172

تاريخ ابن خلدون

تاريخ ابن خلدون

ژانرونه

وأحزر أن المصريين أمدوا مجاهدي برقة بمبلغ لا يقل عن مائتي ألف جنيه نقدا عدا قيمة الأقوات والأرزاق التي كانت قوافلها متصلة يلاقي بعضها بعضا بين غاد ورائح، وقادم وقافل، فهذه لا أعلم حسابا، وعدا ثلاث بعثات أرسلها الهلال الأحمر المصري، وقام فيها بمساعدات كبيرة. وكان للدولة العثمانية أيضا بعثات هلال أحمر متعددة وجاءت بعثة هلال أحمر أيضا من قبل أهالي كانوا مصابين بأمراض مزمنة، وأوبئة مستحكمة، لاسيما مرض الزهري المنتشر. فأخذت هذه البعثات بمؤاساتهم بعد أن كانوا لا يعرفون شيئا من أمر العلاج والوقاية، فاستفاد الأهلون كثيرا في صحتهم، لاسيما عرب الجبل الأخضر. ولولا أن نشبت الحرب البلقانية والتزم المصريون تحويل إمداداتهم إلى جهة الأستانة، لكان الجهاد في القطر الطرابلسي بقي على حاله، وكان الطليان لا يقدرون أن يبرحوا مراكزهم وراء استحكاماتهم ولكن الحرب البلقانية شغلت المسلمين عن حرب طرابلس، وانصرفوا عن المهم إلى الأهم، وأخذت لجنة الإعانة تحت رئاسة الأمير عمر طوسون «أمين الأمة» ترسل الإعانات إلى الدولة، وأراد الأمير عمر أن يبعث أيضا ما بقى من الإعانة الطرابلسية إلى الأستانة فتبت إليه حينئذ أرجوه أن يبقى إعانة طرابلس لطرابلس لأنها في الحرب البلقانية لا يكون لها غناء ذوبال، وأما في طرابلس فإنها تسد أرماق المجاهدين الذين كانوا يجاهدون مكتفين بالقوت الضروري، فقد كان الواحد منهم يعيش بقرش ونصف في اليوم.

ولما طال القتال في طرابلس على غير نتيجة لإيطاليا، أخذت هذه تفك في إشعال الحرب على تركيا في أمكنة أخرى، فأما الدردنيل فكانت الدولة قد بادرت بتحكيمه ووضعت فيه أربعين ألف عسكري فلم يجرأ الأسطول الطلياني أن يقتحمه حذرا من الدمار، ولكنه احتل موقعا من جزيرة لمنى.

ثم ذهب فدمر نسافتين من الأسطول العثماني كانتا في بيروت، ولما لم يجد الطليان فائدة من هذه التهويلات أجمعوا احتلال جزيرة رودوس وبقي مع ذلك العثمانيين مصممين على القتال، وكان فريق من الترك يود في الباطن مصالحة إيطاليا على طرابلس تخلصا من الأخطار التي كان يخشى منها على الدولة باستمرار الحرب، إلا أنهم خافوا هيجان العرب والعالم الإسلامي فيما إذا تخلوا عن طرابلس، ولم يكن مساعدا لإيطاليا يومئذ حسب زعم الطليان سوى الخديوي بالسبب الذي تقدم ذكره وقد أشار إلى ذلك جيلوتي رئيس نظار إيطاليا السابق، وذلك في مذكراته المطبوعة التي يذكر فيها تاريخ حياته، فصرح بأن عباس حلمي خديوي مصر كان من أول حرب طرابلس إلى آخرها مساعدا لإيطاليا بما أمكنه من الوسائل، بحجة أن جده إسماعيل باشا عندما خلع من إمارة مصر وسكن في نابولي خشت الحكومة الإيطاليا معاملته! ولما أطلع الأتراك على هذا الكتاب بعد الحرب العامة، وكان جيولتي نشره قبل ذلك ببضع سنوات كان لذلك وقع سيئ لديهم، وطعنت جرائدهم في الخديوي السابق طعنا شديدا.

