د لومړی بالقان جنگ تاریخ: د بالقانی اتحاد او د لوړې دولت تر منځ چې د بلغاریا، صربیا، یونان او د کوه سیاه لخوا جوړ شوی
تاريخ حرب البلقان الأولى: بين الدولة العلية والاتحاد البلقاني المؤلف من البلغار والصرب واليونان والجبل الأسود
ژانرونه
كلمة المؤلف
كلمة أخرى في تأليف هذا الكتاب
أسباب الحرب البلقانية
معاهدة برلين وعلاقتها بالحرب البلقانية
تحالف دول البلقان وكيف كان
مرسح السياسة قبل إعلان الحرب
إعلان الحرب
حصار أدرنه وسقوطها
معارك الجيش الصربي والجيش العثماني الغربي
زحف الجيش اليوناني ومعاركه
ناپیژندل شوی مخ
حصار يانيه وسقوطها
معارك العثمانيين والجبليين
المعارك البحرية
باب الفظائع
الصحافيون بين النار والحديد
تأثير الفشل العثماني في العالم الإسلامي
أسباب الفشل العثماني
مرسح السياسة
منازع الدول العظمى ومؤتمر السفراء
نتائج الحرب من الوجهة السياسية
ناپیژندل شوی مخ
المذكرات الحربية لمحمود مختار باشا قائد الفيلق الثالث
حديث مع الأمير عزيز باشا حسن أحد القواد العثمانيين
الحرب الثانية بين البلقانيين أنفسهم
زحف الجيش الروماني إلى بلغاريا
استرجاع أدرنه ومعظم تراقيه
معاهدة الأستانة
قيمة البلدان التي خسرتها الدولة العلية
أفضل الوسائل لإنهاض السلطنة
ملحوظات
كلمة المؤلف
ناپیژندل شوی مخ
كلمة أخرى في تأليف هذا الكتاب
أسباب الحرب البلقانية
معاهدة برلين وعلاقتها بالحرب البلقانية
تحالف دول البلقان وكيف كان
مرسح السياسة قبل إعلان الحرب
إعلان الحرب
حصار أدرنه وسقوطها
معارك الجيش الصربي والجيش العثماني الغربي
زحف الجيش اليوناني ومعاركه
حصار يانيه وسقوطها
ناپیژندل شوی مخ
معارك العثمانيين والجبليين
المعارك البحرية
باب الفظائع
الصحافيون بين النار والحديد
تأثير الفشل العثماني في العالم الإسلامي
أسباب الفشل العثماني
مرسح السياسة
منازع الدول العظمى ومؤتمر السفراء
نتائج الحرب من الوجهة السياسية
المذكرات الحربية لمحمود مختار باشا قائد الفيلق الثالث
ناپیژندل شوی مخ
حديث مع الأمير عزيز باشا حسن أحد القواد العثمانيين
الحرب الثانية بين البلقانيين أنفسهم
زحف الجيش الروماني إلى بلغاريا
استرجاع أدرنه ومعظم تراقيه
معاهدة الأستانة
قيمة البلدان التي خسرتها الدولة العلية
أفضل الوسائل لإنهاض السلطنة
ملحوظات
تاريخ حرب البلقان الأولى
تاريخ حرب البلقان الأولى
ناپیژندل شوی مخ
بين الدولة العلية والاتحاد البلقاني المؤلف من البلغار والصرب واليونان والجبل
الأسود
تأليف
يوسف البستاني
جلالة السلطان محمد الخامس.
الأمير يوسف عز الدين أفندي ولي عهد السلطنة العثمانية.
كامل باشا الذي خلف مختار باشا بعد كارثة قرق كليسا.
مختار باشا الغازي الذي كان صدرا أعظم يوم إعلان الحرب.
بطرس ملك الصرب.
محمود شوكت باشا الاتحادي الذي خلف كامل باشا بعد حادثة الأستانة.
ناپیژندل شوی مخ
أنور بك الذي قلب وزارة كامل باشا.
عبد الله باشا قائد الجيش العثماني في تراقيه.
ناظم باشا الذي كان وزيرا للحربية وقتل يوم إسقاط وزارة كامل باشا.
فردينان ملك البلغار.
ملك الجبل الأسود.
إسماعيل كمال بك رئيس الحكومة الألبانية المؤقتة.
الكونت برشتول وزير خارجية النمسا الذي أصر على طلب استقلال ألبانيا فوافقته الدول.
