التعليق والأجزاء الكهربائية، وغيرها. وتمثل السيارة في شكلها الحديث نتاج الابتكارات التي قدمها أفراد في جميع الدول الصناعية الرائدة. بحلول عام 1900، كانت جميع الدول الصناعية تمتلك شركات تصنيع السيارات. لقد كان الابتكار نشاطا جماعيا بينها.
تتمثل إحدى سمات الصناعات الجديدة الأخرى في أن كثيرا منها ارتبط بتطور العلوم الطبيعية. وقد جنت الدول التي كانت جامعاتها تضم برامج قوية في العلوم الطبيعية مزايا اقتصادية، وتعتبر ألمانيا هي المثال الأبرز في فترة ما قبل ثلاثينيات القرن العشرين، وقد فاز كثير من علماء الفيزياء والكيمياء الألمان بجائزة نوبل. تلقى أبرز المبتكرين ذوي المهارات الفنية تعليما جامعيا، كما أسهم أعضاء هيئة التدريس باكتشافات مهمة طورت من العمليات الصناعية وأدت إلى ظهور منتجات جديدة. ويعد اكتشاف فريتز هابر لعملية تحويل النيتروجين الجوي إلى أمونيا - وهي العملية التي اكتشفها عندما كان عضوا في هيئة تدريس جامعة كارلسروه، وحصل على جائزة نوبل من أجلها - أحد أشهر الاكتشافات، غير أنه ليس الوحيد من نوعه.
أدى ظهور هتلر، ونشوب الحرب العالمية الثانية، وانقسام ألمانيا بعد الحرب إلى خروج العلوم الألمانية عن مسارها، وهكذا انتقلت الريادة في أبحاث الجامعات إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تعمل على تطوير قطاع تعليم عال ضخم. كانت الأبحاث في جامعات الولايات المتحدة الأمريكية تطفو فوق بحر من الأموال الحكومية، وكانت معظم هذه الأموال موجهة إلى القطاع العسكري أثناء الحرب الباردة، غير أن معظم المشروعات التي جرى تمويلها أفادت الاقتصاد ككل. كان التمويل موجها كذلك إلى مجالات الطب، واستكشاف الفضاء، والعلوم الإنسانية والاجتماعية. وقد مثل هذا التمويل أساس ريادة أمريكا العالمية.
طابع الاقتصاد الكلي للتقدم التكنولوجي
جرت معظم أعمال البحث والتطوير في دول العالم الغنية اليوم، فقد طورت هذه الدول تكنولوجيات توقعت أنها ستدر عليها أرباحا، ومن ثم فقد كانت المنتجات والعمليات الجديدة التي ابتكرتها الدول الغنية تلبي احتياجاتها وتلائم ظروفها، خاصة أن الأجور المرتفعة في الدول الغنية دفعتها إلى ابتكار منتجات تقتصد في الأيدي العاملة من خلال زيادة استخدام رأس المال. وقد أدى هذا إلى اتجاه تصاعدي للتقدم؛ حيث أدت الأجور المرتفعة إلى المزيد من الإنتاج الذي يحتاج رأس مال مرتفعا، وهو ما أدى بدوره إلى أجور أعلى. دعم هذا الاتجاه التصاعدي زيادة الدخول في الدول الغنية.
ترتب على قيام دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة بجميع أعمال البحث والتطوير في العالم وجود «دالة إنتاج» عالمية تحدد الخيارات التكنولوجية لجميع الدول. تعرف «دالة الإنتاج» بأنها العلاقة الرياضية التي تحدد مقدار إجمالي الناتج المحلي الذي تحققه دولة ما من خلال استخدام الأيدي العاملة ورأس المال المتوفرين لديها. يبين الشكل
4-1
دالة إنتاج العالم من خلال بيان إجمالي الناتج المحلي لكل عامل في مقابل رأس المال لكل عامل في 57 دولة في عامي 1965 و1990. تحدد النقاط المبينة في الشكل دالة إنتاج العالم، وتتسم هذه الدالة بأن زيادة رأس المال لكل عامل تترجم إلى زيادة في الإنتاج لكل عامل. بالإضافة إلى ذلك، تصير العلاقة بين مقدار رأس المال وحجم الإنتاج مستوية عند استثمار رءوس أموال كثيفة لكل عامل، وهو ما يفسره قانون تناقص العوائد الذي يشير إلى أن استثمار المزيد والمزيد من رأس المال يحقق إنتاجا إضافيا أقل. وفي النهاية، تستخدم رموز مختلفة للتعبير عن بيانات عامي 1965 و1990؛ فالدولة التي تستثمر رأس مال يبلغ 10 آلاف دولار أمريكي لكل عامل لم تنتج في عام 1990 أكثر مما أنتجت في عام 1965، بعبارة أخرى، لم تحقق هذه الدولة تقدما فنيا. يكمن التغيير في تكنولوجيا العالم في تحقيق ناتج أكبر لكل عامل عن طريق رفع رأس المال لكل عامل إلى مستويات أعلى مما وصلت إليه من قبل. كانت الدول الغنية - التي كانت تستخدم تكنولوجيات كثيفة رأس المال في عام 1965 - هي المستفيد الأول من هذه التطورات التكنولوجية، وكانت هذه الدول أيضا هي الدول التي ابتكرت التكنولوجيات الجديدة في عام 1990؛ إذ إن هذه التطورات لم تنتقل تلقائيا إلى الدول الأكثر فقرا.
شكل 4-1: دالة إنتاج العالم.
1
شكل 4-2: مسار نمو الولايات المتحدة.
1
شكل 4-3: مسار نمو إيطاليا.
1
شكل 4-4: مسار نمو ألمانيا.
1
بالنسبة لبعض هذه الدول، يمكن قياس إنتاجية كل عامل ورأس المال لكل عامل عودة إلى الثورة الصناعية. من خلال هذه البيانات، يمكن مقارنة ما حدث «بمرور الوقت» بما يحدث «عبر النطاق الجغرافي». على سبيل المثال، يصل الخط في الشكل
4-2
الذي يحمل اسم «الولايات المتحدة الأمريكية» النقاط الممثلة لرأس المال لكل عامل والإنتاجية لكل عامل للولايات المتحدة الأمريكية في الفترة بين عامي 1820 إلى 1990. يتبع مسار تطور الولايات المتحدة الأمريكية نمط التطور نفسه في الدول الغنية والفقيرة في عامي 1965 و1990. ينطبق الأمر نفسه على جميع الدول الغنية الأخرى؛ حيث يبدو النمو في البلد الواحد بمرور الوقت وكأنه اختلافات في النمو في النطاق الجغرافي اليوم. يبين الشكل
4-3
هذا النمط في إيطاليا، والشكل
4-4
يوضحه في ألمانيا. هناك بعض الخصائص الفريدة في هذه التواريخ جميعا؛ حققت الولايات المتحدة - كما يليق بالدولة الرائدة تكنولوجيا على مستوى العالم - إنتاجية من رأس المال والأيدي العاملة المتوفرة لديها أكثر من الدول الأخرى، فيما راكمت ألمانيا - ربما بسبب أهمية البنوك الاستثمارية فيها - رأس مال أكثر لكل عامل، لكن تظل الآليات الأساسية واحدة. يعتبر التوافق بين النمو بمرور الوقت والاختلافات عبر النطاقات الجغرافية، نتيجة مباشرة للحقيقة المتمثلة في أن الإمكانات التكنولوجية في العالم اليوم إنما خلقتها الدول الغنية أثناء عملية تطورها.
يرجع السبب في فقر الدول الفقيرة إلى أنها تستخدم التكنولوجيا التي طورتها الدول الغنية في الماضي. وتعتبر أكثر الصناعات نجاحا في العديد من الدول النامية هي صناعة الملابس؛ حيث تعتبر التكنولوجيا الرئيسية هي ماكينة الخياطة. طرحت ماكينة الخياطة التي تدار بالقدم للمرة الأولى تجاريا في خمسينيات القرن التاسع عشر، فيما ظهرت ماكينة الخياطة الكهربائية في عام 1889. فنجاح التصدير في معظم الدول النامية اليوم قائم على تكنولوجيا القرن التاسع عشر.
تشير الإحصاءات التي تظهر في الشكل
4-1
إلى الأمر نفسه. لماذا تعتبر دولة بيرو فقيرة نسبيا؟ في عام 1990، بلغ رأس المال لكل عامل في بيرو 8796 دولارا أمريكيا، فيما بلغت إنتاجية كل عامل 6847 دولارا. تتطابق هذه الأرقام تقريبا مع مثيلاتها في ألمانيا في عام 1913؛ إذ بلغت 8769 دولارا أمريكيا، و6425 دولارا أمريكيا على التوالي. يرجع بنا رأس المال الأقل اليوم إلى الوراء زمنيا. في عام 1990، على سبيل المثال، بلغ رأس المال لكل عامل في زيمبابوي 3823 دولارا أمريكيا، فيما بلغت الإنتاجية لكل عامل 2537 دولارا أمريكيا سنويا. ليست هذه نتيجة سيئة في عام 1820. بلغ رأس المال لكل عامل في مالاوي 428 دولارا أمريكيا، وإجمالي الناتج المحلي لكل عامل 1217 دولارا أمريكيا؛ أي ما يماثل القيم نفسها التي بلغتها الهند أوائل القرن التاسع عشر، وأقل بنسبة كبيرة من المستويات التي حققتها المملكة المتحدة والولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية خلال الفترة نفسها. حتى في عام 1990، زاد رأس المال لكل عامل في الهند ليصل إلى 1946 دولارا أمريكيا فقط، وقيمة الإنتاجية لكل عامل إلى 3235 دولارا أمريكيا، وهو ما وضع الهند على قدم المساواة مع بريطانيا في عام 1820.
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن الآن هو: لماذا لا تستخدم دول بيرو وزيمبابوي ومالاوي والهند التكنولوجيا التي تستخدمها دول أوروبا الغربية، فتصبح دولا غنية هي الأخرى؟ والإجابة هي أن هذا لن يفيد هذه الدول. تحتاج التكنولوجيا الغربية في القرن الحادي والعشرين إلى رءوس أموال ضخمة للغاية لكل عامل، ومن ثم لن يكون من المجدي إحلال رءوس الأموال الهائلة محل العمالة إلا إذا كانت أجور العمالة مرتفعة مقارنة بتكلفة رأس المال، ويظهر هذا في جميع الأشكال الموضحة في استواء العلاقة بين قيمة الإنتاجية لكل عامل ورأس المال لكل عامل. بعبارة أخرى، عندما يرتفع رأس المال لكل عامل، يتطلب الأمر استثمار المزيد من رأس المال لكل عامل لزيادة قيمة الإنتاجية لكل عامل بمقدار 1000 دولار أمريكي، أكثر مما هو مطلوب عندما يكون رأس المال لكل عامل منخفضا. يجب أن تكون الأيدي العاملة باهظة التكلفة حتى يصبح من المجدي استثمار رءوس الأموال الهائلة. اتبعت الدول الغربية مسارا تنمويا أدت الأجور المرتفعة فيه إلى ابتكار التكنولوجيا الموفرة للأيدي العاملة، والتي أدى استخدامها إلى زيادة إنتاجية العمال ومعها الأجور. وتكرر الدورة نفسها. لكن الدول الفقيرة اليوم لم تلحق بركب الصعود، فتنخفض فيها الأجور وترتفع تكاليف رأس المال، ومن ثم لا تملك هذه الدول سوى التكيف مع استخدام التكنولوجيا العتيقة والأجور المنخفضة.
يقدم التاريخ الصناعي أمثلة على هذه المبادئ. في الفصل السابق، ناقشنا ابتكار النول الآلي والطريقة التي دخل بها حيز الاستخدام في الولايات المتحدة - وهي دولة ترتفع بها مستويات الأجور - ثم إلى بريطانيا بعد إدخال تعديلات عليه. لم يكن النول الآلي موفرا قط في الدول منخفضة الأجور؛ حيث ظل الناس يستخدمون النول اليدوي في النسج. وقد أصبح وضع هذه الدول أكثر صعوبة لاحقا في القرن التاسع عشر عندما صارت الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الرائدة اقتصاديا، وصاحبة اقتصاد أعلى الأجور؛ إذ كانت التكنولوجيا الأمريكية تعكس هذا الوضع. في عقد التسعينيات من القرن التاسع عشر، ابتكر رجل إنجليزي مهاجر يدعى جيمس هنري نورثروب سلسلة من الاختراعات أدت في النهاية إلى ظهور النول الآلي بالكامل؛ أدى نول نورثروب إلى زيادة الإنتاجية بشكل هائل، لكنه تتطلب استثمارات ضخمة. كانت الأنوال الآلية مربحة في أمريكا نظرا لارتفاع الأجور بها، بينما كان استخدامها مكلفا للغاية في بريطانيا، على الرغم من أن بريطانيا كانت صاحبة اقتصاد مرتفع الأجور وفقا للمعايير العالمية. كان نول نورثروب أقل جدوى في الدول الفقيرة. أدت عملية التحول الفني - التي سعى فيها المخترعون في الاقتصادات الرائدة إلى توفير العمالة مرتفعة الأجر - إلى ظهور آلات زادت أكثر فأكثر من الميزة التنافسية للدول الغنية، دون حصول الدول الفقيرة في العالم على أي مميزات.
هوامش
الفصل الخامس
الإمبراطوريات العظمى
كانت هناك إمبراطوريات إلى الشرق من أوروبا؛ فقد فتح الأتراك العثمانيون القسطنطينية في عام 1453، وامتد ملكهم من البلقان إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبسط القيصر الروسي سلطانه من بولندا إلى فلاديفوستوك، كما دامت الإمبراطورية الفارسية - تحت حكم أسر ملكية مختلفة - لآلاف السنين. وقد حكم الأباطرة المغول معظم بلاد الهند في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولم تزل اليابان يحكمها الإمبراطور منذ القرن الثالث الميلادي، كما أقيمت دول في مناطق من جنوب آسيا مثل كمبوديا وتايلاند في عصور مبكرة، وكانت الصين هي الإمبراطورية العظمى على الإطلاق ودامت لآلاف السنين.
كان الأوروبيون على دراية بثروات آسيا لآلاف السنين، وكان ذلك سببا في محاولتهم الإبحار إليها. وكانت رواية ماركو بولو عن رحلته إلى الصين في القرن الثالث عشر شهيرة، وقد أضاف كولومبس ملاحظاته على نسخته الخاصة من الرواية. كما رسم كتاب جان باتيست دوهالد «وصف الصين» (1736) - الذي كتبه بناء على بعض روايات بعثة تبشيرية لمنظمة اليسوعيين - صورة براقة للحضارة الصينية، وكان كتابا مقروءا على نطاق واسع، وخضع لمناقشات واسعة.
لكن لم يتقبل الجميع فكرة ازدهار الشرق، وكان على رأس المتشككين الاقتصاديون الكلاسيكيون؛ آدم سميث وروبرت مالتوس وكارل ماركس، فقد اتفقوا جميعا على أن أوروبا أكثر ثراء وتتمتع بإمكانات أفضل للنمو. وقد فسر كل منهم تخلف الصين المفترض وفق نظريته الخاصة المفضلة؛ فبالنسبة لسميث، كانت مشكلة الصين تكمن في حظر الدولة التجارة الخارجية، وعدم حماية الملكية الخاصة بصورة كافية. بالنسبة لمالتوس، كان انتشار الزواج هو السبب في الخصوبة العالية، وبالتالي انخفاض الدخل. أما بالنسبة لماركس، كان سبب تخلف الصين يرجع إلى هيكلها الاجتماعي السابق على الرأسمالية الذي فشل في دعم المبادرة الفردية.
لاقت هذه الآراء قبولا على نطاق واسع، لكنها خضعت للنقد في السنوات الأخيرة من قبل مدرسة كاليفورنيا للتاريخ الاقتصادي، وهو الاسم الذي يرجع إلى أن مناصريها هم أساتذة اقتصاد في عدد من جامعات ولاية كاليفورنيا. ووفقا لمنظور مدرسة كاليفورنيا، كان نظام الصين القانوني مشابها للنظام الأوروبي وكانت الملكية آمنة، وأبقى نظام العائلة الصيني على معدلات الخصوبة منخفضة، بحيث زاد تعداد السكان في الصين بمعدل لا يزيد عن المعدل في أوروبا، وكانت أسواق السلع والأراضي ورءوس الأموال متطورة مثل نظيراتها في أوروبا، ومن ثم فقد كانت مستويات الإنتاجية والمعيشة متشابهة على طرفي أوراسيا. ومن ثم، لا يكمن السبب في اندلاع الثورة الصناعية في أوروبا في الاختلافات المؤسساتية أو الثقافية، بل في توفر مصادر الفحم في القارة الأوروبية والمكاسب التي حققتها دول القارة من العولمة.
حظيت عملية إعادة التفسير هذه بنقاشات واسعة فيما يتعلق بالإمبراطورية الصينية والإمبراطوريات الأخرى، وكانت أكثر الجوانب إثارة للريبة هي الإشارة إلى أن الدخول في الأجزاء المتطورة من الصين، مثل منطقة دلتا نهر يانجتسي، كانت مرتفعة مثلما كان الحال في إنجلترا وهولندا (الشكل
1-3 ). على الجانب الآخر، يكتسب التقييم الإيجابي للأسواق والمؤسسات الصينية مصداقية؛ نظرا لأن عمليات إعادة تقييم الإمبراطوريات الأخرى (مثل تقييم الإمبراطورية الرومانية) توصلت إلى نتائج مشابهة، ومن ثم تصبح مدرسة كاليفورنيا على حق في أن الثورة الصناعية حدثت في بريطانيا بسبب الفحم والتجارة، ولعل ما يثير الانتباه في التاريخ الآسيوي هو غياب عوامل التحفيز هذه.
العولمة وتراجع التصنيع
لم يكن القرن التاسع عشر قرنا جيدا بالنسبة لمعظم الإمبراطوريات الكبرى؛ فقد أصبحت الهند مستعمرة بريطانية رسميا بعد ثورة عام 1857، وبحلول عشرينيات القرن العشرين، كان الأباطرة ؛ الصيني والعثماني والروسي، قد أطيح بهم.
لقد استهلت الإمبراطوريات العظمى القرن التاسع عشر وهي تمتلك أكبر الصناعات في العالم، واختتمت القرن بتدمير هذه الصناعات دون وجود صناعات حديثة لتحل محلها، وكان الاستثناء الوحيد - والجزئي - هو روسيا واليابان.
كانت العوامل الثلاثة التي أدت إلى النجاح والفشل في الفترة ما بين معركة ووترلو والحرب العالمية الثانية هي: التكنولوجيا، والعولمة، وسياسة الدولة.
أدت الثورة الصناعية في الغرب إلى خروج الصناعات الآسيوية من المنافسة لسببين؛ أولا: صار التصنيع أكثر إنتاجية في أوروبا حيث كان أقل تكلفة فيها، وفي المقابل كانت التكنولوجيا الصناعية غير موفرة في مناطق أخرى من العالم حيث كانت الأجور أقل. على سبيل المثال، لم يكن ثمة سبب منطقي في أن يحاول الهنود التنافس مع الإنجليز في إنتاج المنسوجات من خلال استخدام ماكينات الغزل؛ نظرا لأن ماكينات الغزل كانت تزيد من تكاليف رأس المال لعملية الغزل «في الهند» أكثر من تخفيض تكاليف الأيدي العاملة. كان على المصنعين في آسيا أن يأملوا في أن يطور البريطانيون ماكينات الغزل بدرجة كافية تسمح لهم باستخدامها بصورة اقتصادية في آسيا (وهو ما حدث في نهاية المطاف)، أو أن يعيدوا تصميم الماكينات بحيث تتلاءم مع ظروفهم الخاصة (وهو ما قامت به اليابان).
ثانيا: جعلت السفن البخارية وخطوط السكك الحديدية المنافسة الدولية أكثر حدة. مع انخفاض تكاليف النقل، صار اقتصاد العالم أكثر تكاملا، وصارت الشركات الغربية - التي كانت تستخدم ماكينات آلية - قادرة على التفوق على المصنعين الذين كانوا لا يزالون يستخدمون الأساليب اليدوية من الدار البيضاء إلى كانتون، على الرغم من التفاوت الكبير في الأجور. ومع اختفاء التصنيع في آسيا والشرق الأوسط، أعيد توزيع الأيدي العاملة في المجال الزراعي، فأصبحت هذه المناطق مصدرة للقمح والقطن والأرز وغيره من المنتجات الأولية. بعبارة أخرى، صارت هذه الدول دولا حديثة غير متطورة.
لم ترجع هذه التطورات إلى وجود مؤامرة بين الأغنياء ولا إلى الاستعمار (رغم أنه لعب دورا)، بل كانت نتيجة أحد المبادئ الأساسية في الاقتصاد؛ ألا وهو الأفضلية المقارنة؛ وفقا لهذه النظرية، تتخصص الدول التي تمارس النشاط التجاري فيما بينها في إنتاج السلع التي يمكنها إنتاجها بفعالية نسبية، فتقوم بتصدير هذه البضائع واستيراد البضائع التي لا تستطيع إنتاجها بفعالية. هب على سبيل المثال أن الهند عزلت عن بقية العالم، ستكون الطريقة الوحيدة لزيادة استهلاكها من الأقمشة القطنية هي تخفيض العمالة في مجال الزراعة، وتوظيف مزيد من العمالة في مجال الغزل والنسج. ستحدد كفاءة الأيدي العاملة في هذه الأنشطة كمية القمح التي يجب التخلي عنها لإنتاج متر آخر من القماش. إذا أصبح من الممكن ممارسة النشاط التجاري على المستوى الدولي، وإذا كان سعر الأقمشة مقارنة بسعر القمح في الأسواق العالمية أقل من النسبة التي تتحقق من خلال استخدام أساليب الإنتاج المحلية؛ سيجد الهنود ميزة أكبر في تصدير القمح واستيراد الأقمشة بدلا من إنتاج الأقمشة بأنفسهم. بعبارة أخرى، سيرغب الهنود في أن يكونوا مزارعين بدلا من أن يكونوا مصنعين. أدت عملية إعادة توزيع النشاط الاقتصادي هذه إلى تحقيق ازدهار قصير المدى على حساب تحقيق تنمية طويلة المدى.
قبل أن يصل فاسكو دا جاما إلى كلكتا، كانت الصلات بين الأسواق في أوروبا وآسيا واهية، فكانت كل قارة «معزولة عن بقية العالم»، ولكن زالت هذه العزلة مع تطور السفن ذات الأشرعة المربعة، والملاحة العالمية، والسفن البخارية، وحفر قناة السويس، ومد خطوط السكك الحديدية، وظهور التلغراف، وشق قناة بنما، واختراع السيارات والطائرات، وظهور الحاويات، واختراع الهاتف، وتطور الطرق السريعة، وظهور الإنترنت. قلصت هذه التطورات التكنولوجية من تكاليف المعاملات الدولية، وأدت إلى تكامل الأسواق، كما أدت إلى زيادة المنافسة بين الدول، وظهر دور مبدأ الأفضلية المقارنة بقوة، وصارت الاختلافات بين الدول في الكفاءة النسبية في الإنتاج أكثر أهمية في تحديد ثروة الأمم، وكانت النتيجة هي «عدم تطور» العالم الثالث.
وكانت السياسة الحكومية هي العامل الثالث الذي أثر على الأداء الاقتصادي بعد معركة ووترلو. واجهت الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية تحدي الواردات البريطانية الرخيصة باستراتيجية تنمية قياسية قائمة على عمليات التطوير الداخلية، وفرض التعريفات الخارجية، وتأسيس البنوك الاستثمارية، وتوفير التعليم العام. لم تكن المستعمرات مستعدة لتبني هذه الاستراتيجية؛ نظرا لأن سياساتها الاقتصادية كانت تتبع مصالح القوى الاستعمارية، وكان لدى الدول المستقلة خيار تحقيق التنمية القومية، رغم أن بعضها لم يبذل الجهد اللازم أو يحقق النجاح في ذلك.
المنسوجات القطنية
نشهد تأثير هذه العوامل في تاريخ إنتاج المنسوجات القطنية في الهند وبريطانيا. ارتفعت إنتاجية القطن في بريطانيا خلال الثورة الصناعية مع تطور ماكينات إنتاج القطن. كانت الزيادة في الإنتاجية الصناعية البريطانية - التي لم تضاهها زيادة مساوية في الهند - من شأنها أن تؤدي إلى زيادة في تنافسية منتجي القطن الإنجليز، مع تقليص تنافسية المصنعين الهنود، وذلك وفقا لمبدأ الأفضلية المقارنة. وبالعكس، كانت الأفضلية المقارنة للهند ستزداد في إنتاج السلع الزراعية، بينما تنخفض الأفضلية المقارنة لإنجلترا. يشير مفهوم الأفضلية المقارنة ضمنا إلى أن نمو الإنتاجية غير المتوازن للثورة الصناعية كان سيؤدي بالضرورة إلى زيادة التطور الصناعي في إنجلترا، وفي الوقت نفسه يؤدي إلى عملية تراجع للتصنيع في الهند - وهو ما حدث بالفعل.
حدث التحول في الأفضلية المقارنة في عصر انخفضت فيه تكاليف النقل، وهو ما أدى إلى تزايد التداعيات، فانخفضت تكاليف النقل مع تطور كفاءة السفن، وبسبب ازدياد المنافسة على الطرق البحرية من أوروبا إلى الهند. في القرن الثامن عشر، هيمنت شركتا الهند الشرقية الإنجليزية والهولندية على هذه التجارة. وبينما أفضى ظهور هاتين الشركتين في أوائل القرن السابع عشر إلى إنهاء سيطرة البرتغاليين على تجارة الفلفل، وأدى إلى انخفاض سعره في أوروبا؛ أدت قوانين الملاحة البريطانية إلى خروج الهولنديين من السوق الإنجليزية، وكبحت جماح المزيد من المنافسة. كانت الحرب الإنجليزية الهولندية الرابعة (1780-1784) هي الضربة الموجعة الأخيرة؛ إذ ضعف كيان الشركة الهولندية حتى ترك ميثاق تأسيسها ينتهي دون تجديد في عام 1800. وأخيرا، فقدت الشركة الإنجليزية احتكارها التجاري في عام 1813. وقد أدت زيادة المنافسة الناتجة عن ذلك إلى انخفاض تكاليف النقل بين الهند وأوروبا.
يظهر تأثير نمو الإنتاجية غير المتوازن وانخفاض تكاليف الشحن في تواريخ أسعار القطن في إنجلترا والهند. في عام 1812، التقت مجموعة من مصنعي القطن الإنجليز لمعارضة مد الاحتكار التجاري لشركة الهند الشرقية، فأعد هؤلاء المصنعون مذكرة أشارت إلى أن تكلفة غزل 40 وحدة غزل من القطن في الهند تصل إلى 43 بنسا لكل رطل، في مقابل 30 بنسا فقط في إنجلترا. وكانت خلاصة المذكرة هي أن السوق الهندية تمثل سوقا واعدة للمنتجات البريطانية إذا ما أتيحت المنافسة فيها، وقد كان هؤلاء المصنعون على حق. وعلى أية حال، من الجدير بالملاحظة أنهم لم يكن بإمكانهم طرح هذه الرؤية قبل عشر سنوات؛ حيث كانت تكلفة غزل 40 وحدة غزل بريطانية تساوي 60 بنسا لكل رطل، فلم تكن التكنولوجيا في عام 1802 منتجة بصورة فعالة بحيث تعرض المنتجات البريطانية بسعر أقل من مثيلتها الهندية، أما الماكينات التي توفرت في عام 1812 فكان بإمكانها تحقيق ذلك. استمر تطوير الماكينات، وبحلول عام 1826، انخفضت تكلفة إنتاج 40 وحدة غزل إلى 16 بنسا، وفي ظل هذا السعر، لم تجد حتى أكثر النساء فقرا في الهند جدوى من إنتاج الغزل، واختفى إنتاج الهند من غزل القطن مع الوقت، حتى أقيمت المصانع التي احتوت على ماكينات الإنتاج في سبعينيات القرن التاسع عشر.
شكل 5-1: السعر الحقيقي للقطن.
تكررت القصة نفسها مع النسيج، غير أن النتائج لم تكن كارثية بالقدر نفسه بالنسبة للهند؛ أدى التقدم التكنولوجي إلى انخفاض سعر نسيج الكاليكو الإنجليزي، كما ذكرنا في
الفصل الرابع . وابتداء من منتصف عقد الثمانينيات في القرن الثامن عشر، كان القماش الإنجليزي أرخص دوما في إنجلترا من القماش الهندي، لكن لم تتسع الفجوة كثيرا بين سعريهما؛ حيث كان يمثل كل منهما بالنسبة للمشترين بديلا للآخر. من هنا، أدى انخفاض سعر القماش الإنجليزي بعد عام 1790 إلى انخفاض سعر القماش الهندي تباعا (الشكل
5-1 ).
كانت هناك فجوة في سعر المنتج الهندي بين عامي 1805 و1818، لكن خلال هذه الفترة حدث تطوران على قدر بالغ من الأهمية؛ أولا: صار الفرق بين الأسعار في الهند وإنجلترا ضئيلا؛ إذ كانت الأسواق متكاملة بحيث كانت التطورات في إحدى السوقين تؤثر على الأخرى. ثانيا: انخفضت أسعار المنتجات الإنجليزية إلى مستوى أقل من مستوى أسعار المنتجات الهندية، وقد انقطعت صادرات القماش من الهند إلى إنجلترا؛ نظرا لعدم إمكانية تحقيق أرباح في هذا الاتجاه، بل وبدلا من ذلك، كانت إنجلترا تصدر منتجاتها إلى الهند.
كان تأثير ذلك على الهند هائلا؛ فتحولت من دولة كبرى في التصدير إلى دولة كبرى في الاستيراد، وانهارت صناعة الغزل تماما، وصارت الهند تستورد جميع غزلها من القطن، وانخفض الإنتاج من المنسوجات كذلك، رغم استمرار استخدام الأنوال اليدوية على نطاق أصغر وأقل ربحية. في ولاية بيهار، انخفضت نسبة القوى العاملة في التصنيع من 22٪ عام 1810 تقريبا، إلى 9٪ في عام 1901. لقد كانت فترة ذروة تراجع التصنيع!
تمتلك كل دولة ميزة الأفضلية المقارنة في مجال ما؛ وعندما فقدت الهند ميزتها التنافسية في التصنيع، اكتسبت ميزة في الزراعة، لا سيما زراعة القطن. يبين الشكل
5-2
السعر الحقيقي للقطن الخام في ولاية جوجارات وفي ليفربول من عام 1781 إلى 1913. في القرن الثامن عشر، كان القطن أرخص كثيرا في الهند، وانخفضت أسعار القطن في بريطانيا مع التوسع في زراعة القطن في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية. وبحلول ثلاثينيات القرن التاسع عشر، حدث تكامل بين السوقين الإنجليزية والهندية، بينما تمخض تحقيق التكامل بين أسواق الغزل والقماش عن انخفاض الأسعار الذي أخرج المصنعين الهنود من المنافسة، كان العكس صحيحا في مجال الزراعة. ارتفع سعر القطن الخام تدريجيا، وهو ما أدى إلى التوسع في الزراعة، ونمو صادرات القطن الخام لتغذية صناعة المنسوجات البريطانية.
شكل 5-2: السعر الحقيقي للقطن الخام.
في حوار محتدم أمام لجنة التحقيق الخاصة بشئون شركة إنتاج الهند الشرقية التي عينها البرلمان البريطاني في عام 1840، بين السيد جون بروكلهرست - عضو البرلمان عن ماكلسفيلد - للشاهد روبرت مونتجمري أن «تدمير صناعة النسيج في الهند قد وقع بالفعل»، بحيث «أصبحت الهند دولة زراعية بدلا من دولة صناعية، وصار العاملون الذين كانوا يعملون في مجال التصنيع من قبل، يعملون الآن في الزراعة.» أجاب مارتن - الذي كان من منتقدي الإمبراطورية البريطانية - قائلا:
لا أتفق معك في أن الهند دولة زراعية؛ إذ تعتبر الهند دولة صناعية بقدر ما هي دولة زراعية. ومن يرد التقليل من شأن الهند إلى مرتبة دولة زراعية، إنما يسعى إلى الحط من قدرها على سلم الحضارة ... فقد كانت الصناعات الهندية المختلفة موجودة على مدار عصور طويلة، ولم تستطع أي أمة منافستها متى توافرت قواعد المنافسة العادلة.
لكن مهما كانت مشاعر مارتن جديرة بالثناء، كانت قوى السوق إلى جانب بروكلهرست، وتفوقت الصناعة البريطانية على نظيرتها الهندية بالفعل.
كانت قصة المنسوجات الهندية هي قصة معظم بلدان العالم الثالث في القرن التاسع عشر؛ فقد أدى التحول الفني غير المتوازن، بالإضافة إلى العولمة، إلى دعم عملية التحول الصناعي في الدول الغربية، في الوقت الذي أدى فيه إلى هجر التصنيع في الاقتصادات الصناعية القديمة في آسيا، حتى في حالة الدول المستقلة - الإمبراطورية العثمانية على سبيل المثال - حولت التغيرات الفنية وانخفاض تكاليف النقل هذه الدول إلى دول حديثة غير متطورة. في منتصف القرن العشرين، كان ينظر إلى مشكلة التنمية الاقتصادية الآسيوية كمشكلة تحديث «مجتمعات تقليدية». في واقع الأمر، كانت ظروف هذه الدول أبعد ما تكون عن التقليدية؛ فلقد كانت حالة عدم التطور هي إرث العولمة والتنمية الصناعية في الدول الغربية في القرن التاسع عشر.
الصناعة الحديثة في الهند
هل كان مقدرا للهند أن تظل دولة أقل تطورا تكتفي بتصدير المنتجات الأولية واستيراد المواد المصنعة، أم هل كان سيتبع القضاء على الصناعات اليدوية تنمية صناعية؛ حيث يتم بناء المصانع الحديثة للاستفادة من انخفاض أجور العمالة في الهند؟ يعتبر التاريخ الهندي تجربة ذات أهمية هائلة للإجابة على هذه الأسئلة؛ إذ توفرت لدى الهند ميزات الحكم البريطاني والقانون البريطاني والتجارة الحرة البريطانية. فهل ساعد ذلك الهند أم أضر بها؟
مرت الهند ببعض التنمية الصناعية؛ تمثلت النجاحات الكبرى في صناعتي الخيش والقطن، وقد استفادت الصناعتان من العمالة الهندية زهيدة التكلفة ، وقد مول المستثمرون البريطانيون تنمية مصانع الخيش في بنغال، وبحلول الحرب العالمية الأولى، صارت هذه الصناعة هي الكبرى في العالم، كما قضت صادراتها على المنافسين البريطانيين في معظم الأسواق. وازدهرت صناعة القطن في بومباي، وبحلول عام 1913، كانت الهند تنتج 360 ألف طن من القطن الخام سنويا؛ أي أكثر مما كانت تنتجه فرنسا وأقل مما كانت تنتجه ألمانيا، ولكن كان تأثير هذه النجاحات ضئيلا على الاقتصاد القومي. وصل عدد العاملين في مصانع القطن والخيش إلى نصف مليون شخص في عام 1911؛ أي أقل بكثير من 1٪ من إجمالي العمالة. لقد ظل اقتصاد الهند زراعيا بالدرجة الأولى.
تطلبت التنمية الصناعية الابتعاد بالاقتصاد عن النمط الذي يمليه مبدأ الأفضلية المقارنة. تمثلت النظرة القومية في أن الهند بحاجة إلى سياسات التنمية القياسية التي ساعدت دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية على اللحاق بالركب البريطاني؛ أي فرض التعريفات الجمركية، وتأسيس البنوك الاستثمارية، وتحقيق تنمية داخلية، ونشر التعليم.
ما يثير الدهشة بشدة بشأن الحكم الاستعماري هو مدى ضآلة نسبة تطبيق هذا البرنامج. في القرن التاسع عشر، لم يذهب إلى المدارس من إجمالي عدد السكان في الهند إلا نسبة 1٪ فقط، ولم تتخط نسبة معرفة القراءة والكتابة بين الراشدين نسبة 6٪. وكانت التعريفات الجمركية منخفضة، ولم تفرض إلا لتحقيق عائدات للدولة، كما غابت أي سياسة مصرفية لتمويل الصناعة.
تلقي المبادرات التي اتخذتها الحكومة الهندية الضوء على مدى قصور سياساتها. كانت أقاليم مثل البنجاب تروى لزيادة الصادرات الزراعية، وكان يتم تشجيع إنشاء خطوط السكك الحديدية بعد ثورة عام 1857 لنشر القوات في أنحاء البلاد، وللوصل بين المقاطعات الزراعية في الداخل بالساحل لتسهيل تصدير المنتجات الأولية. في غضون ذلك، مد 61 ألف كيلومتر من خطوط السكك الحديدية قبل الحرب العالمية الأولى، وهو ما منح الهند إحدى أضخم شبكات السكك الحديدية في العالم. أدت خطوط السكك الحديدية إلى خلق سوق قومية؛ حيث كان يمكن نقل البضائع عبر الهند بتكلفة منخفضة.
