147

تاريخ ابن خلدون

تاريخ ابن خلدون

ژانرونه

السلطان سليمان الثاني

وكان سليمان الثاني محبوسا مدة ستة وأربعين سنة في أحد القصور لا يخالط أحدا ولا يخالطه أحد، وكان يقضي أوقاته بالمطالعة، فلما عرضوا عليه السلطنة حاولا الاستعفاء منها، فأجبروه على القبول، ولكن الانكشارية والسباهية ثاروا على الحكومة وقتلوا الصدر الأعظم وأهانوا حرمه، فلما شاع الخبر في الأستانة ثارت حمية الشعب وخرج العلماء تحت العلم النبوي، ودعوا الأهالي إلى تأديب العسكر، فانقضوا عليهم وفتكوا بهم، وقتلوا كثيرا من رؤسائهم، فأخلدوا إلى السكون وبقي النمسيون والبنادقة يتقدمون في فتوحاتهم، فاستولوا على أرلو وطردوا العثمانيين من دالماسية، وأخيرا دخلوا بلغراد، فالتمس الأتراك الصلح، فاشترطت النمسا شروطا ثقيلة إلى الغاية، فحاول العثمانيون الثبات فتقهقروا أيضا وأخرجهم العدو من نيش وودن، وأصبحت أسكوب تحت خطر السقوط، وقال أحد الوزراء: لا يزال أمامنا حملة واحدة ويصير العدو في الأستانة. فعقدت الدولة مجلسا في أدرنة للتشاور فيما يجب عمله لإنقاذ السلطنة، وعهد بالصدارة إلى مصطفى باشا الكوبرلي ابن الكوبرلي الكبير وأخو أحمد باشا الكوبرلي، فقام بالأمور خير قيام وبدأ بإصلاح السلطنة من الداخل وملأ الخزائن بالأموال، واستأصل الرشوة، وأخذ على أيدي الظالمين، وسن قوانين عادلة للخراج، وكان جانب من موارد السلطنة تحول إلى الأوقاف فأسترجعها الكوبرلي وقال: إن الجهاد أولى بها. ثم بعد أن ملأ خزانة السلطنة بالأموال اللازمة نشر فرمانا يقول فيه: إن الله يأمر المؤمنين بالجهاد إلى آخر رمق من حياتهم، وإنه يجب على المسلمين أن ينفروا خفافا وثقالا. فثارت الحمية في رءوس المسلمين ونفروا من كل صوب، وفي الوقت نفسه عامل النصارى بمزيد الرفق، وأطلق حرية التجارة فاستفاد من ذلك اليهود والنصارى. من جملة ما شدد به هذا الصدر الأعظم الرشيد منع العساكر من الاعتداء على الأهالي ولو بمثل حبة الخردلة، ومن خالف ذلك أنزل به العقاب الصارم، ثم نظر إلى أحوال القضاء فطهر المحاكم وأشعر الرعية وجود العدل، وأعاد مجد السلطنة كما بدأ، وبحسن إدارته هذه حفظ للسلطنة بلاد المورة، لأن الأهالي قاموا إذ ذاك وانتصروا للدولة على البنادقة، لا سيما أن هؤلاء كانوا يسعون في نشر المذهب الكاثوليكي بين الأروام الأرثوذكسيين، فلما رأى الأروام ما رأوا من عدالة هذا الصدر وحسن إدارته رجعوا إلى الدولة العثمانية من تلقاء أنفسهم.

وبعد أن سدد الكوبرلي أحوال السلطنة وأعاد هيبة الحكومة كما كانت زحف إلى الثغور، ووافاه خان القريم سليم غرائي، فبدءوا ببلاد الصرب فدوخوها وهزموا جيشا ألمانيا في قوصوة، وهزم الأمير تكلي المجري حليف الدولة الجنرال هوسار وأخذه أسيرا، واسترجعت الدولة نيش وردن وسمندريا وبلغراد، وذلك سنة 1690 ثم مات السلطات سليمان الثاني.