وهيب بك الذي تولى قيادة حامية يانيا.
أسعد باشا قائد حامية أشقودره الذي نودي به ملكا في بعض مدن ألبانيا.
أحمد رضا بك.
ناپیژندل شوی مخ
طلعت بك.
حسين جاهد بك.
جاويد بك.
وجميعهم من كبار الاتحاديين.
محمود مختار باشا الذي اشتهر بقيادة الفيلق الثالث وجرح في جتالجه.
كلمة المؤلف
إن كان هذا الكتاب لا يعد تاريخا بالمعنى الجامع لكل أشراط التاريخ، فهو - على الأقل - معرض حوادث صحيحة غيرت وجه الشرق، وراعت قلب الغرب، حاولت - ولا أدري هل أنا مفلح - أن أوقف المطالع على أسبابها وتفاصيلها ونتائجها على نمط يتمثل به الأحوال التي دارت بتلك الحوادث العظمى، فيتأثر بمؤثراتها، ويدهش بمدهشاتها، ويعتبر بعبرها وتقلباتها، وكأني بالقارئ عند مطالعة هذا الكتاب يسمع من خلال سطوره قصفات المدافع وصفير الرصاص وأنين الجرحى وعويل الألوف من الشيوخ والنسوة والأطفال الأبرياء الذين جنت عليهم همجية البشر في هذا القرن العشرين الملقب بقرن النور والمدنية، ثم يرى ما أتته تلك الدول العظمى - التي يجب أن تكون قدوة جميلة للدنيا - من التقلب والتلون والمخاتلة والمخادعة ونكث العهد، ونبذ الوعد.
أما إخواني العثمانيون فلا أشك أنهم يفرغون من مطالعة هذا الكتاب ونفوسهم ثائرة ودماؤهم فائرة بما يقفون عليه من تفصيل المصائب التي نابت دولتنا العلية في الحرب الأولى، ثم يرون بعض العزاء في ابتسام الحظ للسياسة العثمانية إبان الحرب الثانية، ونجاح الوزارة السعيدية في استرجاع شطر مما خسرناه في الحرب الأولى.
على أن ذاك النجاح الذي أعاد نور «الهلال» إلى أدرنه ومعظم تراقيه، لا يلأم كل الصدع ولا يمحو جل الأسف على شطر كبير من تركيا الأوروبية ، تلك البلاد التي كان ثمنها عظيما من الدماء والدموع والمهج الغالية، ولا مندوحة معه للعثماني عن البحث في أسباب تلك المصائب ليعتبر بها. فما هي تلك الأسباب؟ هل ذهب الدهر بمزايا الجندي العثماني الذي وصل أجداده إلى أبواب فينا وكتبوا تاريخ مجدهم بالسيوف قبل الأقلام ولفوا من كبد السماء هلالا، ونشروه علما يتلألأ؟ كلا، فإن الذين حدثتهم من كبار الضباط وموظفي الهلال الأحمر الذين شهدوا بعيونهم ذاك الجندي، وجميع المراسلين الحربيين الذين شاطروه البرد القارس والشقاء المضني يقولون إن الجندي العثماني المنظم هو هو، يموت بردا في مركز الحراسة، وتنطوي أحشاؤه على الطوى فلا يشكو ولا يثور، ولو حصل كل يوم على قطعة من الخبز الجاف ما وهنت بجسمانه قدم ولا نكص أمام عدو. فما هو السبب إذن؟ قف بنا نوضحه بكلمة حرة.
ما الحرب التي تنكب إحدى الأمم نكبة فاتكة إلا السبب الطارئ، فواجب على من يريد الحقيقة أن يبحث فيما وراء ذاك السبب الطارئ عن سبب أصلي عام كما قال مونتسكيو. والسبب العام الذي أدمى قلوب المسلمين قبل المسيحيين والموسويين في السلطنة هو ظاهر في الأقوال والأحاديث التي نطق بها أقطاب الدولة أنفسهم، وفي أقوال المراسلين السياسيين والحربيين على اختلاف النزعات، وفي حالة كل فرع من فروع الإدارة عسكرية كانت أو ملكية، وأعني به الفساد المتفاقم أصاب معظم أهل المناصب، فقتل في نفوسهم روح الواجب الوطني، ونال سائر الموظفين فرماهم بالجشع والطمع، وناب كبار الجيش فأنمى فيهم روح التحاسد والتنابذ، وأضعف روح التعاضد والتضامن، حتى عم الخلل وكثرت العلل، وإن الأمة والحكومة لعلى تلك الحال إذا بالاتحاد البلقاني واقف مستوفز ويده على مقبض السيف.