يجب النظر إلى إنشاء خطوط السكك الحديدية الهندية باعتبارها فرصة لم يستفد منها؛ فقد كانت خطوط السكك الحديدية مشروعات ضخمة تتطلب مدخلات حديثة مثل قضبان من الصلب وقاطرات، وقد حرصت معظم الدول على أن يؤدي إنشاء طرق السكك الحديدية إلى توسيع أو خلق هذه الصناعات، عن طريق فرض التعريفات الجمركية ومستلزمات التوريد لنقل البضائع إلى الشركات المحلية. بدلا من ذلك، حرصت الحكومة الاستعمارية على نقل طلبات الشراء إلى الشركات البريطانية، فارتفعت الصادرات البريطانية من المنتجات الهندسية إلى الهند، ولم تستفد الهند شيئا من ذلك، وتأخر تأسيس صناعة هندسية وصناعة الحديد في البلاد حتى القرن العشرين.
وحتى في أيامنا هذه، تغلب العمالة الزراعية على الهند وباكستان وبنجلاديش، وهو حال غيرها من الدول الفقيرة، ولكن بعض الدول التي كانت فقيرة في القرن التاسع عشر أبلت بلاء حسنا في القرن العشرين، من خلال اتباع الاستراتيجية القياسية للتنمية، وأيضا من خلال الذهاب لما هو أبعد من ذلك وتطبيق نموذج الدفعة القوية، كما سنرى.
الفصل السادس
الأمريكتان
كان لانضمام الأمريكتين إلى الاقتصاد العالمي عواقب هائلة على العالمين القديم والحديث؛ انهارت مجتمعات السكان الأصليين الأمريكيين، وحلت الحضارة الأوروبية محل الحضارات الأصلية. كانت أوروبا الشمالية متوجهة نحو التصنيع، ويعد تقدم الأمريكتين أنفسهما مثالا حيا على الانقسام العالمي بين الشمال الغني والجنوب الفقير.
تعود مسارات التنمية المختلفة في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية إلى الحقبة الاستعمارية، وترتبط على نحو وثيق بعاملي الجغرافيا والديموجرافيا. ضمت أمريكا الجنوبية معظم السكان الأصليين وكانت تحتوي على أضخم الثروات، وكانت كذلك هي الأبعد عن أوروبا، وقد تراكمت هذه الاختلافات مسببة التباين في الدخل الذي نشهده اليوم.
كان عامل الموقع الجغرافي مهما؛ لأنه أثر على القدرة على التجارة مع أوروبا. قد تكون التجارة مفيدة أو ضارة للنمو الاقتصادي. فمن جانب، عرقلت المصنوعات البريطانية الرخيصة عملية التصنيع، ومن جانب آخر، شجع تصدير المنتجات الزراعية المحلية بقوة على الاستقرار والزراعة بوجه عام، وهي عوامل قد تكون محطات انطلاق للتحول إلى التصنيع لاحقا. وفي هذا الصدد، كانت أمريكا الشمالية تحظى بالأفضلية. أولا، كانت أمريكا الشمالية أقرب إلى أوروبا التي كانت السوق الرئيسية لصادرات المستعمرات، ومع ارتفاع تكلفة النقل، كان سكان أمريكا الشمالية يستطيعون إنتاج وتصدير مجموعة أكبر من المنتجات بصورة مربحة أكثر من سكان أمريكا الجنوبية، وقد دعمت الجغرافيا الداخلية للقارتين هذه الميزة؛ فكان الساحل الشرقي لأمريكا الشمالية طويلا وخصبا بما يكفي لدعم اقتصاد كبير، كما كان يمكن بلوغ أعماق القارة من خلال أنهار سانت لورانس وموهوك هدسون والمسيسيبي. في المقابل، كانت معظم الأنشطة الاقتصادية في أمريكا اللاتينية تجري في أعماق المكسيك ومنطقة جبال الأنديز. لم تصل الأنهار بين هذه الأقاليم والسواحل، ومن ثم كانت تكلفة التصدير مرتفعة.
ويمثل العامل الديموجرافي أهمية كبيرة كذلك. لم يهدد المناخ المعتدل الذي يسيطر على معظم أنحاء الولايات المتحدة وكندا ومعظم مناطق أمريكا الجنوبية؛ الأوروبيين بالأمراض، ومن ثم استقر الأوروبيون ونعموا بالرخاء في هذه المناطق. في المقابل، أدت أمراض المناطق الاستوائية إلى ارتفاع نسبة الوفيات بين الأوروبيين في مناطق الكاريبي والأمازون، وهو ما أدى إلى انخفاض نسبة نمو السكان الأوروبيين فيها.
كان السكان الأصليون موزعين على نحو غير متساو عبر الأمريكتين. عاش معظم السكان الأصليين في المكسيك (21 مليونا)، أو الأنديز (12 مليونا)، في المقابل لم يعش سوى خمسة ملايين فقط من السكان الأصليين في الولايات المتحدة، منهم 250 ألف نسمة فقط في المستعمرات الثلاث عشرة الأصلية، وقد عكس الفارق في توزيع السكان طبيعة الجغرافيا. كانت المكسيك وبيرو مواطن الأصول الطبيعية للأغذية الرئيسية للسكان الأصليين مثل الذرة والبقوليات والقرع والبطاطس والكينوا. زرعت هذه النباتات في الحقول والمزارع بعدما كانت تزرع في البراري، ومن ثم صارت هذه البيئات تلائمها تماما. بالإضافة إلى ذلك، كان المزارعون يزرعون هذه النباتات قبل أن يقدم أحد على زراعتها في أي مكان آخر. كانت الذرة والبقوليات - على سبيل المثال - تزرع في الحقول والمزارع قبل 4700 عام، ومن ثم كانت هناك فرصة 4200 عام أمام السكان الأصليين للمكسيك حتى يزداد عددهم قبل أن يصل كورتيس إلى المكسيك في عام 1519. بطبيعة الحال، انتشرت زراعة الذرة والبقوليات والقرع بصور واسعة، غير أنه كان يلزم ملاءمة جيناتها وطرق زراعتها مع البيئات المختلفة التي صارت تزرع فيها، وهو ما أبطأ من انتشارها، فكان يجب - على سبيل المثال - تقليص موسم زراعة الذرة من 120-150 يوما - وهي الفترة اللازمة لزراعة الذرة في المناطق الاستوائية - إلى 100 يوم أو أقل في المناطق الأكثر برودة، وهو ما لم يتحقق إلا في عام 1000 ميلادية تقريبا. ولم تزرع الذرة على نطاق واسع في أي مكان في النصف الشرقي من الولايات المتحدة أو كندا قبل هذا التاريخ؛ لذا لم يتسن للسكان الأصليين في شرق أمريكا الشمالية وقت كبير كي ينمو عددهم قبل أن يأتي الأوروبيون إلى القارة.
كان وصول الأوروبيين إلى الأمريكتين بمثابة الكارثة بالنسبة للسكان الأصليين. بلغ تعداد السكان الأصليين وفق أحد التقديرات المتوسطة إلى 57 مليون نسمة في عام 1500، وبحلول عام 1750، انخفض تعدادهم إلى 5 ملايين نسمة. يرجع جزء كبير من هذا الانخفاض في عدد السكان الأصليين إلى ظهور الأمراض؛ مثل الجدري والحصبة والأنفلونزا والتيفوس، التي لم يكن لدى السكان الأصليين أي مناعة ضدها، أما الأسباب الأخرى فتتمثل في الحروب والاستعباد والمعاملة السيئة من قبل المستوطنين.
كانت تداعيات هذا الانخفاض في العدد - الذي كان أمرا شائعا بين جميع السكان الأصليين - مختلفة في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية؛ نظرا لاختلاف عدد السكان في كلتا القارتين قبل وصول الأوروبيين. في المكسيك، انخفض تعداد السكان الأصليين بنسبة تزيد على 90٪، ووصلوا إلى أقل عدد لهم في عشرينيات القرن السابع عشر وهو 750 ألف نسمة. كان هذا العدد لا يزال يماثل ثلاثة أضعاف عدد السكان الأصليين في الساحل الشرقي للولايات المتحدة قبل وصول الأوروبيين. وفي منطقة الأنديز، انخفض تعداد السكان الأصليين ليصل إلى أقل من 600 ألف نسمة، بعد تفشي وباء بين عامي 1718 و1720. تضاعف عدد السكان الأصليين في المكسيك بعد منتصف القرن السابع عشر ليصل إلى 3,5 ملايين نسمة في عام 1800، فيما وصل عدد السكان الأصليين في منطقة الأنديز إلى 2 مليون نسمة. وعلى الرغم من الهجرة الإسبانية خلال القرون الثلاثة السابقة، كان السكان الأصليون يؤلفون ثلاثة أخماس إجمالي عدد السكان في هذه المناطق، ومثلت نسبة السكان من الأعراق المختلطة خمس إجمالي عدد السكان، أما الخمس الأخير فكان يمثله الأثرياء البيض الذين كانوا يحكمون هذه المستعمرات. انطوى هذا الهيكل العرقي والاقتصادي على تبعات سلبية على النمو طويل المدى.
كان الوضع مختلفا تماما في أمريكا الشمالية؛ نظرا لقلة عدد السكان الأصليين عند وصول الأوروبيين. انخفض تعداد السكان الأصليين الذين وصل عددهم إلى ربع مليون نسمة في الساحل الشرقي في عام 1500، إلى 14697 نسمة في عام 1890، عندما أجري تعدادهم ضمن الإحصاء الأمريكي الرسمي للسكان للمرة الأولى. حدث معظم الانخفاض في عدد السكان الأصليين في القرن السابع عشر، بل وغالبا ما كان ذلك قبل الاستعمار الأوروبي. سبق وصول المستوطنين الأوائل إلى ماساتشوستس في عام 1620 تفشي عدد من الأوبئة بين عامي 1617 و1619، وقد رأى المستوطنون الأوائل في ذلك منحة من الله: «حتى الآن باركت يد الله الطيبة بداياتنا هنا ... من خلال محو أعداد كبيرة من السكان الأصليين ... قبل وصولنا هناك، بحيث يفسح المجال لنا هناك.» وقد قضت خمسون عاما من الحروب على ما تبقى من السكان الأصليين. كان ارتفاع معدلات الوفيات بين السكان الأصليين وانخفاض معدلات الوفيات بين المستوطنين يعني أن المستعمرات الأمريكية صارت مكانا بديلا لإنجلترا بسرعة كبيرة. كان الاستثناء الأبرز في هذا التعميم هو المستعمرات الجنوبية في الولايات المتحدة؛ حيث استورد الأوروبيون عبيدا أفارقة للقيام بالأعمال الشاقة، ولكن لم يؤثر وجود السكان الأصليين على تنمية أمريكا الشمالية مثلما كان الحال في جنوب نهر ريو جراندي.
اقتصاد المستعمرات في أمريكا الشمالية
يعتبر الاستيطان هو الموضوع الرئيسي في التاريخ الاستعماري للولايات المتحدة الأمريكية. كان دافع بعض المستوطنين - خاصة في نيو إنجلاند - يتمثل في رغبتهم في إقامة حكم ديني خاص بهم بدلا من الانصياع إلى هيمنة عقيدة أخرى، ولكن كان الحافز الرئيسي لمعظم المستوطنين هو الكسب الاقتصادي؛ بل وكان البيوريتانيون يتوقعون تحقيق مستوى المعيشة نفسه في ماساتشوستس الذي كان يمكنهم تحقيقه في إنجلترا.
كان الاستيطان والتصدير مرتبطين ارتباطا وثيقا في أمريكا الشمالية أثناء الاستعمار البريطاني. سلط عالم الاقتصاد الكندي هارولد إنيس الضوء على هذه العلاقة من خلال «أطروحة السلع الأساسية»، التي كانت تقول بأن نمو إقليم مثل كندا كان يحدده نمو صادراته - المتمثلة في سمك القد، والفراء، والأخشاب - إلى أوروبا. وفرت مبيعات هذه المنتجات المال اللازم لشراء البضائع المصنعة؛ مثل القماش والأدوات والأواني الفخارية والكتب وغيرها. كانت هذه المنتجات تستورد من بريطانيا، بدلا من إنتاجها في المستعمرة؛ حيث كانت الصناعات البريطانية ضخمة وحققت اقتصادا هائل الحجم، وهو ما كان يعني قدرتها على الإنتاج بصورة أكثر فعالية من الشركات الصغيرة في المستعمرات. «يرى المزارعون أن من صالحهم مبادلة الماشية والذرة بالملابس، بدلا من صناعة الملابس.» منعت قوانين الملاحة البريطانية الهولنديين والفرنسيين من توريد احتياجات المستعمرات.
تميزت مستعمرات السلع الأساسية بثلاث خصائص؛ أولا: كان سعر السلعة الأساسية في المستعمرة أقل من سعرها في أوروبا بمقدار يساوي تكلفة النقل، وكانت الأسعار في السوقين ترتفع وتنخفض معا؛ حيث إن التجارة كانت تربط بينهما. ثانيا: كانت الصادرات تشكل جزءا كبيرا من دخل المستعمرات، فيما كان باقي دخلها يأتي من خدمات الدعم. ثالثا: تخطت عائدات المستوطنين ورءوس أموالهم في المستعمرات العائدات في أوروبا بهامش يغطي تكاليف ومخاطر الانتقال إلى المستعمرات.
تبين مستعمرة بنسلفانيا هذه المبادئ، فقد تأسست مستعمرة بنسلفانيا في عام 1681، وكانت ملائمة لزارعة القمح الذي صار سلعتها الأساسية. تنافست صادرات بنسلفانيا مع الإنتاج الأيرلندي والإنجليزي في الهند الغربية وأيبيريا والجزر البريطانية؛ ونتيجة لذلك، تحركت الأسعار في فيلادلفيا ولندن معا ارتفاعا وانخفاضا. يظهر هذا التزامن في الشكل
6-1 . كانت حرب السنوات السبع (1756-1763) والثورة الأمريكية (1776-1783) بمثابة الاستثناءات التي تثبت القاعدة؛ حيث تأثرت التجارة بشدة خلال هذه الفترات، وانهارت العلاقة المتبادلة بين الأسعار. وإضافة إلى القمح والدقيق، صدرت مستعمرة بنسلفانيا منتجات الأخشاب والسفن والحديد والبوتاس، وحققت فائضا من العملة الصعبة من أسطولها البحري التجاري. كانت الصادرات مهمة لاقتصاد المستعمرة ووصلت إلى حوالي 30٪ من إجمالي ناتجها في عام 1770. كانت العملة الصعبة التي تحققت من خلال بيع هذه المنتجات تستخدم في شراء المنتجات الاستهلاكية الإنجليزية.
شكل 6-1: سعر القمح.
شكل 6-2: أجور العمالة غير الماهرة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
اجتذب الاقتصاد الذي كان يحقق نموا ملحوظا المزيد من العمالة الأوروبية. في القرن الثامن عشر، سارت الأجور الحقيقية في فيلادلفيا في نفس مسار الأجور في إنجلترا، ولكن على مستوى أعلى لتعويض المستعمرين عن تكلفة الانتقال إلى مستوطنات بعيدة غير مأهولة (الشكل
6-2 ). كانت إنجلترا ومستعمراتها في أمريكا الشمالية أماكن مزدهرة؛ حيث بلغت الأجور فيها من أربعة إلى خمسة أضعاف الحد الأدنى لمتطلبات الحياة، مقارنة بمدن مثل فلورنسا حيث انخفضت الأجور فيها إلى الحد الأدنى لمتطلبات الحياة بنهاية القرن الثامن عشر.
كان أداء الاقتصاد في نيو إنجلاند أقل إرضاء، كما يوضح الشكل
6-2 . في أوائل القرن الثامن عشر، كانت الأجور في ماساتشوستس تساوي نظيرتها في لندن ولكن أقل من بنسلفانيا. ورغم أن ماساتشوستس تحمل مكانة رمزية وفق وجهات النظرة الشعبية في التاريخ الأمريكي، فقد كان اقتصاد المستعمرة غير مستقر؛ نظرا لافتقاره إلى سلعة زراعية أساسية. وقد نشأت تجارة تصدير في الأسماك، والماشية، وزيت الحوت، ومنتجات الأخشاب بما في ذلك السفن، وأنشأ مواطنو نيو إنجلاند أيضا صناعة كبيرة لبناء السفن التي أدرت أرباحا خارجية كثيرة، وأزعجت التجار الإنجليز؛ إذ إنها تنافس وطنهم الأم. لم تتسع هذه الأنشطة بسرعة؛ لذا زاد الطلب على العمالة في نيو إنجلاند بصورة أبطأ من الزيادة الطبيعية في السكان. وبناء على ذلك، انخفضت الأجور فضلا عن زيادة هجرة السكان منها.
بينما طورت أطروحة السلع الأساسية لتفسير نمو مستعمرة كندا، تعد مستعمرات السكر في منطقة الكاريبي أفضل الأمثلة في هذا الصدد. اكتشف الأوروبيون السكر للمرة الأولى أثناء الحروب الصليبية في فلسطين، وبعد طردهم من البلاد، انتقل إنتاج السكر إلى قبرص، وفي نهاية المطاف انتقلت زراعته إلى جزر في المحيط الأطلنطي. كان احتلال البرتغاليين لساو توميه في عام 1485 نقطة تحول؛ حيث بدأ البرتغاليون في زراعة مساحات شاسعة من الأراضي التي كان يعمل بها عبيد أفارقة. انتقل نظام الزراعة هذا لاحقا إلى البرازيل ومنطقة الكاريبي؛ حيث أثبت قدرته على تحقيق أرباح هائلة. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، كانت جزر بربادوس وجامايكا وكوبا وسانت دومينجو (هايتي الآن) من بين أكثر الأماكن ثراء في العالم.
كانت مستعمرات الكاريبي تزرع السكر والمحاصيل الأخرى كالبن، ثم تصدر إنتاجها إلى أوروبا. كان المستثمرون الأوروبيون يوفرون رأس المال اللازم، والعبيد الأفارقة يوفرون الأيدي العاملة اللازمة؛ حيث أثبت الأفارقة أنهم مصدر للأيدي العاملة أرخص من الأيدي العاملة من المهاجرين الأوربيين. كانت معدلات الوفيات في مزارع السكر مرتفعة للغاية، وكان سعر العبيد الجدد رخيصا للغاية، بحيث كان يتم زيادة أعداد العبيد بشرائهم وليس من خلال الزيادة الطبيعة بالتناسل. على سبيل المثال، شحن أربعة ملايين من العبيد إلى الهند الغربية البريطانية، لكن لم يتبق منهم إلا 400 ألف عند تحريرهم في عام 1832. كان حجم الصادرات يحدد حجم اقتصاد المستعمرات. في جامايكا في عام 1832 - على سبيل المثال - شكلت صادرات السكر والبن والمنتجات الاستوائية الأخرى ما يصل إلى 41٪ إلى دخل المستعمرة، أما باقي دخل المستعمرة فكان يتوفر من خلال أنشطة دعم المزارع (إنتاج الأغذية للعبيد، والمستلزمات الأخرى، والشحن، وخدمات النقل، وتوفير قوات فرض النظام وتنفيذ القانون، وتوفير مساكن للعمالة المساعدة)، أو من خلال النفقات الاستهلاكية لأصحاب المزارع على الخدم في المنازل والبيوت الريفية. مثلت نفقات أصحاب المزارع في المستعمرة نسبة ضئيلة من دخولهم، والتي كان يذهب معظمها إلى بريطانيا بدلا من استثمارها في جامايكا.
تكررت العديد من سمات مستعمرات منطقة الكاريبي في المستعمرات الجنوبية، التي صارت الولايات المتحدة الأمريكية فيما بعد. كان الجنوب يضم السلع الأساسية القيمة مثل الأرز ونبات النيلة في مستعمرة كارولاينا الجنوبية، والتبغ في فرجينيا وميريلاند. كانت هذه المحاصيل تزرع في المزارع التي كان يعمل بها في البداية الخدم الإنجليز المتعاقدون، ثم حل محلهم العبيد الأفارقة. كان الجنوب أكثر ثراء من المستعمرات الشمالية، كما جذب المزيد من المستوطنين وكان يمثل وجهة معظم العبيد.
على سبيل المثال، جرى استيطان مستعمرة كارولاينا الجنوبية للمرة الأولى في عام 1670، لكن لم يمتلك المستوطنون «أي سلع تلائم السوق الأوروبية إلا بعض أنواع الجلود التي اشتروها من السكان الأصليين الهنود، والقليل من أخشاب الأرز، والتي كانوا يساعدون بها في ملء السفن التي تنقل الجلود إلى لندن.» في العقود اللاحقة، بحث هؤلاء المستوطنون عن سلعة أساسية، وفي نهاية المطاف وجدوا ضالتهم في الأرز. ارتفعت الصادرات من 69 رطلا لكل فرد في عام 1700، إلى 900 رطل في عام 1740، كما قفزت واردات العبيد من 275 عبدا سنويا إلى 2000 عبد خلال العقود نفسها. كما ارتفعت معدلات التجريب في أساليب الزراعة من إنتاجية الأراضي والعمال على حد سواء بمقدار النصف. اقترب البناء الاجتماعي للمناطق الساحلية - حيث كان يزرع الأرز - من البناء الاجتماعي في جزر زراعة السكر في الكاريبي، وكانت الصادرات تضيف ما يصل إلى أكثر من 30٪ إلى الدخل الإجمالي للمناطق الساحلية، وكان الاقتصاد يرتكز على الأرز مثلما كان اقتصاد جامايكا يرتكز على السكر، وأصبحت الغالبية العظمى من السكان من الأفارقة.
تراجع السكان البيض - الذين كانوا يمثلون نصف إجمالي عدد السكان في الجنوب - إلى المناطق الداخلية حيث انتشرت المزارع العائلية. ورغم أن هذه العائلات كانت تزرع ما تأكله، فإنها كانت أبعد ما يكون عن تحقيق الاكتفاء الذاتي؛ حيث كانت هذه المزارع تمد مزارع الأرز بحاجتها من الطعام، واستخدم أصحابها عائدات البيع في شراء الأقمشة الإنجليزية والسلع الاستهلاكية الأخرى. اعتمدت مستعمرتا فرجينيا وميريلاند بصورة مماثلة على التبغ كمنتج تصدير أساسي.
كانت المستعمرات البريطانية تختلف فيما بينها بصورة هائلة من حيث عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية. كانت مستعمرتا نيو إنجلاند وإقليم الأطلسي الأوسط الأكثر مساواة؛ كان يوجد بهما بعض العبيد، غير أن العبودية لم تكن مهمة في مجال الزراعة؛ لا بسبب أي وازع أخلاقي أو لصعوبات فنية، وإنما لأن العبيد لم يكونوا يدرون دخلا يكفي لتغطية تكلفة استخدامهم. وقد جعل توافر الأراضي بكثرة سعرها منخفضا، وهو ما كان يعني أن معظم الدخول تأتي في صورة أجور، والتي كانت توزع بالضرورة بصورة واسعة. تقف مستعمرات الكاريبي على حد النقيض من هذا؛ حيث كان معظم السكان من العبيد، وكان عدم المساواة حاضرا في أبرز صوره. مثلت مستعمرات جنوب الولايات المتحدة الأمريكية حالات وسط جمعت بين عدم المساواة في المزارع والمساواة التي تظهر لدى المزارعين على نطاق صغير على الحدود.
على أية حال، اشتركت اقتصادات مستعمرات أمريكا الشمالية في ميزة واحدة كانت بمثابة علامة إيجابية لمستقبلها؛ ألا وهي أن معرفة المستوطنين البيض بالقراءة والكتابة كانت تقارب على الأقل مستوياتها المرتفعة في إنجلترا التي كانت تحتل قمة الجدول العالمي (الجدول
2-2 ). بحلول الثورة الأمريكية، كان 70٪ من الرجال الأحرار في فرجينيا وبنسلفانيا يستطيعون كتابة أسمائهم، مقارنة بنسبة 65٪ في إنجلترا خلال الفترة نفسها. في نيو إنجلاند، اقتربت النسبة من 90٪، وهي النسبة التي تحققت من خلال إنشاء المدارس الحكومية وفرض التعليم الإجباري.
لماذا كانت معرفة القراءة والكتابة مرتفعة في المستعمرات؟ للسبب نفسه الذي كانت مرتفعة بفضله في إنجلترا؛ ألا وهو الفائدة الاقتصادية. كان اعتماد مستوى معيشة المستوطنين على التجارة والأسواق الخارجية يؤكد أهمية مهارات القراءة والكتابة والحساب، وأنها تعود بالنفع على صاحبها. كما جعل النظام القانوني معرفة القراءة والكتابة ذات قيمة كبيرة؛ نظرا لأن العقود وصكوك ملكية الأراضي كانت وثائق مكتوبة. وربما تكون رغبة البيوريتانيين في قراءة الكتاب المقدس قد لعبت دورا في دفع نسبة معرفة القراءة والكتابة في مستعمرة ماساتشوستس إلى نسبة أعلى من نظيرتها في إنجلترا أو بنسلفانيا، غير أن اعتماد اقتصادهم على التجارة والشحن منحهم حافزا اقتصاديا قويا للتعليم.
اقتصاد المستعمرات في أمريكا اللاتينية
سارت مناطق مختلفة من أمريكا اللاتينية على مسارات تنمية مختلفة عن تلك التي سلكتها ما صارت فيما بعد الولايات المتحدة الأمريكية، بيد أن أيا منها لم تحقق ما حققته الولايات المتحدة من نجاح. ويجب أن نميز بين (1) منطقة الكاريبي والبرازيل، (2) المخروط الجنوبي (الأرجنتين وتشيلي وأوروجواي)، و(3) المكسيك ومنطقة الأنديز.
تناولنا بالفعل اقتصادات منطقة الكاريبي، وقد حدثت تطورات مماثلة في البرازيل، وإن كان ذلك على نطاق أوسع يعكس كبر حجمها. كانت البرازيل قريبة بما يكفي من أوروبا لتصدير السكر إليها، وهو المنتج الذي قدمه البرتغاليون من ساو توميه في أوائل القرن السادس عشر. في البداية، كان السكان الأصليون الأمريكيون من العبيد هم من يعملون في المزارع، ثم سرعان ما حل الأفارقة محلهم، وكانت الانتعاشة الأولى لتجارة السلعة الأساسية الأولى قد انطلقت. وبين عامي 1580 و1660، توحدت دولتا البرتغال وإسبانيا، وامتدت الحرب الهولندية ضد إسبانيا إلى البرتغال، ومن عام 1630 إلى 1654، احتل الهولنديون بيرنامبوكو - وهي مقاطعة إنتاج السكر في البرازيل. وعندما رحل الهولنديون، أخذوا معهم المعرفة بأساليب إنتاج السكر، ثم تلا ذلك إدخال زراعته في منطقة الكاريبي. كان المنتجون في الكاريبي أقرب إلى أوروبا، وكان يمكنهم تقديم منتجاتهم بأسعار أقل من منافسيهم في البرازيل؛ إذ انخفض سعر السكر في أمستردام من ثلاثة أرباع جلدر لكل رطل في عام 1589، إلى ربع جلدر في عام 1688. لم تستطع المزارع البرازيلية التنافس في ظل هذا السعر، وهكذا انتهى عصر ازدهار زراعة السكر في البرازيل. يتألف التاريخ الاقتصادي للبرازيل في القرون الثلاثة التالية من فترات ازدهار لسلعة أساسية واحدة تلو الأخرى، من الذهب (في أوائل القرن الثامن عشر)، إلى البن (1840-1930)، إلى المطاط (1879-1912)، وفي كل حالة كان يجري شحن أحد المنتجات إلى أوروبا، وكان يجري جلب العبيد أو المستوطنين لزراعته. وعلى غرار زراعة السكر في الكاريبي - وبخلاف الولايات المتحدة الأمريكية - لم تتحول فترات ازدهار السلع الأساسية في البرازيل إلى نمو اقتصادي حديث. فلماذا؟
كان المخروط الجنوبي لأمريكا الجنوبية يشبه أمريكا الشمالية في وجود عدد قليل من السكان الأصليين قضت عليهم الأمراض والحروب وسوء معاملة المستوطنين الأوروبيين، وكانت منطقة بامباس تستطيع إنتاج اللحم البقري والقمح تماما بنفس كفاءة مستعمرة بنسلفانيا، بيد أن الأرجنتين كانت تبعد كثيرا عن أوروبا، بحيث لم يكن ذلك مجديا في الفترة الاستعمارية. كان جل ما استطاعت الأرجنتين فعله هو ممارسة تجارة تصدير الجلود على نطاق محدود، وكانت تشيلي أبعد حتى من الأرجنتين. بدأ التاريخ الاقتصادي الحقيقي لهذه الدول في منتصف القرن التاسع عشر، عندما طورت السفن بشكل جعل صادراتها قادرة على المنافسة في أوروبا.
كانت أهم المستعمرات الإسبانية على الإطلاق هي المكسيك والأنديز، وقد رسم الاستعمار ملامح تاريخ هذه المستعمرات. بينما وجد المستوطنون في أمريكا الشمالية سكانا أصليين يمارسون أساليب زراعة تعتمد على حرق وقطع أشجار الغابات لإنشاء حقول زراعية في مناطق غير مأهولة بالسكان بالكامل، وجد الإسبان مجموعات كثيفة من السكان ومدنا عظيمة وصناعة زراعية راسخة ومنتجة، ومؤسسة سياسية ودينية هرمية بالقدر نفسه الذي تطبقه إسبانيا، وكميات هائلة من الذهب والفضة. أطاح «الغزاة الإسبان» بحكام مملكتي الأزتك والإنكا، واعتلوا عروشهم، ثم نهبت مناجم الذهب والفضة، واضطهدت المعتقدات الدينية المحلية، وأحرقت كتبها، وحلت الكاثوليكية محلها. وتدهورت مكانة السكان الأصليين إلى منزلة العرق الخادم الذي كان الغرض من وجوده فقط هو خدمة الغزاة. رحل مئات الآلاف من الإسبانيين إلى أمريكا أملا في تحقيق الثراء هناك.
استغل حكام مملكتي الأزتك والإنكا رعاياهم لفرض إتاوات واستخدامهم في الأعمال المختلفة، وقد سار الإسبان على نهجهم. كانت أجور السكان الأصليين منخفضة للغاية؛ ففي ثلاثينيات القرن السادس عشر، كان العامل المكسيكي من السكان الأصليين الذي يعمل بدوام كامل يكسب ربع تكلفة الحد الأدنى من سلة السلع الأساسية (الشكل
6-3 )، ولم يكن ذلك كافيا لإعالة أسرة. وقد كانت الانتهاكات صارخة إلى درجة جعلت التاج الإسباني يحظر استعباد السكان الأصليين، ويحد من سلطة «الغزاة».
في هذه الأثناء، انهارت مجتمعات السكان الأصليين، لكن بقي ما يكفي منهم لجعل استمرار استغلالهم مجديا، وقد كان العمل القسري إحدى الاستراتيجيات المتبعة آنذاك. في سبعينيات القرن السادس عشر، أعيد إحياء نظام «ميتا» - الذي كان نظاما للسخرة مطبقا في عهد الإنكا - لتوفير العمال لمناجم الفضة في بوتوسي، وقد انتهجت المكسيك نهج نظم الأزتك السابقة في صور العمالة القسرية الخاصة بها والتي كان يطلق عليها «ربرتيمنتو». ومنح التاج الإسباني أيضا الأراضي غير المأهولة للإسبان كضيعات خاصة. وهكذا بحلول أوائل القرن السابع عشر، استحوذ الإسبان الأثرياء على أكثر من نصف الأراضي الزراعية في وادي المكسيك، وامتلكت بقية الأراضي بصورة جماعية القبائل المحلية التي كانت تمارس أسلوب الزراعة المتنقلة. لم تظهر أمثلة مشابهة لجماعات كبيرة من السكان الأصليين يمتلكون الأراضي بصورة جماعية في مستعمرات أمريكا الشمالية.
شكل 6-3: أجور العمالة غير الماهرة في المكسيك ولندن.
تمثل فارق آخر مهم بين مستعمرات أمريكا اللاتينية ومستعمرات أمريكا الشمالية في الجغرافيا ، وهو ما حال دون تصدير بيرو والمكسيك السلع الزراعية الأساسية. ليس من المثير للدهشة أن كانت بيرو بعيدة للغاية عن أوروبا، بحيث لم يكن التصدير ممكنا. كانت الأسواق في الساحل الغربي لأمريكا أكثر تكاملا مع الأسواق في آسيا، مما كانت مع الأسواق في أوروبا. سير الإسبان سفنا شراعية كبيرة بين أكابولكو ومانيلا، لمقايضة العملات الفضية بالحرير والشاي الصيني. في أواخر القرن الثامن عشر، اشترت «العديد من السفن الفرنسية والإنجليزية والأمريكية» جلود حيوان الفقمة من السكان الأصليين للمقاطعة التي يطلق عليها اليوم كولومبيا البريطانية، وباعوها في الصين. «انخفضت أسعار الجلود بشدة في الصين، مع ارتفاعها في المناطق الساحلية الأمريكية.»
تعتبر المكسيك مثالا محيرا؛ فميناء فيراكروز المطل على البحر الكاريبي لا يبعد عن أوروبا أكثر مما تبعد نيو أورليانز، ولكن كانت المشكلة الأساسية بالنسبة للمكسيك تتمثل في التكلفة المرتفعة لنقل البضائع بين البحر والهضبة المكسيكية الداخلية، التي كان يصل ارتفاعها إلى آلاف الأمتار. جرى «تحسين» الطريق بين فيراكروز ومكسيكو سيتي عدة مرات، في منتصف القرن الثامن عشر ومرة أخرى في عام 1804، وحتى آنذاك، كانت البضائع تنقل على ظهور البغال بدلا من العربات، وقد كان هذا الأمر مرتفع التكلفة للغاية؛ مما جعل أي عملية استيراد أو تصدير لمنتجات المزارع غير مربحة، وقد أضفى هذا أيضا مستوى أقل من الحماية على الصناعة المحلية. وقد رسخت القوانين الإسبانية التي حظرت التجارة مع أي دولة أخرى بخلاف إسبانيا، والتي كان الغرض منها - على غرار مثيلاتها الإنجليزية - الاستحواذ على سوق المستعمرات لصالح المصنعين الإسبان، من عزلة البلاد.
كان المنتج الوحيد الذي استطاعت المكسيك والأنديز تصديره هو الفضة. فبمجرد هزيمة الإسبان للسكان الأصليين، بدءوا في البحث عن المعادن النفيسة، وتمثلت أكبر الاكتشافات في منجم بوتوسي في بوليفيا (1545)، والمناجم المكسيكية في زاكاتيكاس (1545)، وجواناخواتو (1550)، وسومبريريت (1558).
كانت هناك مساوئ بارزة لكون الفضة سلعة التصدير الأساسية، وهي المساوئ التي حالت دون أن تنهج المكسيك والأنديز نهج أمريكا الشمالية في مسار تنميتها؛ أولا: كانت الفضة تؤدي إلى التضخم، وكانت اقتصادات بيرو والمكسيك قائمة على صك العملات، وكانت زيادة النقد تدفع بالأسعار والأجور إلى مستويات تفوق المستويات العالمية. على سبيل المثال، كان سعر القمح في المكسيك يبلغ من أربعة إلى عشرة أضعاف سعره في أمستردام. بلغت الأجور في المكسيك ضعف نظيراتها في إيطاليا والهند، فيما بلغت الأجور في الأنديز ضعف مثيلاتها في المكسيك. ظل هذا التفاوت قائما فقط بسبب ارتفاع تكلفة النقل، والقيود التي فرضتها إسبانيا على التجارة - والتي منعت الواردات الرخيصة من المنافسة في السوق المحلية (على الرغم من أن مشكلة التهريب ظلت تقض مضجعهم) - وارتفاع تكلفة المنتجات الصناعية الإسبانية نفسها، والتي تأثرت بالتضخم جراء اكتشاف مناجم الفضة الوفيرة في العالم الجديد. ثانيا: لم توفر الفضة العديد من فرص العمل؛ كان يعمل في مناجم الفضة 9143 رجلا في عام 1597، وكانت بوتوسي تستخدم 11000-12000 رجل في عام 1603، ثم انخفض حجم العمالة في بوتوسي إلى 4959 حوالي عام 1790. كان حجم العمالة في مناجم الفضة ضئيلا مقارنة بحجم العمالة الإجمالي، وكان أقل كثيرا من حجم العمالة في إنتاج وتوريد صادرات المزارع في أمريكا الشمالية. ثالثا: راكمت دائرة صغيرة من الملاك الأثرياء معظم الدخل الناتج عن استخراج الفضة بدلا من توزيعه على عموم السكان؛ وبناء عليه، ساهمت الفضة في خلق حالة من اللامساواة الشديدة بصورة استثنائية في أمريكا اللاتينية.
