165

تاريخ ابن خلدون

تاريخ ابن خلدون

ژانرونه

وما زالت الصحف الأوروبية تضرب على هذا الوتر حتى أمر السلطان عبد الحميد بإرسال لجنة تحقيق إلى محل الواقعة، ودعا الدول التي هن موقعات على معاهدة برلين أن ترسل معتمدين من قبلها مع اللجنة المذكورة ليشهدوا سير التحقيق، فجرى التحقيق بحضورهم وثبت عصيان الأرمن بشهادات تفوق الإحصاء وأدلة لا تقبل المراء ومع ذلك فقد بقي قناصل الدول فرنسا وإنجلترا والروسيا يدعون أنهم لم يقدروا أن يتصلوا تمام الاتصال بالأهالي حتى يتطلعوا على الحقائق. ثم عندما وجدوا كون هذا العذر واهيا جعلوا يقولون إنه على فرض وقوع عصيان فلم يكن من العدل أن يتناول العقاب جميع أهالي الناحية والحال أنه قد بطش الأكراد بالا ومن الذين ثاروا على الدولة وذلك بمرأى ومسمع من العساكر العثمانية، وأخذت الصحف الأوروبية تحت تأثير الكنائس لاسيما في إنجلترا تستفز الدول إلى التدخل لرفع المظالم عن الأرمن ولما كانت إنجلترا تسمع كثيرا لرؤساء الكنائس في بلادها سعت لدى الدول في التدخل بهذه المسألة فأجابتها فرنسا والروسيا، واتفقت الدول الثلاث على تقديم اقتراحات للسلطان لأجل إصلاح الإدارة في البلاد التي كان الأوروبيون يطلقون عليها اسم «أرمينية» وهي في الحقيقة بلاد الأكراد.

فمن جملة هذه الاقتراحات تعيين مفتش عام لتلك الولايات، وتشكيل لجنة مختلطة دائمة لمراقبة سير الإصلاحات، ويكون مركز اللجنة في الأستانة. فرفض السلطان قبول تشكيل هذه اللجنة الدائمة المختلطة، وعين المشير شاكر باشا مفتشا عاما لولايات شرقي الأناضول، فرفضت الدول تعيين هذا المتفش، وأصرت على تعيين مراقبين أوروبيين وجرى بينها وبين السلطان كثير من الأخذ والرد، والسلطان ثابت لا يتزعزع. فخطب اللورد ساليسبوري في مجلس اللوردية خطابا أنذر به السلطان بسوء المصير إذا لم يقبل نصائح الدول، فاشتد بذلك عزم ثوار الأرمن وقاموا بمظاهرة عظيمة بحجة أنهم يطالبون بتنفيذ الإصلاحات الموعودة، فعند ذلك هجم عوام المسلمين على الأرمن في نفس العاصمة وذبحوا منهم عددا كبيرا، لأنهم رأوا الأرمن يتعمدون إثارة الفتنة سبيلا لإدخال الدول الأوروبية في أمور السلطنة الداخلية. وهذا ما كان يقصده الأرمن فعلا، وكان يعتقدون أن في ذبحهم فائدة لأنفسهم في المستقبل.

فلما وقع هذا الانتقام من الأرمن، واتهم الأجانب رجال الشركة وناظم باشا ناظر الضبطية بأنهم أغضوا النظر على ذبح الأرمن، وأنهم كانوا يقدرون على منع الشر فلم يمنعوه، أبعد السلطان ناظم باشا عن الأستانة وجعله واليا على بيروت، وعزل سعيد باشا الصدر الأعظم وجعل مكانه كامل باشا. ثم أصدر خطا سلطانيا يتضمن قبول اقتراح الدول وتشكيل مجلس مراقبة لسير الإصلاحات، ولكن خبر ثورة الأرمن والمذبحة التي حلت بهم كان انتشر في ولايات الأناضول وامتلأت صدور المسلمين غيظا منهم.