ناپیژندل شوی مخ
على أني لست أرى - برغم ما جرى - أنه يقوم في سبيل الدولة العلية حائل طبيعي يمنعها من النهوض، فكما نهضت ألمانيا معفرة الوجه من بين أقدام الفاتح الكرسكي العظيم وصعدت إلى المقام الأسمى بين الدول العسكرية والتجارية والصناعية، وكما نهضت فرنسا مهشمة الأعضاء ملطخة الجبين بالدم والتراب من بين سنابك ذوي الخوذات اللامعة منذ ثلاث وأربعين سنة، كذلك تنهض الدولة العلية بإذن الله، على شرط أن تعتبر وتستفيد من المصائب التي حلت بها كما استفادت تانك الأمتان العظيمتان.
إني لا أجهل الفروق التي بيننا وبين تينك الأمتين من حيث التنافر في العناصر والتباين في الأديان والاختلاف في درجات المدنية بين الممالك العثمانية، على أن الإصلاح مستطاع إذا جعل ولاة الأمور ذاك الملك العظيم أقساما متحدة تحت «الهلال» العزيز، وعدلوا نظام كل قسم بما ينطبق على أخلاقه وعاداته ودرجته من الحضارة فيرضى ابن اليمن وابن الحجاز وابن سوريا وابن الأناضول، وتبقى عاصمة الخلافة والسلطنة واسطة العقد وصاحبة الأمر والنهي في الجيش والسياسة الخارجية وسائر الشئون العامة، فلا يكون لكل قسم إلا جانب معين من دخله وسلطة محدودة تكفيه للنهوض بالعلم والتربية وسائر شئونه الخاصة.
وهناك أمر راهن لدينا؛ وهو أن الأمة العثمانية لم تفقد شجاعتها. وكل أمة متحلية بفضيلة الشجاعة يمكنها أن تنهض وتعلو لأن الشجاعة روح تنعش النفوس وتنهض بالعزائم، فحسب ولاة الأمور أن يحولوا قوة تلك الروح الشريفة إلى المشروعات النافعة فتصبح مع ذكاء الأمة ثروة أدبية عظيمة.
وأما الثروة المادية وهي أحد الأركان العظمى، فتجدها في قلوب الممالك الباقية للدولة العلية في آسيا، وهي من أغنى بقاع الله. ومساحتها (ما عدا الولايات الممتازة) مليون و156 ألف ميل مربع؛ أي نحو ضعف مساحة فرنسا التي تبلغ 204091 ميلا، مع مساحة ألمانيا وهي 208738 ميلا، ومساحة إنكلترا وهي 121115 ميلا، ومساحة إيطاليا 114409 أميال.
وأما موارد الزراعة والمعادن فأترك الكلام فيها لكبيرنا أستاذي سليمان أفندي البستاني وزير الزراعة في هذا الوقت، فإنه زار العراق منذ سنوات وضربها مثلا لثروة الأرض العثمانية، فقال:
1
دونك الخطة العراقية فهي مع شمولها بلاد ما بين النهرين تمتد مما يلي ديار بكر جنوبا إلى خليج العجم شمالا، ومن حدود بلاد إيران شرقا إلى حدود سوريا غربا، وتشمل ولايات الموصل وبغداد والبصرة وقسما من ولاية ديار بكر، وهي بمساحتها تزيد عن مساحة فرنسا، وبخصب تربتها لا يفوقها قطر في العالم، تخترقها مجاري أنهر من أعظم الأنهار، ففيها دجلة والفرات وفيها الزاب الأعلى والزاب الأدنى وذيالة، وفيها شط العرب ملتقى الأنهر، ذلك البحر الفياض المغني بمده وجزره عن وسائل الإرواء.
ذلك قطر قامت فيه بعواصمها أعظم دول العالم في العهد القديم من البابليين إلى الآشوريين، إلى السلوقيين خلفاء الإسكندر، إلى الفرس، إلى فخر دول الإسلام دولة العباسيين.
ذلك هو القطر الذي رغب محمد علي أن يستبدله بمصر وما والاها مما دخل في حيازته من بلاد الدولة العثمانية فلم يفلح.