لم يكن اقتصاد المكسيك يقوم على سلعة أساسية على غرار نموذج أمريكا الشمالية. في عام 1800، بلغت الصادرات 4٪ فقط من إجمالي الناتج المحلي، بل ولم يكن الاقتصاد المكسيكي في معظمه له صلة بالصادرات؛ لذا اتبع توزيع الدخل في المكسيك قوانين مختلفة عن القوانين في المستعمرات البريطانية. في أمريكا الشمالية، كانت العمالة ورأس المال تنجذب إلى المستعمرة استجابة للفرص التصديرية، وكانت العائدات تذهب إلى إنجلترا؛ حيث كان على المستعمرة المنافسة على اجتذاب المستوطنين والاستثمارات. أما في المكسيك، كانت العوامل الداخلية هي التي تحدد الأجور، من خلال إجبار السكان الأصليين على العمل، وتحقيق التوازن بين الأراضي المتوفرة وحجم العمالة، وكفاءة الاقتصاد. كان العاملان الأولان هما الأكثر أهمية في فترة ما قبل تدمير جماعات السكان الأصليين قبل عام 1650، بينما كان العامل الثالث حاسما في الفترة التالية من النمو السكاني.
قبل عام 1650، أظهرت المكسيك نمطا شائعا في العديد من الاقتصادات ما قبل الصناعية؛ ألا وهو وجود علاقة عكسية بين تعداد السكان ومستويات الأجور. فعندما وصل الإسبان إلى المكسيك في عشرينيات القرن السادس عشر، كان تعداد السكان مرتفعا للغاية، وكانت الأجور منخفضة (الشكل
6-3 ). أدى الغزو الإسباني في حقيقة الأمر إلى خفض الأجور على نحو أكبر مما تسبب به ارتفاع عدد السكان. لكن مع انهيار جماعات السكان الأصلية، ارتفعت الأجور الحقيقية (على الرغم من وجود محاولات لفرض العمالة القسرية)، وارتفعت وصولا إلى الحد الأدنى من متطلبات الحياة في منتصف القرن السابع عشر. وعند هذا المستوى من الأجر، كان العامل الذي يعمل دواما كاملا يستطيع إعالة عائلة في حدود الحد الأدنى من المعيشة الكريمة.
بعد عام 1650، ارتفع تعداد المكسيك من 1-1,5 مليون نسمة إلى 6 ملايين نسمة في عام 1800. خلال الفترة نفسها، انفصمت عرى العلاقة العكسية بين عدد السكان ومستوى الأجور؛ إذ ارتفع الأجر ليصل إلى ضعف الحد الأدنى من متطلبات الحياة، على الرغم من زيادة عدد السكان، وهذه مسألة في غاية الأهمية. إن حجمي المعروض من العمالة والأجور لا يزيدان معا إلا إذا زاد الطلب على العمالة بمعدل أسرع من معدل العرض. وقد عكس ارتفاع حجم الطلب على العمالة ارتفاع حجم الإنتاجية عبر قطاعات الاقتصاد. شهدت الزراعة تحولات كبيرة من خلال تكامل منتجات المحاصيل الزراعية والحيوانات الأوروبية (القمح، والخراف، والماشية) مع المحاصيل المحلية (الذرة، والبقوليات، والقرع، والطماطم، والفلفل الحار). وقد أحدثت حيوانات الجر الأوروبية (الجياد والبغال) ثورة في النقل، واكتسبت عملية التصنيع دفعة من خلال صناعة المنتجات الجديدة (الأقمشة الصوفية)، وتركيز الإنتاج في مناطق متخصصة تدعم تقسيم العمل. كانت هذه هي خصائص الصناعة الإنجليزية التي جعلتها أكثر إنتاجية من مثيلتها الأمريكية وأعاقت التصنيع في المستعمرات. على النقيض، جعلت عزلة المكسيك والأنديز إلى جانب زيادة عدد سكانهما من عملية تنمية التصنيع ممكنة. بطبيعة الحال، حدث التوسع في اقتصاد أمريكا اللاتينية تحت الحكم الإسباني، وهو ما يظهر أن السياسات الإسبانية، مهما كانت غير ليبرالية، لم تكن رادعة بما يكفي للحيلولة دون التوسع الاقتصادي.
بينما حقق الاقتصاد المكسيكي نموا أثناء فترة الاستعمار، تميز المجتمع بوجود لامساواة ملحوظة بشدة . كان السكان منقسمين إلى فئات عرقية محددة وفقا للقانون، وكانت هذه التقسيمات تعكس الفجوات الاقتصادية بينها. تشير التقديرات إلى أنه في ذلك الوقت كانت الطبقة العليا الإسبانية (10٪ من إجمالي عدد السكان) تحصل على 61٪ من إجمالي الدخل، فيما كان المزارعون من السكان الأصليين (60٪ من إجمالي عدد السكان) يحصلون على ما لا يزيد عن 17٪. كانت اللامساواة في المكسيك أكثر بكثير من اللامساواة في مستعمرات نيو إنجلاند وإقليم الأطلسي الأوسط، وربما كانت تشبه مثيلتها في مناطق الكاريبي والمزارع في الجنوب الأمريكي، على الرغم من استحالة المقارنة الدقيقة في الوقت الحالي. وقد ثبت سوء أثر هذا القدر الضخم من اللامساواة على النمو بعد تحقيق الاستقلال.
الاستقلال: الولايات المتحدة الأمريكية
أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية الاستقلال عن بريطانيا في عام 1776، ووضعت أسس نظام الحكم فيها، وأقرت الدستور في عام 1787، وانطلق الاقتصاد في الفترة التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية (1790-1860)، فتضاعف تعداد السكان ثماني مرات، وتضاعف مستوى الدخل لكل فرد.
يمكن النظر إلى الاقتصاد في الفترة السابقة للحرب الأهلية كمثال آخر على نظرية السلعة الرئيسية.
فقدت سلع التبغ والأرز ونبات النيلة أهميتها كسلع أساسية، وحل محلها أهم السلع الأساسية على الإطلاق؛ القطن. ارتفع الطلب على القطن في بريطانيا مع اندلاع الثورة الصناعية. كان القطن يزرع في جورجيا، لكنه لم يكن نشاطا اقتصاديا مربحا حتى اخترع إيلي ويتني ماكينة حلج القطن في عام 1793. انتشرت الزراعة في إثر ذلك في الجنوب الأمريكي، وكان القطن يزرع في مزارع كبيرة يعمل فيها العبيد الذين زادت أعدادهم باستيرادهم حتى حظر الكونجرس استيرادهم في عام 1808. في نصف القرن التالي، ازدادت أعداد العبيد من خلال الزيادة الطبيعية بالتكاثر، وهو ما دعمه اقتصاديا التوسع السريع في صناعة المنسوجات القطنية. وفي عقد الخمسينيات من القرن التاسع عشر، كانت صناعة القطن صناعة شديدة الربحية، ولم تكن العبودية لتنتهي بدون الحرب الأهلية (1861-1865).
يرى منظرو نظرية السلع الأساسية أن صادرات القطن قادت قاطرة الاقتصاد الأمريكي بأسره. وفق هذه الرؤية، توسعت الزراعة في منطقة الغرب الأوسط بغرض تلبية احتياجات المزارع من الغذاء، وهو الاستنتاج الذي كان محل خلاف كبير. كان القطن مسئولا أيضا عن التحول إلى التصنيع في الشمال الشرقي؛ حيث كانت المزارع الجنوبية والغربية تمثل أسواقا لمنتجاته.
اعتمد التحول إلى التصنيع في الولايات المتحدة الأمريكية أيضا على أربع سياسات دعم، شكلت «النموذج القياسي» للتنمية الاقتصادية في القرن التاسع عشر. تمثلت السياسة الأولى في توفير التعليم العام، وقد قطعت أمريكا شوطا هائلا في هذا الاتجاه خلال فترة الاستعمار، واستمرت في القرن التاسع عشر، وكان يحركها الدوافع الاقتصادية بصورة متزايدة. أما السياسات الثلاث الأخرى فقد اقترحها ألكسندر هاميلتون في «تقرير عن المواد المصنعة» الذي وضعه عام 1792، وكانت تتألف من إدخال تحسينات في مجال النقل لتوسيع السوق، وتأسيس بنك قومي لتحقيق استقرار العملة ولضمان توفير رءوس الأموال، وفرض تعريفة على المنتجات لحماية الصناعة. ولولا وجود هذه التعريفة، ما كانت مشتريات المناطق الجنوبية والغربية من المصنوعات لتؤدي إلى تحول الولايات المتحدة إلى التصنيع؛ حيث إن بريطانيا كانت ستلبي الطلب عليها، مثلما قامت بذلك خلال الفترة الاستعمارية.
وصف هنري كلاي - سيناتور أمريكي - السياسات التي اقترحها هاميلتون ب «النظام الأمريكي»، غير أن هذه السياسات اعتمدت في دول عديدة بعد أن روج لها فريدريك ليست. كان وضع الدستور نفسه خطوة أولى في اتجاه التنفيذ؛ حيث إنه ألغى التعريفات بين الولايات ووضع أساسا قانونيا لسوق وطنية. جاءت الخطوات المتبقية من خلال إنشاء طريق كمبرلاند الذي يصل بين نهر بوتوماك ونهر أوهايو بين عامي 1811-1818، وقناة إيري التي تصل بين نهر هدسون وبحيرة إيري (1817-1825)، ووضع ميثاقي تأسيس أول وثاني بنك في الولايات المتحدة في عامي 1791 و1816، وفرض سلسلة من التعريفات الجمركية ابتداء من عام 1816.
قبل عام 1816، كانت الولايات المتحدة تفرض تعريفة جمركية منخفضة، بيد أن الحروب النابليونية استهدفت السفن الأمريكية، وهو ما أدى إلى اتخاذ الولايات المتحدة إجراءات حمائية، وحظر التجارة مع بعض الدول، والدخول في حرب مع بريطانيا في عام 1812. توسع التصنيع محتميا وراء هذه الحواجز. بعد هزيمة نابليون في معركة ووترلو في عام 1815، فرضت الولايات المتحدة تعريفة عام 1816 لحماية صناعاتها؛ حيث فرضت ضريبة بلغت نسبتها 20٪ على معظم السلع و25٪ على المنسوجات، وقد ارتفعت التعريفات في عامي 1824 و1828، بيد أن التعريفات المرتفعة كانت محل خلاف فتم تخفيضها مجددا في عام 1846.
صارت الحمائية سياسة أمريكية مميزة مع سيطرة مصالح الشمال على مقاليد الأمور في البلاد. زادت الحرب الأهلية من الحاجة إلى عائدات فيدرالية، فارتفعت التعريفات الجمركية من خلال تعريفة موريل التي فرضت في عام 1861. خلال القرن التالي، ارتفعت معدلات التعريفات الحمائية مرة تلو الأخرى، ووصلت ذروتها من خلال تعريفة سموت- هولي في عام 1930. فرضت المملكة المتحدة - التي انتهجت سياسة التجارة الحرة منذ إلغاء قوانين الذرة في عام 1846، والقوانين الملاحية بعدها بثلاث سنوات - تعريفة حمائية في عام 1932. استجابت معظم دول العالم بالطريقة نفسها خلال فترة الكساد الكبير، ولم تتغير الأمور إلا منذ الحرب العالمية الثانية، عندما سعت الولايات المتحدة إلى إلغاء نظام الحماية؛ حيث وجدت أن اختراق أسواق الدول الأخرى يخدم مصالحها بصورة أفضل من حماية أسواقها.
نمت صناعة القطن الأمريكية سريعا خلف جدار التعريفة الحمائية. في عقد الخمسينيات من القرن التاسع عشر، كانت الصناعة البريطانية هي الأكبر في العالم، وكانت تستهلك 290 ألف طن من القطن الخام سنويا، فيما احتلت الولايات المتحدة المرتبة الثانية (111 ألف طن)، وكانت تتقدم على فرنسا كثيرا، التي احتلت المرتبة الثالثة باستهلاك 65 ألف طن. كان ألكسندر هاميلتون وهنري كلاي يشعران بسرور بالغ إزاء التقدم الهائل الذي تحقق بفضل الدفعة الكبيرة التي قدمتها صادرات القطن للاقتصاد.
على أية حال، يمنح هذا الاستنتاج أهمية زائدة لصادرات السلع الرئيسية؛ أولا: على الرغم من أن القطن (وفيما بعد القمح) كان سلعة تدر عملة صعبة، لم تسهم إجمالي الصادرات منه بأكثر من 5-7٪ في إجمالي الناتج المحلي في الفترة بين عامي 1800-1860. كانت هذه النسبة أقل كثيرا من نسبة ال 30٪ التي حققتها مستعمرتا بنسلفانيا وكارولاينا الجنوبية الساحلية، ناهيك عن نسبة ال 41٪ التي حققتها جامايكا. لم تكن صادرات القطن والقمح كبيرة بما يكفي لدفع عجلة الاقتصاد في مرحلة ما قبل الحرب الأهلية. ثانيا: كان أداء سوق العمل أفضل كثيرا من توقعات نظرية السلع الأساسية. في القرن الثامن عشر، كانت الأجور الحقيقية في بنسلفانيا أكثر بقليل من الأجور الحقيقية في إنجلترا، وهو ما يتوقعه المرء إذا كانت الولايات المتحدة تحقق نموا وتجذب المهاجرين من أوروبا (الشكل
6-2 ). وفي ظل الاستقلال الأمريكي والحروب الأوروبية، انهار سوق العمل عبر المحيط الأطلنطي، فيما ارتفعت الأجور الحقيقية في الولايات المتحدة باستمرار في الوقت الذي بقيت الأجور البريطانية كما هي خلال الثورة الصناعية. بحلول عقد الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، صارت الأجور في الولايات المتحدة ضعف مثيلاتها في بريطانيا؛ ولكن إذا كان نموذج السلع الأساسية مطبقا فعلا، كان يجب أن تعمل الهجرة على إبقاء الأجور منخفضة.
يشير الارتفاع في إجمالي الناتج المحلي والأجور إلى أن الولايات المتحدة طورت القدرة على زيادة الإنتاجية من خلال جهودها الخاصة. وهنا يبرز سؤال رئيسي فيما يتعلق بنظرية السلع الأساسية؛ ألا وهو: كيف ومتى يحقق الاقتصاد نموا بما يتجاوز الاعتماد على سلعة أساسية؟ من الواضح أن الولايات المتحدة قد حققت هذا النمو في النصف الأول من القرن التاسع عشر. يتمثل أحد التفسيرات المقبولة في فرضية هباكوك التي تقول بأن وفرة الأراضي المجانية على الحدود أدت إلى ارتفاع الأجور الحقيقية - فلماذا يعمل المرء في نيويورك أو فيلادلفيا مقابل أجر منخفض إذا كان يستطيع الانتقال غربا وإنشاء مزرعة؟ - وهو ما أدى بدوره إلى تحفيز الشركات على ابتكار تكنولوجيا توفر في الأيدي العاملة أفضت إلى زيادة إجمالي الناتج المحلي لكل فرد، ثم ارتفاع الأجور أكثر فأكثر في نهاية المطاف. كانت الولايات المتحدة - بالإضافة إلى بريطانيا وهولندا - واحدة ضمن حفنة من الاقتصادات التي كانت دائما في المقدمة في ابتكار تكنولوجيا عالية الإنتاجية وكثيفة رأس المال في القرنين المنصرمين، مثلما ذكرنا في
الفصل الرابع .
وبالطبع، يمكننا أن نرى تطبيق هذه العوامل في صناعة المنسوجات القطنية. فقد تطلب نجاح هذه الصناعة فرض التعريفات الحمائية، لكنها لم تكن كافية وحدها، فاعتمد نجاح صناعة المنسوجات القطنية على الابتكارات التكنولوجية التي أفضت إلى ظهور تكنولوجيا موفرة في الأيدي العاملة . جعلت التكلفة المرتفعة للأيدي العاملة الشركات الأمريكية تجري تجارب على الماكينات ابتداء من العقد السابع من القرن الثامن عشر، بيد أن النجاح التجاري كان يتطلب عمالا ومديرين يمتلكون خبرة استخدام التكنولوجيا. في عام 1793، أنشأ صامويل سليتر - الذي كان يعمل في مصنع إنجليزي - أول مصنع ناجح تجاريا وأداره. تمثلت الطفرة التالية في إنشاء مصنع متكامل للغزل والنسيج الآلي من قبل شركة بوسطن للتصنيع في وولتهام، بماساتشوستس في عام 1813، وقد أسس فرانسيس كابوت لويل الشركة بعد زيارة بريطانيا ومعاينة الأنوال الآلية التي رسمها من الذاكرة، وقد نفذ نماذج الإنتاج مهندس يعمل لدى لويل اسمه بول مودي، ومن أبرز السمات التي تميز نظام لويل-مودي هي درجة إعادة تصميم التكنولوجيا البريطانية لملاءمة الظروف الأمريكية. بحلول العقد الثاني من القرن التاسع عشر، صار الدخل الحقيقي في أمريكا أعلى من نظيره في بريطانيا؛ ونتيجة لذلك، استخدم الأمريكيون النول الآلي بصورة أسرع من البريطانيين، وهكذا كانت أمريكا تتقدم لتقود العالم في التكنولوجيا الصناعية.
لم يقتصر التطور الأمريكي على صناعة المنسوجات القطنية فحسب؛ ففي عام 1782، أنشأ أوليفر إيفانز مصنع الدقيق الآلي الأول. قبل القرن التاسع عشر، كانت آلية إطلاق النار في المسدسات والبنادق تصمم وفق الطلب، وكان على صانع الأسلحة التوفيق بين المكونات المختلفة بغرض ضمان عمل آلية الإطلاق بسلاسة. كان الفرنسي أونريه بلون والأمريكي إيلي ويتني أول من جربا استخدام أجزاء متبادلة وفكرا في ذلك، بيد أن ذلك لم يكن ممكنا على نطاق واسع حتى اختراع ماكينة التفريز حوالي عام 1816. صنعت مصانع الأسلحة التابعة للحكومة الأمريكية في سبرنجفيلد وهاربرز فيري في عشرينيات القرن التاسع عشر أجزاء متبادلة بغرض استخدامها في البنادق. أبهرت الأسلحة الأمريكية التي عرضت في معرض كريستال بالاس في عام 1851 البريطانيين، حتى إنهم أرسلوا بعثة لدراسة «النظام الأمريكي». انتقلت فكرة تبادل القطع في الأسلحة إلى شركات تصنيع السلاح الخاصة مثل كولت، ثم إلى مصنعي الساعات في منتصف القرن التاسع عشر، ثم إلى الدراجات، وماكينات الخياطة، والماكينات الزراعية، وأخيرا إلى السيارات حيث كانت الأجزاء المتبادلة تمثل عنصرا مكونا أساسيا في نظام خط إنتاج فورد. اعتمد نجاح الاقتصاد الأمريكي على تطبيق الاختراعات الهندسية المبتكرة عبر القطاع الصناعي بأكمله، وكان الدافع إلى الميكنة هو ارتفاع تكلفة الأيدي العاملة، وقد تطلب تحقيق النجاح توافر عدد كبير من المخترعين المحتملين، وهذا التفاعل بين بروز التحديات والاستجابة لها هو ما جعل من الولايات المتحدة رائدة العالم في الإنتاجية بحلول الحرب العالمية الأولى.
الاستقلال: أمريكا اللاتينية
دامت الإمبراطورية الإسبانية لفترة 300 عام كتحالف بين الملكية وطبقة الصفوة من المستعمرين البيض. حاول ملوك البوربون الإسبان إقامة دولة اقتصادية-عسكرية حديثة في القرن الثامن عشر، بيد أن طلباتهم للحصول على العائدات كانت تقابل بالمقاومة في المستعمرات، ولكن كان يخفف من حدة رفض أوامر مدريد الانقسامات العرقية والاقتصادية في المجتمع الاستعماري. كانت الهجمات واسعة النطاق على البيض وممتلكاتهم، أثناء ثورة توباك أمارو في بيرو في عام 1780، أحد التحذيرات غير السارة الكثيرة بشأن المخاطر الكامنة في قاعدة الهرم الاجتماعي، وقد حصلت أمريكا الإسبانية على الاستقلال بحكم الأمر الواقع نظرا لغزو نابليون لإسبانيا في عام 1808، وثبت أن إعادة تأسيس الإمبراطورية أمر مستحيل. في المكسيك - على سبيل المثال - قاد ميجيل هيدالجو ثورة للسكان الأصليين في عام 1810 ضد حكم «البننسولارز» (البيض من مواليد إسبانيا)، وبينما راق الأمر للكريوليين (البيض من مواليد المكسيك) في البداية، حال عنف السكان الأصليين ضد البيض بصورة عامة من قيام حركة تمرد موحدة ضد إسبانيا، وقضي على التمرد في نهاية المطاف. وقد تحقق الاستقلال في عام 1821 من خلال انقلاب قام به الكريوليون للحفاظ على امتيازاتهم، والتي رأوا أنها تتهدد جراء صعود الليبرالية في إسبانيا.
أدى الاستقلال إلى عقود من الركود الاقتصادي التي تضرب بجذورها في معضلات المجتمع الاستعماري. كانت المنافسة الدولية المتزايدة تقوض القطاع الصناعي المكسيكي بالفعل في نهاية القرن الثامن عشر، وكانت النتيجة هي الانصراف عن التصنيع، مثلما حدث في الهند. ويوضح ألكسندر فون هومبولت ذلك قائلا: «كان يحتفى بمدينة بويبلا فيما سبق لمنتجاتها الجيدة من الفخار والقبعات.» مع «بداية القرن الثامن عشر»، أحيت الصادرات «من هاتين الصناعتين التجارة بين أكابولكو وبيرو»، ولكن دمرت الواردات الأوروبية هذه التجارة:
في الوقت الحاضر، لا يوجد أي اتصال بين بويبلا وليما، كما انخفض إنتاج الصناعات الفخارية كثيرا، بسبب انخفاض أسعار المنتجات الحجرية والخزفية الأوروبية التي تستورد عبر ميناء فيراكروز. ومن بين 46 مصنعا كان قائما في عام 1793، لم يتبق سوى 16 مصنعا للمنتجات الفخارية، ومصنعين لصناعات الزجاج في عام 1802.
انخفضت الأجور الحقيقية من قيمة بلغت ضعف الحد الأدنى من متطلبات الحياة في عام 1780، إلى قيمة الحد الأدنى في ثلاثينيات القرن التاسع عشر.
تأثرت صناعات المنسوجات أيضا بصورة سلبية بسبب الواردات البريطانية. كانت معظم الأقمشة المكسيكية مصنوعة من الصوف، فيما كانت الأقمشة القطنية تستورد من كتالونيا، وعندما أدى حظر بريطانيا للتجارة مع إسبانيا إلى قطع الواردات الإسبانية في تسعينيات القرن الثامن عشر، ازدهر إنتاج الأقمشة القطنية في بويبلا. دام ذلك الازدهار وقتا قصيرا حيث تواصل استيراد المنتجات الإسبانية بعد عام 1804، وأغرقت البلاد بالأقمشة القطنية البريطانية الرخيصة بعد الاستقلال، فانهارت صناعة القطن المكسيكية. كان رد الفعل إزاء ذلك هو تنفيذ إحدى صور النظام الأمريكي الذي وضعه هنري كلاي ومقترحات ليست في ألمانيا. فرض لوكاس ألامان - وزير الشئون الداخلية والخارجية آنذاك - تعريفة جمركية على واردات المنسوجات القطنية، وخصص بعض العائدات لصالح مصرف بانكو دي أفيو الذي تولى تمويل شراء المعدات للمصانع الجديدة، ولكن لم يتم إنشاء سوق وطنية حيث ظلت التعريفات المفروضة بين الولايات وبعضها، ولم يبذل جهد كبير لتطوير النقل، فضلا عن إهمال التعليم العام أيضا.
كانت محصلة هذا الأسلوب المتباين على القدر نفسه من التباين. فمن جانب، أقيم ما يقرب من 35 مصنعا لنسج القطن في الفترة بين عامي 1835 و1843. تعافت الأجور الحقيقية بعد عام 1840. ولكن على الجانب الآخر، لم يتوفر دافع كاف لوجود صناعة هندسية قوية؛ حيث كانت الماكينات تستورد، مثلما كان المهندسون الذين كانوا يركبون أجزاء هذه الماكينات ويشرفون على تشغيلها، بالإضافة إلى ذلك، لم تثمر هذه المصانع عن شيء؛ إذ كسدت الصناعة في منتصف القرن التاسع عشر، وكانت عمليات التطوير في الصناعات الأخرى هزيلة، ومن ثم فلم يكن الوضع يشير إلى تقدم بصفة عامة كما كان الحال في الولايات المتحدة.
وقعت فترة الازدهار الاقتصادي التالية خلال مرحلة الحكم الديكتاتوري لبورفيريو دياز بين عامي 1877 و1911. اعتمد دياز على استراتيجية التنمية في القرن التاسع عشر بصورة أكثر حماسة من لوكاس ألامان. نشأت سوق وطنية من خلال وضع برنامج شامل لإنشاء خطوط السكك الحديدية وإلغاء الضرائب على السلع العابرة للحدود بين الولايات. استخدمت التعريفات الجمركية لدعم الصناعات المكسيكية. تمثلت إحدى الأفكار الخلاقة في وضع السياسات في الاعتماد على الاستثمارات الأجنبية بدلا من الاعتماد على بنوك الاستثمار الوطنية للحصول على رأس المال. صار الاستثمار الخارجي أيضا وسيلة لإدخال التكنولوجيا المتقدمة إلى البلاد.
حققت التنمية الاقتصادية في عصر بورفيريو دياز نجاحا غير مكتمل. من جانب، تحقق نمو صناعي باهر؛ فارتفع إجمالي الناتج المحلي لكل فرد من 674 دولارا أمريكيا في عام 1870، إلى 1707 دولارات أمريكية في عام 1911. وعلى الجانب الآخر، كان الإسهام المحلي في التقدم التكنولوجي ضئيلا؛ حيث إن المهندسين الأجانب كانوا يركبون الماكينات المصممة في الخارج في المصانع، وهذا الغياب التكنولوجي كان يعني في نهاية المطاف عدم انتشار ثمار التنمية فيما وراء الصناعات التي تدعمها الدولة، بالإضافة إلى ذلك، لم توزع مكاسب النمو بصورة واسعة على الجميع؛ فكانت الأجور الحقيقية تسير في اتجاه انخفاض في ظل حكم دياز، ثم اندلعت الثورة في عام 1911.
التعليم والابتكار
لماذا حقق الاقتصاد الأمريكي نموا أسرع بكثير من نظيره المكسيكي؟ يعزي أحد التفسيرات المؤثرة سبب ذلك النجاح الأمريكي إلى «الجودة العالية» للمؤسسات الأمريكية، ويعزي أداء المكسيك إلى «الجودة المنخفضة» لمؤسساتها. لكن أي مؤسسات؟ تنبع المميزات الأمريكية من نظام إنجليزي قائم على حقوق الملكية والمحاكم، وسلطات تشريعية (وقضائية) تحد من السلطة التنفيذية ، والمساواة (باستثناء الجنوب)، والديمقراطية، وسياسات عدم التدخل في الاقتصاد (باستثناء التعريفات الجمركية). أما مساوئ النظام المكسيكي فتشمل نظام الملكية الجماعية للسكان الأصليين للأراضي، وغياب المساواة الاجتماعية والعرقية، والنظام السياسي الذي رسخ أسوأ ملامح الإرث الاستعماري التي تتمثل في مجموعة من المحاكم تتضارب ولاياتها القضائية، ودولة تنظم الاقتصاد بتدخل مفرط، ونظام ضريبي غير فعال (على الرغم من إمكانية التشكك في هذه العوامل في ضوء النمو الذي تحقق خلال الفترة الاستعمارية).
كان للسياسات الاقتصادية تأثير أكبر على الاقتصاد من هذه المؤسسات. كانت الولايات المتحدة في مقدمة الدول في تبني استراتيجية التنمية القياسية في القرن التاسع عشر مع بداية القرن، فأقيمت سوق وطنية بفضل الدستور الذي ألغى التعريفات بين الولايات، وبفضل إدخال التعديلات على وسائل النقل، وهي التعديلات التي زادت مع ابتكار تكنولوجيات جديدة (المراكب البخارية، خطوط السكك الحديدية)؛ وفرضت التعريفات الحمائية في عام 1816، وتأسس نظام مصرفي وطني للحفاظ على استقرار أسعار العملة، وتوفر التعليم العام خلال الفترة الاستعمارية. نفذت المكسيك هذه السياسات تدريجيا: التعريفات والبنوك في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وسوق وطنية بعد عام 1880، والتعليم العام في أواخر القرن العشرين. تفسر الاختلافات في السياسات التعليمية إلى حد كبير الاختلاف في مسارات التنمية.
يعكس اختلاف المسارات التكنولوجية الاختلافات في العرض والطلب على التكنولوجيا. في عام 1800، كانت الأجور الحقيقية في الولايات المتحدة أكثر بكثير من مثيلاتها في بريطانيا، خلقت هذه الميزة طلبا على الماكينات الموفرة للأيدي العاملة، مع تتابع الاختراعات وارتفاع الإنتاجية، ارتفعت الأجور أكثر، وصارت العملية متكررة. في المكسيك - على النقيض من ذلك - كانت الأجور أقل بكثير؛ لذا افتقرت إلى ذلك الدافع.
كان المعروض من التكنولوجيا أكثر بكثير في الولايات المتحدة عنه في المكسيك، ولم يرجع ذلك إلى الاختلافات الدينية أو إلى سمات قروسطية أو لاعقلانية خاصة بالثقافة الهسبانية. ونرى ذلك في رواية الجغرافي العظيم وأحد أهم دعائم العلم الألماني ألكسندر فون هامبولت، الذي عاش في المكسيك خلال عام 1803، والذي أبهره العلم المكسيكي:
لا تستطيع أي مدينة في القارة الجديدة - ولا حتى مدن الولايات المتحدة - أن تظهر هذا القدر من الإنجازات العلمية العظيمة والراسخة مثل عاصمة المكسيك.
ضرب هامبولت مثلا بجامعتها، وكلية المناجم بها، والمعاهد الفنية، والحديقة النباتية، وعلمائها. كانت الثقافة العلمية منتشرة بين العوام من خلال المحاضرات العامة، والتعليم العلمي الذي امتد إلى الأقاليم القصية:
لا يملك أي زائر أوروبي دون شك إلا الدهشة عند لقاء شباب مكسيكيين في أعماق الدولة على الحدود مع كاليفورنيا، يتناقشون حول تحلل المياه إلى عناصرها الأساسية في عملية الاندماج مع الهواء الطلق.
لم يكن غياب عصر التنوير هو ما أدى إلى تخلف المكسيك، بل النقص العام في مهارات القوى العاملة. وتعتبر معرفة القراءة والكتابة أحد المؤشرات؛ في الولايات المتحدة، كان أكثر من 70٪ من تعداد الذكور البيض البالغين يعرفون القراءة والكتابة بنهاية القرن الثامن عشر، ووصلت النسبة إلى ما يقرب من 100٪ بحلول عام 1850. على الجانب الآخر، لم يكن العبيد السود (14٪ من إجمالي السكان) يعرفون القراءة والكتابة، ومن ثم وصلت نسبة معرفة القراءة والكتابة إجمالا إلى 86٪. في المكسيك، كان السكان من البيض يتمتعون بقدرة كبيرة على القراءة والكتابة، فيما لم يكن باقي السكان كذلك: «لا يوجد سوى طبقة البيض التي يمكن أن تجد فيها ... شيئا من الثقافة الفكرية.» ولكن في المكسيك، كان البيض يشكلون نسبة 20٪ فقط من إجمالي عدد السكان؛ لذا كانت نسبة معرفة القراءة والكتابة الإجمالية تقترب من هذه النسبة.
تتضح الدلالة التكنولوجية لهذا التباين في سير حياة المخترعين في الولايات المتحدة وبريطانيا. كان جميع المخترعين يتمتعون بمعرفة القراءة والكتابة، فكان الأميون سيجدون صعوبة في الاختراع؛ حيث لم يكن باستطاعتهم الاطلاع على الكتب التقنية. بالإضافة إلى ذلك، كان المخترعون يديرون أعمالا تتضمن مراسلات وتوقيع عقود والحصول على براءات الاختراع، والتفاوض مع العملاء. حتى يصبح المرء جزءا من هذا العالم، يجب أن يمتلك القدرة على القراءة والكتابة. في الولايات المتحدة، كان معظم الذكور البيض أعضاء محتملين في هذا العالم، بينما في المكسيك، كان 80٪ من السكان مستبعدين من هذا العالم، ومن ثم تقلص نطاق الاستجابة الهندسية الخلاقة للتحديات المطروحة .
وهكذا يعتبر السبب المباشر في الاختلاف بين الدولتين واضحا؛ ألا وهو أن الولايات المتحدة كانت تمتلك مدارس أكثر من المكسيك. حققت مستعمرة نيو إنجلاند نسبة تقترب من 100٪ في معرفة القراءة والكتابة بين سكانها من الذكور خلال الفترة الاستعمارية، عن طريق مدارس تمولها الدولة وفرض التعليم الإجباري. قاد هوراس مان عملية تحديث التعليم في ماساتشوستس، وفي عام 1852 طبق نظام تعليمي على غرار النظام المطبق في بروسيا. انتشرت «حركة المدارس العامة» إلى الولايات الشمالية الأخرى، حيث كان التعليم يلبي حاجات الصناعة فيها. اكتسب التعليم العام طابعا أمريكيا مثلما كانت التعريفات الجمركية المرتفعة. في عام 1862، قدم عضو الكونجرس عن فيرمونت وهو جاستن سميث موريل - الذي كان يرعى مشروع قانون التعريفة الحمائية في العام السابق - مشروع قانون لمنح الأراضي الفيدرالية للولايات لتأسيس جامعات، ثم إنشاء أكثر من 70 «كلية على أراضي المنحة الحكومية». بين عامي 1910 و1940، شهدت «حركة المدرسة الثانوية» تأسيس مدارس ثانوية عامة في أنحاء البلاد، ومنذ الحرب العالمية الثانية، شهدت البلاد توسعا أكبر في إنشاء المدارس الثانوية والجامعات.
في المقابل، لم يكن هناك توسع مماثل في التعليم في المكسيك قبل القرن العشرين. أدت الثورة المكسيكية إلى ازدياد نسبة ارتياد المدارس، غير أنه في عام 1946 كان أكثر من نصف البالغين لا يزالون أميين. كان هناك توسع كبير في نشر التعليم على جميع المستويات خلال نصف القرن الماضي، ولكن بالنسبة للمكسيك، جاء التعليم متأخرا مدة قرنين.
لماذا انتهجت الولايات المتحدة والمكسيك مسارين متباينين؟ كان الطلب على امتلاك القدرة على القراءة والكتابة والمهارات الحسابية أكبر في الولايات المتحدة خلال الفترة الاستعمارية منه في المكسيك؛ نظرا لأن اقتصادات مستعمرات أمريكا الشمالية كانت اقتصادات تقوم على تصدير السلع الأساسية، وكان المستوطنون يتطلعون إلى بلوغ مستوى المعيشة الأوروبي عن طريق بيع قسط كبير من إنتاجهم لشراء السلع الاستهلاكية الإنجليزية، وكانت معرفة القراءة والكتاب تيسر من هذا النشاط التجاري. في المكسيك - على النقيض - كان السكان الأصليون أقل نشاطا على المستوى التجاري، ومن ثم لم يجدوا نفعا كبيرا لهذه المهارات.
كانت الحكومات أيضا أكثر حرصا على بناء المدارس في الولايات المتحدة من أمريكا اللاتينية. دعمت الاقتصادات القائمة على المساواة في نيو إنجلاند وإقليم الأطلسي الأوسط الكيانات السياسية الديمقراطية التي وفرت خدمات عامة مثل التعليم، والتي كانت مطلوبة على نطاق واسع. على النقيض ، كان يتولى إدارة المكسيك نخبة من الصفوة من المواطنين البيض والتي لم يخدم مصالحها نشر التعليم بين العامة؛ لذا ظل العامة غير متعلمين. كان مستوى اللامساواة مرتفعا، وكانت الحكومات في المكسيك تمثل نخبة صغيرة في الأنديز وفي المستعمرات التي قامت على استغلال عمالة العبيد مثل مستعمرات الكاريبي والبرازيل، وهو ما أدى إلى النتيجة نفسها: تعليم محدود في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية.
تقدم الولايات المتحدة مقارنة تكشف حقائق كثيرة؛ إذ إن أكثر مناطقها ازدهارا أثناء الفترة الاستعمارية قامت على استغلال عمالة العبيد، فلماذا لم تلق الولايات المتحدة مصير جامايكا أو البرازيل؟ بعد إلغاء العبودية وانتهاء عملية إعادة البناء ووضع أسس الجمهورية بعد الحرب الأهلية، سادت اللامساواة ولايات الجنوب أيضا، وكان يحكمها طبقة من النخبة التي لم تهتم بتعليم الأمريكيين من أصول أفريقية. ظلت نسبة الحصول على التعليم وجودة التعليم منخفضة حتى نهاية التمييز العنصري في ستينيات القرن العشرين، كان ذلك سببا رئيسيا في أن يصبح الجنوب أفقر المناطق في البلاد. إن الفارق الرئيسي بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية هو نسبة السكان الذين تعرضوا للإقصاء الاجتماعي. في الولايات المتحدة، شكل الأمريكيون من أصول أفريقية نسبة سبع إجمالي عدد السكان، بينما شكل السكان الأصليون والسود في أمريكا اللاتينية نسبة ثلثي عدد السكان الإجمالي، فلو كانت الولايات المتحدة تعاملت مع 70٪ من سكانها بالطريقة نفسها التي تعاملت بها مع الأمريكيين من أصول أفريقية، لما كانت النتيجة لتقتصر فقط على انتشار الظلم على نطاق أوسع، بل كانت تحقق الفشل على المستوى القومي؛ إذ إن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن لتصبح قط أحد مراكز القوة الاقتصادية في ضوء هذا المقدار المحدود من التعليم.