فالدولة كانت إذا لا تجرأ على التخلي عن طرابلس حتى بعد احتلال رودوس وكان الطليان أصبحوا في حيص بيص من تمادي هذه الحرب التي كلفتهم مبالغ طائلة من المال «منذ عشر سنوات كانت إيطاليا أحصت خسائرها المالية على طرابلس بثلاث مئة مليون من الجنيهات» وعشرات ألوف من الرجال، فحدثتها نفسها أخيرا باحتلال بلاد الرومالي، وكان هذا مما يغيظ البلقانيين الطامحين إلى ميراثها من تركيا وكانت الروسيا قد بدأت بسياسة التأليف بين البلغار والسرب واليونان، حتى يهاجموا الدولة العثمانية يدا واحدة ، فوجدت إيطاليا في احتلال الرومللي سببا للتنازع بينها وبين البلقانيين، فتوقفت عن ذلك وربما تكون إيطاليا كلفت الروسيا اتخاذ سياسة ضغط على الباب العالي حتى يرضى بالتخلي عن طرابلس.

فأخذت الروسيا تفاوض الدول العظام في التوسط لدى الباب العالي في هذا الأمر، وأخيرا اتفقوا جميعا على تقديم مذكرة إلى تركيا ينصحون لها فيها بوضع حد لهذا الخلاف، فأجابت تركيا أن الصلح الوحيد الذي يمكنها أن ترضى به هو إلغاء قرار مجلس نواب إيطاليا استلحاق طرابلس الغرب، وسحب جميع العساكر الطليانية من ذلك القطر، وإلا فهي تقاتل إلى ما شاء الله قتال المظلوم المتعدى عليه! وبينما تركيا على أشد ما يمكن من العزم للدفاع عن طرابلس لما شاهدته من بأس الطرابلسيين وشدة بلائهم في هذه الحرب، ولكونها لم تكن تتكلف عليهم في الشهر الواحد أكثر من مئة ألف جنيه، إذ راعها اتحاد الدول البلقانية الأربع، اليونان، والبلغار، والسرب والجبل الأسود، وتحفزهم للزحف عليها فعند ذلك أجمعت الصلح مع إيطاليا مكرهة.

وكان أنور لا يزال في الجبل الأخضر، ووصل إلينا الخبر ونحن هناك. فعلمت أن الدولة لا تقدر أن تكافح البلقانيين جميعا ومعهم إيطاليا. وفكرت أنه يمكنها إذ أكرهت على الصلح مع إيطاليا أن تستمر على إمداد الطرابلسيين سرا بواسطة مصر، ويمكنها أيضا أن تسحب عسكرها النظامي الباقي في طرابلس بدون أن يحدث ذلك فتورا في الدفاع. فبعد أن وقعت مذاكرات بيني وبين السنوسيين من أعون السيد أحمد الشريف لأنه كان وقتئذ لم يزل في الكفرة، برحت الجبل الأخضر قادما وكان الصدر الأعظم حينئذ مختار باشا الغازي، ولكن السياسة كان أكثرها في يد كامل باشا، وكان ناظر الحربية ناظم باشا، وكان شيخ الإسلام جمال الدين أفندي فقابلتهم جميعا وأوضحت لهم محاذير التخلي عن طرابلس، فقال لي كامل باشا بالحرف: إننا لا نقدر أن نحارب أربع دول البلقان، وسنتمر على محاربة دولة عظيمة كإيطاليا، فبينت له ن استمرار الدفاع عن طرابلس ممكن بدون تكليف الدولة مؤونة شاقة لأن المجاهدين هناك إذا كفلت لهم الدولة والعالم الإسلامي قوتهم الضروري فإنهم يقدرون أن يصدوا الطليان عن التقدم، وليس المقصد من مسعانا سوى إقناع الدولة بأنها إن أكرهت على الصلح لا تتخلى عن إمداد الطرابلسيين بواسطة مصر، فهذا الرأي لم يرفضه كامل باشا، وكذلك أكد لي جمال الدين أفندي شيخ الإسلام بأن الدولة لن تهمل أهل طرابلس، ولكنها مضطرة الآن أن تكف عن حرب إيطاليا حتى تكون انتهت من الحرب البلقانية.