ذلك هو القطر الذي وقف هيرودوتس أبو التاريخ واجما عن وصف تربته وخصبها خوف أن تنسب إليه المغالاة والكذب مهما خفف من الإطراء، ولا غرو فإن جميع الدول التي احتلته كان لها من ورائه الثراء العظيم، وتلك بابل مع زيادة عدد سكانها في إبان عظمتها على خمسة وعشرين مليونا، وامتلاء خزائنها بالمال من موارد ثروته كان حاصل زراعتها يكفي لمعيشة سكانها ويفيض عن الحاجة فيصدر مسحونا إلى سائر البلاد.
ناپیژندل شوی مخ
وتلك الدولة العباسية العظيمة مع بسط سلطتها على سلطنة لم تكن سلطنة اليونان والرومان بإزائها شيئا مذكورا، كان معظم دخلها من السواد وخراجه، وليس السواد إلا قسما من هذا القطر.
ثم تطرق إلى المعادن فقال:
إن الفحم الحجري وهو من أعظم أركان الثروة موجود في قسمي أوروبا وآسيا، مما بذلت بعض الهمة في استخراجه كمعادن هركلي، ومما لا يزال مهملا كمناجم مندلي في ولاية بغداد، ومعادن الرصاص الفضي تستخرج قليلة من الأوروبية، ومثلها معادن الحمر في الأراضي السنية بسوريا، والنحاس في أرغني بولاية ديار بكر، وفي مواضع كثيرة معادن ظاهرة توشك أن تكون مهملة كل الإهمال، ومنها الذهب والفضة والأنتيمون والزرنيخ والسنباذج والزئبق والمنغنيس والحديد والقار الحجري والسائل والكبريت والبورق ومقالع الرخام على اختلاف أنواعه. وليس ببعيد أن يكون فيها منابع بترول غزيرة، فقد شرع منذ نحو خمس وعشرين سنة باستخراجه من ضواحي الإسكندرونة ثم أهمل لأسباب غامضة. وأما في ولاية بغداد فوجوده محقق إذ يستعمله أهالي مندلي وجوارها بحالته الطبيعية بلا تصفية، وقد كان مدحت باشا اهتم باستخراجه على الطرق الحديثة، فأنفق مبالغ طائلة على بناء معمل في بعقوبة استجلب له الآلات والمهندسين، وحالما بدت بوارق النجاح غادر مدحت الولاية فأقفل المعمل ولعبت به أيدي الدمار. وأما المياه المعدنية بجميع أنواعها الحارة والباردة فهي متفجرة في مواضع كثيرة لا يكاد يلتفت إليها مع ثبوت مضاهاتها لأحسن الأنواع من أمثالها في أوروبا، وهي كثيرة بعضها في أوروبا كمياه بورصة، وبعضها في آسيا كمياه وادي العمق بولاية حلب.
ومن الغريب أن مياه الحمة في فلسطين التي كان يقصدها عظماء أوروبا للاستشفاء وأنشأ فيها قياصرة الرومان حمامات تدل آثارها على عظمة لا مثيل لها في أشباهها بأوروبا، باتت مهملة لا ينتابها إلا القليلون من أبناء الجوار ممن لا يطيق الانتقال إلى أوروبا.
وأما الملاحات البرية والبحرية فكثيرة جدا وبعضها يستخرج منه الملح بهمة وعناية فينتج دخلا غير قليل، ولا عجب بتلك العناية الخاصة فإدارة الديون العمومية هي الرقيبة عليها الحافظة لدخلها. ا.ه.
فإذا عمرت تلك الأراضي الغنية بطبيعتها وكنوزها، وعمرت معها العقول بالتعليم، والأخلاق بالتربية، وعدل النظام في كل جهة طبقا لأحوالها، وعرف ولاة الأمور كيف يعالجون السياسة الدولية ريثما يتم الإصلاح، فإن السلطنة تبلغ ما تشاء من العمران، وتصبح بإذن الله إنسان عين الزمان.