الفصل السابع
أفريقيا
لا يعتبر فقر القارة الأفريقية أمرا جديدا؛ فقد كان إقليم أفريقيا جنوب الصحراء هو الأكثر فقرا في العالم في عام 1500، ولا يزال كذلك، رغم زيادة الدخل لكل فرد. يهدف هذا الفصل إلى تحديد البنى والأحداث العارضة التي أبقت على فقر أفريقيا كل هذه الفترة.
إن «القائمة القصيرة» للأسباب المحتملة طويلة، فلا تزال الأيديولوجية الاستعمارية تسيطر على بعض الدوائر الغربية، حيث يعزى فقر الأفارقة إلى كسلهم المتخيل أو افتقارهم إلى الذكاء، كما تشتمل التصورات الأكثر تعقيدا على أن التقاليد أو سيادة القيم غير التجارية تحد من قدرات الأفارقة، ولكن لا يصمد أي من هذه الادعاءات في وجه الفحص التاريخي للمسألة.
تعتبر التفسيرات المؤسساتية لأسباب فقر القارة الأفريقية من التفسيرات المفضلة أيضا. تعتبر تجارة العبيد تفسيرا رائجا، بل إن الدول الأكثر فقرا في القارة الأفريقية اليوم هي أكثر الدول التي كانت تصدر العبيد، لكن مع ذلك لا تزال الدول التي قاومت المستعبدين بكل ما أوتيت من قوة شديدة الفقر بمعايير اليوم، ومن ثم لا بد وأن هناك سببا آخر. يعتبر الاستعمار من التفسيرات المفضلة كذلك؛ حيث كان الاستعمار يهدف في كثير من البلاد إلى نقل الثروة من يد الأفارقة إلى الأوروبيين. ورغم حدوث بعض التطوير في ظل الحكم الاستعماري، إلا أن الإدارة الأوروبية لم تدشن النمو الاقتصادي الحديث في الدول الأفريقية. يرى منظرو نظرية التبعية أن السبب يكمن في العولمة الشديدة؛ حيث يرى هؤلاء أن تركيز القارة الأفريقية على تصدير المواد الأولية كان في غير صالح القارة على المدى الطويل. وأخيرا، أكد الكثير من المراقبين مؤخرا على عوامل الفساد، والتدخلات الحكومية، والحكم الشمولي للحكومات الأفريقية. إذا حلت حكومات تديرها إدارات أوروبية محل الدول الفاشلة، فمن شأن اقتصادات الدول الأفريقية أن تنطلق، لكن شريطة أن يديرها الأجانب بالطريقة الصحيحة هذه المرة.
لفهم أسباب فقر أفريقيا اليوم، يجب أن نفهم أسباب فقرها عام 1500. يعتمد التفسير على الجغرافيا، والديموجرافيا، وأصل الزراعة. حددت البنية الاجتماعية والاقتصادية في عام 1500 طريقة استجابة القارة للعولمة والاستعمار؛ وطريقة الاستجابة هذه هي ما أبقت على فقر القارة منذ ذلك الحين.
أفريقيا ومسألة الفجوة الكبرى
كانت منطقة أفريقيا جنوب الصحراء فقيرة في عام 1500؛ نظرا لأنها لم تكن حضارة زراعية متقدمة، ولم يكن هناك سوى حضارات زراعية متقدمة قليلة فقط في أوروبا الغربية والشرق الأوسط وبلاد فارس وأجزاء من الهند والصين واليابان. كانت دول هذه المناطق في وضع يسمح بوقوع ثورة صناعية فيها، بخلاف بقية دول العالم - بما في ذلك أفريقيا - ولهذا السبب لم يتضمن النقاش حول مسألة الفجوة الكبرى القارة الأفريقية.
توفرت لدى الحضارات الزراعية العديد من المميزات التي باعدت بينها وبين أفريقيا؛ مثل وجود زراعة منتجة، وتصنيع متنوع، وموارد مؤسساتية وثقافية لازمة للنمو الاقتصادي الحديث. شمل ذلك الملكية الخاصة للأراضي والعمال من غير مالكي الأراضي، فضلا عن العوامل الثقافية المصاحبة اللازمة لتنظيم الملكية والتجارة؛ مثل مهارات الكتابة ومسح الأراضي والهندسة وعلم الحساب وأدوات القياس والأوزان القياسية والعملات ونظام قانوني يقوم على أساس الوثائق المكتوبة، ووجود مسئولين يتولون إدارة هذه الوثائق. كانت هذه العوامل الثقافية ضرورية لدعم تقدم التجارة ولتطوير التعليم والرياضيات والعلوم، ولظهور الاختراعات ونشر التكنولوجيا الحديثة. كانت منطقة أفريقيا جنوب الصحراء تفتقر إلى هذه الشروط المسبقة، كما افتقرت إليها كثير من مناطق جنوب شرق آسيا وأستراليا ونيوزلندا وشمال أوراسيا وبولينيزيا والأماكن غير كثيفة السكان في الأمريكتين.
تأثر مسار أفريقيا التاريخي بطبيعة الزراعة المبكرة وبعلاقتها بالسكان. في حوالي عام 3000 قبل الميلاد، جاءت الخراف والماشية للمرة الأولى قادمة من منطقة الشرق الأوسط للرعي في منطقة الصحراء (التي كانت أقل جفافا مما هي اليوم)، وكان القمح والشعير يزرعان في وادي النيل وعلى الهضبة الأثيوبية. لاحقا، توسع الأثيوبيون في مجموعة النباتات التي كانوا يزرعونها، فصاروا يزرعون التف ودخن الأصبع والسمسم والخردل ونبات الإينسيت والبن. تطورت وسائل زراعة مختلطة حيث كانت المحاريث التي تجرها الثيران تحرث الحقول التي كان روث الخراف والماشية يستخدم كسماد لها، كانت هناك أيضا استثمارات في أساليب عمل المدرجات الزراعية والري. كانت أثيوبيا هي الدولة الوحيدة في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء التي طورت حضارة زراعية متقدمة. وبين حوالي عامي 2000-1500 قبل الميلاد ، صار الدخن والذرة الرفيعة يزرعان بالقرب من منطقة بحيرة تشاد، وكان المزارعون يربون الخراف أيضا، غير أن الزراعة المختلطة لم تمارس مثلما كانت تمارس في أثيوبيا. وإلى اليوم، تزرع الذرة الرفيعة والدخن من خلال أنظمة متغيرة تستخدم فيها المعاول بدلا من الثيران والمحاريث. وفي النهاية، شكلت البطاطا وزيت النخيل أساس الزراعة في منطقة الغابات المطيرة، وزرعت البطاطا في نيجيريا حيث تمثل محصولا زراعيا مزدهرا إلى اليوم. غابت تربية الماشية؛ حيث نفقت الجياد والماشية والخراف جراء الإصابة بمرض النوم الذي حملته ذبابة تسي تسي التي تعيش في مناطق الغابات المطيرة.
كان نظام الزراعة في منطقة غرب أفريقيا يستفيد من الفرص الجديدة أنى توافرت. بين القرنين الأول والثامن الميلاديين، جرت زراعة محاصيل جديدة قادمة من آسيا، منها الموز وموز الجنة (لسان الحمل) والبطاطا الآسيوية والقلقاس والبقوليات. وفي القرن التاسع عشر، ازدادت القائمة كثيرا مع زراعة الذرة والكسافا والفول السوداني والتبغ القادمة من الأمريكتين، وسرعان ما صارت هذه المحاصيل محاصيل «تقليدية»، مما يبين مدى عبثية مبدأ «التقاليد الثابتة» كتفسير لفقر القارة الأفريقية.
أدت زراعة المحاصيل إلى قيام قرى زراعية دائمة، وإلى ارتفاع معدلات المواليد في أفريقيا مثلما ارتفعت في كل مكان حول العالم، وفي منطقة المرتفعات الأثيوبية - التي تغيب عنها أمراض المناطق الاستوائية - زاد عدد السكان سريعا. ومع شح الأراضي، لم تملك الدولة والطبقة الأرستقراطية سوى تأجير الأراضي أو فرض الضرائب عليها لتوفير مصادر التمويل اللازمة لها. خضعت الأراضي ذات الملكية الجماعية للخصخصة، وظهرت طبقة العمال الذين لا يملكون أي أراض كأفراد فقدوا حق الزراعة حيثما أرادوا. أقيمت مملكة ديموت في شمال إثيوبيا وإريتريا في القرن الثامن قبل الميلاد، كانت الزراعة في هذه المملكة تقوم على الحرث والري، وكان الحديد معروفا فيها، وكانت لغتها مكتوبة. وخلفت مملكة ديموت مملكة أكسم التي كانت أعظم منها.
ظل نمو التعداد السكاني في أفريقيا محدودا؛ لأن الأمراض الاستوائية جعلت معدلات الوفيات مرتفعة. ظهرت أكثر صور قاتلة من مرض الملاريا والبعوض المصاحب للمرض («المتصورة المنجلية» و«الأنوفيلة الجامبية ») في الوقت نفسه تقريبا الذي بدأ فيه مزارعو البطاطا في إزالة الأشجار من الغابات المطيرة تمهيدا لزراعتها، وربما أسهمت عمليات إزالة الغابات هذه في تطور المرض، كما لعبت الأمراض الاستوائية الأخرى مثل مرض النوم دورا في ارتفاع معدلات الوفيات.
ظلت منطقة غرب أفريقيا منطقة تتوافر فيها الأراضي الصالحة للزراعة بكثرة، وكان نمط الزراعة المتنقلة هو الاستجابة المناسبة لهذه الظروف، ومن أمثلة الجماعات التي مارست هذا النمط من الزراعة جماعة ياكو التي كانت تعيش في منطقة الغابات المطيرة في شرق نيجيريا، وكانت تعتمد على البطاطا كمادة أساسية في غذائها. في ثلاثينيات القرن العشرين، كانت قرية أومور التي تعيش فيها جماعة ياكو تمتلك 40 ميلا مربعا من الأراضي الصالحة للزراعة، ولكن لم يزرع من هذه الأراضي إلا ثلاثة أميال مربعة سنويا. بعد موسم الحصاد، كانت الأراضي تترك لتستعيد خصوبتها لمدة ست سنوات، وكانت أراض أخرى تمهد لزراعتها. ومع السماح بإراحة الأرض، لم يكن يستخدم سوى 21 ميلا مربعا فقط من إجمالي 40 ميلا مربعا صالحة للزراعة، فيما كانت تترك المساحة المتبقية للأطفال أو لكل من يحتاج إلى أرض؛ ومن ثم، لم تكن هناك طبقة من العمال الذين لا يملكون أراضي في القرية، مثلما لم يوجد طلب على الأراضي لشرائها أو استئجارها، حيث كان يستطيع أي شخص إزالة الغابات عن أي مساحة من الأراضي دون التعدي على ملكية أحد.
لم تتطلب زراعة البطاطا واستخلاص الزيت والنبيذ من النخيل عملا كثيرا، وكانت توفر ما يكفي من الغذاء للبقاء على قيد الحياة. يبين الجدول
7-1
1
المجموعة (أ)، إعادة تصور لإنتاج الطعام لعائلة من جماعة ياكو في قرية أومور، تتكون العائلة من رجل وزوجتين وأربعة أو خمسة أطفال. سنويا، كانت العائلة تزرع 1,4 فدان من البطاطا وبعض القلقاس واللوبيا واليقطين والبامية وبعض أنواع الخضروات الأخرى، كانت الوجبة تتألف من الخضروات بصورة أساسية، فيما كانت تصطاد بعض حيوانات البرية وتشترى كمية قليلة من اللحوم لإضافتها إلى البطاطا، بالإضافة إلى ذلك، كانت العائلة تستهلك زيت النخيل ونصف جالون من نبيذ النخيل يوميا، بلغ مقدار الطاقة التي يتحصل عليها الفرد الذكر البالغ 1941 سعرا حراريا يوميا. كان هؤلاء الأشخاص يعيشون على الحد الأدنى من متطلبات الحياة، وكانت زراعة الحدائق واستخلاص الزيوت والنبيذ من النخيل تحتاج سنويا من ثلاثة أشخاص بالغين إجمالي مجهود يعادل 400 يوم من العمل . كان نمط استهلاك الأفارقة على الأرجح متشابها قبل قدوم الأوروبيين.
جدول 7-1: دخل عائلة من جماعة الياكو في ثلاثينيات القرن العشرين.
المجموعة (أ): إنتاج الغذاء واستهلاكه
تتألف العائلة من رجل وامرأتين، و3-4 أطفال (ما يكافئ 4,75 أشخاص بالغين).
تزرع العائلة 1,4 فدانا من البطاطا، تزرع مع اليقطين والبامية. يستخلص زيت النخيل ونبيذ النخيل من نباتات النخيل البرية.
مكافئ استهلاك الغذاء لكل شخص بالغ.
كيلوجرام/عام
كيلو سعر حراري/يوم
عدد جرامات البروتين/يوم
البطاطا
489,2
1582
20,5
لوبيا
12,4
114
8,0
لحوم
4,4
30
2,4
يقطين
9,6
7
0,2
بامية
9,6
8
0,5
زيت نخيل
2,1
50
0
نبيذ نخيل
174,7
150
1,0
الإجمالي
1941
32,6
تستغرق زراعة مساحة من الأرض بالبطاطا فترة 307 أيام.
تتطلب منتجات النخيل 93 يوما.
اللحوم تشترى.
المجموعة (ب): منتجات النخيل التي تنتج بغرض البيع
زيت نخيل
12 وعاء تكافئ 36 رطلا
بذور النخيل
747 رطلا
نبيذ النخيل
93 زجاجة نصف جالون
تتطلب منتجات النخيل التي تباع 155 يوما من العمل.
حدت الكثافة المنخفضة للسكان وارتفاع تكاليف النقل من إمكانات التخصص في إنتاج سلع مصنعة تلبي احتياجات أسواق كبيرة. كانت هناك صناعة للحديد نشأت في منطقة غرب أفريقيا في حوالي عام 1200 قبل الميلاد، غير أن إجمالي الإنتاج كان منخفضا. كان القطن يزرع في منطقة السافانا وينسج ليصبح قماشا عن طريق أنوال يدوية. كانت صناعة القطن تتركز حول مدينة كانو، غير أن حجم الإنتاج - على غرار صناعة الحديد - كان منخفضا. وبدلا من شراء المنتجات المصنعة، كان معظم الناس يصنعون أدواتهم البسيطة وملابسهم المصنوعة من لحاء الأشجار بأنفسهم؛ ونتيجة لذلك، كانت مجموعة البضائع الاستهلاكية المتوافرة محدودة، وكان الناس يزرعون ما يكفي حاجتهم من الطعام فحسب؛ حيث لم يكن هناك شيء يحتاجون إلى شرائه بفائض الدخل. كانت الزراعة تستغرق جزءا من السنة فحسب، فيما كانوا يقضون باقي السنة في فراغ.
في ظل هذا النظام من الإنتاج، كان هناك نمطان مفضلان من السياسات؛ تمثل الأول في نظام الجماعة أو القبيلة التي تتألف من كونفدرالية من المزارعين في منطقة ما، وكانت الجماعة أو القبيلة تنظم عملية توزيع الأراضي وحل المنازعات حول سبل استخدامها، وكان أفراد القبيلة من الرجال يؤلفون جماعة مسلحة للدفاع عن الأراضي ضد الجماعات الأخرى، وكان قادة الجماعات أو القبائل هم «زعماءها»، وكانوا يحتلون مكانتهم من خلال المعتقدات الدينية، وكانت المساواة النسبية تغلب على هذا النظام السياسي.
كانت الزراعة المتنقلة تشمل سمة واحدة أدت إلى ظهور التنظيم الاجتماعي الهرمي، وكانت هذه السمة هي وقت الفراغ الكبير الذي يتمتع به المزارعون. فإذا ما أجبروا على العمل لأوقات أطول، كانوا سيزرعون المحاصيل التي تزيد عن حاجة الحد الأدنى من متطلبات الحياة، وكان ذلك الفائض من شأنه أن يوفر الراحة التامة والدائمة للبعض، أو (على المستوى السياسي) لتوفير الغذاء للمؤسسة العسكرية. وهكذا، إغراء عدم العمل إطلاقا والقوة جعل من العبودية مسألة إجبارية، لكن تمثلت صعوبة ذلك في أن المساحات الخالية من الأراضي كانت توفر للعبيد الفرصة للهرب وإطعام أنفسهم. وتقدم الكونجو تحت الاحتلال الفرنسي أمثلة خلال القرن العشرين؛ إذ كان سكان القرى يهربون إلى الغابات المحيطة ويعيشون لسنوات معتمدين في غذائهم على الصيد لتفادي التجنيد العسكري أو العمالة القسرية في مزارع المطاط. تغلب الزعماء الأفارقة على ذلك الخيار من خلال الإغارة على المناطق المجاورة لجلب العبيد، بحيث لا يفهم العبيد من هذه المناطق اللغة المحلية، ولا يعرفون سبل المعيشة في البيئة المحلية الجديدة، ولكن بطبيعة الحال، كان أبناء هؤلاء العبيد يتعلمون الحياة في البيئة الجديدة؛ لذا لم تدم العبودية عادة لأكثر من جيل واحد، وكان أبناء العبيد يعترف بهم كأفراد في القبيلة. لقد كانت العبودية شائعة في أفريقيا قبل وصول الأوروبيين، بل وكانت الأساس الذي قامت عليه الكثير من الدول فيها.
بينما كانت هناك دول في أفريقيا، إلا أنها كانت تختلف عن الدول في الاقتصادات الزراعية المتقدمة. كانت الدول الزراعية توفر مصادر للتمويل من خلال فرض الضرائب على الأراضي، أو تأجير أملاك الدولة . كان ذلك غير ممكن في أفريقيا؛ حيث كانت الأراضي متوفرة بكثرة جعلتها عديمة القيمة؛ ونتيجة لذلك، افتقرت الدول الأفريقية إلى المؤسسات القانونية والثقافية التي استخدمتها المجتمعات الزراعية المتقدمة لتنظيم الملكية الخاصة؛ مثل عمليات مسح الأراضي وعلم الحساب والهندسة والكتابة. أما الاستثناءات التي تثبت القاعدة، فتتمثل في إمبراطوريات غرب أفريقيا في مناطق السافانا مثل غانا ومالي وصنغاي؛ إذ كانت الأراضي الزراعية تخضع للملكية الجماعية وكانت العبودية منتشرة. وعلى أية حال، كانت عائدات الدولة تأتي بصورة أساسية من خلال فرض الضرائب على التجارة العابرة لمنطقة الصحراء الكبرى وإنتاج الذهب (وليس الزراعة). وصار الإسلام الدين الرسمي لهذه الإمبراطوريات، وساهم في إدخال الكتابة وقوانين الملكية لحل المشكلات الإدارية التي يواجهونها.
تجارة العبيد
أدى وصول الأوربيين إلى تحولات هائلة في المجتمعات التي كانت تمارس الزراعة المتنقلة؛ إذ أدخل الأوروبيون مجموعة من السلع أكبر بكثير مما كان لدى السكان الأصليين. لم يستغرق الأمر طويلا حتى يدرك السكان الأصليون في الأمريكتين أو في بولينيزيا أو أفريقيا أن القطن يصنع منه ملابس أفضل من الملابس التي تصنع من لحاء الأشجار، أو أن البنادق كانت أكثر فتكا من الرماح. وفي عام 1895، شقت ماري كينجسلي طريقها عبر الجابون في رحلة شاقة، وأشارت إلى أن معظم الأفارقة:
شبابا كانوا أو كبارا، رجالا أو نساء، يعتبرون التجارة أهم شئون الحياة، ويمارسونها بمجرد قدرتهم على السير، ولا يدعونها حتى بعد موتهم، وذلك وفق رواياتهم عن ظهور أرواح التجار البارعين وتدخلها في أمور السوق.
لم تكن أفريقيا حالة فريدة في هذا الصدد. قبل قدوم الفرنسيين، كان السكان الأصليون في أمريكا الشمالية من الهورون يطهون طعامهم في جذوع الأشجار المفرغة المملوءة بالمياه التي كانت تغلى بالأحجار الساخنة. أبهرت القدور التي جلبها تجار الفراء الفرنسيون السكان المحليين، لدرجة أنهم ظنوا أن الرجل الذي يصنع أكبر القدور حجما هو ملك فرنسا! كان السكان في حاجة إلى بيع شيء في مقابل شراء القدور والفئوس والأقمشة الأوروبية، وعندما عثروا على ضالتهم في سلعة أساسية، زادوا من عدد أيام عملهم في السنة لإنتاجها بغرض التصدير. في أمريكا الشمالية، كانت السلعة الرئيسية هي الفراء. في حوالي عام 1680، كان أحد أفراد قبائل المكماك يمزح مع أحد الرهبان الفرنسيسكان الفرنسيين قائلا:
في حقيقة الأمر يا أخي، إن حيوان القندس يتولى توفير كل شيء تقريبا لنا ؛ فهو يوفر لنا القدور والفئوس والسيوف والسكاكين، ويوفر لنا الشراب والغذاء دون عناء زراعة الأرض.
كانت منطقة غرب أفريقيا تصدر الذهب إلى منطقة حوض البحر المتوسط والعالم العربي، ولكن في القرن السادس عشر برزت سلعة تصديرية أكثر أهمية؛ ألا وهي العبيد. خلق اقتصاد السكر في الأمريكتين طلبا ضخما على العمالة التي كان من الممكن تلبيتها بأقل تكلفة ممكنة من خلال شراء العمال. في عام 1526، شكى ألفونسو الأول - ملك الكونجو الأفريقي الذي سعى لتحويل شعبه إلى اعتناق المسيحية - إلى ملك البرتغال جواو الثالث من أن «الكثيرين من رعايانا يلهثون وراء المنتجات البرتغالية التي جلبها رعاياكم إلى أراضينا، ولتلبية هذا الشره غير العادي، فإنهم يأسرون الكثير من رعايانا السود الأحرار ... [و] يبيعونهم» إلى تجار العبيد على الساحل. في القرن السابع عشر، لبت ممالك مثل داهومي وأشانتي - والتي كانت قائمة على العبودية لفترة طويلة - الطلب الخارجي على العبيد من خلال الحروب والغارات. وكان الأسرى يقتادون إلى الساحل حيث كانوا يباعون إلى السفن الأوروبية. واستغل الملوك الأفارقة عائدات عمليات بيع العبيد في شراء الأسلحة (التي ساعدت في زيادة سلطتهم، وساعدتهم على الإغارة على المناطق المجاورة لأسر العبيد) والمنسوجات والمشروبات الكحولية. بين عامي 1500 و1850، نقل ما بين 10 إلى 12 مليون عبد إلى العالم الجديد، كما اقتيد الملايين عبر الصحراء الكبرى أو عبر البحر الأحمر والمحيط الهندي لبيعهم في آسيا.
التجارة المشروعة
في القرن الثامن عشر، اتخذت الآراء المتنورة والآراء الدينية موقفا مناهضا للعبودية، وألغيت تجارة العبيد في الإمبراطورية البريطانية في عام 1807. حلت الصادرات الجديدة محل العبيد، أو ما كان يطلق عليها اسم «التجارة المشروعة». كانت السلعة الأولى هي زيت النخيل، والتي لاقت طلبا كمادة تشحيم في الماكينات وآلات السكك الحديدية، فضلا عن صناعة الصابون والشموع. في عام 1842، أخبر فرانسيس سوانزي - وهو قاض إنجليزي في منطقة الساحل الذهبي - لجنة برلمانية بريطانية كيف ساهمت التجارة في المنتجات التصديرية الجديدة في زيادة مجهودات العمالة الأفريقية، من خلال إتاحة فرصة شراء السلع الاستهلاكية:
تزداد احتياجات الناس يوميا، وإذا قصدت منزل أحد السكان الأصليين، ستجد قطعا من الأثاث الأوروبي؛ وستجد أيضا أدوات زراعية أوروبية، وملابس أكثر. في حقيقة الأمر، تتحسن أحوال السكان الأصليين كثيرا، وتزداد احتياجاتهم، ولن يستطيعوا تلبية احتياجاتهم عن طريق الاستلقاء في دعة تحت الشمس، بل يجب أن يعملوا.
بلغت الأقمشة القطنية أكثر من نصف الصادرات البريطانية إلى منطقة غرب أفريقيا، فيما شكلت المعادن والمنتجات المعدنية - بما في ذلك الأسلحة - النسبة الباقية، وعندما تلقى سوانزي سؤالا عن كيف يتمكن السكان الأصليين من دفع مقابل المنتجات البريطانية، أجاب:
يذهبون إلى الغابات وينقبون عن الذهب؛ ويعمل الكثيرون منهم على استخلاص زيت النخيل. قبل عشرين عاما، كانت الصادرات نادرة، أما الآن تصدر كميات هائلة من المنتجات، كما يصدر الفول السوداني أيضا.
كان الزيت ينقل إلى الساحل عبر الشبكات التجارية التي كان ينتقل العبيد عبرها، وكانت نيجيريا أكبر المصدرين، بيد أن الإنتاج انتشر في منطقة غرب أفريقيا، واتسعت الفرص التجارية أكثر في منتصف القرن التاسع عشر، حينما اكتشف أن بذور فاكهة النخيل يستخلص منها زيت يصلح لإضافته إلى السمن. كان يمكن زراعة النخيل في المزارع، بيد أن استخلاص الزيوت من النخيل ظل حرفة الأفراد الذين كانوا يستخلصونها من أشجار النخيل في البراري. في نيجيريا في أوائل القرن العشرين، على سبيل المثال، جرى استخلاص الزيوت من 2,4 مليون هكتار من مناطق الشجيرات البرية، في مقابل 72 ألف هكتار في المزارع الخاصة الكبيرة، و97 ألف هكتار من المزارع الصغيرة. وكانت عائلة الياكو التقليدية التي تحدثنا عنها سابقا تعمل 155 يوما إضافيا سنويا لإنتاج 12 عبوة سعة أربعة جالونات (زنة كل واحدة منها 36 رطلا) من زيت النخيل، وأكثر من 700 رطل من بذور النخيل، و93 زجاجة سعة نصف جالون من نبيذ النخيل التي كانت تباع محليا، وكانت الأقمشة والملابس أكثر المنتجات التي يقبل السكان على شرائها، لكنهم كانوا يشترون أيضا أدوات الطهي والأواني ومستلزمات التجميل والحلي (جميعها مستورد)، واللحم.
بما أن السبب وراء إنتاج الأفارقة لزيت النخيل هو شراء السلع الأوروبية، كان الدافع إلى ذلك يعتمد على كمية الملابس التي يستطيع الحصول عليها في مقابل كل علبة زيت يبيعونها. يبين الشكل
7-1
سعر زيت النخيل مقارنة بالأقمشة القطنية في موانئ غرب أفريقيا، ابتداء من عام 1817 إلى اليوم. في حالة زيت النخيل، كان هناك ارتفاع هائل في سعر الزيت مقارنة بالأقمشة منذ عام 1817 إلى منتصف القرن التاسع عشر. استطاع الأفارقة شراء المزيد والمزيد من الأقمشة مقابل الزيت الذي كانوا ينتجونه خلال هذه الفترة، وهو ما دفعهم إلى زيادة الإنتاج. ارتفعت الواردات البريطانية من أطنان قليلة سنويا في عام 1800 إلى 25 ألف طن في منتصف القرن التاسع عشر، ثم إلى 100 ألف طن تقريبا مع حلول الحرب العالمية الأولى.
شكل 7-1: سعر زيت النخيل مقارنة بسعر الأقمشة القطنية.
شكل 7-2: سعر الكاكاو مقارنة بسعر الأقمشة القطنية.
لم تكن منتجات النخيل هي الصادرات الوحيدة في منطقة غرب أفريقيا؛ فكان الكاكاو مثالا آخر على قصة نجاح عظيمة. أتى الكاكاو في الأساس من الأمريكتين، وبدأت زراعته في أفريقيا في القرن التاسع عشر. في بريطانيا، تضاعف سعر الكاكاو مقارنة بسعر الأقمشة القطنية بين أربعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر (الشكل
7-2 )، وهذه الزيادة هي ما دفع الأفارقة (لا الأوروبيين!) إلى إجراء التجارب لإنتاجه، والذي بدأ على نطاق واسع في غانا في تسعينيات القرن التاسع عشر. ونظرا لأن الكاكاو لم يكن نباتا أصليا، كان يجب إزالة الغابات وزراعة الأشجار؛ مثل هذا تحديا لنظم الملكية الجماعية التي كانت تسمح لأي من أعضاء القبيلة بالاستحواذ على الأراضي الخالية. أدخل الأفارقة تعديلات على نظام الملكية الخاص بهم لتسهيل عملية زراعة الكاكاو، وتمثل أحد الحلول في فصل ملكية الأشجار عن ملكية الأراضي، بحيث كان يضمن صاحب الأشجار تحقيق عائدات على استثماراته، بغض النظر عمن كان يزرع البطاطا أو الكسافا في الحقول المجاورة.
نفذت جماعات الكروبو حلا أكثر جذرية؛ أجرت جماعات الكروبو عمليات شراء جماعية للأراضي من القبائل الأخرى، ثم تولت تقسيمها فيما بين أعضائها إلى حيازات فردية، وبمجرد الانتهاء من زراعة الأراضي التي يمتلكونها، يكررون العملية نفسها متجهين غربا عبر غانا، ثم وصولا إلى ساحل العاج في نهاية المطاف؛ ونتيجة لذلك، امتلك العديد من أفراد جماعة الكروبو قطع أراض في أماكن متفرقة عبر هذه الدول، فكانوا يزرعون بعضها ويؤجرون بعضها. وتطلبت الهجرة والاستقرار استثمارات ضخمة كان مصدرها مدخرات من إنتاج أشجار الكاكاو التي دخلت حيز الإنتاج بالفعل. تشبه جماعات الكروبو في الإنتاج أخلاقيات العمل البروتستانتي لفيبر.
الاستعمار
بدأ الاستعمار الأوروبي بالبرتغاليين الذين أقاموا مستعمرات فيما يعرف اليوم بغينيا بيساو وأنجولا وموزمبيق في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ثم أقامت القوى الأوروبية الأخرى حصونا على ساحل غرب أفريقيا لتسهيل تجارة العبيد، وأقام الهولنديون مستعمرتهم في رأس الرجاء الصالح في عام 1652. اتخذ الاستعمار الأوروبي شكلا أكثر جدية في القرن التاسع عشر، بيد أن تقسيم القارة بين القوى الاستعمارية لم يحدث إلا مع نهاية القرن.
كان يجري الاستحواذ على المستعمرات لأسباب اقتصادية واستراتيجية، وكانت القوى الاستعمارية تعقد الأمل في أن توفر المستعمرات المنتجات الاستوائية لها، وفي أن تكون هذه المستعمرات أسواقا لمصنوعاتها، فضلا عن توفير أماكن لمواطنيها للاستقرار بها، وفي أن تمثل المستعمرات مصدرا للاستثمارات المربحة للطبقات البرجوازية. بالإضافة إلى ذلك، كان ينظر إلى الإمبراطوريات بوصفها بعثات حضارية ستنشر المسيحية، وسترفع من قدر الثقافة المحلية إلى المستوى الأوروبي. كان من المتوقع تحقيق هذه الأهداف دون أي تكاليف تتحملها القوى الاستعمارية؛ حيث كان من المفترض أن تمول حكومات المستعمرات نفقاتها من خلال عائداتها الخاصة.
وقد أثبت الاستعمار مدى الدمار الذي يلحقه بعملية النمو الاقتصادي في أفريقيا أكثر من أي مكان آخر في العالم. أدى الاستعمار في القارة الأفريقية إلى ظهور مؤسسات في غاية السوء. كانت المستعمرات الأفريقية الأولى - على غرار نظيراتها السابقة عليها في أمريكا الشمالية - تدار من خلال «الحكم المباشر»؛ حيث كانت الحكومات الاستعمارية تطبق قانون الدولة الأم في جميع الأراضي التابعة على كل من المستوطنين والسكان الأصليين على حد سواء، وإن لم يتمتع السكان الأصليون بكامل حقوقهم في غالب الأحيان. بنهاية القرن التاسع عشر، حل «الحكم غير المباشر» محل الحكم المباشر، وكان الغرض من ذلك هو جعل الاحتلال الأجنبي أكثر قبولا للسكان الأصليين من خلال الاعتراف بالاختلافات العرقية جميعها، ومن خلال منح السلطة والثروة إلى القادة المتعاونين في مقابل دعم الأجانب. وفي ظل هذا النظام، كانت الدولة الاستعمارية تطبق قانون الدولة الأم على المستوطنين وفي المدن، أما حكم السكان الأصليين في الريف فقد تطور إلى نظام «الزعماء» الذين كانوا يطبقون «عادات قبائلهم»؛ وقد وضعت هذه المصطلحات بين أقواس للتأكيد على أنها مفاهيم قانونية تتصل بالدولة الاستعمارية، لا تتصل بالضرورة بواقع الحياة قبل الاستعمار. كان ينظر إلى جميع الكيانات السياسية الأفريقية - من الممالك مثل أشانتي، إلى أقل الجماعات تنظيما - ككيانات متكافئة عاداتها موحدة، على الرغم من اشتمال الكيانات السياسية المعقدة على شعوب مهزومة لها عاداتها المتباينة. نصب زعماء في أماكن مثل شمال غانا وشرق نيجيريا حيث لم يحكم هؤلاء من قبل قط. اتسم البناء السياسي بأنه مهلهل، وكان حق الشعب في ترك الأنظمة القمعية بمثابة لجام يحد من سلطات الحكام الطغاة، ولكن ألغي هذا الحق عندما كان الناس يقسمون إلى قبائل لا يمكنهم تركها. وقد أعيد تشكيل العادات بحيث تلائم الأغراض الاستعمارية؛ فألغيت العادات «البربرية» مثل العبودية (رغم استمرارها على أرض الواقع)، فيما أبقي على العادات المفيدة مثل حق زعيم القبيلة في طلب عمالة غير مدفوعة الأجر، وبهذه الطريقة أصبحت العمالة القسرية إحدى السمات العادية في الحياة الاستعمارية. صارت الملكية العامة عادة؛ ومن ثم كان باستطاعة الأفراد امتلاك أراض زراعية فقط من خلال الانتماء إلى إحدى القبائل، وفقط وفقا لرغبة الزعيم الذي كان يخضع له أفراد القبيلة. كانت العمليات التقليدية تستخدم حيثما كان ذلك ممكنا لإضفاء سمات النبالة على الزعماء، ولكنهم في نهاية المطاف يتم تعيينهم من قبل قوى الاحتلال، وكان زعماء القبائل يمنحون سلطات تزيد عن السلطات التي كان يتمتع بها الحكام قبل الاستعمار. صار الزعماء الجدد هم الممثلين الرئيسيين للإمبراطورية؛ حيث كانوا يفرضون الضرائب، ويجبرون أعضاء قبائلهم على العمل، فضلا عن استغلالهم لسلطاتهم لتكوين ثروات شخصية. لقد خلق الاستعمار نظاما من الديكتاتوريين الصغار ممن لديهم نزعة للجباية ليحكموا المناطق الريفية.
كانت السياسات المتبعة من قبل المستعمرات الأفريقية - على أقل تقدير - مدمرة للنمو الاقتصادي بالقدر نفسه الذي كانت عليه السياسات المتبعة في الهند وغيرها. تبنت الحكومات الاستعمارية عنصرا واحدا فقط من نموذج التنمية القياسي في القرن التاسع عشر؛ ألا وهو إدخال التحسينات على وسائل النقل. بحلول الحرب العالمية الأولى، كان 35 ألف كيلومتر من خطوط السكك الحديدية قد أنشئت في أفريقيا جنوب الصحراء، وكانت عمليات الإنشاء تمول من قبل الاستثمارات الخاصة (في ظل وجود ضمانات عامة عادة)، وكانت تهدف إلى تيسير تصدير المنتجات الأولية من خلال ربط المناطق الداخلية بالموانئ. لم تكن التعريفات الجمركية مستخدمة لدعم التصنيع، بل ظلت عند مستويات منخفضة لتوفير مصدر عائدات فقط، ومن ثم كانت الاقتصادات في المستعمرات متكاملة بصورة تامة مع السوق العالمية. ومع انخفاض تكلفة النقل عبر المحيطات والنقل البري، انخفضت أسعار المصنوعات الأوروبية في أفريقيا وزادت أسعار المنتجات الأولية. استجابت الاقتصادات في المستعمرات وفقا لهذه التحولات. ارتفع إنتاج وصادرات المنتجات مثل زيت النخيل والفول السوداني ارتفاعا هائلا، وعلى النقيض، انخفض إنتاج المنسوجات القطنية في كانو. كانت العولمة تعني أن اقتصاد أفريقيا صار متخصصا في إنتاج المنتجات الأولية.