وبالاختصار أرسلت الدولة نابي ك، وفخر الدين بك إلى سويسرا حيث اجتمعا مع برتوليني وفولبي معتمدي إيطاليا وباشرا مذاكرات الصلح، وانتهى الأمر بأن الدولة تترك سيادتها على طرابلس لأهاليها، وتنصح لهم بالائتلاف مع إيطاليا، وأن إيطاليا تعفو عن جميع الذين قاوموها في طرابلس من الأهالي، والعساكر التي للدولة في طرابلس يخرجون منها، كما أن العساكر الإيطاليا تجلو أيضا عن رودوس، وجزر الأرخبيل التي احتلتها.

وكان أيضا من جملة الشروط أن تبقى طرابلس مرتبطة بالدولة من الجهة الدينية فالسلطان يبقى هو الخليفة الأعظم في نظر الطرابلسيين، ويدعى له على المنابر، ويكون للسلطان وكيل في طرابلس يقال له نائب السلطان، وقد تعين بعد الاتفاق شمس الدين باشا لهذا المنصب، ومعه يوسف بك شتوان مستشارا.

وكانت وزارة سعيد باشا قد شعرت بأن المجلس لا يمشي معها في قضية الصلح مع إيطاليا، لا سيما بعد أن جاء يوسف بك شتوان وخطب في مجلس المبعوثين خطابا مآله أن الحالة الحربية هي في طرابلس مرضية جدا لا تؤذن بأدنى خطر، وأنه لا خوف على الدولة إلا من الشقاق الداخلي، فتحمس المبعوثون وآلوا بعدم الموافقة على الصلح وكان الصدر العظم بدأ يشعر بقرب الحرب البلقانية، ويرى أنه لابد من عقد الصلح مع إيطاليا، وكان المجلس لا يزال في شقاق بعيد بين الأحزاب، فأقنع سعيد باشا السلطان بحل مجلس المبعوثين حتى يتسنى للحكومة أن تمضي في سياستها، وكان للسلطان حق في حل مجلس النواب بموافقة مجلس الأعيان على شرط مباشرة الانتخابات لانعقاد المجلس الجديد، فصدر الأمر بحل المجلس وانتخب مجلس جديد، وما كاد ينعقد المجلس حتى جاءت الأخبار بأن الأرناؤوط استأنفوا الثورة، واتفقوا هذه المرة مسلمين وكاثوليكيين وأرثوذكسيين يدا واحدة في وجه الدولة، وعلى رأسهم إسماعيل بك مبعوث برات، ونجيب دراغه مبعوث درشتنه، وبصري بك مبعوث دبره وحسن بك، ويحيى بك، وغيرهم. وانضم إليهم أيضا ضباط أرناؤوط من ضباط الجيش العثماني، وعقد هؤلاء الأرناؤوط اجتماعا حضره 86 من رجالاتهم، وقرروا طلب حل المجلس الجديد وعزل الاتحاديين الذين في الحكومة مثل محمود شوكت باشا ناظر الحربية، وطلعت بك ناظر البوسطة والتلغراف، وجاويد بك ناظر الأشغال النافعة، فاشتد الخطب على الدولة، واستعفى محمود شوكت باشا وظهر أن الاتحاديين أصبحوا بعد ثورة ألبانيا يخشون تحمل المسئولية، فصار الصدر الأعظم سعيد باشا يعرض نظارة الحربية على المقتدرين فلا يقبلها أحد منهم، فاختار الاستعفاء. فانتدب السلطان لتأليف الوزارة الغازي مختار باشا المشهور.