يوسف ف. البستاني
كلمة أخرى في تأليف هذا الكتاب
رأس الأمور التي يجب على كل مؤلف أن يهتم بها في كل تأليف، هو إفراغ الجهد في الحصول على ثقة القارئ، وها أنا شارح لقراء هذا الكتاب ما فعلته لأكتسب ثقتهم؛ لأنها أفضل ما أرجوه من الأرباح: ما صفر الرصاص وغنت المدافع نغمات الشؤم على هضاب البلقان حتى أخذت أجمع كل مستند رسمي أو شبيه بالرسمي وأطلع على رسائل المكاتبين الحربيين وأرتبها حسب تواريخها. وكنت كلما سمعت أن مراسلا أو كاتبا شهيرا قديرا أصدر كتابا في موضوع الحرب، بادرت إلى شرائه إذا كان موجودا بمصر أو طلبته من أوروبا، حتى اجتمع لدي عدة كتب منها: كتاب الموسيو استفان لوزان رئيس تحرير الماتين الذي كان في الأستانة مدة الحرب الأولى.
وكتاب الموسيو رينيه بيو مراسل التان الحربي الذي كان مع الجيش البلغاري، وزار صوفيا وبلغراد ونقب عن أسرارهما السياسية، وكتاب الموسيو وجنر مراسل الريشبوخت النمساوية، وكتاب الضابط الألماني هوشوختر أو (هوخوختر) الذي كان مع الجيش العثماني، ورسائل المكاتبين الحربيين لجرائد الألوستراسيون والجورنال والديبا، وكتاب الكولونل بوكابيل الكاتب العسكري المعروف في فرنسا، وهو لم يذهب إلى إحدى ساحات القتال، بل جمع كل ما كتب عن الحرب البلقانية الأولى، وقابل بين الروايات المختلفة واستخلص الحقائق بما يدل على مقدرته وطول باعه.
ناپیژندل شوی مخ
وما تركت حديثا لوزير أو سياسي أو قائد إلا جمعته.
ولما صدر أخيرا كتاب دولتلو محمود مختار باشا الذي كان قائدا للفيلق العثماني الثالث، أضفته إلى كل ما تقدم.
بعد أن توفرت لدي كل تلك المصادر درست موضوعي درسا وافيا وقابلت بين الأقوال والروايات، حتى آنست من نفسي المقدرة على تقديم مؤلف جدير بالذكر، ومما يراه القارئ في هذا الكتاب أني لم أرو خبرا يقام له وزن إلا بعد أن رأيت تأييده في أقوال كاتبين أو مؤلفين على الأقل.
وكنت مع ذاك كله أراقب كل ما كتب أيام طبع هذا الكتاب لعلي أرى ما يجب إصلاحه، ثم نشرت في آخره ما رأيت نشره مفيدا من الملحوظات، وبذلت الجهد من جهة أخرى في مقابلة الذين عادوا من ساحات القتال، كدولة الأمير عزيز باشا حسن ومندوبي جمعية الهلال الأحمر المصري، وقلبت معهم الحديث على وجوه عديدة، بقصد أن أعرف فائدة جديدة أو أصلح هفوة من الهفوات.
تلك هي المجهودات التي بذلتها وأضفتها إلى اختبار عشرين سنة قضيتها بين المحابر والأقلام، ودرست فيها المسألة الشرقية، وطالعت جل ما كتب فيها بيراع أكابر المؤلفين وبحثت غير مرة في موضوعها، وكل ما أرجوه أن أكون موفقا في خدمة الحقيقة والتاريخ.
المؤلف
20 أكتوبر سنة 1913
وسأصدر ملحقا أضمنه ما يتقرر في شأن جزر بحر إيجه، وتحديد ألبانيا، وما يعقد من الاتفاقات أو يقع من الحوادث الكبرى وعلى الله الاتكال.
أسباب الحرب البلقانية
من رام أن يقف على حقيقة تلك الحرب الهائلة ويدرك أثرها العظيم في الشرق والغرب يلزمه أن يعرف أسبابها وحوادثها ونتائجها، وإنا بادئون بذكر تلك الأسباب واحدا فواحدا مع الإيجاز، ومعتمدون على نخبة من أقطاب السياسة وصفوة المؤرخين والباحثين في المسألة الشرقية، فإن الحرب البلقانية ليست إلا مشهدا كبيرا فاجعا من رواية تلك المسألة التي تعددت فيها الفصول وأدمت مشاهدها العيون. (1) السبب الأول
ناپیژندل شوی مخ
يخلق بنا أن نحسب رأس الأسباب ما انطوت عليه الضلوع وغلت به الصدور من الحقد القديم والضغينة الكامنة بين الأتراك والأمم الأربع المتحالفة، فإن كل أمة منها جعلت تربية الحقد في صدور أبنائها على دولة آل عثمان فرضا مقدسا وآية من آيات الوطنية، فإذا ورد ذكر التركي على أحد أساتذتها جعله عنوانا للظلم، ومثلا للقسوة، وعدوا أبديا يجب على كل فرد أن يرضع بغضه مع حليب أمه.