لم تحاول الحكومات الاستعمارية نشر التعليم بين الأفارقة، بل تركت هذه المهمة إلى الإرساليات المسيحية، والمدارس الإسلامية، فضلا عن المبادرات المستقلة الأخرى. أحرز بعض التقدم، لا سيما بين جماعات مثل الكروبو الذين منحتهم أنشطتهم التجارية حافزا لتعلم القراءة والكتابة، والذين هيأ لهم نجاحهم التجاري دخلا أنفقوا منه على التعليم. ظلت معدلات معرفة القراءة والكتابة منخفضة للغاية حتى بعد الاستقلال. لم تبذل الحكومات الاستعمارية أيضا أي جهد في تأسيس بنوك محلية لتمويل الاستثمارات. دعمت بعض المستعمرات الاستثمارات الخارجية غير أن ذلك جاء على حساب الأفارقة؛ إذ حصل الأجانب على حق ملكية موارد القارة، وقد كانت هناك اختلافات هائلة بين المستعمرات في هذا الصدد.
تقف على أحد طرفي النقيض المستعمرات البريطانية في غرب أفريقيا، فكانت هذه المستعمرات موطن ميلاد الحكم غير المباشر، وكانت خير مثال عليه. كانت معظم البلد تقع تحت سيطرة زعماء القبائل، وكان امتلاك الأوروبيين للأراضي أمرا غير محبذ؛ فعلى سبيل المثال، منع ويليام ليفر من امتياز حق امتلاك أراض واسعة لإقامة مزارع لزيت النخيل في نيجيريا في عام 1907.
أما المستعمرات الألمانية والبلجيكية والفرنسية في غرب أفريقيا، فقد تبنت سياسات لامتلاك الأراضي واستخدام العمالة أقل مراعاة لمصالح السكان الأصليين، فكانت الأراضي تصادر من قبل الحكومات الاستعمارية وتمنح لمستثمرين أوروبيين لإقامة مزارع ومشروعات تعدين عليها، على سبيل المثال، وافقت بلجيكا على إقامة شركة يونيليفر لمزارع زيت نخيل في الكونجو. وكان الأفارقة يجندون للعمل الإجباري في المزارع وبناء خطوط السكك الحديدية.
وعلى الطرف الآخر من معادلة التناقض مع المستعمرات البريطانية في غرب أفريقيا تقف المستعمرات التي أقامها المستوطنون. تقدم جنوب أفريقا المثال الأفضل على ذلك، وإن كان تاريخ مصادرة الأراضي فيها يشبه مثيله في زيمبابوي ومرتفعات كينيا.
ضمت مستعمرة كيب تاون نحو 25 ألف مستوطن من الهولنديين والألمان والهوجونوتيين (أتباع الكنيسة البروتستانتية الإصلاحية في فرنسا) عندما استولت بريطانيا عليها في عام 1806. ارتفع عدد المستوطنين الأوربيين إلى 100 ألف مستوطن في عام 1850، ثم قفز إلى مليون نسمة في عام 1900 بعد اكتشاف الماس في عام 1866 والذهب في عام 1886. ارتفع عدد السكان الأفارقة من 1,5 مليون نسمة إلى 3,5 ملايين نسمة بين عامي 1800 و1900. وبعد عام 1835، تقدم البوير من مستعمرة كيب تاون إلى مقاطعة ترانسفال، واستولوا على مساحات شاسعة من الأراضي من الأفارقة. أقام البوير الدولة الحرة البرتقالية وجمهورية جنوب أفريقيا، اللتين اندمجتا في جنوب أفريقيا لاحقا بعد استيلاء بريطانيا عليهما في الحرب التي استمرت بين عامي 1899-1902. لم يكن البريطانيون أكثر احتراما لحقوق الأفارقة في تملك الأراضي من البوير. بلغ الاستحواذ على الأراضي ذروته من خلال قانون أراضي السكان الأصليين لعام 1913، الذي جرم شراء أو إيجار الأفارقة للأراضي خارج نطاق المحميات المخصصة لهم. بلغت نسبة هذه الأراضي 7٪ من إجمالي أراضي جنوب أفريقيا، على الرغم من أن الأفارقة كانوا يشكلون نسبة ثلثي عدد السكان الإجمالي.
وقعت حالات توزيع للأراضي مشابهة في مستعمرات المستوطنين الأخرى لكن بصورة أقل حدة. في زيمبابوي - على سبيل المثال - عندما بدأ تطبيق برنامج إصلاح نظام امتلاك الأراضي السريع في عام 2000، كان 4500 مزارع أبيض يمتلكون 11,2 مليون هكتار من أفضل الأراضي في البلاد، فيما كانت تعيش مليون عائلة أفريقية على مساحة 16,4 مليون هكتار من أسوأ الأراضي التي تخضع للملكية الجماعية في البلاد. في ظل هذه الظروف، يمثل قانون الملكية العقارية نظاما يضمن حماية الامتيازات بدلا من أن يكون نظاما يشجع الجميع على الحفاظ على مصالحهم من خلال إجراء معاملات متبادلة الفائدة.
كانت سياسة نزع ملكية الأراضي من السكان الأصليين تهدف إلى ضمان توفير العمالة، فضلا عن الاستيلاء على أراضيهم. علق الموقر جيه إي كازاليس في ستينيات القرن التاسع عشر قائلا إن الهدف من الاستيلاء على الأراضي تمثل في:
إجبار السكان الأصليين ... على الحياة على مساحة محدودة للغاية من الأراضي، حتى صار من المستحيل الاعتماد على المنتجات الزراعية والماشية في هذه الأراضي كمصدر للغذاء، ولإجبار السكان الأصليين على عرض خدماتهم على المزارعين كخدم في المنازل وكعمال.
وقد جرى التوسع في تطبيق هذا الهدف من خلال نظم التحكم في العمالة القائم على التمييز العنصري، والذي عومل الأفارقة بموجبه كما لو أنهم يقيمون في المحميات الخاصة بهم، وأنهم عمال مؤقتون في الدولة بصورة عامة.
الفقر المعاصر من منظور تاريخي
في وقت مبكر من القرن التاسع عشر، اتخذ غرب أفريقيا مسارا كان يشبه في الكثير من ملامحه المسار الذي سلكته المستعمرات في أمريكا الشمالية؛ إذ كان الاقتصاد يرتكز على التصدير، وقام الأفارقة بإزالة الغابات المطيرة كرد فعل لارتفاع الأسعار في الأسواق العالمية، وكانت معظم الدخول يعاد استثمارها في الأعمال المختلفة، ولكن لم تفلح كل هذه المشروعات والتقدم في إطلاق شرارة النمو الاقتصادي الحديث. فلم لا؟
هناك تفسيرات مباشرة وأسباب خفية. يوضح الشكلان
7-1
و
7-2
التفسير المباشر؛ إذ يبين الشكلان أن الأسعار الحقيقية لزيت النخيل والكاكاو كانت تتخذ منحى منخفضا منذ بداية القرن العشرين. انخفضت أسعار كلتا السلعتين خلال الحرب العالمية الأولى، وبلغت أدنى مستوياتها في ثلاثينيات القرن العشرين وإبان الحرب العالمية الثانية. لم يستعد سعر زيت النخيل (مقارنة بأسعار الأقمشة) المستوى الذي بلغه قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، كما أن سعره اليوم يقل عن سعره في ثلاثينيات القرن العشرين. حققت الدول المنتجة للكاكاو نجاحا، ولكن ليس ذلك حال مزارعي الكاكاو أنفسهم. اتخذت أسعار الأسواق العالمية منحى تصاعديا متعرجا بعد الحرب العالمية الثانية، ووصلت إلى مستويات أعلى من تلك التي حققتها في تسعينيات القرن التاسع عشر. في الدول الأساسية المصدرة للكاكاو مثل غانا، تراكمت الزيادات في الدخل لصالح الدولة وليس المزارعين؛ حيث كان المزارعون يجبرون على بيع محصولهم من الكاكاو إلى هيئة تسويق تملكها الدولة كانت تتولى إعادة بيع الكاكاو دوليا. ظاهريا، كانت هيئة التسويق توفر الحماية للمزارعين من تذبذبات الأسعار في الأسواق العالمية، من خلال دفع مبالغ ثابتة مقابل محصول الكاكاو، ولكن في واقع الأمر كانت هذه الهيئات تعمل مثل وكالات التوريد السوفييتية التي كانت تلتهم الفوائض المتزايدة من بيع الكاكاو في الأسواق العالمية. ومن خلال الإبقاء على الأسعار منخفضة، كانت هيئات التسويق تقلل من الحافز لدى المزارعين للتوسع في الإنتاج، فضلا عن الإبقاء على فقر السكان الريفيين.
شكل 7-3: الدخل اليومي من إنتاج زيت النخيل.
يترجم تاريخ الأسعار مباشرة إلى الدخل الحقيقي للمزارعين. يبين الشكل
7-3
الدخول المجمعة الحقيقية اليومية لأسرة افتراضية من جماعة الياكو تنتج زيت النخيل وبذور النخيل، وقد وضع الشكل على افتراض عدم تغير كفاءة الإنتاج لدى الأسرة بمرور الوقت، وهو واقع الحال. وقد سار دخل الأسرة من بيع زيت النخيل على الدرب المتعرج نفسه الذي سارت عليه الأسعار. منذ عام 1980، ظلت الدخول الحقيقية لمنتجي زيت النخيل منخفضة مثلما كانت في ثلاثينيات القرن العشرين، وقد شهد منتجو الكاكاو انخفاضا مماثلا طويل المدى، غير أنهم لم يجنوا ثمار ارتفاع الدخول في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين؛ حيث لم تمرر هيئة تسويق الكاكاو ثمار ارتفاع الأسعار في الأسواق العالمية إلى المزارعين (الشكل
7-4 ).
شكل 7-4: الدخل اليومي من إنتاج الكاكاو.
اليوم يحقق منتجو الكاكاو قدرة شرائية قدرها 10 بنسات يوميا وذلك حسب قيمة البنس في عام 1913. كان ذلك هو أجر العامل في أكرا في ذلك الوقت، في المقابل يحقق منتجو زيت النخيل نصف تلك القيمة. ينطبق الأمر نفسه على صادرات أفريقيا الزراعية. ونظرا لأن 60٪ من السكان يعملون في الزراعة، تحدد الدخول في هذا القطاع الدخول في سائر قطاعات الاقتصاد الأخرى؛ ومن ثم يرجع السبب في فقر الأفارقة إلى أن الزراعة في القارة الأفريقية تحقق مستوى معيشة يرجع إلى فترة الحرب العالمية الأولى.
هناك سببان وراء عدم تحسن الزراعة في أفريقيا وتحقيقها لنتائج أفضل؛ يتمثل السبب الأول في انخفاض أسعار صادرات المزارع، وهو ما يرجع بدوره إلى ثلاثة أسباب: الأول هو الابتكار وانخفاض أسعار المنتجات البديلة؛ إذ أدى ظهور صناعة النفط في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى ظهور زيوت تشحيم أفضل وأقل سعرا من زيت النخيل، كما حل البارافين - أحد المنتجات النفطية - محل مشتق زيت النخيل الإستيارين في صناعة الشموع، وحل محل الشموع نفسها مصابيح الكيروسين ثم المصابيح الكهربائية. أما السبب الثاني فهو المنافسة مع المنتجين الآسيويين؛ ففي أوائل القرن العشرين كانت أشجار نخيل الزيت تزرع في مزارع كبيرة في سومطرة ومالايا، حيث كانت النباتات تنمو بصورة أفضل منها في منطقة غرب أفريقيا. منذ الحرب العالمية الثانية، هيمنت الصادرات الماليزية والإندونيسية على الأسواق العالمية، مما أدى إلى انخفاض أسعار صادرات الأفارقة. ويتمثل السبب الثالث لانخفاض الأسعار في التوسع في الإنتاج في أفريقيا نفسها، ويمثل هذا السبب أهمية خاصة بالنسبة للكاكاو؛ حيث كان لا يزال معظم الإنتاج العالمي من الكاكاو يأتي من أفريقيا، ولا يوجد بديل جيد للكاكاو في منتجات الشيكولاتة. توسعت زراعة الكاكاو غربا عبر غانا وصولا إلى ساحل العاج، وكانت العمالة هناك تأتي من الأقاليم الفقيرة في غرب أفريقيا؛ فزاد الإنتاج وانخفضت الأسعار. ومن هذا المنظور، تمثل مشكلة الفقر في أفريقيا حلقة مفرغة؛ إذ تؤدي الأجور المنخفضة إلى الإبقاء على أسعار التصدير منخفضة، وتؤدي الأسعار المنخفضة إلى الإبقاء على الأجور منخفضة.
يتمثل السبب الثاني في أن الكاكاو وزيت النخيل لم يحققا دخولا أعلى؛ في أن الإنتاجية منخفضة وثابتة. بصورة جزئية، يعتبر تفسير هذا الأمر بيولوجيا. أجرى الألمان والبلجيكيون أبحاثا أساسية على زيت النخيل، غير أن المفارقة كانت في أن الأبحاث قد أتت بثمارها في منطقة جنوب شرق آسيا على حساب القارة الأفريقية، ومقارنة بالقارات الأخرى، لم تجر سوى أبحاث قليلة للغاية في أفريقيا لتحسين المحاصيل الزراعية.
تعتبر ميكنة عملية الإنتاج مصدرا آخر لزيادة الإنتاجية. تستخدم معظم العمالة في إنتاج زيت النخيل في عملية معالجة النبات بمجرد جمعه، ويتطلب الأسلوب التقليدي وضع النباتات في أكوام، ثم عمليات التخمير والغلي والسحق والضغط والغمر في المياه ونزع رقائق الطبقات والكبس. تستخدم العصي في عملية السحق، والقدم في الضغط، وهكذا. حدثت قفزات هائلة في ميكنة عملية معالجة النباتات على مستوى المزارع، في حين لم يتحقق تقدم ملموس على مستوى الزراعة في القرى. تقلل الماكينات البسيطة المستخدمة في كبس النبات واستخلاص الزيت بصورة كبيرة من الحاجة إلى العمالة، وإن كان ذلك على حساب المزيد من رأس المال. لا تحقق ماكينات استخلاص الزيوت ربحا في المزارع الصغيرة في منطقة غرب أفريقيا؛ نظرا لانخفاض الأجور، ويعتبر هذا مثالا على شرك التكنولوجيا الذي ناقشناه في
الفصل الرابع ؛ حيث تعني الأجور المنخفضة عدم تحقيق ربح من استخدام تكنولوجيا الماكينات اللازمة لزيادة الأجور. على أية حال، لا تتحقق فائدة كبرى جراء تحرير العمالة من العمل على استخلاص زيت النخيل؛ حيث إن عدد السكان ممن لا يعملون في الزراعة يفوق عدد الوظائف المتاحة خارج قطاع الزراعة.
يعكس عدم التوازن في سوق العمالة التطورات في الخمسين عاما الأخيرة. يتمثل أحد هذه التطورات في نمو عدد السكان الذي زاد خمسة أضعاف منذ عام 1950، والتوصل إلى تفسير حاسم أمر مستحيل في ظل عدم توفر البيانات الكافية عن القارة الأفريقية، وإن كانت التجارب في المناطق الاستوائية الأخرى تشير إلى أن السبب المباشر يرجع إلى انخفاض معدلات الوفيات، خاصة وفيات الأطفال وكبار السن، والذي يرجع على الأرجح إلى التقدم في مجال الصحة العامة وانتشار الممارسات الطبية الحديثة.
أما التطور الآخر فهو فشل أفريقيا في التحول إلى التصنيع خلال هذه الفترة، وهناك تفسيرات اقتصادية لذلك، فضلا عن تفسيرات مؤسساتية أكثر شمولا أيضا، وتبدو جميع هذه التفسيرات منطقية في ضوء جغرافيا القارة الأفريقية وتاريخها.
هناك ثلاثة تفسيرات اقتصادية لغياب الصناعة في أفريقيا: يتمثل التفسير الأول في الأفضلية المقارنة. كانت أمريكا الشمالية تصدر القمح إلى أوروبا؛ حيث كان إنتاج القمح يحتاج إلى توفر مساحات كبيرة من الأراضي، وهو ما كان متوفرا في الولايات المتحدة مقارنة بعدد السكان. تنخفض الكثافة السكانية في أفريقيا عن مثيلتها في أمريكا الشمالية؛ لذا تكمن الأفضلية المقارنة للقارة الأفريقية في السلع التي تعتمد على استخدام الأراضي والموارد بكثافة، وهذه هي المنتجات الأساسية التي تصدرها القارة. في الولايات المتحدة، كان العامل المكافئ لتوافر الأراضي هو الأجور المرتفعة، وهو ما كان من شأنه أن يجعل التصنيع غير قادر على منافسة الواردات في القرن التاسع عشر في حال عدم وجود تعريفات جمركية. أما في أفريقيا، فالوضع مختلف؛ حيث كانت الأجور منخفضة، ولكن لا تجد شركات التصنيع إمكانية لتحقيق أي ربح جراء التواجد في أفريقيا، ويفترض أن السبب في ذلك هو أن التكاليف ستكون مرتفعة؛ حيث إن عملية الإنتاج ستكون غير فعالة. ربما يرجع أحد أسباب انخفاض الإنتاجية إلى وجود أيدي عاملة غير متعلمة، ولكن انتشر التعليم سريعا في العقود الأخيرة، ومن ثم فقد اختفى أي عجز في هذا الصدد بين العمال الشباب - لكن دون تحقيق أي فائدة ملموسة.
يتمثل سبب آخر في انخفاض الإنتاجية في غياب الشركات الداعمة. في الدول الغنية، تجري عملية الإنتاج في شبكات حضرية؛ حيث تدعم الشركات بعضها عن طريق توفير منتجات وخدمات متخصصة، ترفع هذه «الاقتصادات الخارجية كبيرة الحجم» من الإنتاجية، وتسمح للشركات بدفع أجور مرتفعة مع الحفاظ على قدرتها التنافسية. أما أفريقيا، فتدور في دائرة مفرغة؛ إذ لن تقام شبكة من الشركات المتكاملة أبدا؛ نظرا لأن الشركات ترى أنه من غير المربح إقامة شركة في ظل غياب شبكة داعمة من الشركات! في القرن التاسع عشر، ظهرت في أفريقيا بوادر إقامة مثل هذه الشبكات من خلال صناعات الحديد المتناثرة، وصناعة المنسوجات في كانو، وغيرها، بيد أن العولمة - مدعومة بالاستعمار - أدت إلى القضاء على هذه الصناعات.
يتمثل التفسير الاقتصادي الأخير في التكنولوجيا، وهو تفسير يتضمن تطبيق تحليل عملية ميكنة الإنتاج الزراعي على القطاع الصناعي. تعتبر الأجور في أفريقيا منخفضة بدرجة لا تجعل من استخدام التكنولوجيا المتقدمة كثيفة رأس المال المتوفرة في الصناعة الحديثة؛ أمرا مربحا، وهكذا لا تزال أفريقيا أسيرة شرك آخر: تعتبر الصناعة باستخدام الماكينات هي الحل اللازم لانخفاض الأجور، غير أن الأجور المنخفضة تجعل من ميكنة الإنتاج الصناعي عملية غير مربحة!
تتمثل أكثر التفسيرات شيوعا فيما يتعلق بفقر القارة الأفريقية في التفسيرات المؤسساتية بدلا من التفسيرات الاقتصادية، وأحد جوانب «المؤسسات السيئة» هي الحروب المزمنة التي تضر قطعا بعالم الأعمال. والفقر في حد ذاته سبب في اندلاع الحروب؛ إذ يجعل تجنيد القوات رخيصا للغاية. تتسبب الأجور المنخفضة في اندلاع الحروب التي بدورها تؤدي إلى الحد من النشاط الاقتصادي، وهو ما يؤدي إلى انخفاض الأجور - أي دائرة مفرغة أخرى للفقر. بالإضافة إلى ذلك، كان اللاعبون الأساسيون والأحداث المفتعلة في كثير من الحروب المعروفة من صناعة الحكم الاستعماري غير المباشر؛ سيطرت بلجيكا على رواندا عن طريق التأكيد على الاختلافات بين قبيلتي التوتسي والهوتو ومبالغتها، إلى أن أصبحت انقساما عرقيا متخيلا، فكان ينظر إلى التوتسي على أنهم أجانب دخلاء، وعلى أنهم أسمى في العرق؛ نظرا لأنهم ينحدرون من نسل هام مذكور في الكتاب المقدس، فيما كان ينظر إلى الهوتو على أنهم مواطنون محليون أقل شأنا. وفرت الإدارة الاستعمارية التعليم للتوتسي، وأغدقت عليهم الفرص بحيث يستطيعون السيطرة على الهوتو، ولكن سيطرت الأغلبية من الهوتو على مقاليد الحكم في البلاد في ثورة عام 1959، وعندما غزا جيش من التوتسي البلاد في عام 1990، وهزم جيش الرواندي الذي يتكون بأغلبية ساحقة من الهوتو؛ كان في ذلك تهديد بزوال المكاسب التي حققها الهوتو منذ عام 1959، وهو ما مهد الطريق لعملية إبادة جماعية.
تتمثل سمة أخرى للمؤسسات السيئة في الفساد والطبيعة الاستبدادية في العديد من الدول الأفريقية، وكانت أوجه القصور هذه إرثا خلفته أنظمة الحكم الاستعمارية؛ فقد ورثت الدول الأفريقية حديثة العهد بالاستقلال دساتير اشتملت على التمييز بين المواطنين على أساس عرقي، كما تضمنت الأنظمة القبلية والإدارية لنظام الحكم غير المباشر، وقد نجحت الدول الأفريقية في التخلص من العنصرية فيما لم تحقق القدر نفسه من النجاح في التخلص من النزعة القبلية. في معظم دول القارة الأفريقية، توجد أنظمة إدارية منفصلة للمناطق الحضرية والريفية؛ فالمناطق الحضرية تمتلك أنظمة قانونية حديثة، فيما تنقسم المناطق الريفية إلى مناطق «قبلية» أقيمت أثناء الفترة الاستعمارية، ويديرها زعماء القبائل الذين ينفذون العادات التي غرست إبان الاستعمار مثل الملكية الجماعية للأراضي. وغالبا ما يتم إخفاء استمرار الإدارة على الطريقة الاستعمارية، من خلال تبني قوانين موحدة تجمع بين القواعد الحديثة والقواعد الموروثة في وثيقة واحدة؛ ومن ثم فإن معظم المناطق الريفية في القارة الأفريقية يحكمها طبقة من الحكام الفاسدين غير المنتخبين، الذين ينتزعون الدخول وخدمات العمالة من المواطنين، ويتحصلون على منافع مادية من الحكومة المركزية.
أضاف هدف تحقيق التنمية الاقتصادية بعدا آخر للتحكم في طبقة الفلاحين. وفقا للأيديولوجية السائدة في ستينيات القرن العشرين (الغربية والشيوعية على حد سواء)، كان ينظر إلى التنمية كعملية يجري من خلالها تحقيق نمو الاقتصاد الحضري على حساب نظيره في المناطق الريفية. وقد استخدمت الدولة الاستعمارية نظام الحكم غير المباشر لحكم الريف لصالح القوة الاستعمارية، وما كان من قادة الدول المستقلة إلا أن أخذوا مكانهم، واستخدموا الأساليب نفسها لتحقيق الفوائد الاقتصادية وغيرها للمدن على حساب المناطق الريفية. وكان يجري حث زعماء القبائل على استخدام ملكيتهم «التقليدية» للأراضي المشاع؛ بغرض مصادرتها لصالح المشروعات التنموية، وكان يجري تهديد السكان بالإخلاء لإجبار الفلاحين على استخدام الابتكارات التكنولوجية الجديدة، كما كان يجري إجبار سكان المناطق الريفية على العمل في مشروعات البنية التحتية والمزارع، بالإضافة إلى ذلك كانت الدولة تستخدم الأساليب القسرية مع الفلاحين، وعلى وجه التحديد كانت تجبر المزارعين على بيع المحاصيل إلى هيئات التسويق الحكومية؛ حتى يباع الغذاء بأسعار رخيصة للعمال في المناطق الحضرية، وحتى تفرض ضرائب على محاصيل التصدير عن طريق دفع أسعار منخفضة للفلاحين مقابل المنتجات التي كانت تباع بأسعار مرتفعة في الأسواق الدولية، كما رأينا في حالة محصول الكاكاو. أفضت هذه الممارسات إلى تطور صناعي ضئيل، مع خفض حوافز الإنتاج الزراعي وزيادة الفساد والاستبداد.
اتبعت الدول الاستبدادية والماركسية-اللينينية مسارا مختلفا ظاهريا، وإن كانت النتائج مشابهة؛ فقد قضت هذه الدول على القبلية والعنصرية: «حتى تحيا الأمة، يجب أن تموت القبيلة.» على حد تعبير سامورا ماشيل أول رئيس لموزمبيق. وقد أسست الدول ذات الحزب الواحد لقمع الانقسامات ولتكون طلائع للتقدم، ولكن كانت ممارسات الاستعمار أصعب في تغييرها، فصار القادة القبليون كوادر الحزب الحاكم، ومضوا في طريقهم كما كانوا يفعلون من قبل. وباسم التنمية، تبنت الدول التي مرت بعمليات إصلاح وسائل سيطرة الدولة على الاقتصاد والمجتمع التي كانت سمة الإدارات الاستعمارية، كما عاد العمل القسري للظهور مجددا في هذه الدول؛ ومن ثم ليس بمقدور أفريقيا الهروب بسهولة من تاريخها.
هوامش
الفصل الثامن
النموذج القياسيوالتحول
المتأخر للتصنيع
بحلول عام 1850، كانت دول أوروبا وأمريكا الشمالية قد تقدمت على سائر دول العالم، وتمثلت المشكلة الجديدة في كيفية لحاق الدول الفقيرة بها. لم يكن في وسع المستعمرات فعل الكثير إزاء هذا الأمر؛ إذ كانت القوى الإمبريالية تقيد خياراتها، ولكن كان في إمكان الدول المستقلة تطبيق النموذج القياسي - متمثلا في إنشاء خطوط السكك الحديدية، وفرض التعريفات الجمركية، وإنشاء البنوك والمدارس - الذي نجح في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وبمرور الوقت أصبحت هذه الاستراتيجية أقل فعالية.
روسيا الاستعمارية
ظلت روسيا لفترة طويلة أكثر دول أوروبا تخلفا. حاول بطرس الأكبر (1672-1725) تحويل روسيا إلى قوة غربية حديثة، فأنشأ الميناء الجديد سانت بطرسبرج، وأقام العديد من المصانع التي كانت تخدم الأغراض العسكرية بصورة أساسية، ولكن لم يفض ذلك إلى اللحاق بركب الغرب. وقد تبين مدى تخلف روسيا من خلال هزيمتها أمام إنجلترا وفرنسا في حرب القرم (1853-1856). كان إيقاع التحديث سريعا إلى الحد الذي أجبر القيصر ألكسندر الثاني على إلغاء العبودية. وقد عقد الإصلاحيون آمالا على أن يؤدي هذا إلى تدشين النمو الاقتصادي، من خلال توفير عمالة حرة وضمان الملكية الخاصة، لكن لم تتحقق نتائج سريعة.
تبنت حكومة ما بعد تحرير العبيد نموذج التنمية الاقتصادية القياسي مع إدخال بعض التعديلات؛ أولا: أنشئت سوق وطنية من خلال وضع برنامج ضخم لإنشاء خطوط السكك الحديدية. وبحلول عام 1913، كان قد أنشئ 71 ألف كيلومتر من خطوط السكك الحديدية ساهمت في ربط روسيا بالاقتصاد العالمي:
عندما كان الفلاحون يسوقون محاصيلهم من الحبوب في نيكولاييف [في عام 1903]، كانوا يسألون: «ما سعر الحبوب في أمريكا حسب آخر تلغراف؟» وما كان أكثر إثارة للدهشة هو قدرة الفلاحين على تحويل السنتات (الأمريكية) لكل بوشل (مقياس للوزن) إلى كوبكات (روسية) لكل بوود (مقياس للوزن في روسيا).
ثانيا: كانت التعريفات الجمركية تستخدم للمساعدة في بناء الصناعة. بحلول عام 1910، كانت روسيا تصهر 4 ملايين طن من حديد الغفل سنويا. لم ترتق روسيا إلى المرتبة الأولى في مصاف دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا والمملكة المتحدة، لكنها كانت بمثابة دولة صناعية رائدة في المرتبة الثانية، بالإضافة إلى ذلك، كانت الدولة تدعم الصناعة الخفيفة من خلال فرض تعريفات جمركية مرتفعة على المنسوجات القطنية، وتعريفات معتدلة على القطن الخام؛ ونتيجة لذلك، توسعت زراعة القطن فيما صار لاحقا دولة أوزبكستان. في أوائل القرن العشرين، كانت المصانع الروسية تنتج من القطن ما يقترب مما كانت المصانع الألمانية تنتجه. ثالثا: يكمن الابتكار الأكبر في مجال السياسة الاقتصادية في التمويل. كانت البنوك الخاصة في روسيا أضعف من أن تلعب الدور الذي قامت به نظيرتها في بلجيكا أو ألمانيا، بدلا من ذلك، اعتمدت روسيا على رأس المال الخارجي؛ فكانت خطوط السكك الحديدية تمول عن طريق بيع السندات في الخارج، كما صار الاستثمار الخارجي المباشر الوسيلة الأساسية لاستقدام التكنولوجيا المتقدمة إلى البلاد، وكانت المصانع تقام وفقا لمواصفات دول أوروبا الغربية دون إدخال أي تعديلات لتجعلها تتناسب مع الظروف الاقتصادية المختلفة في روسيا؛ مما أدى إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج في روسيا عنها في دول أوروبا الغربية. رابعا: توسعت روسيا في التعليم منذ ستينيات القرن التاسع عشر وما بعدها. بحلول الحرب العالمية الأولى، كان نصف عدد السكان من البالغين قادرا على القراءة والكتابة، وحتى بين العمال اليدويين، كانت دخول العمال ممن لديهم القدرة على القراءة والكتابة أعلى من نظرائهم الأميين؛ لذا كان التعليم له جاذبية كبيرة للكثيرين.
ساهم نموذج التنمية الاقتصادية القياسي (المعدل) في زيادة حصة الصناعات الثقيلة في روسيا من 2٪ من إجمالي الناتج المحلي في عام 1885، إلى 8٪ في عام 1913، بيد أن الزراعة ظلت تمثل القطاع الأكبر (انخفضت حصتها من 59٪ إلى 51٪). تضاعف الإنتاج الزراعي خلال هذه الفترة مع ارتفاع أسعار القمح العالمية، وساهمت الزراعة في معظم النمو الذي تحقق في إجمالي الناتج المحلي. كان النمو الاقتصادي الذي تحقق في العصر القيصري يمثل ازدهارا في القطاع الزراعي بصورة أساسية، ساعد عليه عمليات التصنيع التي دعمها فرض تعريفات جمركية. وكان النمو على الأرجح سيتوقف عندما انهارت أسعار القمح العالمية عقب الحرب العالمية الأولى؛ ومن ثم كانت هناك حاجة إلى نموذج اقتصادي آخر للحاق بالغرب.
تمثل أحد المؤشرات على التأثير المحدود لنموذج التنمية الاقتصادية القياسي في روسيا في حالة سوق العمل. فعلى الرغم من نمو إجمالي الناتج المحلي، لم ينم الطلب على العمالة بصورة كافية بحيث يوفر الوظائف اللازمة لتشغيل الروسيين؛ لذا ظلت الأجور عند حدود الحد الأدنى من متطلبات الحياة، فيما انتقل فائض الدخل الذي حققه النمو في صورة أرباح إلى أصحاب المصانع وإيجار لصالح ملاك الأراضي. وقد كانت هذه هي بادرة اشتعال الصراع الاجتماعي؛ فقد أدى عدم المساواة في تحقيق التنمية إلى اندلاع ثورة في عام 1905، تحولت إلى ثورة عاتية في عام 1917. وقد أدى فشل نموذج التنمية الاقتصادية القياسي في تحويل روسيا إلى دولة صناعية متقدمة إلى القضاء على هذا النموذج.
اليابان
تمثل اليابان حالة خاصة مثيرة للاهتمام؛ حيث إنها كانت الدولة الآسيوية الأولى التي تلحق بالغرب. ينقسم التاريخ الياباني إلى أربع فترات: عصر توكوجاوا (1603-1868) عندما كان يحكم البلاد حكام عسكريون (الشجونيون) من قبيلة توكوجاوا، وعصر الإمبراطور ميجي (1868-1905) عندما استرد الإمبراطور ميجي سلطته وبدأت عملية التحديث الاقتصادي، والفترة الاستعمارية (1905-1940) عندما أنشئت الصناعات الثقيلة، وأخيرا عصر النمو السريع (1950-1990) عندما لحقت اليابان بركب الدول الغنية الغربية.
ترجع جذور نجاح اليابان إلى عصر توكوجاوا، على الرغم من وجود العديد من المؤسسات التي كانت معادية للنمو الاقتصادي. كان المجتمع في تلك الفترة مقسما إلى طبقات - الساموراي، والفلاحين، والحرفيين، والتجار - وكان النظام الإداري للبلاد مقسما إلى عدة مئات من المناطق الخاصة التي كان يحكم كلا منها حاكم كان يطلق عليه دايميو. كانت هذه المناطق الخاصة يمكن مصادرتها؛ وهو ما أدى إلى عدم ضمان الملكية الخاصة في أعلى المستويات الاجتماعية، مثلما كان الحال في إنجلترا تحت حكم الملكة إليزابيث، وكانت القيود الصارمة تفرض على التجارة ووسائل الاتصال الدولية. لم يسمح بدخول سفن للبلاد إلا السفن القادمة من الصين وكوريا وهولندا، ولم يكن يسمح للهولنديين إلا بدخول مستوطنة صغيرة في ناجازاكي.
تطورت التكنولوجيا في عصر توكوجاوا، بيد أن طبيعة التطورات كانت عكس مثيلتها في بريطانيا. فنظرا لانخفاض الأجور في شرق آسيا، ابتكر اليابانيون تكنولوجيا تزيد من حجم العمالة بغرض رفع إنتاجية الأراضي، وزيادة رأس المال والمواد. على سبيل المثال، كانت العمالة تستخدم نظم ري لزيادة إنتاجية المحاصيل، وزرعت أصناف جديدة من الأرز مثل أكاماي، كما سمح التحكم في نظم الري بزراعة محصول ثان مثل القمح أو القطن أو قصب السكر أو التوت أو بذور اللفت. عمل المزارعون لساعات أطول لكل هكتار، واستثمروا رأس مال أقل مع حلول المعاول محل المحاريث وحيوانات الجر.
تحسنت الإنتاجية في عمليات التصنيع أيضا. حاولت المناطق الخاصة اجتذاب الصناعات، كما دعمت الأبحاث لزيادة الإنتاجية؛ حيث كانت زيادة الإنتاج تؤدي إلى تحقيق المزيد من العائدات الضريبية. وفي حالة صناعة الحرير، لم تستمر التجارب المبكرة لاستخدام الماكينات على النهج الإنجليزي (من خلال استخدام أنظمة ميكانيكية للتروس والسيور، مثلا، مستوحاة من تقنية عمل الساعات والماكينات الآلية)؛ حيث لم يكن استخدامها اقتصاديا. بدلا من ذلك، كانت التجارب موجهة لتحسين إنتاجية دود القز، فأدت تربية سلالات محددة من دود القز والتحكم في درجات الحرارة إلى تقليص فترة النمو، وزادت من إنتاجية الحرير لكل شرنقة بنسبة الربع. في مجال التعدين، كانت أنظمة الصرف الميكانيكية معروفة لكنها لم تكن مستخدمة، بدلا من ذلك، كانت جيوش من العمال تقوم بهذا العمل. بالمثل، جرى الاستعانة بأعداد هائلة من العمالة لاستخراج أقصى كمية ممكنة من المعادن من المادة الخام، وكان الاستثناء الذي يثبت القاعدة هو مشروب الساكي. أقيمت مصانع كثيفة رأس المال، وتعمل من خلال طاقة المياه فقط؛ لأن الحكومة قيدت الإنتاج عن طريق تقليص وقت عمل مصانع الساكي، وهو ما أدى إلى إنشاء مصانع كثيفة الإنتاج.
أدت عملية التنمية خلال عصر توكوجاوا إلى ازدهار لم يعم على الجميع بالتساوي؛ فقد زاد عدد السكان، وكذلك حجم إنتاج محصول الأرز في القرن السابع عشر، ولكن ظلت أجور العمال عند حدود «الحد الأدنى» من متطلبات الحياة. كان الشخص المتوسط يستهلك حوالي 1800 سعر حراري يوميا في أواخر عصر توكوجاوا وفي أوائل فترة الإمبراطور ميجي، وكانت معظم السعرات الحرارية والبروتين يتوفران من خلال الأرز والبطاطس والبقوليات وليس اللحوم أو السمك. ترتب على ذلك قصر قامة اليابانيين؛ حيث بلغ متوسط طول الرجل الياباني 157 سنتيمترا، فيما بلغ متوسط طول النساء 146 سنتيمترا.
