وقد بدأت سلطته في أثناء حوادث أثارت ثائر الأمة؛ منها الاعتداء الذي جرى على قافلة الحجاج بين الحرميين، ومنها أن سفينة أمير الماء، أي القبطان باشي خرج منها جنودها وبقي فيها بعض النواتية من الأرقاء المسيحيين فذهبوا بها إلى مالطة.
غير أن السلطان بدأ بالإصلاح فعلا، وأول ما وجه إليه همه هو إصلاح الأمور المالية وضبط الجبايات واتباع سياسة التوفير ولا سيما في القصر السلطاني، وأخذ السلطان إدارة الأوقاف من يد أغا القصر وسلمها إلى الصدر الأعظم، وكان راغب باشا يبني المحاجر الصحية توقيا من الطاعون، ويقوم بإصلاحات أخرى مثل بناء دار الكتب العظيمة التي بناها في استانبول، وكان مراده أن يشق بلاد الأناضول بترعة تتكون من نهر سقارية، ومن بحيرة واقعة بين سقارية وإزنيق، وذلك تسهيلا لنقل الحبوب والأقوات، فمات قبل أن يتمكن من إجراء هذه الفكرة الحسنة وكانت وفاته سنة 1752.
وبينما كانت الدولة في أشد الحاجة إلى مثل راغب باشا جرت حوادث في غاية الخطورة، منها قتل بطرس الثالث قيصر الروسيا وجلوس كاترينة الثانية على عرش تلك المملكة، وموت أوغوست الثالث ملك بولونيا، وكانت الروسيا قد دخلت في صف الدول العظام، وأخذت تنمو بسرعة، فوجهت جميع دسائسها إلى إسقاط مملكة السويد، ومملكة بولونيا والسلطنة العثمانية، وقد تغلبت على السويد ونزعت من يدها بموجب معاهدة نيستاد أحسن ولاياتها في البلطيق الغربي، ثم قضت الروسيا على مملكة بولونيا وأجلست على عرش هذه المملكة الكونت ستانسلاس بونيائوفكس عشيق القيصرة كاترينة - أو أحد معشوقيها الذين كان لا يأخذهم الإحصاء - فاحتجت تركيا وفرنسا على عمل الروسيا هذا، ولكن الدولة العثمانية كان بلغ منها فساد الإدارة وفشو الرشوة والخيانة إلى أقصى حد يتصوره العقل، وكان الإنجليز يستعملون المال في جميع مقاصدهم، وينالون به جميع ما يريدونه من الدولة، وكان السلطان يعرف كل ذلك ولا يقدر على الإصلاح نظرا لشمول الفساد وعموم البلوى، حتى إنه قال لخان القريم: إن جميع الباشوات الذين عندي قد فسدت أخلاقهم ولم يبق لهم هم إلا في اقتناء الجواري وآلات الطرب وبناء القصور. وفي أثناء ذلك اعتدى الروس على حدود الدولة ودخل القوزاق إلى بالطة، فأعلنت الدولة الحرب على الروس، ولكن كانت جيوشها في أسوأ حالة، وكان مضى زمن طويل وهي خافضة في السلم، فنسيت أهم معدات القتال، وكانت قلاعها قد تداعت إلى الخراب، وكان المدفعية في أشنع حال، وكان الولاة قد أخذوا يستقلون في ولاياتهم مثل أحمد باشا في بغداد والحاج يمكلي في طرابزون والمملوك علي بك في مصر وغير ذلك، وثار يومئذ ظاهر العمر الزيداني في عكا.
هذا ولما أعلنت تركيا الحرب على الروسيا زحف خان القريم كريم غرائي فاخترق حدود الروسيا وهزم الروس، وعاد إلى بندر بخمسة وعشرين ألف أسير منهم، ولسوء الحظ مات كريم غرائي في أثناء ظفره هذا فزحف الروس وحاصروا شوقسين فامتنعت عليهم، وجاء أمين باشا قائد العثمانيين لنجدة التتر فانهزم وأمر السلطان بقتله، وخلفه وزير يقال له المولدوفنجي فلم يتوفق لأنه بينما كان يعبر نهرد دنيستر طغت المياه فزعزعت أركان الجسرين اللذين على النهر فازدخم الجيش العثماني ازدحاما ساعد على انهيار الجسور فغرق منه عدد كبير، بينما كان الروس يرمون على الجيش بنيرانهم، فانكفأ العثمانيون إلى نهر الطونة ودخل الروس إلى بلاد رومانيا، ثم أرسلت الروسيا أسطولا إلى البحر المتوسط، فأثار بلاد المورة وبلاد الجبل الأسود، فتوالت الوقائع بين الأتراك وبين الثائرين من الأروام ومن السلاف، واشتعلت الحرب بين الأسطولين العثماني والروسي، واحترق الأسطول العثماني في ششمة، وكان يقود الأسطول الروسي أورلوف الشهير عشيق القيصرة كاترين الثانية، ولكن قيادته كانت اسمية، والفعل كان لأمير الماء الايكوسي المسمى الفنستون، وأراد الفنستون هذا أن يخترق الدردنيل، فأبى أورولوف أن يطيعه وجاء فحصر جزيرة لمبي التي هي قبالة ذلك البوغاز، وكان العثمانيون قد بادروا إلى تحصين الدردنيل وحشدوا على الضفتين ثلاثين ألف مقاتل، وهكذا أمنوا خطر عبور الروس إلى الأستانة.