وكان للأرمن حينئذ بطريرك اسمه إزميرليان عقد الأرمن به جميع آمالهم، وكانوا يبالغون في مدح مناقبه لأنه كان يقوي عزائمهم، ويجدد روحهم القومية، فازدادت حركتهم نموا. ولما كان الأرمن غير مقتصرين في حركتهم هذه على البلاد العثمانية بل كانت هذه الحركة ممتدة إلى بلاد القوقاس، فقد تنكر لها رجال الدولة الروسية أيضا، وسعوا لدى الباب العالي في استبدال بطريك آخر بالبطريرك إزميرليان الذي كانت الروسيا ترى فيه مصدر هذه الحركات، فإنه كان يعارض في إلغاء التعليم الأرمني في القوقاس، والروسيا تأتي إلا التعاليم الروسي وحده، ولما كان طلب الروسيا موافقا لهوى تركيا، فقد حملت الدولة العثمانية هذا البطرك على الاستقالة فاستعفى في 2 أغسطس سنة 1896 وعين مكانه بطريكا رلتماوس مطران بروسة، فبلغ الأرمن من الحنق لهذا التبديل أن أجمعت جمعياتهم الثورية الهجوم على القصر السلطاني، ووزعوا الأسلحة سرا على كثير من أعضاء الجمعيات، وعينوا عيد الجلوس موعدا لهذه الحلة إذ يكون الشعب التركي غافلا متصرفا إلى إعداد الزينة بعيد السلطان. فوصل الخبر إلى السلطان بواسطة البطريرك برلتماوس نفسه، ويقال إن الحكومة الروسية هي نفسها أبلغت السلطان خبر هذه المؤامرة لأنها كانت تكره جمعيات الأرمن الثورية وتعلم اتصالهم بحزب النيهيلست الذين كانوا اغتالوا القيصر إسكندر الثاني: فأخذ السلطان حذره وتهيأت الضابطة للتنكيل بثوار الأرمن. وفي 26 أغسطس سنة 1896 دخلت عصابة من الأرمن إلى البنك العثماني بغتة ومعهم أكياس ملأى بقنابر الديناميت، وقتلوا الجند المحافظ على البنك، وقصدوا الاستيلاء على خزانة البنك فجاء الجند وأحاطوا بهم من الخارج وصاروا يطلقون النار عليهم وهم يقابلون الجند بالمثل، وشاع في الأستانة أن ثوار الأرمن حاولوا نسف البنك العثماني، فهاج الشعب التركي وصاروا يقتلون الأرمن أينما ثقفوهم، فحصلت مذبحة استمرت ثلاثة أو أربعة أيام فقتل منهم ألوف، وكان سيقتل أضعاف ذلك لولا أن كثيرين من المسلمين حموا كثيرين من الأرمن وآووهم في بيوتهم، وكان كثير من رجال الدولة وقوا الأرمن في الحارات التي تجاور بيوتهم. وامتاز بين هؤلاء المشير فؤاد باشا الجركسي.

فأما العصابة التي دخلت إلى البنك فقد أخرجوها تحت ضمان سفراء الدول وأبعدوها من الأستانة، بعد أن كانت هذه العصابة هي سبب ذبح عدة آلاف من الأرمن ربما كان كثير منهم أو أكثرهم أبرياء.

وكانت جزيرة كريت - أو أقريطش - قد أخذت تتحرك وذلك لاختلاف وقع بين أهالي الجزيرة وبين الدولة، وكانت الثورة في كريت خلقا متأصلا في أهل هذه الجزيرة، ويقال إنهم مفطورون على القلق والشغب وقد كانوا كذلك في القديم قبل الدولة العثمانية بل قبل الدولة الرومانية نفسها، وفي هذه الجزيرة حل ثوار قرطبة الذين بطش بهم الكم الأموي أمير الأندلس في وقعة الربض المشهورة، فجلا منهم طائفة إلى فاس، وسارت طائفة أخرى بضعة عشر ألف نسمة إلى الشرق فنزلوا في الإسكندرية وثاروا فيها على الدولة العباسية، فقاتلهم عمال مصر من قبل بني العباس وأخرجوهم من مصر إلى جزيرة أقريطش قائلين لهم ليتبوأوا منها ما يشاؤون. فذهبوا ونزلوا بهذه الجزيرة، وأسسوا لأنفسهم إمارة مستقلة في جانب من أقريطش تحت رئاسة عبد العزيز بن شعيب البلوطي، واستمرت هذه الإمارة على استقلالها أكثر من مئة سنة. ثم أرسل عليهم الروم من بيزانطية جيشا حصرهم حتى استسلموا وأخذ أميرهم أسيرا إلى القسطنطينية، وشردهم من تلك الجزيرة، ومن بقى منهم فيها تنصروا.