وكانت تألفت في الأستانة جمعية عسكرية يقال لها جمعية «الخلاص كاران» فوزعت منشورا تطلب فيه تبديل الحكومة، ومنع الأشخاص غير المسئولين من التدخل في أمور الدولة، وتقترح حل المجلس وانتخاب مجلس آخر بتمام الحرية وكانت الحكومة تريد سن قانون يمنع رجال العسكرية من التدخل في السياسة فهذه الجمعية أعلنت أن رجال العسكرية لا يمتنعون عن التدخل في السياسة إلا بعد قبول هذه المطالب. فقرئ هذا المنشور في المجلس وأثار حركة شديدة، وأقسم المبعوثون بأنهم لا يتركون كراسيهم إلا موتى، وطلبوا من الحكومة التحقيق عن الجمعية التي وزعت هذا المنشور، فجاء الصدر الأعظم مختار باشا ومعه ناظم باشا ناظر الحربية الجديد وطمأنا خواطر المبعوثين، وتعهد ناظم باشا بإعادة النظام إلى الجيش كما كان تلا الصدر الأعظم برنامج الوزارة الجديدة وفيه منع الضباط من الاشتغال بالسياسة ومنع المأمورين من التدخل في أمور الانتخابات، والتقيد بالقوانين الموضوعة في أمر تعيين المأمورين، وغير ذلك. وأما من جهة الصلح مع إيطاليا فلم تعلن الوزارة شيئا، ثم وقع الخلاف في المجلس على قضية حق السلطان في حل المجلس وعدمه وكان الاتحاديون الذين لهم الأكثرية في المجلس يريدون إعطاء هذا الحق للسلطان على شروط كان يناقشهم فيها خصومهم حزب الحرية والائتلاف، وكان هذا الحزب يرأسه لطفي فكري، فاشتد الجدل بين الفريقين، وفي أثناء ذلك كانت ثورة الأرناؤوط تتفاقم يوما فيوما، ثم بدأ الشقاق بين أعضاء الوزارة نفسها، وانتدب مختار باشا الصدر السابق فريد باشا الأرناؤوطي لأجل نظارة الداخلية، وحسين حلمي باشا الصدر السابق أيضا لنظارة العدلية، فأبى فريد باشا الدخول في الوزارة، ودخل حسين حلمي باشا ولكنه اضطر بعد قليل إلى الاستعفاء، وازداد تحرج مركز الحكومة التي كانت ترى ازدياد مشكلاتها في الداخل والخارج، وبينما ثائرة الأرناؤوط تتوقد إذا بعصائب البلغار في مقدونية - أي الرومللي - رجعت إلى العمل، وأخذت بنسف السكك الحديدية ثم في نهار العيد انفجرت قنبرة في «جامع أشتب» وجرح بها أناس كثيرون، فثار المسلمون وأوقعوا بكثير من البلغار، ثم حصلت حوادث من هذا القبيل في ولاية «أسكوب» فانتقم المسلمون أيضا بقتل عدد من البلغار، وأهم حادثة هي التي وقعت في «كوتشانة» في أول أغسطس سنة 1912، فإنه كان قد وضع البلغار قنابر في السوق فانفجرت وقتلت عددا من المسلمين، فأوقع المسلمون بالبلغار، وقيل إنهم قتلوا منهم 150 شخصا، وهكذا استمرت الحوادث مدةطويلة، فعصائب البلغار تلقي القنابر الديناميتية في الأسواق والمجامع عمدا لأجل إثارة المسلمين حتى ينتقموا من المسيحيين، وتضطر الدول المسيحية للتدخل فتنسلخ مكدونية عن تركيا، وهذا على نمط حركات الأرمن.

ناپیژندل شوی مخ