انظر إلى اليونانيين تجد الأساتذة والوالدين والوالدات وكل عجوز بالية يرددون ذكر مجدهم القديم، ويعدون التركي مغتصبا لأرضهم هداما لدولتهم، هضاما لحقوقهم، ويمزجون ما يحويه تاريخهم من الحقائق الجارحة بخرافات وحكايات نظمها لهم أساتذتهم وشعراؤهم؛ ليربوا فيهم كراهة التركي، ويحملوهم على التفكير المستمر في استرجاع ما وقع في قبضته من ملكهم القديم، ويجعلوا طلب الثأر نصب أعينهم إلى أن يأتي وقته. ثم تراهم يهتمون اهتماما خاصا بأخبار أبطالهم والمنظومات الحماسية لشعرائهم القدماء، وفي طليعتهم هوميروس صاحب الإليالذة الخالدة، ويرددون على الأخص من الحوادث الغابرة قصة يسمونها حكاية علي باشا في يانيا، فيعزون إليه من الفظائع والأهوال ما يشيب الطفل في مهده ويزعج الميت في لحده، وهم يجعلون فيها القطرة بحرا والصفر سفرا ويرتبونها كما يشاء الخيال؛ إذ لا يهمهم منها إلا أن تجئ في شكل يبكي النساء والأطفال ويثير قلوب الرجال، قال كاتب فرنساوي كبير: «يمكننا أن نقول ولا نخشى الخطأ إن حكاية يانيا حضت الأمة اليونانية على الجهد الذي بذلته في الحرب الأخيرة حضا كبيرا وأثرت فيها تأثيرا شديدا، فإنك تجد كل قرية وكل دسكرة في الجزر اليونانية تأخذها الرعدة من تذكار يانيا، وترى النساء ينقلن تلك الحكاية إلى أولادهن ويذكرن ما أتته بعض اليونانيات من الأعمال في مجال القتال. وما من أثر أبقى في النفوس وأقوى في القلوب من حكايات وطنية تعيدها الأم وهي جاثية أمام سرير ولدها.»
وأضف إلى حوادث التاريخ القديم والمتوسط حادث الفشل الكبير الذي حل بهم في حرب سنة 1897، فإنهم لبثوا بعدها يتطلعون إلى الثأر واستقدموا جماعة من الضباط الفرنسويين، فنظموا لهم جيشهم وجددوا مدافعهم، وكان يزيدهم حقدا على حقد أن الحكومة العثمانية ظلت واقفة لدى الحكومة اليونانية ويدها على مقبض السيف؛ لتوقع الرعب في قلبها وتمنعها من ضم جزيرة كريت إلى أملاكها، وكانت جرائد الأستانة تنذر اليونان في كل يوم بالزحف على أثينا إذا قبلوا المندوبين الكريتيين في البرلمان اليوناني كما طلب أهل تلك الجزيرة. وإنا لنرى رأي كبير من العثمانيين في هذا الشأن؛ وهو أن الحكومة العثمانية لم تتبع سياسة الحكمة بإذلالها اليونان تكرارا بعد أن قهرتهم في ساحة القتال، فإنها لو سارت معهم على منهج المجاملة منذ شعرت بالشر المضمر في قلوب الصرب والبلغار، لكان في وسعها أن تحول دون انضمامهم إلى التحالف البلقاني، ولكن شاء سوء الطالع أن تكون جميع الظروف مفضية إلى تفاقم ذاك الحقد القديم بدلا من تخفيفه وتلطيفه. •••
وإذا رجعنا إلى تاريخ البلغاريين وجدنا أن الحقد ينمو في قلوبهم منذ سنة 1393؛ أي السنة التي سقطت فيها الدولة البلغارية في قبضة تركيا، وإذا أراد القارئ أن يعرف مبلغ بغضهم للتركي - وكل موظف عثماني هو تركي عندهم - فحسبه أن يقرأ شيئا مما يلقونه على أولادهم أو يسمع ما يقوله الشيوخ والعجائز منهم. ذكر لي صديقي حقي بك العظم أنه زار صوفيا عاصمة البلغار منذ بضعة أعوام، وذهب يوما مع نسيب له (كان معتمدا عثمانيا ساميا) في مركبة الوكالة العثمانية إلى بعض أحياء المدينة، وبينما كانا مارين أمام بيت إحدى العجائز، خرجت وبيدها قدر من الأقذار المختلفة وقذفت به على طربوشيهما وملابسهما العثمانية.