ويقال إنه لا يزال في كريت قرى معروفة يقال إن أصل أهلها من العرب وسحناؤهم تدل على ذلك، ولا تزال عندهم عادات عربية محفوظة إلى اليوم. وقد ذكرنا في ما سبق كيفية فتح الدولة لكريت وأنها آخر فتوحات الدولة العثمانية وأنها بقيت تقاتل كريت سبعا وعشرين سنة إلى أن دوختها. وفي سنة 1766 عصت هذه الجزيرة الدولة ثم ساقت الدولة عليها عسكرا أدخلها في الطاعة، وسنة 1878 ثارت مرة ثانية فاتفقت الدولة مع أهلها على دستور خاص بهم وعينت لهم واليا مدته بحسب هذا الدستور خمس سنوات، وتقرر أنه إذا كان الوالي مسلما يكون له معاون مسيحي، وإذا كان مسيحيا يكون له معاون مسلم. وكذلك المتصرفون إذا كان المتصرف مسلما كان المعاون مسيحيا، وبالعكس. وكانت نواحي الجزيرة 88 ناحية منها 51 مختلطة أي مسلمين ونصارى، و34 مأهولة بمسيحيين فقط، وثلاث نواح ليس فيها غير مسلمين. وكان للجزيرة مجلس تشريعي يجتمع مدة أربعين يوما في السنة، وعدد أعضائه 80 منهم 49 مسيحيون و31 مسلمون، ولا يتقرر شيء إلا بثلثي الأصوات. ففي سنة 1881 طلب المسيحيون تعديل هذا الدستور بحجة أنه مجحف بحقوقهم، وأن التمثيل في المجلس غير متناسب مع عدد السكان، فإذا كان أعضاء المسيحيين فيه 50 وجب أن لا يزيد المسلمون على 25، والحال أن الدولة جعلتهم 31 ولا شك في أن الدولة كانت تعلم من استعداد أهل كريت للانفصال عنها ما جعلها تحتاط لمستقبل الحكم العثماني فيها، وتراعي الأقلية الإسلامية. ومع ذلك فمسلمو كريت كانوا لا يقلون عن ثلث السكان، وكان بينهم عدد غير قليل من عرب برقة وجماعات وافرة من مهاجري بوسنة والهرسك والبلغار المسلمين. ثم إن المسحيين في كريت اختلفوا مع الدولة من أجل الموازنة المالية لإدارة الجزيرة، واشتد الخصام في سنة 1887 فأرسل السلطان عبد الحميد المشير شاكر باشا لأجل إصلاح الأحوال فوجد أنه لا مناص من استعمال القوة، فإن المسيحيين خرجوا عن الطاعة وأبوا دفع الضرائب، وصاروا يعتدون على المسلمين في القرى التي أكرها مسيحيون، وصار المسلمون يرحلون من القرى إلى المدن لأنهم في المدن كانوا هم الأكثرية. فساق شاكر باشا القوى العسكرية على عصائب الأروام فشتت شملها، وأخلد الجميع إلى السكون برغم أنه كان لكريت جمعية في أثينا ترسل إلى كريت متطوعين وأسلحة فلما رأى اليونان أن الدولة العثمانية قهرت ثوار كريت هاجموا وطلبوا من حكومتهم إرسال الأسطول اليوناني إلى مراسي كريت بحجة حماية المسيحيين، حيث كان الأتراك بطشوا بالأروام في مدينتي «خانية» و«قندية» فلما رأت الدول استفحال الخطب أرسلن إلى مرسى «سودا» سفنا حربية فأنزلت عساكر في الجزيرة وذلك في 3 فبراير سنة 1897 ولم تشترك ألمانيا ولا النمسا في هذه الحركة، وإنما كانت الدول اللواتي تولينها إنجلترا، وفرنسا، والروسيا، وإيطاليا. فبدلا من أن الأروام يكنون إلى عمل الدول هذا، كان منهم أن أرسلوا في 10 فبراير الكولونيل فاسوس ومعه عدة توابير من الجند المنظم، وجماعة من المتطوعين، فساروا بالأسطول اليوناني ونزلوا بقرب خانية، وأنذرته الدول حتى يرجعوا، وألقت عليهم النار من سفنها فابتعدوا إلى داخل الجزيرة، وأعلنوا الحاق كريت لمملكة اليونان.