السلطان أحمد الثاني

وخلفه أخوه أحمد الثاني في 23 يونيو 1691 فكان للكوبرلي في مدة أحمد من نفوذ الكملة ما كان في مدة سليمان، حتى إن السلطان أحمد قال مرة: إني لا أريد أن أعترض الكوبرلي في شيء من أمور الإدارة خوفا من أن يتعطل بذلك ما هو أدرى مني. إلا أن الأقدار أبت إلا حرمان السلطنة العثمانية من هذا الرجل العظيم، فإنه في الحرب في النمسا تلاقى في «سالان كنيم

Salan Kenem » مع جيش ألماني يقوده لويس فون بادن، وكان الصدر الأعظم مخترطا سيفه أمام الجيش فأصابته رصاصة في صدره فخر قتيلا، ودارت الدائرة على الأتراك وفقدوا ثمانية وعشرين ألف مقاتل ومئة وخمسين مدفعا، وكانت مصيبة من أعظم المصائب على الدولة، وفقدت بفقده وزيرا عاقلا عادلا نشيطا جريئا مهذبا صادقا اجتمع فيه من الخلال الباهرة ما قلما وجد في رجل من رجال السياسة.

فبكاه المسلمون والمسيحيون معا وأسف الجميع لفقده وبقيت الدولة مدة أربعة سنوات لم يلتئم جرحها الذي تركه موت الكوبرلي.

السلطان مصطفى الثاني

ثم تولى السلطنة مصطفى الثاني بن محمد الرابع، وكان عهده متسما بالمتانة والصلابة، ورجع السلطان إلى دأب أجداده الأولين، وأعلن أنه سيباشر قيادة الجيش بنفسه، فقال له بعض وزرائه: إنه لا يجوز له أن يعرض للتهلكة شخصه المقدس. فرفض كلامه، وفي بداية أمره كسر الأسطول العثماني في خليج شيو أسطول البنادقة، وزحف خان التتار إلى بولونيا، وأوقع بأهلها ولم يتوقف إلا عند لمبرغ. وجاء الروس فحاصروا آزوف فهزمهم العثمانيون والتتار وقتلوا منهم ثلاثين ألفا. وذلك في أكتوبر سنة 1695 ثم دخل السلطان بنفسه بلاد المجر وفتح ليبة، وجاء الجنرال فيتيراني ليصده فأحاط به الجيش العثماني، وبعد عراك شديد كثرت فيه الخسائر من الفريقين أخذ قيتيراني آسيا وأمر السلطان بدق عنقه، ثم انتصر السلطان في واقعة أولاش على أمير الساكس، وبينما كانت الأمور جاريه وفق مراد العثمانيين إذ تولى البرنس أجين دوسافوا قيادة الجيش الألماني.

سلطنة مصطفى الثاني ابن محمد الرابع التي أبتدأت سنة 1695 كانت فاتحتها فاتحة حزم وعزم، وما مضى ثلاثة أيام على استواء السلطان على سرير الملك حتى أعلن نيته أن يتولى قيادة الجيوش بنفسه خلافا لما كان عليه أسلافه المتأخرون، وقد حاول بعض وزرائه أن يأفكه عن عزمه هذا فلم يستفد شيئا. وقال له السلطان: إني ماض في خطتي هذه. ثم إن عهد هذا السلطان بدأ بالظفر، فالأسطول العثماني كسر أسطول البنادقة أمام جزيرة سافس واستولى العثمانيون على هذه الجزيرة، وزحف خان القريم على بولونيا وأوغل وأثخن ولم يتوقف إلا عن لمبرغ، وكذلك الروس تركوا حصار آزوف بعد أن فقدوا ثلاثين ألف مقاتل وذلك في أكتوبر سنة 1695، ثم إن السلطان نفسه دخل بلاد المجر وافتتح مدينة ليبة عنوة وأسر الجنرال فيتيرافي وأمر بقطع عنقه، ثم تغلب السلطان في واقعة أولاش على أمير الساكس قائد الجيش الألماني في السنة التالية، فاشتعلت حماسة العثمانيين وصاروا يجودون بالعطايا لتجهيز الجيوش ولتكتيب كتائب من المتطوعة، إلا أن طالع الحرب لم يستمر طويلا على هذا الشكل، فإن بطرس الأول قيصر الروسيا عاد فافتتح آزوف، والبرنس أوجين دوسافوي تولى قيادة الجيوش النمسوية فكسر الجيش العثماني على نهر «تيس

ناپیژندل شوی مخ