ورغم ذلك، تمتع الكثيرون بأسلوب حياة مرفه؛ عاش حوالي 15٪ من إجمالي عدد السكان في المدن، وكانت مدن إيدو (طوكيو حاليا) - التي بلغ عدد سكانها مليون نسمة - وأوساكا وكيوتو (400 ألف نسمة في كل منهما) ضمن أكبر المدن في العالم. وكان متوسط عمر الفرد يزداد، وزادت أوقات الفراغ؛ حيث كان الفلاحون يحصلون على «أيام ترفيهية» ويسافرون عبر البلاد. كان مستوى الحضور في المدارس مرتفعا بالنسبة لمجتمع زراعي . في عام 1868، كان 43٪ من البنين و10٪ من البنات يرتادون المدارس؛ حيث كانوا يتعلمون القراءة والحساب، وكان أكثر من نصف الرجال البالغين يستطيعون القراءة والكتابة، وكانت القراءة بغرض التعليم والمتعة منتشرة، وكان سعر الكتب مرتفعا بالنسبة لمعظم الناس، لكن كان يمكن اقتراضها في مقابل إيجار من متاجر الكتب . في عام 1808، كان هناك 656 متجرا في إيدو لإقراض الكتب، وكانت توفر الكتب لنحو 100 ألف عائلة (أي ما يقرب من نصف عدد السكان). كان ارتفاع مستوى التعليم يرجع على الأرجح إلى تحول الاقتصاد الياباني إلى التجارة، وهو ما مثل أساس النمو فيما بعد.
حققت اليابان في عصر توكوجاوا مستوى مبهرا من الكفاءة الهندسية والإدارية التي تجلت في إنشاء أول مصنع للحديد في ناجازاكي، وكانت الضرورة العسكرية دافعا لذلك. في عام 1808، دخلت السفينة «إتش إم إس فيتون» ميناء المدينة لمهاجمة السفن الهولندية، وهددت السفينة بقذف الميناء إذا لم تقدم لها المؤن. لم يمتلك اليابانيون مدافع حديدية للدفاع عن أنفسهم؛ حيث لم يكن لديهم أفران لصنعها. شكل نابيشيما ناوماسا - الذي أصبح حاكم ناجازاكي، وكان مولعا بالعلوم الغربية - فريقا لإقامة مصنع لإنتاج المدافع، تألف الفريق من العلماء والحرفيين المهرة في مجال صناعة الحديد. قام أعضاء الفريق بترجمة كتاب هولندي يتضمن وصفا لأحد مصانع الحديد في ليدن، وصمم أعضاء الفريق مصنعا مثله. في عام 1850، نجح الفريق في بناء فرن عاكس، وبعد ثلاث سنوات نجح الفريق في صناعة أول مدفع من الحديد. في عام 1854، استورد الفريق بنادق أرمسترونج متطورة تحشى من الخلف من بريطانيا، وصنعوا نماذج مطابقة لها. وبحلول عام 1868، كانت اليابان تمتلك أحد عشر فرنا لصب الحديد.
استعادة حكم الإمبراطور ميجي
في عام 1839، هاجمت بريطانيا الصين لإجبارها على السماح باستيراد الأفيون، الذي كان أحد أكثر منتجات شركة الهند الشرقية تحقيقا للربح، وقد انتصرت الإمبريالية التي تروج للمخدرات بهزيمة الصين في عام 1842، فهل كان الدور على اليابان؟ بدا أن الإجابة كانت «نعم» عندما وصل القائد البحري الأمريكي بيري ومعه أربع بوارج حربية في عام 1853 إلى اليابان، وطلب إنهاء اليابانيين فرض القيود على التجارة الخارجية. وفي ظل غياب سلاح بحرية حديث، لم تجد اليابان بدا من الموافقة وتوقيع معاهدات مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا، ومن ثم ظهرت الحاجة الملحة لوجود جيش قوي. وقد اتخذ الحكام العسكريون التوكوجاويون بعض الخطوات لتحسين وضع اليابان الأمني، وهو ما وجده الكثيرون غير كاف ومتأخرا كثيرا.
في عام 1867، صعد الإمبراطور ميجي على عرش اليابان، بعد أن نفذ دعاة التحديث «انقلابا» حقيقيا، واضطر آخر حكام التوكوجاوا التنازل عن السلطة. وكان شعار دعاة الإصلاح هو «دولة غنية وجيش قوي».
أجرى النظام الجديد إصلاحات جذرية. «سلمت» المناطق الإقطاعية الخاصة إلى الإمبراطور، كما جرى تعويض 1,9 مليون فرد من الساموراي من خلال السندات الحكومية. ألغيت الطبقات الأربع في المجتمع؛ لذا صار من الممكن أن يتولى أي شخص أي وظيفة، وجرى توفير ضمانات أكدت على ملكية الفلاحين لأراضيهم، كما وضعت الأسس الحديثة لحقوق الملكية. حلت الضرائب العقارية التي كانت تسدد إلى الحكومة الوطنية محل الضرائب الإقطاعية، ومثلت هذه الضرائب الجانب الأكبر من مصدر الدخل للدولة خلال سبعينيات القرن التاسع عشر. وفي عام 1873، أدخل نظام التجنيد العام وأنشئ جيش حديث على غرار الجيوش الأوروبية؛ أدى هذا إلى تآكل امتيازات طبقة الساموراي الذين كانوا وحدهم مسموحا لهم بحمل السلاح في السابق. في عام 1890، أرسى دستور مكتوب أسسا لإقامة ملكية دستورية على غرار النموذج البروسي.
تظهر الروح التقدمية في اليابان في عصر الإمبراطور ميجي من خلال مشكلة بسيطة؛ ألا وهي قياس الوقت. كانت الساعة اليابانية التقليدية تقسم الوقت من شروق الشمس إلى غروبها إلى ست ساعات، ومن غروب الشمس إلى شروقها إلى ست ساعات أخرى؛ ومن ثم اختلفت الساعة النهارية عن الساعة الليلية في مدة كل منهما، بل واختلف طول كل منهما على مدار السنة، وقد عمد صناع الساعات إبان عصر توكوجاوا إلى التجريب بإدخال التعديلات المبتكرة للساعات الميكانيكية الغربية لإعادة تشكيل نظام التوقيت هذا. وفي عام 1873، اكتمل بناء أول خط سكك حديدية ياباني، وواجهت الحكومة الميجية مشكلة الإعلان عن جدول زمني للقطارات . بدلا من استخدام جدول زمني معقد تختلف أوقات المغادرة والوصول فيه خلال أيام السنة، ألغت الدولة نظام التوقيت الياباني التقليدي واعتمدت نظام التوقيت الغربي القائم على 24 ساعة في اليوم؛ فنظام النقل الحديث استلزم وجود نظام توقيت حديث.
التنمية الاقتصادية في عصر ميجي
ربما رغبت الحكومة في عصر ميجي في تطوير البلاد من خلال اعتماد نموذج التنمية الاقتصادية القياسي، الذي أثبت نجاحه في دول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، بيد أنه لم يكن بوسعها سوى الاعتماد على عنصرين فقط من عناصره الأربعة؛ تمثل العنصر الأول في إنشاء سوق وطنية من خلال إلغاء التعريفات الجمركية المفروضة على التجارة بين المناطق، وبناء شبكة خطوط سكك حديدية. أما العنصر الثاني فهو نشر التعليم العام. في عام 1872، صارت المرحلة الابتدائية من التعليم إجبارية، وبحلول عام 1900، كان 90٪ من الأطفال في سن دخول المدارس مقيدين في المدارس. أقيمت المدارس الثانوية والجامعات لكنها كانت محدودة وتنافسية إلى حد كبير. أرسل الآلاف من اليابانيين إلى الخارج لتلقي تعليمهم؛ ونتيجة لذلك، أحرز التعليم تقدما في اليابان قبل غيرها من الدول الفقيرة بوقت طويل. يقارن الجدول
8-1
1
بين اليابان وإندونيسيا، وهي دولة تعتبر تجربتها مثالا لتجربة الكثير من دول آسيا وأفريقيا. في اليابان، كانت نسبة كبيرة من السكان (10,8٪) مقيدة في المدارس في أواخر القرن التاسع عشر، وبلغت نسبة القيد في المدارس مستوياتها الحديثة (19,7٪) بحلول الحرب العالمية الثانية. في المقابل، تخلفت إندونيسيا عدة أجيال عن اليابان، وقد كان التعليم العام سببا مهما في نجاح اليابان في تبني التكنولوجيا الحديثة.
جدول 8-1: نسبة السكان المقيدين في المدارس.
اليابان
إندونيسيا
1870
2,5
0,1
1880
6,7
0,1
1900
10,8
0,4
1913
14,1
1,1
1928
17,5
2,8
1940
19,7
3,4
1950
22,3
7,0
1973
17,2
13,6
1989
18,8
23,9
أما عناصر نموذج التنمية الأخرى - البنوك الاستثمارية والتعريفات الحمائية - فكانت أصعب في تنفيذها. لم تعرف اليابان في عصر توكوجاوا أي مؤسسات تشبه البنوك الحديثة، أما في عصر ميجي فقد سمحت الدولة بتأسيس البنوك منذ البداية، بيد أن نظام البنوك كان فوضويا، وتطلب الأمر خمسين عاما من اليابان حتى تستطيع تطوير نظام مصرفي على غرار النظام الألماني. في بداية عصر ميجي، سدت الدولة الفجوة من خلال أدائها دور شركات رأس المال المخاطر.
كان من المستحيل بالنسبة لليابان أن تفرض التعريفات الجمركية لدعم التنمية الصناعية؛ نظرا لأن الحد الأقصى للتعريفات كان عند مستوى 5٪ بموجب معاهدة فرضتها القوى الغربية على اليابان في عام 1866، بدلا من ذلك تدخلت الدولة مباشرة في الاقتصاد من خلال «السياسة الصناعية الموجهة»، وكان أهم اللاعبين في تنفيذ هذه السياسة هم وزراء الداخلية والصناعة، والذين عهد إليهم باستيراد التكنولوجيا المتطورة. أنشأت وزارة الصناعة نظم خطوط السكك الحديدية والتلغراف في اليابان في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر. أشرف الخبراء الأجانب على تنفيذ هذه المشروعات في البداية، لكن أسست كلية لتعليم المهندسين اليابانيين في أوساكا، ثم تخلت اليابان عن خدمات الأجانب في أسرع وقت ممكن، وكان أحد أسباب إدارة اليابانيين للمشروعات هو ضمان أن سياسة التوريد تدعم الصناعة اليابانية. على سبيل المثال، وقع صانعو الأواني الفخارية اليابانيون عقودا لصناعة عوازل لخطوط التلغراف، وبهذه الطريقة قامت صناعة الخزف.
في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر، تولت الوزارتان تنفيذ المشروعات على افتراض أن الشركات اليابانية لن تدخل التكنولوجيا الحديثة بالسرعة المطلوبة؛ لذا كان على الدولة أن تقوم بدور المقاول. أقيمت المناجم والمصانع المملوكة للدولة باستخدام الماكينات المستوردة المتطورة، بيد أن معظمها فشل فشلا تجاريا ذريعا. أقيم مصنع توميوكا لحل الحرير - على سبيل المثال - في عام 1872 باستخدام ماكينات فرنسية، وبالاعتماد على طاقة البخار، لكنه كان دائما ما يحقق خسائر. وفي ثمانينيات القرن التاسع عشر، باعت الحكومة اليابانية معظم مؤسساتها الصناعية، واعتمدت على الشركات لاتخاذ القرارات الإدارية في الإطار الذي وضعته الدولة، فتوصلت الشركات اليابانية إلى حل لمشكلة استيراد التكنولوجيا من خلال إعادة هندستها لتناسب الظروف اليابانية.
واجهت اليابان مشكلة تفاقمت بمرور الوقت؛ وهي التكنولوجيا الحديثة التي كانت أساس الماكينات والمصانع المصممة لتناسب شركات غربية تعمل في ظروف المجتمع الغربي. بنهاية القرن التاسع عشر، كانت الأجور في الغرب أعلى كثيرا من مثيلاتها في اليابان؛ لذا اعتمدت التصميمات الغربية على رأس مال ومواد خام أكثر، وذلك للاقتصاد في استخدام العمالة. لم تكن هذه البنية مناسبة لليابان؛ إذ أدت إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج. وفي حين ظلت بعض الدول تسير متخبطة باستخدام تكنولوجيا غير مناسبة لظروفها، توصلت اليابان إلى حل أكثر ابتكارا؛ إذ أعاد اليابانيون تصميم التكنولوجيا الغربية لجعلها ذات تكلفة مناسبة في ظل اقتصادهم منخفض الأجور.
كانت صناعة حل الحرير مثالا مبكرا. في الوقت الذي كان مصنع توميوكا يحقق خسائر، أقامت عائلة أونو التجارية في تسوكيجي مصنعا استخدم ماكينات استلهمت التكنولوجيا الأوروبية. في هذه الحالة، صنعت الماكينات من الخشب بدلا من المعدن، وتمثل مصدر الطاقة في رجال يديرون أذرع دوارة بدلا من الاعتماد على المحرك البخاري. صار إدخال التعديلات على التكنولوجيا الغربية وفق هذا النهج معروفا في اليابان باسم «أسلوب ساوا»، ومن ثم كانت هذه تكنولوجيا مناسبة لليابان؛ حيث إنها اعتمدت على القليل من رأس المال الباهظ والكثير من العمالة الأقل تكلفة.
ينطبق الأمر نفسه على صناعة القطن. لم تكن المحاولات المبكرة للغزل عن طريق ماكينة الغزل ناجحة، ولكن كانت ماكينة جارابو (عمود الدوران الهزاز)، التي ابتكرها جون توكميون أكثر نجاحا، وكان النجارون المحليون يصنعون ماكينات جارابو بأسعار زهيدة (ومن ثم فإنها كانت توفر في رأس المال)، وكانت تنتج غزلا يشبه الغزل الذي كانت تنتجه العجلات اليدوية المنافسة لها. لم تكن ماكينة جارابو مشروعا رفيع المستوى تدعمه الحكومة، ولكنه كان مدعوما من قبل جمعية تطوير الإنتاج التي كانت تديرها المنطقة المحلية لجوان.
وفي هذا الصدد، تكشف المقارنة مع الهند أمورا كثيرة. كانت صناعة غزل القطن التي نمت بسرعة في بومباي في سبعينيات القرن التاسع عشر تستخدم ماكينات الغزل الإنجليزية، وكانت المصانع تدار بالطريقة نفسها التي كانت تدار بها مثيلاتها في بريطانيا، ولم تجر أي محاولات منهجية لتخفيض رأس المال في الصناعة الهندية. في المقابل، جرت هذه المحاولات في اليابان، وكانت الخطوة الأولى الأساسية تتمثل في تشغيل المصانع لفترتي دوام تستمر كل منهما إحدى عشرة ساعة يوميا بدلا من دوام واحد، وهو ما كان معتادا في بريطانيا والهند، وقد أدى هذا إلى تخفيض رأس المال لكل ساعة بمقدار النصف. منذ تسعينيات القرن التاسع عشر وما بعدها، حلت العواميد الدوارة الحلقية عالية السرعة محل ماكينات الغزل الإنجليزية، وقد أفضت هذه التغييرات في الأساليب المتبعة إلى زيادة معدلات التوظيف مقارنة برأس المال، وأيضا إلى انخفاض التكاليف. بحلول القرن العشرين، صارت اليابان أقل دول العالم تكلفة في إنتاج غزل القطن، وتفوق اليابانيون على الهنود والصينيين والبريطانيين.
امتد تطوير التكنولوجيا الملائمة إلى مجال الزراعة. أجرى اليابانيون التجارب على ماكينات الإنتاج الزراعية الأمريكية في سبعينيات القرن التاسع عشر، لكنها لم تلق نجاحا نظرا لاعتمادها على رأس مال كثيف، أما الجهود التي حققت نجاحا أكبر فهي جهود زيادة إنتاجية الأراضي، حتى لو تطلب ذلك استخدام المزيد من العمالة. في عام 1877، تطورت زراعة أرز «الشنريكي» قرب أوساكا، وكان هذا النوع من الأرز ينتج محصولا كبيرا في حال تسميده، وفي حال حرث حقول الأرز بصورة كاملة. وقد اعتمدت وزارة الزراعة على منظمات المزارعين المخضرمين لنشر هذه الثقافة في جميع أنحاء البلاد. ارتفع الإنتاج الزراعي بصورة مطردة في اليابان في عصر ميجي، وساهم إسهاما مهما في نمو الاقتصاد ككل، بمجرد تركيز عملية الابتكار على زيادة إنتاجية الأراضي، وهي أحد عوامل الإنتاج النادرة وعالية القيمة.
الفترة الاستعمارية 1905-1940
بينما جرى إصلاح المجتمع الياباني خلال عصر ميجي، كان التغيير في البنية الاقتصادية بطيئا، فكانت الصناعات الرائدة صناعات تقليدية، مثل الشاي والحرير والقطن، وكانت صادرات هذه المنتجات تستخدم في شراء الماكينات المستوردة والمواد الخام.
تسارع النمو الصناعي بين عامي 1905 و1940، كما تغيرت طبيعته. قفزت حصة التصنيع في الاقتصاد الياباني من 20٪ من إجمالي الناتج المحلي في عام 1910، إلى 35٪ في عام 1938. وفي تلك الفترة، وضعت أسس الصناعات التعدينية والهندسية والكيميائية التي قادت النمو الياباني في فترة ما بعد الحرب، مثلما وضعت أسس الشركات الشهيرة التي تصنع هذه المنتجات.
تزامنت هذه التطورات مع التنفيذ الكامل لنموذج التنمية الاقتصادية القياسي. استعادت اليابان السيطرة على سلطتها في فرض التعريفات في عامي 1894 و1911؛ فجرى رفع قيمة التعريفات مباشرة لحماية صناعتها. بحلول عشرينيات القرن العشرين، كان النظام المصرفي قد نضج إلى الدرجة التي صار معها يستطيع تمويل التنمية الصناعية. بالإضافة إلى ذلك، أبقت اليابان على نظامها القائم على السياسة الصناعية الموجهة، وقد أثبت استخدام مزيج من الأدوات السياسية فعاليته البالغة في دعم الصناعات الثقيلة.
اتخذت الخطوة الأولى في عام 1905 عندما أسس مصنع ياواتا للصلب لأسباب استراتيجية . كان المصنع مملوكا للدولة وتطلب توفير الدعم لسنوات قبل أن يحقق أرباحا، وقد قدمت الحرب العالمية الأولى دعما للشركات اليابانية نظرا لانقطاع الواردات الأوروبية، وبعد الحرب، أجرت الهيئات العسكرية اليابانية أبحاثا مشتركة مع الشركات الخاصة، ودعمت الصناعات الرئيسية مثل صناعة السيارات والشاحنات والطائرات من خلال عقود التوريد. كانت الشركات القابضة تمتلك الشركات الكبرى، فضلا عن البنوك التي كانت تمولها. نسق هذا «الزايباتسو» (التحالف الصناعي) عمليات الإنتاج، وتولى توفير الاستثمارات للصناعة.
بينما كان الهدف من هذا التحالف الصناعي التعامل مع نقص رأس المال في اليابان من خلال زيادة معدلات الادخار والاستثمار، واجهت إدارة الشركات عامل الأسعار من خلال ابتكار التكنولوجيا المناسبة. ابتكرت الشركات الأمريكية التي تعمل في إطار اقتصاد مرتفع الأجور نظم إنتاج قائمة على خطوط التجميع التي تعتمد على الماكينات بصورة أساسية، والتي تقتصد في الأيدي العاملة. في المقابل، كانت الشركات اليابانية تقتصد في المواد الخام ورأس المال. كان أحد أشهر المنتجات اليابانية الطائرة المقاتلة ميتسوبيشي زيرو، ولم تتحقق السرعة القصوى للطائرة التي بلغت 500 كيلومتر في الساعة على ارتفاع 4000 متر من خلال زيادة قدرة محركها، بل عن طريق تخفيض وزنها. كان أحد التطورات المتميزة في ثلاثينيات القرن العشرين تبني استراتيجية «الإنتاج الآني»؛ أي إنه بدلا من إنتاج مخزون كبير من المكونات الصناعية، ومن ثم الحاجة إلى رأس مال لتمويلها، لجأت الشركات اليابانية إلى إنتاج المكونات الصناعية فقط عند الحاجة إليها، وقد أثبتت تقنية «الإنتاج الآني» نجاحها وإنتاجيتها العالية، حتى إنها صارت تطبق في السياقات التي يتوفر فيها رأس المال أو تلك التي لا يتوفر فيها.
على عكس روسيا القيصرية أو المكسيك، لم يكن الاستثمار الخارجي قناة ذات أهمية نسبيا لاستيراد التكنولوجيا الغربية، بدلا من ذلك أقامت الشركات اليابانية إدارات أبحاث وتطوير خاصة بها لنسخ التكنولوجيا الغربية وإعادة هندستها لتناسب الظروف اليابانية، وكانت الدولة تدعم الشركات. فعندما ثبت استحالة استيراد التوربينات الكهربائية من ألمانيا في عام 1914، حازت هيتاشي عقدا لتطوير توربين بقدرة 10 آلاف حصان لاستخدامه في أحد المشروعات الكهرومائية، ونظرا لأن أكبر توربين صنعته هيتاشي قبل ذلك كان بقوة 100 حصان، كان أمام الشركة الكثير لتتعلمه، وقد دعمت هذه التجربة القدرات الهندسية للشركة.
لم يكن تطبيق اليابان لنموذج التنمية القياسي ناجحا بالكامل. من جانب، نشأ مجتمع حضري يمتلك صناعات متقدمة، وزاد إجمالي الناتج المحلي للفرد من 737 دولارا أمريكيا في عام 1870، إلى 2874 دولارا أمريكيا في عام 1940، ونظرا لحالة الركود التي سادت معظم دول العالم الثالث، كانت هذه الإنجازات مبهرة. على الجانب الآخر، كان معدل نمو الدخل لكل فرد (2,0٪ سنويا) متواضعا، ولا يزيد كثيرا عن معدل النمو الأمريكي بمقدرا 1,5٪، ولو كانت هذه المعدلات قد استمرت بعد عام 1950، كان الأمر سيستغرق من اليابان 327 عاما للحاق بالولايات المتحدة، وهذه ليست بالسرعة الكافية.
انعكس هذا النمو البطيء في نقاط ضعف في سوق العمالة، مثلما كان الحال في روسيا والمكسيك. كانت الشركات الكبرى تدفع أجورا مرتفعة، فيما ظلت الأجور منخفضة للغاية في الزراعة والصناعات صغيرة الحجم؛ نظرا لضعف الطلب على العمالة. استمرت هذه القطاعات في الاعتماد على التكنولوجيا اليدوية أو الماكينات البسيطة. كانت هناك علاقة نفعية متبادلة بين القطاعات الحديثة والتقليدية: فإذا أمكن تنفيذ إحدى مراحل عملية الإنتاج الحديثة بأقل تكلفة، من خلال استخدام الأساليب اليدوية محدودة النطاق، كان يجري تعهيد تنفيذ هذه المرحلة إلى شركة صغيرة.
أمريكا اللاتينية
أجرت أمريكا اللاتينية أحدث التجارب في تطبيق النموذج القياسي، وقد بدأ ذلك في الوقت الذي اندمج فيه النصف الجنوبي من القارة في الاقتصاد العالمي.
كانت المكسيك والأنديز والبرازيل والكاريبي جزءا من الاقتصاد العالمي منذ القرن السادس عشر، بينما كان الجزء الجنوبي من أمريكا اللاتينية بعيدا للغاية عن أوروبا بما لا يسمح بالتجارة معها بصورة مربحة. بعد عام 1860، جعلت السفن البخارية من المربح تصدير القمح من الأرجنتين وأوروجواي، وتصدير السماد والنحاس من ساحل المحيط الهادئ للقارة. انضمت اللحوم إلى قائمة الصادرات في عام 1877، عندما حملت أول سفينة تحتوي على ثلاجات - سفينة «لو فريجورفيك» - لحم ضأن مجمد من بيونس آيريس إلى روان. ازدهرت الصادرات، وبدأت المنطقة في اجتذاب المستوطنين ورأس المال من أوروبا. بحلول عام 1900، صار المخروط الجنوبي أحد أكثر مناطق العالم ثراء، وما لبثت أن انضمت الأرجنتين إلى المكسيك في تطوير التصنيع.
كان كثير من دول أمريكا اللاتينية أصغر حجما من أن تصير دولا صناعية؛ لذا استمرت هذه الدول في تصدير المنتجات الأولية واستيراد المنتجات المصنعة، واستمرت كذلك على فقرها. على الجانب الآخر، أجرت الاقتصادات الكبرى تجارب على تطبيق نموذج التنمية القياسي في أواخر القرن التاسع عشر، وثابرت في تطبيقه حتى ثمانينيات القرن العشرين عندما أطلق عليه «إحلال الواردات بالتصنيع». أولا: أنشئ 90 ألف كيلومتر من خطوط السكك الحديدية في الأرجنتين والبرازيل والمكسيك وتشيلي بحلول عام 1913. ثانيا: وفرت التعريفات الجمركية حماية لصناعات مثل صناعة المنسوجات والحديد. ثالثا: سارت دول أمريكا اللاتينية على النموذج الروسي مع توفير الاستثمارات من الخارج. رابعا: تمثلت هفوة أخرى في عدم توفير التعليم العام. كانت الأرجنتين الاستثناء الكبير في هذا الصدد؛ إذ فرضت التعليم الإجباري المجاني في عام 1884؛ ونتيجة لذلك جاءت الأرجنتين في مقدمة دول القارة (تتبعها مباشرة تشيلي)؛ حيث كان أكثر من نصف سكانها البالغين يعرفون القراءة والكتابة في عام 1900، مقارنة بربع السكان في المكسيك وفنزويلا والبرازيل.
تسارعت التنمية الصناعية محتمية بجدار التعريفات الجمركية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، كما أضفت الأسعار المنخفضة للصادرات الزراعية من القارة ثقلا للمناقشات حول دعم التنمية الصناعية، وقد تحولت هذه الرغبات إلى عقيدة راسخة من خلال لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية تحت إشراف الاقتصادي الأرجنتيني راؤول بريبيش. أكد تقرير «التنمية الاقتصادية في أمريكا اللاتينية ومشكلاتها الأساسية» (1950) أن أسعار المنتجات الأولية التي تصدرها دول أمريكا اللاتينية كانت تنخفض مقارنة بأسعار الواردات المصنعة، وأوصى التقرير بدعم الدولة للصناعة لمواجهة هذه المشكلة. كانت «نظرية التبعية» مؤثرة إلى حد كبير على الرغم من جدلية ادعاءاتها. خذ مثلا بالأمثلة المذكورة في هذا الكتاب؛ على سبيل المثال، يتوافق تاريخ زيت النخيل والكاكاو مع النظرية؛ نظرا لانخفاض أسعارهما مقارنة بسعر الأقمشة القطنية منذ منتصف القرن التاسع عشر (الشكلان
7-1
و
7-2 ).
ومع ذلك،»ارتفع«سعر القطن الخام مقارنة بسعر الأقمشة في الهند في القرن التاسع عشر، وهو ما أدى إلى هجر الأنشطة التصنيعية (الشكلان
5-1
و
5-2 ).
أدت نظرية التبعية إلى التطبيق الكامل لنموذج التنمية الاقتصادية القياسي، فصار التعليم عاما في نهاية المطاف، وأسست بنوك التنمية لتمويل المشروعات التنموية، بينما صار الاستثمار الخارجي وسيلة لتمويل الصناعة واستقدام التكنولوجيا المتطورة، واستخدمت التعريفات الجمركية وأدوات السيطرة الحكومية لدعم عدد من الصناعات الحديثة، وارتفع الإنتاج الصناعي وعملية التحضر، وازداد الدخل لكل فرد بأكثر من الضعف بين عامي 1950 و1980، ولكن ارتفع الدين الخارجي، ولم يعد من الممكن سداد قيمة الفائدة بعد ارتفاع معدلات الفائدة في أوائل ثمانينيات القرن العشرين. عجزت المكسيك عن السداد في عام 1982، واقترحت البنوك الغربية تقديم قروض، وانتهى المطاف بدخول أمريكا اللاتينية في ركود، وهكذا بلغ نموذج التنمية الاقتصادية القياسي منتهاه.
وقد عكس فشل التصنيع الذي يحفزه فرض التعريفات الجمركية عوامل أكثر عمقا مثل تطور التكنولوجيا. كان التباين في الأجور بين الدول الغنية والفقيرة قد زاد، بحيث صارت التكنولوجيا الجديدة كثيفة رأس المال التي ظهرت في خمسينيات القرن العشرين أقل ملاءمة لظروف الدول الفقيرة من تكنولوجيا عام 1850. بالإضافة إلى ذلك، ظهرت مشكلة جديدة؛ فلم تقتصر التكنولوجيا الجديدة في منتصف القرن العشرين على ارتفاع نسبة تكلفة رأس المال إلى تكلفة العمالة، بل تضمنت أيضا وجود مصانع ضخمة، والتي كانت في الغالب أكبر من قدرة أسواق الدول الفقيرة على استيعابها.
تعتبر صناعة السيارات مثالا مهما. شجعت معظم دول أمريكا اللاتينية إنتاج السيارات، ولكن كانت أسواقها أصغر حجما من أن تسمح بتشغيل هذه المصانع بشكل فعال. بلغ الحجم الأدنى للإنتاج الفعال لمصانع تجميع السيارات في ستينيات القرن العشرين 200 ألف سيارة سنويا، واقترب الحجم الأدنى للإنتاج الفعال للمحركات وناقلات الحركة من مليون وحدة سنويا، بينما كانت كابسات الألواح المعدنية تنتج أربعة ملايين وحدة طوال فترة عمرها الافتراضي. لم يكن هناك سوى سبع شركات فقط (جنرال موتورز، وفورد، وكرايسلر، ورينو، وفولكس فاجن، وفيات، وتويوتا) تستطيع إنتاج مليون سيارة على الأقل سنويا، كما كانت هذه الشركات تمتلك مصانع لتصنيع المحركات وناقلات الحركة والتجميع يمكنها الإنتاج في حدود الحجم الأدنى للإنتاج الفعال. (تحققت الكفاءة في تشكيل المعادن من خلال تغيير تصميم جسم السيارة كل عدة سنوات.) أما الشركات الأصغر حجما فكانت تكاليف الإنتاج المرتفعة تمثل عبئا عليها.
كانت أسواق السيارات في أمريكا اللاتينية أصغر حجما. في خمسينيات القرن العشرين، كانت حوالي 50 ألف سيارة جديدة تباع سنويا في الأرجنتين. اشترط مرسوم السيارات لسنة 1959 أن يكون 90٪ على الأقل من مكونات السيارات المبيعة في البلاد مصنعا فيها. زاد إنتاج السيارات بنسبة 24٪ سنويا حتى عام 1965، عندما أنتجت 195 ألف سيارة، وكانت صناعة السيارات تمثل 10٪ من حجم الاقتصاد. بدا نموذج إحلال الواردات بالتصنيع ناجحا للغاية من حيث نمو الإنتاج، ولكن كان حجم الصناعة أصغر بكثير من أن يحقق مستوى الإنتاج الذي تحققه الاقتصادات الكبيرة الحجم. وفاقم من مشكلة صغر حجم السوق المحلية تقسيمها بين 13 شركة كانت أكبرها تنتج 57 ألف سيارة فقط، فترتب على ذلك أن بلغت تكلفة إنتاج سيارة في الأرجنتين 2,5 مرة أكثر من تكلفة إنتاجها في الولايات المتحدة. لم تستطع الأرجنتين المنافسة دوليا في ظل هذه البنية الصناعية، بل وأدى قطاع تصنيع السيارات إلى دفع كفاءة الاقتصاد بأسره إلى أسفل، ونظرا لأن المشكلة نفسها تكررت مع صناعات الصلب والبتروكيماويات والصناعات الأخرى، لعب نموذج إحلال الواردات بالتصنيع دورا كبيرا في خفض إجمالي الناتج المحلي لكل عامل، ومن ثم خفض المستوى المعيشي.
تعتبر المقارنة مع القرن التاسع عشر صارخة، فلم يكن الحجم مسألة ذات أهمية في القرن التاسع عشر. في حوالي عام 1850، كان مصنع القطن العادي يشتمل على 2000 ماكينة عمود دوار، وكان الإنتاج يصل إلى 50 طن من الغزل سنويا، وكانت الولايات المتحدة تستهلك حوالي 100 ألف طن من الغزل سنويا؛ لذا كانت تستطيع استيعاب 2000 مصنع قطن تنتج في حدود الحجم الأدنى من الإنتاج الفعال. والأمر نفسه ينطبق على الصناعات الحديثة الأخرى؛ فكان فرن صهر الحديد ينتج 5 آلاف طن سنويا، وكان إجمالي الاستهلاك في الولايات المتحدة يصل إلى 800 ألف طن أو ما يكافئ 160 ضعفا للحجم الأدنى للإنتاج الفعال ، وكان مصنع إنتاج قضبان خطوط السكك الحديدية ينتج 15 ألف طن من القضبان سنويا، بينما كانت الولايات المتحدة تنتج 400 ألف طن (أي 27 ضعفا للحجم الأدنى للإنتاج الفعال فقط!) رفعت التعريفات الجمركية المرتفعة التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية من الأسعار التي كان المستهلكون يدفعونها في القرن التاسع عشر، لكن هذه الدول لم تحمل اقتصادها عبء بنية صناعية غير فعالة، وهو ما يعد سببا أساسيا في تفسير نجاح نموذج التنمية الاقتصادية القياسي في أمريكا الشمالية وفشله في أمريكا الجنوبية.
نهاية النموذج القياسي
أفضى نموذج التنمية الاقتصادية القياسي في روسيا القيصرية واليابان وأمريكا اللاتينية إلى نمو اقتصادي محدود لم يكن كافيا لسد الفجوة مع الغرب، وفي ظل نمو إجمالي الناتج المحلي للفرد بمعدل 2٪ سنويا في الدول المتقدمة، كان على الدول الفقيرة تحقيق - على الأقل - هذه النسبة من النمو ليظل نموها منتظما، وتحقيق نسبة أعلى بكثير للحاق بالغرب خلال إطار زمني محدود. لم تستطع روسيا القيصرية واليابان وأمريكا اللاتينية تحقيق ذلك من خلال نموذج التنمية القياسي، فكانت النتيجة الطبيعية نموا بطيئا للطلب على العمالة يتخلف كثيرا عن النمو في عدد السكان، ومن ثم عانت روسيا القيصرية وأمريكا اللاتينية من مستويات مرتفعة من اللامساواة وعدم الاستقرار السياسي. وبالمثل، فشلت مجموعات كثيرة في يابان ما قبل الحرب العالمية الثانية - العمال في مجال الزراعة والصناعات الصغيرة والنساء - في جني ثمار هذا النمو، وقد تفاقمت هذه المشكلات بمرور الوقت مع زيادة حجم الإنتاج الفعال، وارتفاع نسبة تكلفة رأس المال إلى تكلفة العمالة في الدول الغنية. وحتى بافتراض غياب الأزمة المالية التي وقعت في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، بدا أن نموذج التنمية القياسي قد بلغ نهاية عمره الافتراضي المثمر . فماذا يمكن أن يحل محله؟
هوامش
الفصل التاسع
التصنيع في نموذج«الدفعة
القوية»
حقق الغرب مزيدا من التقدم على باقي دول العالم في القرن العشرين، ولكن بعض الدول سلكت اتجاها مغايرا ونجحت في اللحاق بالغرب، أبرزها اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية، فضلا عن الاتحاد السوفييتي (وإن كان بصورة أقل اكتمالا)، ويبدو أن الصين تسير على المسار الصحيح لتكرر الأمر نفسه. كان النمو في هذه الدول سريعا للغاية، وردمت الفجوة مع الغرب في نصف قرن، وقد بدأت هذه الدول فورة النمو بمستوى دخل لكل فرد يساوي 20-25٪ فقط من مستوى الدخل لكل فرد في الدول المتقدمة، ومع نمو مستوى الدخل لكل فرد في الدول المتقدمة بمعدل 2٪ سنويا، كانت الدولة الفقيرة تستطيع اللحاق بها في غضون جيلين (60 عاما) فقط في حال نمو الناتج المحلي الإجمالي لكل فرد بها بنسبة 4,3٪ سنويا، وهذا يتطلب نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 6٪ أو أكثر سنويا حسب نمو عدد السكان، وهذه عقبة كئود. ومن ثم، فقد كانت الطريقة الوحيدة التي استطاعت من خلالها الدول الكبرى تحقيق النمو بسرعة هي بناء جميع عناصر الاقتصاد المتقدم - مصانع الصلب، ومحطات توليد الطاقة، ومصانع إنتاج المركبات، والمدن وغيرها - في آن واحد، وهذا هو ما يعرف بتصنيع «الدفعة القوية». ويثير هذا النمط من التصنيع مشكلات عويصة؛ حيث يجري بناء كل شيء قبل توفر العرض والطلب؛ فتبنى مصانع الصلب قبل بناء مصانع السيارات التي ستستخدم ألواح الصلب المدرفلة التي ستنتجها مصانع الصلب، وتبنى مصانع السيارات قبل توافر الصلب الذي ستقوم بتصنيعه، وبالطبع قبل وجود طلب حقيقي على منتجاتها. يعتمد كل استثمار على إيمان بأن عناصر الاستثمار المكملة ستتحقق، ويتطلب نجاح التصميم الكبير وجود سلطة تخطيط لتنسيق الأنشطة المختلفة وضمان تنفيذها. وقد نجحت الاقتصادات الكبرى التي انطلقت هاربة من شرنقة الفقر في القرن العشرين في القيام بذلك، على الرغم من التفاوت الكبير بينها في أسلوب التخطيط.