فعند ذلك أعلنت الدولة الحرب على اليونان، وزحف المشير أدهم باشا بمئة وخمسين ألف جندي على اليونان، فما انقضت مدة شهرين حتى تمزق الجيش اليوناني كل ممزق، ولوا أن أبرق قيصر الروسيا إلى السلطان عبد الحميد برجوه العفو عن اليونان والتوقف عن متابعة الحرب، لكان الأتراك دخلوا أثينا واستولوا على اليونان كلها. فلم يسع السلطان إلا إجابة رجاء القيصر، وانعقد مؤتمر الصلح، وبعد مذاكرات طويلة تقررت إعادة الجيوش العثمانية من بلاد اليونان كما دخلت بدون أن تجني الدولة العثمانية أدنى ثمرة من انتصارها عملا بالقاعدة الأوروبية، إن ما يؤخذ من الهلال للصليب لا يعاد، وإن ما يؤخذ من الصليب إلى الهلال لابد من إعادته.. فكل نتيجة تلك الحرب كانت تصحيح بعض الحدود بين تركيا واليونان، بحيث أن جميع ما استردت الدولة من تساليا كان عبارة عن قريتين، ولكن أجبرت الدول اليونان المغلوبة على دفع غرامة حربية أربعة ملايين جنيه كلفة الحملة العثمانية. على أن الدولة استفادت فائدة أدبية لا تنكر بهذه الحرب، لأنها كادت في مدة شهرين لا غير تستولي على بلاد اليونان كلها، واجتاز الجيش العثماني جبالا يحار العقل كيف اجتازها بهذه السرعة!! ومن ذلك الوقت خمدت الحركة الأرمنية، واستراحت الدولة مدة سنوات من مشكلات الأرمن، ووقفت الدول عن مطالبتها بتنفيذ برنامج المطالب الأرمنية.

فأما في جزيرة كريت فكان النصارى قد طردوا المسلمين من جميع القرى واقتلعوا أشجارهم ودمروا بيوتهم، فالتجأ المسلمون إلى المدن واشتدت العداوة بين الفريقين، فهجم الكريتيون المسلمون ومعهم جماعة من عرب بنغازي على حارة النصارى في قندية فأحرقوها، وبطشوا بالمسيحيين، وحصل مثل ذلك في خانية حاضرة الجزيرة، فتعصبت الدول وأنذرت الدولة بأن تخرج عساكرها من كريت أو تعلن هي استقلال الجزيرة، وهي وإن لم تفعل ذلك دفعة واحدة فقد كانت تريد أن تصل إلى هذه الغاية تدريجيا، فأتت بالبرنس جورج ابن ملك اليونان وجعلته واليا للجزيرة، وبقيت هذه الحالة إلى أن انتهت الحرب البلقانية في زمن السلطان محمد رشاد. فتقرر ضم كريت إلى اليونان، وعاني المسلمون في كريت شدائد كثيرة وهاجر منهم قسم كبير إلى بلاد الدولة العثمانية.

ومنهم جماعات وصلوا إلى دمشق ولهم حارة في جبل الصالحية.

ناپیژندل شوی مخ