وأما في رومانيا فدارت الدائرة أيضا على العثمانيين مع أنه كان عندهم هناك مئة وثمانون ألف مقاتل، وأوشكوا أن يحيطوا بالروس، ولكن بسوء إدارتهم تغلب الروس عليهم في معركة كاهولو، وقيل إنهم فقدوا خمسين ألف مقاتل، ولم يكن من يفكر في حفظ شأن السلطنة غير السلطان وحده، وكان الوزراء كلهم تحت تأثير الإنجليز يريدون الصلح، وقد طلبوا وساطة النمسا لذلك، وكان البارون «دوطوط» “de Tott”
الفرنسي يشتغل بأمر السلطان في ترميم المدفعية العثمانية، إذ بعد أن كانت هي المدفعية الأولى في أوروبا تقهقرت إلى الدرك الأسفل، فأنشأ السلطان مدرسة للمدفعية والهندسية في الكاغدخانة، وكذلك بنى السلطان مدرسة للبحرية، وذلك في دار الصنعة التي يقول لها الأتراك الترسانة، وكانت البحرية وصلت إلى أقصى حدود الخلل، وصار القبطان باشي أي ناظر البحرية يضع السفن تحت المزاد، فالذي يزيد له في الرشوة يقلد قيادة السفينة، ومما لا شك فيه أن البارون دوطوط خدم العثمانيين في ذلك الوقت خدمه جزيلة في ترميم المدفعية والبحرية.
وفي سنة 1771 هاجم حسن بك التركي ومعه أربعة آلاف متطوع جزيرة لمني وهزم الروس وألجأهم إلى الفرار بأسطولهم، فكافأه السلطان بنظارة البحرية، وانهزم الروس أيضا في كرجستان وفي طرابزون، إلا أنهم تغلبوا على القريم، وكانت هذه قاصمة الظهر لتركيا، إذ أعلن البرنس الروسي قائد جيشهم استقلال القريم عن تركيا ووضعها تحت حماية الروسيا، ومن بعذ ذلك صار البحر الأسود بين الدولتين بعد أن كا عثمانيا بحتا.
أما النمسا فقد اتفقت مع بروسيا والروسيا على اقتسام بولونيا، ثم توسطت النمسا في الصلح بين تركيا والروسيا، واجتع رجال الدول الثلاثة في مولدفيا، وعندما بدءوا بالمذاكرات الصلحية اشتط الروس في مطالبهم، فرفضت تركيا صلحا كهذا واستؤنفت الحرب، فأنكسر الروس في «روسجق» و«سيلستريه» من بلاد البلغار، فذهبوا إلى بازرجيك، وهي مدينة غير محصنة، فانتقموا عن هزائمهم بقتل الأهالي وفيهم النساء والأطفال، وروى المؤرخ «هامر» أن حسن باشا قبطان البحر على رأس جيشه من السباهية طرد الروس إلى ما وراء الدانوب، وغنم مدافعهم وأرزاقهم وقدور الطعام فيها اللحوم وهي نصف ناضجة.
ثم إن الدولة تغلبت على علي بك الثائر بمصر بالاتفاق مع ظاهر العمر الزيداني والى عكا الذي كانت السفن الروسية تمده بالمال والسلاح، ولسوء طالع السلطنة مات مصطفى الثالث بينما كان يريد أن يقود الجيش المرابط على الدانوب، وذلك في 21 سبتمبر سنة 1773، وأسفت الأمة العثمانية بأجمعها عليها لأنه كان مصلحا كبيرا، وجاء في زمن بلغت فيه الإدارة أبعد ما تصوره العقل من الخلل، فعالج أمراض السلطنة بصبر عجيب وأصلح جانبا كبيرا مما كان ينوي إصلاحه.
وقد فكر السلطان في خرق برزخ السويس وكلف البارون دوطوط بأن يرسم له خطة لهذا المشروع الذي كان ينوي إجراءه بعد عقد الصلح.
ناپیژندل شوی مخ