التنمية الاقتصادية السوفييتية
يعتبر الاتحاد السوفييتي المثال الكلاسيكي على نموذج الدفعة القوية. تلا ثورة عام 1917 أربع سنوات من الحرب الأهلية انتصر فيها البلاشفة، ثم أقروا بمطالب الفلاحين في امتلاك الأراضي وتوزيعها بالتساوي على العاملين في الزراعة. بحلول عام 1928، كانت السياسة الاقتصادية الجديدة قد أعادت إحياء الاقتصاد. كان لينين قد مات، ووصل ستالين إلى السلطة.
واجهت جمهوريات الاتحاد السوفييتي المشكلة نفسها التي واجهتها الدول الفقيرة؛ فكان معظم السكان يعيشون في مناطق ريفية ويمارسون حرفا يدوية وكذلك الزراعة على نطاق صغير، وكانت الدولة في حاجة إلى بناء اقتصاد حديث حضري؛ وهو ما تطلب بدوره الاستثمار الكثيف في التكنولوجيا الحديثة. تمثل الحل السوفييتي في التخطيط المركزي، وصارت الخطة الخمسية رمزا له، ونظرا لأن الشركات السوفييتية كانت مملوكة للدولة، كانت توجهها أوامر عليا (الخطة) بدلا من الاستجابة لقوى السوق. ولفترة طويلة، ظل النموذج السوفييتي يبدو مثالا على النجاح العظيم، كما ألهم تطبيق أسلوب التنمية المخططة في كثير من الدول الفقيرة.
بدأت الدفعة القوية السوفييتية مع تطبيق الخطة الخمسية الأولى في عام 1928. كانت استراتيجية النمو تقوم على أربع ركائز: تمثلت الركيزة الأولى في توفير الاستثمارات للصناعات الثقيلة وتصنيع الماكينات؛ وهو ما أدى إلى الإسراع في القدرة على بناء المعدات الرأسمالية، ومن ثم زيادة معدلات الاستثمار. كان الاتحاد السوفييتي كبير الحجم بما يكفي لاستيعاب إنتاج المصانع الكبيرة التي صارت هي النموذج المعتاد. أما الركيزة الثانية فكانت استخدام الأهداف الإنتاجية المتطلبة في توجيه عمليات الشركات. ونظرا لأن تعظيم الإنتاج قد يؤدي إلى تكبد خسائر، كانت الائتمانات المصرفية تمنح بسهولة بالغة للشركات لتغطية نفقاتها. وحلت «قيود الميزانية المرنة» محل «قيود الميزانية الصعبة» التي تميز الرأسمالية. وأما الثالثة، فصارت الزراعة نشاطا اقتصاديا جماعيا. سياسيا، كانت هذه السياسة هي الأكثر جدلا؛ إذ كانت بغيضة بالنسبة للفلاحين الذين كانوا يفضلون امتلاك مزارع عائلية صغيرة، وإعادة توزيع دورية للأراضي من قبل القرية لضمان تحقيق المساواة. ترتب على تطبيق سياسة الزراعة الجماعية انخفاض حاد في إنتاجية الزراعة، كما أدت إلى حدوث مجاعة في عام 1933. وتمثلت الركيزة الرابعة في التعليم العام، فسرعان ما نشر التعليم على نطاق واسع كما صار إجباريا، ووضعت سياسة نشطة لتعليم البالغين بغرض تقليص الوقت اللازم لتدريب كامل القوة العاملة.
أدت هذه الإجراءات إلى نمو الاقتصاد بسرعة، وعندما وقع الغزو الألماني في عام 1940، كان الآلاف من المصانع والسدود ومحطات توليد الطاقة قد أنشئت. وجهت الخطط الاستثمارات إلى قطاع الصناعات الثقيلة الذي ازدهر بقوة، وبحلول عام 1940 زاد إنتاج الحديد الغفل من حد أقصى يصل إلى 4 ملايين طن سنويا قبل الحرب إلى 15 مليون طن، وهو ما كان يمثل ضعف إنتاج بريطانيا، ولكنه كان لا يزال نصف إنتاج الولايات المتحدة. ارتفع حجم توليد الطاقة الكهربائية من 5 إلى 42 مليار كيلوواط/ساعة. (وصف لينين الشيوعية ذات مرة مازحا: «القوة السوفييتية زائد إدخال الكهرباء في جميع أرجاء البلاد.» ووفق هذا التعريف، تعتبر الثورة قد حققت نجاحا.) وارتفع معدل الاستثمار من حوالي 8٪ من إجمالي الناتج المحلي في عام 1928 إلى 19٪ في عام 1939.
زاد إنتاج السلع الاستهلاكية أيضا ولكن بصورة ضئيلة. يرجع السبب في ذلك، جزئيا إلى ترتيب الأولويات، وجزئيا إلى التحويل الكارثي للزراعة إلى نشاط جماعي. وعلى أية حال، فقد تعافى الإنتاج بنهاية العقد نفسه. في عام 1939، كان الاتحاد السوفييتي ينتج حوالي 900 ألف طن من القطن المحلوج، وهو ما يماثل ضعف مستوى الإنتاج في عام 1913، وأعلى بنسبة 50٪ من إنتاج بريطانيا العظمى (التي انخفض إنتاجها انخفاضا ملحوظا نظرا للمنافسة اليابانية)، لكنه كان يمثل 52٪ فقط من إجمالي إنتاج الولايات المتحدة، وفي حين انخفض الاستهلاك لكل فرد انخفاضا حادا في عامي 1932 و1933، كانت هناك زيادة بنسبة 20٪ في متوسط مستويات المعيشة بين عامي 1928 و1939. بالإضافة إلى ذلك، انتشرت الخدمات التعليمية والصحية بصورة هائلة.
كانت الحرب العالمية الثانية ضربة قاصمة بالنسبة للاتحاد السوفييتي؛ فقد 15٪ من المواطنين السوفييت حياتهم (وصل معدل الوفيات بين الرجال بين 20-49 عاما إلى 40٪)، كما دمرت المنازل والمصانع. في المقابل، استعيد إجمالي رأس المال بحلول عام 1950، وجرى استئناف النمو الاقتصادي السريع. ظل الاستثمار في حدود 38٪ من إجمالي الناتج المحلي، وبحلول عام 1975، كان الاتحاد السوفييتي ينتج أكثر من 100 مليون طن من الحديد الغفل متفوقا على الولايات المتحدة، كما زاد إنتاج السلع الاستهلاكية أيضا بسرعة، وبدا وكأن النموذج السوفييتي هو الطريقة المثلى التي تستطيع من خلالها أية دولة فقيرة تحقيق النمو.
ثم ما لبث أن سار كل شيء في الاتجاه الخاطئ؛ بدأ معدل النمو في الانخفاض تدريجيا في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وبنهاية العقد وصل معدل النمو إلى صفر. دعا الرئيس جورباتشوف إلى تطبيق سياسة «إعادة الهيكلة» (البيريسترويكا)، فأفسح التخطيط المركزي المجال للسوق، ولكن كان الوقت قد فات لإنقاذ الاتحاد السوفييتي، فانهار.
في حالة الاتحاد السوفييتي، هناك سؤالان يطرحان نفسيهما؛ أولا: ما الذي سار في الاتجاه الصحيح؟ لماذا زاد إجمالي الإنتاج المحلي لكل فرد بسرعة كبيرة من عام 1928 إلى سبعينيات القرن العشرين؟ يتعلق جزء من الإجابة ب «إجمالي الإنتاج المحلي»، وجزء آخر ب «عدد السكان». زاد إجمالي الإنتاج المحلي سريعا؛ نظرا لفعالية المؤسسات السوفييتية في بناء مصانع ضخمة حديثة. زاد تدفق الاستثمارات على الصناعات الثقيلة من القدرة على بناء الكيانات الصناعية والمعدات، كما أدت قيود الميزانية المرنة إلى توفير فرص عمل للأفراد الذين لم يكن ليتوفر لهم فرص عمل في اقتصاد يوجد فيه فائض في العمالة. ساهم تحويل الزراعة إلى نشاط جماعي أيضا في نمو إجمالي الناتج المحلي (وإن كان إسهاما محدودا)، من خلال تسريع معدلات هجرة الأفراد إلى المدن حيث توجد الوظائف الجديدة. في البداية، لم يتطلب التخطيط توفر رؤية عميقة؛ حيث اقتصر الهدف آنذاك على تبني التكنولوجيا الغربية بما يلائم الظروف الروسية.
أما السبب الثاني لنمو إجمالي الناتج المحلي لكل فرد بسرعة فهو بطء نمو عدد السكان. ارتفع عدد السكان من 155 مليون نسمة في عام 1920، إلى 290 مليون نسمة في عام 1990. كان النمو البطيء يرجع جزئيا إلى ارتفاع معدلات الوفيات جراء تحويل الزراعة إلى نشاط جماعي، وإلى الحرب العالمية الثانية بصورة خاصة، لكن تضاءلت أهمية هذين العاملين في ضوء انخفاض معدلات الخصوبة. في عشرينيات القرن العشرين، كانت المرأة السوفييتية تنجب في المتوسط سبعة أطفال، بحلول ستينيات القرن العشرين، وصلت هذه النسبة إلى 2,5. ساهم التوسع في التحضر إلى نمو إجمالي الناتج المحلي، فيما تمثل أكثر الأسباب أهمية في ذلك (مثلما هو الحال في الدول الفقيرة بصورة عامة) في تعليم المرأة وممارستها العمل خارج المنزل.
ثانيا: ما الذي سار في الاتجاه الخطأ تحديدا؟ لماذا تباطأ النمو في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين؟ تتنوع الإجابات بين أسباب عابرة وأخرى جوهرية، وتشمل نهاية اقتصاد فائض العمالة، وإهدار الاستثمارات في تنمية إقليم سيبيريا، وصراع التسلح مع الولايات المتحدة الذي استنزف موارد البحث والتطوير من الصناعة المدنية، والصعوبة المتزايدة في التخطيط مع اكتمال اللحاق بالركب التكنولوجي الغربي، وتحول المهمة إلى التخطيط للمستقبل، واستحالة السيطرة المركزية (ماذا كان سيحدث للاقتصاد الأمريكي لو كان يجب على الرئيس إدارته بنفسه؟) فضلا عن الشعور بعدم الثقة والإذعان اللذين يولدهما الحكم الديكتاتوري. وقد أدى انهيار الاتحاد السوفييتي إلى رفض الكثير من المراقبين لسياسة تخطيط الدولة والاحتفاء بمزايا السوق الحرة. ولكن دولا أخرى أبلت بلاء أفضل عن طريق تبني صور أخرى للتخطيط.
اليابان
كانت أهداف السياسة اليابانية قبل الحرب العالمية الثانية تتلخص في شعار «دولة غنية وجيش قوي»، وقد أدت هزيمة اليابان في الحرب إلى رفض «الجيش القوي»، لكنها سعت لتحقيق الجزء الأول من الشعار أي «الدولة الغنية» بتفان أكثر من ذي قبل. كانت اليابان في حاجة إلى دفعة قوية لسد فجوة الدخل مع الغرب، وكان المشروع الاقتصادي الياباني في غاية النجاح؛ فقد ارتفع الدخل لكل فرد بمعدل 5,9٪ سنويا بين عامي 1950 و1990، فيما بلغت ذروة النمو نسبة 8٪ بين عامي 1953 و1973. بحلول عام 1990، حققت اليابان نفس مستويات المعيشة لدول أوروبا الغربية.
حققت اليابان هذه الطفرة من خلال اعتماد سياسة معاكسة لسياسة التكنولوجيا التي اتبعتها إبان عصر ميجي والعصر الاستعماري، فبدلا من تكييف التكنولوجيا الحديثة بما يتلاءم مع أسعار عناصر الإنتاج، لجأت اليابان إلى استخدام أحدث التكنولوجيات وأكثرها كثافة في رأس المال على نطاق واسع. بلغ معدل الاستثمار نحو ثلث الدخل القومي في سبعينيات القرن العشرين. ارتفع إجمالي رأس المال بصورة سريعة للغاية؛ مما أدى إلى ظهور اقتصاد عالي الأجور خلال جيل واحد. وهكذا، ضبطت أسعار عناصر الإنتاج وفقا للبيئة التكنولوجية الجديدة، وليس العكس.
تطلب التصنيع الياباني في مرحلة ما بعد الحرب التخطيط، والذي اضطلعت فيه وزارة التجارة الدولية والصناعة بدور البطولة. وقد استخدمت الأدوات السياسية التي طورتها اليابان خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين لتسريع معدلات النمو.
ركزت وزارة التجارة الدولية والصناعة على نوعين من المشكلات. تتعلق المشكلة الأولى بحجم الإنتاج، وهي المشكلة التي أدت إلى فشل سياسة إحلال الواردات بالتصنيع في أمريكا اللاتينية. كان الصلب أحد أكثر الصناعات نجاحا في اليابان، فارتفع الإنتاج من 2,4 مليون طن في عام 1932 إلى أقصى حجم له عند مستوى 7,7 ملايين طن في عام 1943، ثم انخفض إلى 0,5 مليون طن في عام 1945، ثم عاد إلى 4,8 ملايين طن في عام 1950. تتمثل إحدى السمات الأساسية في إنتاج الصلب في انخفاض تكاليف الإنتاج إلى حدودها الدنيا في المصانع الكبيرة الحجم الكثيفة رأس المال. في عام 1950، وصل الحجم الأدنى للإنتاج الفعال إلى 1-2,5 مليون طن. كانت معظم المصانع الأمريكية أكبر من مثيلاتها اليابانية، فلم يضاهها إلا مصنع ياباني واحد (ياواتا الذي بلغت قدرته الإنتاجية 1,8 مليون طن)، أما باقي المصانع اليابانية، فكانت تنتج نصف مليون طن أو أقل من الصلب؛ نتيجة لذلك، كان الصلب الياباني أغلى من نظيره الأمريكي أو الأوروبي بنسبة 50٪ على الأقل، على الرغم من انخفاض الأجور في اليابان. تمثل هدف وزارة التجارة الدولية والصناعة في خمسينيات القرن العشرين في إعادة هيكلة الصناعة اليابانية، بحيث يجري إنتاج الصلب في مصانع تحقق الحجم الأدنى للإنتاج الفعال، وكان مصدر قوة وزارة التجارة الدولية والصناعة يتمثل في سيطرتها على النظام المصرفي، وسلطتها في توفير العملات الأجنبية التي كانت ضرورية لاستيراد فحم الكوك والحديد الخام. بحلول عام 1960، زادت قدرة الإنتاج اليابانية لتبلغ 22 مليون طن من خلال مصانع ضخمة حديثة. بعد عام 1960، اتخذ إشراف وزارة التجارة الدولية والصناعة على عملية التنمية الصناعية صورة أقل مباشرة، فاستمر التوسع الصناعي من خلال إنشاء مصانع جديدة في مواقع جديدة. كانت هذه المصانع جميعها تحقق الحجم الأدنى للإنتاج الفعال الذي ارتفع آنذاك إلى حوالي 7 ملايين طن. في المقابل، كانت معظم قدرة الولايات المتحدة الإنتاجية تتركز في مصانع قديمة لا تبلغ الحجم الأدنى للإنتاج الفعال، كما كانت المصانع اليابانية أكثر تطورا من الناحية التكنولوجية أيضا. كان 83٪ من الصلب الذي تنتجه اليابان خلال منتصف سبعينيات القرن العشرين يصهر في أفران أكسجين أساسية في مقابل 62٪ في الولايات المتحدة، وكانت نسبة 35٪ تصب في اليابان باستمرار في مقابل 11٪ في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من الزيادة الكبيرة في الأجور، ظلت اليابان أقل دول العالم تكلفة في إنتاج الصلب؛ نظرا لالتزامها باستخدام التكنولوجيا الحديثة كثيفة رأس المال. كانت اليابان تنتج أكثر من 100 مليون طن في عام 1975.
من كان سيشتري كل هذا الصلب؟ كانت صناعات بناء السفن، والسيارات، والماكينات، والإنشاءات أكبر العملاء المحليين، وكان على هذه الصناعات أن تتوسع بمحاذاة صناعة الصلب؛ ومن ثم كان ضمان تحقيق ذلك يمثل مشكلة تخطيط أخرى، فكان من الضروري تحديد طبيعة التكنولوجيا التي تستخدمها هذه الصناعات، كما جرى اعتماد منهج المصانع الضخمة الحجم الكثيفة رأس المال في هذه الصناعات مثلما حدث مع صناعة الصلب. في حالة صناعة السيارات - على سبيل المثال - كان نصيب الشركات اليابانية من رأس المال لكل عامل أكبر من نظيره في الشركات الأمريكية، وكان رأس المال الياباني أكثر كفاءة أيضا في استثماره؛ إذ إن مبدأ الإنتاج الآني كان يعني اشتمال الإنتاج على قدر أقل من المكونات غير المكتملة، بالإضافة إلى ذلك، كان نطاق الإنتاج في اليابان أكبر حجما. في خمسينيات القرن العشرين، اقترب الحجم الأدنى للإنتاج الفعال لمصانع التجميع من 200 ألف سيارة سنويا، وكانت شركات فورد وكرايسلر وجنرال موتورز تنتج ما بين 150 ألف و200 ألف سيارة لكل مصنع سنويا. في ستينيات القرن العشرين، دمجت مصانع سيارات يابانية جديدة خطوط تجميع متعددة وعمليات كبس في الموقع؛ وذلك لرفع الحجم الأدنى للإنتاج الفعال إلى أكثر من 400 ألف وحدة سنويا. كانت جميع شركات تصنيع السيارات اليابانية تنتج عند ذلك المستوى، بل وتمكنت الشركات الأكثر كفاءة - مثل هوندا وتويوتا - من إنتاج 800 ألف سيارة لكل مصنع سنويا. وقد أدى انتقال اليابان إلى استخدام أساليب الإنتاج الكثيفة رأس المال إلى نشأة أكثر الصناعات كفاءة في العالم، وهي صناعة قادرة على تقديم منتجاتها بأسعار تنافسية، وكذلك دفع أجور مرتفعة للعاملين فيها.
تمثلت المشكلة الثالثة في التخطيط في ضمان زيادة طلب الاستهلاك في اليابان لشراء المنتجات الاستهلاكية المعمرة. ساهمت مؤسسات العلاقات الصناعية اليابانية المتميزة في تحقيق ذلك؛ فالشركات الكبيرة ، واتحادات الشركات، وأجور الخدمة الطويلة، والتوظيف مدى الحياة، كل هذا يعني أن الشركات الناجحة كانت تشارك موظفيها في بعض فوائض أرباحها. وعلى أية حال، وفرت الشركات الصغيرة كذلك وظائف عديدة في اليابان، وفي خمسينيات القرن العشرين (مثلما كان الحال في الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية) كانت هذه الشركات تدفع أجورا منخفضة. خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، أدى التوسع الصناعي الهائل إلى إنهاء فائض العمالة، واختفى الاقتصاد المزدوج، مع ارتفاع الأجور في قطاع الشركات الصغيرة بسرعة. أدى ارتفاع الدخول الناشئ عن التوسع في توفير فرص العمل إلى ثورة في نمط الحياة؛ إذ أقدم اليابانيون على شراء الثلاجات والسيارات التي جرى تصنيعها بفضل التوسع في توفير الصلب. لم يقتصر الأمر على امتلاك اليابانيين لمزيد من الأجهزة، بل صار طعامهم أفضل وصاروا أكثر طولا. في عام 1891، كان متوسط طول الفرد المجند في الجيش 157 سنتيمترا، فيما وصل طول نظيره في عام 1976 إلى 168 سنتيمترا. لقد أثبت الإنفاق الاستهلاكي في اليابان صحة قرارات التوسع في بناء القدرة الإنتاجية وزيادة الأجور، بحيث صار استخدام التكنولوجيا الكثيفة رأس المال ملائما، وذلك بعد تطبيق القرارات، إن لم يكن قبلها.
تعلقت المشكلة الأخيرة في التخطيط بالأسواق الدولية، وقد كان لهذه المشكلة تداعيات تجاوزت سلطات وزارة التجارة الدولية والصناعة. في منتصف سبعينيات القرن العشرين، كانت صناعة الصلب اليابانية تصدر ما يقرب من ثلث إنتاجها - إلى الولايات المتحدة بصفة أساسية - وكانت تصدر نسبا مماثلة من السيارات والسلع الاستهلاكية المعمرة إلى الولايات المتحدة أيضا، وقد انهار إنتاج الصلب والسيارات في الولايات المتحدة تحت وطأة المنافسة اليابانية، وبالفعل كان أفول نجم الحزام الصناعي الأمريكي مكافئا لمعجزة اليابان الاقتصادية . كان بإمكان الولايات المتحدة بسهولة منع الواردات اليابانية من خلال مواصلة سياسة فرض التعريفات المرتفعة التي كانت تفرضها منذ عام 1816، وقد جرى التفاوض على فرض «قيود التصدير الطوعية»، لكنها كانت مجرد إجراءات مؤقتة، بدلا من ذلك، قررت الولايات المتحدة خفض التعريفات الجمركية فقط في حال قامت الدول الأخرى بالمثل (تحرير التجارة متعدد الأطراف). يرجع أحد أسباب ذلك إلى بروز الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية كأكثر اقتصادات العالم تنافسية؛ لذا بدا التوسع في فرصها التصديرية أكثر فائدة من حماية سوقها المحلي بلا ضرورة، ولكن شكك نجاح الصادرات اليابانية في صحة هذا الافتراض. لكن اليابان كانت قد رسخت مكانتها بصفتها حائط الصد للولايات المتحدة الأمريكية ضد الشيوعية في شرق آسيا، كما حافظ موقعها الجيوسياسي المهم على خياراتها التجارية.
لم يكن من الممكن أن يدوم عصر النمو السريع إلى الأبد، وعادة ما يرجع تاريخ انتهاء فترة الازدهار الكبير في اليابان إلى انهيار سوق العقارات وفقاعة الأسهم في عام 1991، وهو ما أفضى إلى عصر الانكماش، ولكن كان سبب ذلك أكثر عمقا، حيث تمثل في غياب الظروف التي مهدت الطرق أمام النمو السريع في المقام الأول. حققت اليابان نموا سريعا من خلال سد ثلاث فجوات مع الغرب: رأس المال لكل عامل، ومستوى التعليم لكل عامل، وحجم الإنتاجية. وقد تحقق ذلك بحلول عام 1990، وصارت اليابان حينها كأي دولة متقدمة؛ أي يمكنها تحقيق نمو بالسرعة نفسها التي تتطور بها التكنولوجيا - أي واحد أو اثنين بالمائة سنويا. ومن ثم، كان تباطؤ النمو ما بعد عام 1990 حتميا.
الصين
سارت كوريا الجنوبية وتايوان في أعقاب اليابان مباشرة في اللحاق بركب الغرب، فكلاهما كانت مستعمرة يابانية، وهو ما جعل بداية نموهما مسألة ملتبسة. وضعت أنظمة تعليمية حديثة، لكنها كانت أنظمة تركز على تعليم اليابانية بدلا من الكورية أو التايوانية، وكان الهدف من تنمية البنية التحتية والتنمية الزراعية تحويل المستعمرتين إلى مصدر للغذاء لليابان. بلغ مستوى الدخل لكل فرد في عام 1940 إلى 1548 دولارا أمريكيا. في أعقاب الحرب العالمية الثانية، طرد اليابانيون وصودرت ممتلكاتهم وأعيد توزيع ممتلكاتهم من الأراضي بين سكان المناطق الريفية، وهو ما أسفر عن نشوء مجتمعات متساوية من الفلاحين. ابتداء من خمسينيات القرن العشرين، شرعت الدولتان في التصنيع بنشاط بالغ، وقد تبعت كوريا الجنوبية تحديدا نموذج الدفعة القوية الياباني عن كثب، فاستوردت الشركات الكورية التكنولوجيا المتطورة واستوعبتها، حيث جرى استبعاد الشركات الأجنبية من العمل في البلاد. خططت الدولة عمليات الاستثمار وحدت من الواردات لحماية الصناعات الكورية التي دعمتها، وكما كان الحال في اليابان، شجعت الشركات على الإنتاج بجودة وأداء عاليين من خلال إلزام الشركات بتصدير قسط كبير من إنتاجها. أقامت كوريا الصناعات الثقيلة؛ مثل صناعة الصلب، وبناء السفن، والسيارات التي كانت من بين عوامل النجاح اليابانية، والتي بعد عقد أو اثنين أصبحت من عوامل نجاح كوريا أيضا.
يعتبر صعود كوريا الجنوبية وتايوان مبهرا، لكنه لن يمثل شيئا ذا بال مقارنة بالصين إذا واصلت الأخيرة عمليات التصنيع بالسرعة نفسها التي تسير بها في العقود الأخيرة. عندما استولى الشيوعيون على السلطة في عام 1949، كان إجمالي الناتج المحلي لكل فرد في الحضيض (448 دولارا أمريكيا). بحلول عام 2006، بلغ الدخل في الصين 6048 دولارات أمريكية لكل فرد، وهو ما يضع الصين في مصاف الدول متوسطة الدخل، وقد كان أداء الصين في هذا الصدد أفضل كثيرا من معظم دول آسيا أو أفريقيا أو أمريكا اللاتينية (الجدول
1-1 ).
كيف فعلت الصين ذلك؟ تتمثل الإجابة المعتادة في «إصلاحات السوق الحرة»، لكن هذه إجابة غير مكتملة. ينقسم التاريخ الاقتصادي للصين منذ عام 1949 إلى فترتين: فترة التخطيط (1950-1978)، وفترة الإصلاح (من 1978 إلى الوقت الحاضر). في الفترة الأولى، تبنت الصين النظام الشيوعي بما يتسم به من زراعة جماعية وصناعات مملوكة للدولة، فضلا عن التخطيط المركزي على غرار النموذج السوفييتي. مالت الاستراتيجية التنموية في الصين إلى تفضيل التوسع في الصناعات الثقيلة لإنتاج ماكينات، وبني المجتمع الصناعي الحضري. ارتفع معدل الاستثمار ليصل إلى حوالي ثلث الناتج المحلي الإجمالي، كما زاد الإنتاج الصناعي سريعا. جمعت السياسة التكنولوجية - التي صارت تعرف باسم «السير على قدمين» - بين التكنولوجيا المتطورة الكثيفة رأس المال، والتصنيع الكثيف العمالة متى كان ذلك ممكنا، وقفز إنتاج الصلب - الذي يعد أحد أهداف الدول التي تطبق تصنيع الدفعة القوية - من حوالي مليون طن سنويا في عام 1950، إلى 32 مليون طن في عام 1978. ورغم وجود تحولات في السياسة الصناعية، بما في ذلك القفزة الكبرى إلى الأمام (1958-1960)، والمجاعة التي تلتها، والثورة الثقافية (1967-1969)؛ ارتفع الدخل لكل فرد بأكثر من الضعف من 448 دولارا أمريكيا في عام 1950 إلى 978 دولارا أمريكيا في عام 1978 (2,8٪ سنويا). لم يكن هذا إنجازا هينا، لكنه لم يميز الصين عن باقي الدول الفقيرة.
في أعقاب وفاة ماو في عام 1976، بدأ دينج شياو بينج في تطبيق «إصلاحات» في عام 1978، فجرى التخلص من التخطيط المركزي وحل اقتصاد السوق محله. وعلى خلاف سياسة «العلاج بالصدمة» في دول أوروبا الشرقية، أجرت الصين إصلاحات من خلال إصلاح وإحلال مؤسساتها تدريجيا. ومنذ عام 1978، ارتفعت معدلات النمو أيضا.
جرت الإصلاحات الأولى في قطاع الزراعة، وهي إصلاحات تبين مدى تعقيد المشكلات فيها. كان هناك عمليتا إصلاح تتمتعان بأهمية خاصة؛ أولا: في عامي 1979 و1981 زادت وكالات التوريد الحكومية من أسعار شراء المحاصيل بمقدار 40-50٪ بالنسبة للإنتاج الذي يتجاوز الكميات الإجبارية المحددة في الخطة. ثانيا: حل نظام المسئولية العائلية محل نظام الزراعة الجماعية، ووفق هذا النظام الجديد كانت الأراضي الجماعية تقسم إلى مزارع صغيرة، يجري تأجيرها إلى العائلات التي تلتزم بتقديم حصتها من كمية المحصول المطلوبة وفق خطة المنطقة المحلية، فيما كان يحق لها الاحتفاظ بالدخل المتولد عن بيع المحاصيل التي تتخطى كمية التوريد الإجبارية بالأسعار المرتفعة.
ارتفعت إنتاجية المزارع مع وضع هذه السياسات قيد التنفيذ، وهذا هو السبب الرئيسي في أهميتها. بين عامي 1970 و1978 ارتفعت نسبة الزراعة من إجمالي الناتج المحلي بمعدل 4,9٪ سنويا، وهي نسبة تزيد على نسبة 3,9٪ التي تحققت بين عامي 1985 و2000. وما بين عامي 1978 و1984، قفز الإنتاج الزراعي بمعدل 8,8٪ سنويا. زاد إنتاج الحبوب أيضا في الفترة بين عامي 1978-1984 أسرع من النمو الذي حققه قبل أو بعد هذه الفترة. ونظرا لأن زيادة الأسعار وتطبيق نظام المسئولية العائلية أدى إلى زيادة الحوافز المالية للفلاحين لزيادة الإنتاج، فإن النتيجة المعتادة هي أن التغيرات في السياسات أدت إلى نمو الإنتاجية.
وعلى أية حال، يجب أن نعترف بأن التطورات الأخرى التي ترتبت على قرارات التخطيط السابقة كان لها الفضل كذلك إلى جانب الإصلاحات في تحقيق هذه النتيجة. لقد استطاع الفلاحون الصينيون زيادة الإنتاج؛ لأنهم استطاعوا استخدام التكنولوجيا المتطورة التي جاءت إلى البلاد، في الوقت نفسه الذي جرى فيه إصلاح المؤسسات الريفية. يتطلب زيادة إنتاج الحبوب إدخال التحسينات على ثلاثة مستويات في ظل الظروف الصينية: تحكم أفضل في المياه، واستخدام بذور عالية الإنتاجية، واستخدام أسمدة. زادت مساحة الأراضي التي تروى في الصين في الفترة بين خمسينيات وسبعينيات القرن العشرين، كما جرى حفر الملايين من الآبار الأنبوبية في شمال الصين لتوفير المياه فيها. أسهمت الزيادة في حصة المياه إلى زيادة إنتاج الحبوب خلال فترة التخطيط، كما كان ذلك شرطا أساسيا لتحقيق الزيادة السريعة في الإنتاج حوالي عام 1980.
تطلبت الزيادات الهائلة في الإنتاج توافر بذور تستجيب لاستخدام الأسمدة. تعتبر المشكلة البيولوجية مشكلة عامة في المناطق الاستوائية؛ فإذا جرى استخدام الأسمدة مع الأصناف التقليدية المختلفة للأرز، فإن ذلك يؤدي إلى زيادة عدد الأوراق وطول سيقان النبات، فينحني النبات في النهاية، مما يمنع تكون الحبوب؛ لذا يكمن الحل في زراعة الأرز القصير صاحب السيقان الليفية التي لا تنحني، بحيث تنطبق عملية النمو الزائدة نتيجة استخدام الأسمدة على البذور وليس الأوراق. كان الأرز الياباني يمتلك هذه الخاصية التي كانت الأساس البيولوجي لنمو إنتاجية المزارع خلال عصر ميجي، ولكن لم يكن من الممكن زراعة الأرز الياباني في الجنوب؛ نظرا لاختلاف طول اليوم؛ لذا كان من الضروري زراعة الأصناف القصيرة التي تناسب خطوط العرض في المناطق الاستوائية. يعتبر أكثر الأصناف شهرة صنف آي آر-8 الذي جرى تطويره في المعهد الدولي لأبحاث الأرز في الفلبين، وجرى إصداره في عام 1966، وقد كان هذا النوع من الأرز وما تلاه من أصناف أخرى الأساس الذي قامت عليه الثورة الخضراء في كثير من مناطق آسيا. ولكن ما لا يقدره الكثيرون هو أن الصين كانت في المقدمة؛ فقد كان برنامج تطوير السلالات التابع للأكاديمية الصينية للعلوم أنتج صنفا قصيرا من الأرز عالي الإنتاجية قبل عامين من إنتاج أرز آي آر-8، وقد كان انتشار الأرز القصير الجديد سببا في ارتفاع إنتاجية المزارع الصينية ارتفاعا مذهلا.
لا ينتج الأرز عالي الإنتاجية إنتاجا كبيرا إلا إذا جرى تسميده بكثافة. في سبعينيات القرن العشرين، كان المزارعون الصينيون يستخدمون الأسمدة التقليدية إلى الحد الأقصى. وقد تطلب الاستخدام بكثافة أكبر إنتاج مادة النترات صناعيا. لم تحقق جهود زيادة إنتاج الأسمدة نجاحا بارزا خلال ستينيات القرن العشرين؛ لذا بين عامي 1973-1974 اشترت الدولة 13 مصنعا للأمونيا من موردين أجانب. بدأ إنتاج هذه المصانع في أواخر سبعينيات القرن العشرين، ووفرت الأسمدة اللازمة التي أدت إلى ارتفاع إنتاجية المحاصيل ارتفاعا هائلا. لا يسعنا أن نعرف ما إذا كان الارتفاع في إنتاجية المزارع بين عامي 1978 و1984 تطلب إجراء هذه الإصلاحات، أم إنها كانت ستتحقق على أية حال.
تشبه طبيعة التحول التكنولوجي في قطاع الزراعة الصيني مثيلتها في اليابان، وتعكس تطور التكنولوجيا المناسبة لعناصر الإنتاج في الدولة. مثلما كان الحال في اليابان، كانت الأيدي العاملة متوفرة بكثافة فيما كان هناك شح في الأراضي؛ لذا ظل التطور التكنولوجي يركز حتى وقت قريب على زيادة إنتاجية الأراضي. وجهت استثمارات قليلة نسبيا لتقليص حجم الأيدي العاملة. ويختلف تاريخ الثورة الخضراء في الصين في هذا الصدد عن تاريخها في الهند؛ حيث جرى تبني ميكنة الإنتاج جنبا إلى جنب مع زراعة المحاصيل عالية الإنتاجية. وقد منحت إمكانية الحصول على الائتمان الرخيص في الهند ميزة لأصحاب المزارع الكبيرة، الذين قاموا بزيادة حجم ملكياتهم على حساب المزارعين الصغار، الذين كانوا عادة ما يفقدون أراضيهم. وقلصت عملية ميكنة الإنتاج في المزارع من أعداد العمالة لزراعة الأرض. تجنبت الصين وقوع مثل هذه الصراعات؛ فقد عمل نظام الملكية الجماعية للأراضي على توزيع الحيازات الزراعية بالتساوي في الصين، كما حافظت على المزارع الصغيرة، وهو ما كان يمثل إجراء أكثر عقلانية لتوافر العمالة بكثرة وشح الأراضي، فضلا عن تحقيق المساواة.
غيرت الإصلاحات كذلك القطاع الصناعي، وقد اتخذت الخطوات الأولى في المناطق الريفية كذلك. كان التصنيع من خلال توظيف العمالة سمة أساسية دائمة في الريف الصيني، وهي السمة التي انتقلت إلى المزارع الجماعية. بعد عام 1978، جرى تشجيع «شركات المدن والقرى» من خلال مسئولي الحزب المحليين، فقد كان إنتاج السلع الاستهلاكية قد تخلف عن الركب، فعملت شركات المدن والقرى على سد هذه الفجوة، من خلال بيع سلعها في السوق الحرة. تتسم صناعات السلع الاستهلاكية بأن نسب رأس المال إلى العمالة فيها منخفضة (على عكس الصناعات الثقيلة التي كانت محور اهتمام عمليات التخطيط)؛ لذا استعانت شركات المدن والقرى بتكنولوجيا ملائمة للظروف الصينية، وهو ما يفسر نجاحها في المنافسة السوقية. بين عامي 1978 و1996، ارتفعت معدلات التوظيف في شركات المدن والقرى من 28 مليون إلى 135 مليون شخص، كما زادت حصة هذه الشركات من إجمالي الناتج المحلي من 6٪ إلى 26٪. اتسعت عملية التحول إلى السوق عبر القطاع الحكومي من منتصف ثمانينيات القرن العشرين فصاعدا، عندما جمدت الدولة المستهدفات في خطتها، وسمحت للشركات ببيع منتجاتها التي تتجاوز متطلبات الخطة في السوق الحرة، ومنذ ذلك الحين، «تفوق الاقتصاد على الخطة» وصار مع اتساعه مدفوعا بقوى السوق بصورة متزايدة.
في عام 1992، صدق المؤتمر الرابع عشر للحزب على «اقتصاد السوق الاشتراكية» كهدف للإصلاح، فيما جرى التخلص من تخطيط تحقيق التوازن بين الموارد، وهو محور عملية التخطيط المركزي. أدت الإصلاحات التالية إلى ميلاد نظام مالي يحل محل مخصصات الدولة للاستثمار، وإلى تحويل الشركات المملوكة للدولة من إدارات حكومية إلى شركات مساهمة. تضمن إصلاح الصناعات المملوكة للدولة إجراء تخفيض هائل في العمالة وإغلاق المصانع غير المنتجة، وكانت تلك هي النتيجة التي لم يحققها الاتحاد السوفييتي قط، والتي ربما تكون قد أسهمت في تباطؤ النمو بسبب الاحتفاظ بجانب كبير من القوة العاملة في وظائف غير منتجة بدلا من إعادة توزيعه في مؤسسات جديدة عالية الإنتاجية، ومع اعتماد الاستثمارات على قوى السوق بصورة أكبر، ظلت معدلات الاستثمار مرتفعة. ولا تزال الدولة نشطة - وإن كانت أقل انخراطا بصورة رسمية - في توجيه الاستثمارات في مجالات الطاقة والصناعات الثقيلة. ربما لهذا السبب، واصلت صناعة الصلب نموها الهائل؛ ووصل إنتاجها حاليا إلى 500 مليون طن سنويا. لم تنتج الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي واليابان أكثر من 150 مليون طن قط؛ لذا فقد حطمت الصين جميع الأرقام القياسية العالمية. ومما لا شك فيه أن تعداد سكان الصين أكبر بكثير، ولكن بلغ الإنتاج لكل فرد - حاليا 377 كيلوجراما (ارتفاعا من 2 كيلوجرام لكل فرد في عام 1950 و102 كيلوجرام في عام 2001) - مستوى الاستهلاك في الدول الغنية. وبين عامي 1978 و2006، ارتفع الدخل لكل فرد بمعدل 6,7٪ سنويا.
تعتبر الإصلاحات هي التفسير المعتاد لمعدلات النمو المرتفعة، ولكن كما هو الحال في حالة قطاع الزراعة، لا يعتبر هذا التفسير كاملا. ربما ساهم «إصلاح المؤسسات» في الصين في تحسين أداء الدولة مقارنة بنظام ماو، بيد أنه لم يسفر عن مؤسسات تتفوق كثيرا على مثيلاتها في معظم الدول الفقيرة حول العالم. وبالفعل، لو كانت الصين تحقق نموا بطيئا، لكان اللوم سيلقى على حقوق الملكية، والنظام القانوني، والديكتاتورية الشيوعية المتواجدة في الصين حاليا. ليس السؤال المحوري بشأن الصين هو: «لماذا كان أداء مؤسسات السوق الصينية وهي متوسطة الجودة أفضل من نظام التخطيط المركزي؟» بل: «لماذا كان أداء مؤسسات السوق المتوسطة الجودة جيدا بهذه الصورة؟» ربما تتمثل الإجابة في إرث فترة التخطيط، أو السمات الأخرى للمجتمع الصيني، أو سياساته التي تميزه عن الدول الفقيرة بصورة عامة.
لا شك في أن إرث فترة التخطيط لعب دورا في هذا الشأن، ويشمل هذا الإرث سكانا تلقوا تعليما رفيع المستوى، وقطاعا صناعيا ضخما، ومعدلات وفيات وخصوبة منخفضة، ومؤسسة علمية تتمتع بقدرات بحث وتطوير هائلة، رغم الثورة الثقافية. جرى التوسع في التعليم الأساسي خلال فترة التخطيط، وهو ما أدى إلى أن ثلثي السكان كانوا يعرفون القراءة والكتابة وفق إحصاء عام 1982، كما كانت المهارات المهنية منتشرة أيضا. ارتفع متوسط عمر الفرد من أقل من ثلاثين عاما في ثلاثينيات القرن العشرين إلى 41 عاما في خمسينيات القرن العشرين، إلى 60 عاما في سبعينيات القرن العشرين. (وصل متوسط عمر الفرد إلى 70 عاما في عام 2000.) انخفض متوسط عدد الأطفال لكل امرأة (إجمالي معدل الخصوبة) من أكثر من 6 في خمسينيات القرن العشرين إلى 2,7 في أواخر سبعينيات القرن العشرين، وذلك حتى قبل تطبيق سياسة الطفل الواحد في عام 1980. وعلى غرار الاتحاد السوفييتي، كان انخفاض معدل الخصوبة يرجع على الأرجح إلى تعليم النساء ، ومنحهن الفرصة لكسب المال في أعمال مدفوعة الأجر.
ومهما حاول المؤرخون في نهاية المطاف استبعاد أهمية عوامل إرث فترة التخطيط، وإصلاح المؤسسات، والسياسات المتعقلة، والثقافة الداعمة، فإن الصين في طريقها لإكمال دورة تاريخية. فإذا نجحت الصين على مدار العقود الثلاثة القادمة في مواصلة تحقيق النمو بالمعدلات السريعة نفسها التي حققتها منذ عام 1978، فستتمكن الصين من سد الفجوة مع الغرب، وستصبح الصين أكبر دولة صناعية في العالم، بالضبط مثلما كانت قبل الرحلات التي قام بها كريستوفر كولومبس وفاسكو دا جاما. وهكذا، يكون العالم قد أكمل دورته الكاملة.
خاتمة
تسير الصين على الطريق للحاق بركب الغرب، لكن ماذا عن أفريقيا وأمريكا اللاتينية وباقي دول آسيا؟ يزداد الدخل لكل فرد في الدول الغنية بنسبة 2٪ سنويا تقريبا؛ لذا يجب على هذه الدول أن تنمو بمعدل أسرع لسد هذه الفجوة، فيتعين على الكثير من الدول الفقيرة في آسيا وأمريكا اللاتينية تحقيق نمو بمعدل 4,3٪ لكل نسمة سنويا لتلحق بالدول الغنية في غضون 60 عاما، وحتى يتحقق ذلك، يجب أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 6٪ على الأقل سنويا لمدة 60 عاما. من ناحية أخرى، يجب أن تحقق معظم الدول الأكثر فقرا - مثل العديد من دول أفريقيا جنوب الصحراء - نموا بمعدلات أكبر، وإلا فإنها ستستغرق وقتا أطول للحاق بالغرب.
لم تحقق هذا النمو السريع لفترات طويلة سوى حفنة قليلة من الدول. بين عامي 1955 و2005، نجحت عشر دول فقط في تحقيق ذلك، وتعتبر عمان وبوتسوانا وغينيا الاستوائية حالات خاصة؛ حيث جرى اكتشاف احتياطات هائلة من النفط أو الماس بها خلال هذه الفترة. أما سنغافورة وهونج كونج فتنتميان لنموذج المدن الدويلات، وهو ما يجعلهما حالة خاصة؛ حيث لم يوجد بهما قطاع زراعي فلاحي يغمر المدينة بالمهاجرين عند زيادة الاستثمارات، ومن ثم ترتفع الأجور مع ارتفاع الطلب على العمالة، ويعم الازدهار. أما الحالات المثيرة للاهتمام حقا فهي حالات الدول الكبيرة ذات القطاعات الزراعية الكبيرة مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وتايلاند والصين. بالإضافة إلى ذلك، يمكن إضافة الاتحاد السوفييتي إلى القائمة السابقة؛ حيث إن الدخل لكل فرد ارتفع بمعدل 4,5٪ سنويا من عام 1928 إلى عام 1970، إذا استبعدنا العقد الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الثانية.
تعين على هذه الدول سد ثلاث فجوات مع الغرب: التعليم ورأس المال والإنتاجية. أدى التعليم العام إلى سد فجوة التعليم، كما أدى شكل أو آخر من أشكال التصنيع الذي تقوده الدولة إلى ردم فجوتي رأس المال والإنتاجية. وجرى تبني التكنولوجيا واسعة النطاق وكثيفة رأس المال، حتى وإن لم تكن اقتصادية التكلفة على الفور. لقد استطاعت هذه الدول تجنب العيوب التي واجهتها أمريكا اللاتينية التي حاولت الزج بتكنولوجيا حديثة في اقتصادات صغيرة الحجم؛ وذلك لأن تلك الدول كانت إما كبيرة الحجم بما يكفي لاستيعاب إنتاج المصانع عالية الإنتاجية، أو لأنها منحت جواز مرور إلى السوق الأمريكية على حساب الإنتاج الأمريكي.
ولكن يبقى السؤال بشأن أي من مسارات التنمية المتعددة التي اتبعتها هذه الدول كان الأكثر فعالية مثار جدل إلى حد بعيد. بالإضافة إلى ذلك، ليس من الواضح تماما ما إذا كان يمكن نقل السياسات الناجحة إلى دول أخرى، ومن ثم تبقى قضية أفضل سياسة لتحقيق التنمية الاقتصادية مسألة محل خلاف.
المراجع
الفصل الأول: الفجوة الكبرى
The Cambridge Economic History of India , Vol. I,
c. 1200-c. 1750 (Cambridge University Press, 1982), p. 462.
Dr Johnson on oats: Samuel Johnson,
A Dictionary of the English Language (1755). $1 per day poverty line: World Bank’s
World Development Report: Poverty (Oxford University Press, 1990); and Martin Ravallion, Datt Gaurav, and Dominique van de Walle, 'Quantifying Absolute Poverty in the Developing World’,
Review of Income and Wealth , 37 (1991): 345-61.
Italian soldiers: Brian A’Hearn, 'Anthropometric Evidence on Living Standards in Northern Italy, 1730-1860’,
Journal of Economic History , 63 (2003): 351-81.
Ealing gardener: Sir Frederick Eden,
The State of the Poor (J. Davis, 1797), Vol. II, pp. 433-5.
الفصل الثالث: الثورة الصناعية
efficiency of farmers in poor countries: T. W. Schultz,
Transforming Traditional Agriculture (Yale University Press, 1964); R. A. Berry and W. R. Cline,
Agrarian Structure and Productivity in Developing Countries (Johns Hopkins University Press, 1979); Robert C. Allen,
Enclosure and the Yeoman (Oxford University Press, 1992).
French and British tax burden: P. Mathias and P. K. O’Brien, 'Taxation in England and France, 1715-1810’,
Journal of European Economic History , 5 (1976): 601-50.
in Provence’,
Journal of Economic History , 50 (September 1990): 615-38.
despotic power of Parliament: Julian Hoppit, 'Patterns of
The History Journal , 39 (1996): 126.
witchcraft and the Bible: John Wesley,
Journal,
for 21 May 1768.
Hobsbawm on cotton: Eric Hobsbawm,
Industry and Empire (Weidenfeld & Nicolson, 1969), p. 56.
Desaguliers on Newcomen engine: John Theophilus Desaguliers,
A Course of Experimental
(John Senex, 1734-44), Vol. II, pp. 464-5.
steam power and productivity growth: N. F. R. Crafts, 'Steam as a General Purpose Technology: A Growth Accounting
Economic Journal,
114 (495) (2004): 338-51.
الفصل الخامس: الإمبراطوريات العظمى
1812 costs in England and India: Edward Baines,
History of the Cotton Manufacture in Great Britain (H. Fisher, R. Fisher, and P. Jackson, 1835), p. 353.
First Report from the Select Committee on the Affairs of the East India Company (China Trade) , UK, House of Commons, 1830 (644), evidence of Mr John Kennedy and Mr H. H. Birley, questions 4979-5041.
decline of weaving in Bihar: Amiya Kumar Bagchi, 'Deindustrialization in Gangetic Bihar, 1809-1901’, in Barun De (ed.),
Essays in Honour of Professor S. C. Sakar (New Delhi, People’s Publishing House, 1976), pp. 499-523.
Martin and Brocklehurst: UK House of Commons,
Report from the Select Committee on East India
, 1840 (527), question 3920.
الفصل السادس: الأمريكتان
cultivation of maize in eastern North America: Bruce D. Smith,
The Emergence of Agriculture (Scientific American Library, 1998), pp. 145-81, 200; and Bruce G. Trigger,
The Children of Aataentsic: A History of the Huron People to 1660 (McGill-Queen’s University Press, 1987), pp. 119-26.
native population decline: Russell Thornton,
American Indian Holocaust and Survival: A
(University of Oklahoma
Mexican and Andean native populations: Mark A. Burkholder and Lyman L. Johnson,
Colonial Latin America , 2nd edn. (Oxford University Press, 1994), p. 264; and James Lockhard and Stuart B. Schwartz,
Early Latin America: A History of Colonial Spanish America and Brazil (Cambridge University Press, 1983), p. 338.
14,697: Thornton,
American Indian Holocaust , pp. 29, 162-3.
The quotation relating to God and the epidemic of 1617-19 is from John Eliot,
New England’s First Fruits (Henry Overton, 1643), p. 12.
The quotation about making cloth is from Edward Johnson,
The Wonder-Working Providence of Sions Saviour, in New England, 1628-1651 , Book II, Chapter XXI at
http://puritanism.online.fr/ (accessed 4 April 2011).
exports as a percentage of GDP in Pennsylvania: exports are the sum of Proud’s contemporary estimate of £700,000 per year for 1771-3 plus £161,000, which equals 64
of the estimates of average annual shipping earnings and invisible earnings of the middle Atlantic colonies for 1768-72, in James F. Shepherd and Gary M. Walton,
Shipping, Maritime Trade, and the Economic Development of Colonial North America (Cambridge University Press, 1972), pp. 128, 134. In 1765-7 and 1772, 64
of the tonnage of shipping clearing New York and Philadelphia came from the latter. Proud’s estimate of exports exceeds Shepherd and Walton’s. GDP equals the 1770 population of 240,100 multiplied by £12 per head.
Jamaica exports/GDP in 1832: Gisela Eisner,
Jamaica, 1830-1930: A Study in Economic Growth (Manchester University Press, 1961), p. 25.
South Carolina’s export of skins and cedar: quoted by John J. McCusker and Russell R. Mennard,
The Economy of British North America (University of North Carolina Press, 1985), p. 171.
Carolina rice productivity: Marc Egnal,
New World Economies: The Growth of the Thirteen Colonies and Early Canada (Oxford University Press, 1998), pp. 105-6.
30
ratio of exports to income: per capita exports from
The Shadow of a Dream: Economic Life and Death in the South Carolina Low Country, 1670-1920 (Oxford University Press, 1989), p. 75, and per capita income (high value) from Alice Hanson Jones,
Wealth of a Nation To Be: The American Colonies on the Eve of the Revolution (Arno Press, 1980), p. 63.
farmers on the frontier buying consumer goods: McCusker and Mennard,
British North America , pp. 175, 180-1.
half the land in the valley of Mexico: Charles Gibson,
The Aztecs under Spanish Rule: A History of the Indians of the Valley of Mexico, 1519-1810 (Stanford University Press, 1964), p. 277.
British Columbia seal skins: Alexander von Humboldt,
Spain , tr. John Black (London, 1822), Vol. II, pp. 311, 320.
road from Vera Cruz to Mexico City: von Humboldt,
, Vol. IV, pp. 8-9.
mine employment: Peter Bakewell, 'Mining in Colonial Spanish America’, in
The Cambridge History of Latin America , Vol. II, ed. Leslie Bethell (Cambridge University Press, 1984), pp. 127-8; and Enrique Tandeter,
Coercion and Market: Silver Mining in Colonial Potosi, 1692-1826 (University of New Mexico Press, 1993), p. 16.
The 4
share of exports in Mexican GDP in 1800 is from John H. Coatsworth, 'The Decline of the Mexican Economy, 1800-1860’, in
América Latina en la época de Simón Bolivar: la formación de la economías latinoamericanos y los intereses económicos europeos ,
1800-1850 , ed. Reinhart Liehr (Berlin, Colloquium Verlag, 1989), p. 51.
income distribution of Mexico in 1790: Branko Milanovic, Peter H. Lindert, and Jeffrey G. Williamson, 'Measuring Ancient Inequality’, Cambridge, MA, National Bureau of Economic Research, Working Paper 13550,
http://www.nber.org/papers/13550.pdf , 2007, p. 60.
size of national cotton industries in the 1850s: Robert C. Allen,
The British Industrial Revolution in Global Perspective (Cambridge University Press, 2009), p. 211.
exports to GDP in the USA 1800-60: Susan B. Carter, Scott Sigmund Gartner, Michael R. Haines, Alan L. Olmstead, Richard Sutch, and Gavin Wright,
Historical Statistics of the United States , millenium edition, online (Cambridge University Press), series Ca10 and Ee366.
de-industrialization in Puebla: von Humboldt,
, Vol. III, p. 469.
scientific culture and education in Mexico: von Humboldt,
, Vol. I, pp. 212, 216, 223.
الفصل السابع: أفريقيا
French Congo: Jacqueline M. C. Thomas,
Les Ngbaka de la Lobaye: le dépeuplement rural chez une population forestière de la République Centrafricaine (Mouton, 1963), pp. 258-71, 417-19.
the spirits of traders: Mary Kingsley,
Travels in West Africa (National Geographic Society, 2002; originally published 1897), p. 36.
biggest pots: Harold A. Innis,
The Fur Trade in Canada: An Introduction to Canadian Economic History (University of Toronto Press, 1999; originally published 1930), p. 18.
the Micmac joke: Father Chrestien Le Clercq, in his
New Relation of Gaspesia , tr. and ed. W. F. Ganong (The Champlain Society, 1910), p. 277.
Alfonso I’s letter: quoted by Adam Hochschild,
King Leopold’s Ghost: A Story of Greed, Terror, and Heroism in Colonial Africa (Houghton Mifflin, 1998), p. 13.
Swanzy’s testimony: UK, House of Commons,
Report from the Select Committee on the West Coast of Africa ; together with the minutes of evidence, appendix, and index. Part I,
Report and Evidence , Parliamentary Papers (1842), Vols. XI, XII, questions 467 and 468.
hectares of palm trees in Nigeria: Kenneth F. Kiple and Kriemhild Coneè Ornelas (eds.),
The Cambridge World History of Food (Cambridge University
the Reverend Casalis’ observation: R. C. Germond (ed.),
Chronicles of Basutoland: A Running Commentary on the Events of the Years 1830-1902 by the French
(Morija Sesuto Book Depot, 1967), p. 267.
profitability of palm oil extraction: calculated from Eric L. Hyman, 'An Economic Analysis of Small-Scale Technologies for
World Development , 18 (1990): 455-76.
Machel 'for the nation to live’: quoted by Mahmood Mamdani,
Citizen and Subject (Princeton University Press, 1996), p. 135.
الفصل الثامن: النموذج القياسي والتحول المتأخر للتصنيع
short men in Tokugawa Japan: Akira Hayami, Osamu Saitô, and Ronald P. Toby (eds.),
Emergence of Economic Society in Japan, 1600-1859 (Oxford University Press, 2004), pp. 235-8.
book rental shops in Edo: Hayami et al.,
Emergence , pp. 28, 241.
MES: James Montgomery,
A
of America (Glasgow, 1840); J. P. Lesley,
The Iron Manufacturer’s Guide to the Furnaces, Forges and Rolling Mills of the United States (New York, 1859); D. G. Rhys,
The Motor Industry: An Economic Survey (Butterworths, 1972); Jack Baranson,
Automotive Industries in Developing Countries (World Bank, 1969); Rich Kronish and Kenneth S. Mericle (eds.),
The Political Economy of the Latin American Motor Vehicle Industry (MIT Press, 1984); John P. Tuman and John T. Morris (eds.),
Transforming the Latin American Automobile Industry: Unions, Workers, and the Politics of Restructuring (M. E. Sharpe, 1998); United Nations Report,
A Study of the Iron and Steel Industry in Latin America (United Nations, 1954).
الفصل التاسع: التصنيع في نموذج «الدفعة القوية»
Lenin quip: V. I. Lenin, 'Report on the Work of the Council of People’s Commissars’, Eighth All-Russia Congress of Soviets, 22 December 1920,
Collected Works , tr. and ed. Julius Katzer, Vol. 31, p. 516.
heights in 1891 and 1976: Takafusa Nakamura,
The Postwar Japanese Economy: Its Development and Structure (University of Tokyo Press, 1981), p. 96.
قراءات إضافية
الفصل الأول: الفجوة الكبرى
Adam Smith,
An Inquiry into the Nature and Causes of the Wealth of Nations (London, 1776).
Eric Hobsbawm,
The Age of Revolution , 1789-1848 (Phoenix, 1962).
Eric Hobsbawm,
The Age of Capital , 1848-1875 (Phoenix, 1975).
Eric Hobsbawm,
The Age of Empire , 1875-1914 (Phoenix, 1987).
Eric Hobsbawm,
The Age of Extremes: A Short History of the Twentieth Century, 1914-1991 (Phoenix, 1994).
Angus Maddison,
The World Economy (OECD, 2006).
Lane Pritchett, 'Divergence, Big Time’,
Journal of Economic Perspectives , 11 (1997): 3-17.
Branko Milanovic,
Worlds Apart: Measuring International and Global Inequality (Princeton University Press, 2005).
Robert W. Fogel,
The Escape from Hunger and Premature Death, 1700-2100 (Cambridge University Press, 2004).
الفصل الثاني: بزوغ نجم الغرب
Jared Diamond,
Guns, Germs, and Steel (Jonathan Cape, 1997).
Eric Jones,
The European Miracle (Cambridge University Press, 1981).
J. M. Blaut,
The Colonizer’s Model of the World (Guildford Press, 1993).
James Robinson and Daron Acemoglu,
Why Nations Fail (Crown, 2011).
Douglas North,
Institutions, Institutional Change, and Economic Performance (Cambridge University Press, 1990).
Jan de Vries,
The Industrious Revolution: Consumer Behaviour and the Household Economy, 1650 to the Present (Cambridge University Press, 2008).
Richard W. Unger,
The Ship in the Medieval Economy: 600-1600 (Croom Helm, 1980).
Joseph E. Inikori,
Africans and the Industrial Revolution in England: A Study in International Trade and Economic Development (Cambridge University
Max Weber,
The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism (Allen & Unwin, 1930).
Robert Putnam,
Making Democracy Work: Civic Traditions in Modern Italy (Princeton University Press, 1993).
Jan Luiten van Zanden,
The Long Road to the Industrial Revolution: The European Economy in a Global Perspective, 1000-1800 (Brill, 2009).
D. C. North and B. R. Weingast, 'Constitutions and Commitment: Evolution of Institutions Governing Public Choice in Seventeenth Century England’,
Journal of Economic History , 49 (1989): 803-32.
J. Bradford De Long and Andrei Schleifer, 'Princes and Merchants: European City Growth before the Industrial Revolution’,
Journal of Law and Economics , 36 (1993): 671-702.
Daron Acemoglu, Simon Johnson, and James Robinson, 'The Rise of Europe: Atlantic Trade, Institutional Change, and Economic Growth’,
American Economic Review , 95(3) (2005): 546-79.
Robert C. Allen, 'Poverty and Progress in Early Modern Europe’,
Economic History Review , LVI(3) (August 2003): 403-43.
Mauricio Drelichman, 'The Curse of Moctezuma: American Silver and the Dutch Disease’,
Explorations in Economic History , 42 (2005): 349-80.
الفصل الثالث: الثورة الصناعية
Robert C. Allen,
The British Industrial Revolution in Global Perspective (Cambridge University Press, 2009).
Joel Mokyr,
The Enlightened Economy: An Economic History of Britain, 1700-1850 (Yale University Press, 2010) offers another interpretation as well as a wide-ranging survey of issues.
Nick Crafts,
British Economic Growth during the Industrial Revolution (Clarendon
Jane Humphries,
Childhood and Child Labour in the British Industrial Revolution (Cambridge University Press, 2010).
Friedrich Engels,
The Condition of the Working Class in England , tr. and ed. W. O. Henderson (Blackwell, 1958).
British Economic Growth, 1688-1959: Trends and Structure , 2nd edn. (Cambridge University Press, 1969).
Knick Harley, 'British Industrialization before 1841: Evidence of Slower Growth during the Industrial Revolution’,
Journal of Economic History , 42(1982): 267-89.
Revolution’,
Journal of Economic History , 57 (1997): 63-82.
الفصل الرابع: صعود الأثرياء
Stephen Broadberry and Kevin O’Rourke,
The Cambridge Economic History of Modern Europe (Cambridge University Press, 2010).
David S. Landes,
The Unbound
Western Europe from 1750 to the Present (Cambridge University Press, 1969).
Economic Growth in Britain and France, 1780-1914: Two Paths to the Twentieth Century (Allen & Unwin, 1978).
Alexander Gerschenkron,
Economic Backwardness in Historical Perspective (Harvard University Press, 1962).
Ha-Joon Change,
Kicking Away the Ladder: Development Strategy in Historical
(Anthem, 2002).
Kevin O’Rourke, 'Tariffs and Growth in the Late Nineteenth Century’,
Economic Journal , 110(463) (2000): 456-83.
Robert C. Allen, 'Technology and the Great Divergence’, Oxford University, Dept. of Economics, Discussion Paper 548
Explorations in Economic History (2012).
Sascha Becker and Ludger Woessmann, 'Was Weber Wrong? A Human Capital Theory of Protestant Economic History’,
Quarterly Journal of Economics , 124 (2009): 531-96.
الفصل الخامس: الإمبراطوريات العظمى
مدرسة كاليفورنيا تتضمن
Kenneth Pomeranz,
The Great Divergence: China, Europe, and the Making of the Modern World Economy (Princeton University Press, 2000).
Bozhong Li,
Agricultural Development in Jiangnan, 1620-1850 (Macmillan, 1998).
R. Bin Wong,
China Transformed (Cornell University Press, 1997).
James Lee and Wang Feng,
One Quarter of Humanity: Malthusian Mythology and Chinese Realities, 1700-2000 (Harvard University Press, 1999).
Jack Goldstone,
Why Europe? The Rise of the West in World History 1500-1850 (McGraw-Hill Higher Education, 2008).
Robert Marks,
The Origins of the Modern World: Fate and Fortune in the Rise of the West (Rowman & Littlefield, 2006).
The Economics of Antiquity (Princeton University Press, 2012).
العولمة وتراجع التصنيع
Ronald Findlay and Kevin O’Rourke,
Economy in the Second Millennium (Princeton University Press, 2007).
Jeffrey G. Williamson,
Trade and Poverty: When the Third World Fell Behind (MIT Press, 2011).
C. A. Bayly,
Imperial Meridian: The British Empire and the World, 1780-1830 (Longman, 1989).
K. N. Chaudhuri,
Trade and Civilization in the Indian Ocean (Cambridge University Press, 1985).
Tirthanakar Roy,
The Economic History of India, 1857-1947 (Oxford University
Daniel R. Headrick,
The Tentacles of Progress: Technology Transfer in the Age of Imperialism, 1850-1940 (Oxford University Press, 1988).
Nelly Hanna,
Making Big Money in 1600: The Life and Times of Isma’il Abu Taqiyya, Egyptian Merchant (Syracuse University Press, 1988).
Robert Brenner,
Self-Sustaining Growth (Verso, 2009).
John Darwin,
After Tamerlane: The Rise and Fall of Global Empires, 1400-2000 (Penguin, 2008).
Antiquity to Feudalism (Verso, 1996).
Niall Ferguson,
Empire: How Britain Made the Modern World (Penguin, 2004).
Chris Wickham,
The Inheritance of Rome (Penguin, 2010).
الفصل السادس: الأمريكتان
Bruce D. Smith,
The Emergence of Agriculture (Scientific American Library, 1998).
Russell Thornton,
American Indian Holocaust and Survival: A Population History since 1492 (University of Oklahoma Press, 1987).
J. H. Elliott,
Empires of the Atlantic World: Britain and Spain in America, 1492-1830 (Yale University Press, 2006).
Harold A. Innis,
The Fur Trade in Canada (Yale University Press, 1930).
Stanley L. Engerman and Kenneth L. Sokoloff,
Economic Development in the Americas since 1500: Endowments and Institutions (Cambridge University
John J. McCusker and Russell R. Menard,
The Economy of British America, 1607-1789 (University of North Carolina Press, 1985).
Ann Carlos and Frank Lewis,
Commerce by a Frozen Sea: Native Americans and the European Fur Trade (University of Pennsylvania Press, 2010).
Marc Egnal,
New World Economies: The Growth of the Thirteen Colonies and Early Canada (Oxford University Press, 1998).
The Shadow of a Dream: Economic Life and Death in the South Carolina Low Country, 1670-1920 (Oxford University Press, 1989).
Winifred Barr Rothenberg,
From Market-Places to the Market Economy: The Transformation of Rural Massachusetts, 1750-1850 (University of Chicago
عن التكنولوجيا في الولايات المتحدة
H. J. Habakkuk,
American and British Technology in the Nineteenth Century (Cambridge University Press, 1962).
Technical Choice, Innovation, and Economic Growth: Essays on American and British Experience in the Nineteenth Century (Cambridge University Press, 1975).
American Industrial Efficiency in the 1850s’,
Journal of Economic History , 26 (1966): 277-98.
Journal of Interdisciplinary History , 1 (1971): 251-64.
David A. Hounshell,
From the American System to Mass Production, 1800-1932 (Johns Hopkins University Press, 1984).
Gavin Wright, 'The Origins of American Industrial Success, 1879-1940’,
American Economic Review , 80(1990): 651-68.
Richard R. Nelson and Gavin Wright, 'The Rise and Fall of American Technological Leadership: The Postwar Era in Historical Perspective’,
Journal of Economic Literature , 30(1992): 1931-64.
Naomi R. Lamoreaux, Daniel M. G. Raff, and Peter Temin (eds.),
Learning by Doing in Markets, Firms, and Countries (University of Chicago Press, 1999).
Alan Olmstead and Paul Rohde,
Creating Abundance: Biological Innovation and American Agricultural Development (Cambridge University
عن اقتصاد العبودية
Robert Fogel and Stanley Engerman,
Time on the Cross: The Economics of American Negro Slavery (Little Brown, 1974).
Reckoning with Slavery (Oxford University Press, 1976).
Roger Ransom and Richard Sutch,
One Kind of Freedom: The Economic Consequences of Emancipation (Cambridge University Press, 1977).
Gavin Wright,
Old South, New South: Revolutions in the Southern Economy since the Civil War (Basic Books, 1986).
عن أمريكا اللاتينية
Mark A. Burkholder and Lyman L. Johnson,
Colonial Latin America , 2nd edn. (Oxford University Press, 1994).
James Lockhart and Stuart B. Schwartz,
Early Latin America: A History of Colonial Spanish America and Brazil (Cambridge University
Charles Gibson,
The Aztecs under Spanish Rule (Stanford University Press, 1964).
Alan Knight,
Mexico: The Colonial Era (Cambridge University Press, 2002).
John H. Coatsworth, 'Obstacles to Economic Growth in Nineteenth Century Mexico’,
The American Historical Review , 83(1978): 80-100.
Victor Bulmer-Thomas, John Coatsworth, and Roberto Cortés Conde (eds.),
The Cambridge Economic History of Latin America (Cambridge University Press, 2006).
الفصل السابع: أفريقيا
E. Domar, 'The Causes of Slavery and Serfdom: A Hypothesis’,
Journal of Economic History , 30(1970): 18-32.
Walter Rodney,
How Europe Underdeveloped Africa (Howard University Press, 1982).
The Bottom Billion (Oxford University Press, 2008).
Robert H. Bates,
Beyond the Miracle of the Market: The Political Economy of Agrarian Development in Kenya (Cambridge University Press, 1989).
Hans Ruthenberg,
Farming Systems in the Tropics , 2nd edn. (Clarendon Press, 1976).
Ester Boserup,
The Conditions of Agricultural Growth (Allen & Unwin, 1965).
Charles H. Feinstein,
An Economic History of South Africa: Conquest, Discrimination and Development (Cambridge University Press, 2005).
R. S. O’Fahey,
The Darfur Sultanate: A History (Hurst, 2008).
Roland Dumont, Alexandre Dansi, Philippe Vernier, and Jeanne Zoundjihèkpon,
Biodiversity and Domestication of Yams in West Africa: Traditional Practices Leading to Dioscorea Rotundata Poir (CIRAD, 2005).
Angus Deaton, 'Commodity Prices and Growth in Africa’,
Journal of Economic
, 13(1999): 23-40.
Kojo Sebastian Amanor,
The New Frontier: Farmers’ Response to Land Degredation, A West African Study (UNRSID, 1994).
Kojo Sebastian Amanor and Sam Moyo (eds.),
Land and Sustainable Development in Africa (Zed Books, 2008).
Terence Ranger, 'The Invention of Tradition in Colonial Africa’, in Eric Hobsbawm and Terence Ranger (eds.),
The Invention of Tradition (Cambridge University Press, 1983), pp. 211-62.
Randall M. Packard,
The Making of a Tropical Disease: A Short History of Malaria (Johns Hopkins University Press, 2007).
Michael Havinden and David Meredith,
Colonialism and Development: Britain and its Tropical Colonies, 1850-1960 (Routledge, 1993).
Marshall Sahlins,
Stone Age Economics (Aldine de Gruyter, 1972).
James C. McCann,
Maize and Grace: Africa’s Encounter with a New World Crop, 1500-2000 (Harvard University Press, 2005).
A. G. Hopkins,
An Economic History of West Africa (Longman, 1973).
Jan Vansina,
Rainforests: Toward a History of Political Tradition in Equatorial Africa (Currey, 1990).
Mahmood Mamdani,
When Victims Become Killers: Colonialism, Nativism, and the Genocide in Rwanda (Princeton University Press, 2001).
Slavery and African Life (Cambridge University Press, 1990).
Mahmood Mamdani,
Citizen and Subject: Contemporary Africa and the Legacy of Late Colonialism (Princeton University Press, 1996).
The Migrant Cocoa Farmers of Southern Ghana: A Study in Rural Capitalism (Cambridge University Press, 1963).
Gareth Austin,
Labour, Land and Capital in Ghana: From Slavery to Free Labour in Asante, 1807-1956 (University of Rochester Press, 2005).
Benno J. Ndulu, Stephen A. O’Connell, Robert H. Bates,
The
1960-2000 (Cambridge University Press, 2008).
Gerald K. Helleiner,
Agriculture, Government, and Economic Growth in Nigeria (Richard D. Irwin, 1966).
الفصل الثامن: النموذج القياسي والتحول المتأخر للتصنيع
The Tsarist Economy: 1850-1917 (St Martin’s Press, 1986).
M. E. Falkus,
The Industrialisation of Russia: 1700-1914 (Economic History Society, 1972).
Susan B. Hanley and Kozo Yamamura,
Economic and Demographic Change in
(Princeton University
Akira Hayami, Osamu Saitô, and Ronald P. Roby (eds.),
Emergence of Economic Society in Japan, 1600-1859 (Oxford University Press, 1999).
Thomas C. Smith,
The Agrarian Origins of Modern Japan (Stanford University Press, 1959).
Tessa Morris-Suzuki,
The Technological Transformation of Japan from the Seventeenth to the Twenty-First Century (Cambridge University Press, 1994).
Keijiro Utsuka, Gustav Ranis, and Gary Saxonhouse,
Comparative Technology Choice in Development: The Indian and Japanese Cotton Textile Industries (St Martin’s Press, 1988).
Yujiro Hayami and Vernon W. Ruttan,
Agricultural Development: An International Perspective (Johns Hopkins University
Victor Bulmer-Thomas,
An Economic History of Latin America since Independence (Cambridge University Press, 1994).
Rosemary Thorp,
and Exclusion: An Economic History of Latin America in the 20th Century (Inter-American Development Bank, 1988).
الفصل التاسع: التصنيع في نموذج «الدفعة القوية»
Robert C. Allen,
Farm to Factory: A Reinterpretation of the Soviet Industrial Revolution (Princeton University Press, 2003).
Holland Hunter and Janusz M. Szyrmer,
Faulty Foundations: Soviet Economic Policies, 1928-1940 (Princeton University Press, 1992).
R. W. Davies, Mark Harrison, and S. G. Wheatcroft,
The Economic Transformation of the Soviet Union, 1913-1945 (Cambridge University Press, 1994).
The World Bank,
East Asian Miracle: Economic Growth and Public Policy (Oxford University Press, 1993).
Christopher Howe,
The Origins of Japanese Trade Supremacy (Chicago University Press, 1996).
Chalmers A. Johnson,
MITI and the Japanese Miracle: The Growth of Industrial Policy, 1925-1975 (Stanford University Press, 1982).
Alice H. Amsden,
The Rise of 'The Rest’: Challenges to the West from Late-Industrializing Economies (Oxford University Press, 2001).
Barry Naughton,
The Chinese Economy: Transitions and Growth (MIT Press, 2007).
Loren Brandt and Thomas G. Rawski (eds.),
China’s Great Economic Transformation (Cambridge University Press, 2008).
ناپیژندل شوی مخ