وليس يدلنا على اعتنائهم الشديد بتربية الحقد على الأتراك وزيادة النفور منهم مثل أمر مأثور: وهو أنهم تركوا محلة صغيرة في عاصمتهم على أسوأ حال لتكون عبرة لكل بلغاري، فيتذكر على الدوام ما كانت عليه بلادهم في عهد الحكم التركي، والواقع أن تاريخ البلغار (منذ سقوط دولتهم سنة 1393 إلى سنة 1877) كان تاريخ ذل وهوان، فإنهم كانوا أرقاء تلعب الأكف التركية في رقابهم، وإذا شكوا حكمت السيوف في هاماتهم ولبثوا سنوات عديدة على أثر سقوط ملكهم يحسبون الأتراك من محتد أشرف من محتدهم حتى صحت فيهم حكمة القائل: «إن الاستعباد يفقد الشعوب نصف فضيلة الرجولية.»
على أنهم كانوا مثل كل شعب مغلوب على أمره وله تاريخ قديم، يذكرون استقلالهم الذي تغلغل في طيات الزمان ويحنون إليه وهم في زوايا بيوتهم، ويشكون بصوت خافت من حكامهم. ولبثوا على تلك الحال من الجبن والمسكنة حتى سنحت الفرصة لانفجار حقدهم الكامن قبيل معاهدة برلين، وكانت عوامل إيقاظهم ثلاثة؛ أولها: أن ولاة أمورهم غلوا أشد غلو في الضغط عليهم فكانت نتيجة هذا الضغط انفجار ذاك الحقد، والثاني: أن روسيا العدوة القديمة لتركيا كانت تحضهم وتعدهم بالعون والمدد، والثالث: أن تحريرهم من قيد الكنيسة اليونانية أنشأ فيهم روح الاستقلال.
بقيت تلك العوامل الثلاثة تعد نفوسهم للثورة وتزيد حقدهم المتأجج حتى هبوا ينفضون عنهم غبار الذل العتيق، ولما ثارت البوسنة والهرسك سنة 1875 رأى ذوو الإقدام منهم أن الفرصة كانت موافقة للثورة وشفاء النفوس من الضغينة.
على أنهم لم يكتفوا بالخروج على الحكومة بل ارتكبوا جناية ذبح المسلمين في بعض القرى، ولم تكن ثورتهم وقتئذ عامة؛ لأن قسما كبيرا منهم كان لا يزال خائفا من سادته الأتراك، وما ترامى خبر فتنتهم إلى الباب العالي حتى عقد العزيمة على تأديبهم وكان التأديب واجبا، إلا أنه أخطأ الطريقة المثلى فأطلق عليهم ألوفا من الجنود غير المنظمة، بدلا من أن يسير إليهم جنودا نظامية تحت إمرة قائد عاقل يضع اللين في محله والشدة في موضعها، وروى قنصلا فرنسا وإنكلترا في تقاريرهما الرسمية: «إن عدد الذين ذبحتهم تلك الجنود من رجال ونساء وأطفال يبلغ ما بين 15 و20 ألف نفس.»
فكان لذاك الحادث صدى عظيم في أوروبا، وهب غلادستون فألقى خطبه الشهيرة عن تركيا والأتراك، وأنسى الأوروبيين أن البلغاريين فتكوا هم أيضا بالمسلمين الآمنين، ولا غرو فإن الحادث الأكبر ينسي الحادث الأصغر، وهناك سبب آخر وهو أن شعور كل فئة بنكبات أهل دينها أشد من شعورها بإرزاء الآخرين، وهذا طبيعي تجده عند جميع الأمم والملل، ولا يتغير ما دام الإنسان إنسانا، وقليل هم لسوء طالع الإنسانية أولئك الذين يضعون الحق فوق كل شيء.
على أن هذا كله بعض ما جرى بين العدوين، وهو يكفي للدلالة على أن الجيش البلغاري لم يزحف وحده من صوفيا بل زحف هو وحقد خمسمائة سنة ...! •••
ناپیژندل شوی مخ
وليس حقد الصربيين وأهل الجبل الأسود على الأتراك بأخف من حقد اليونانيين والبلغاريين، فإنهم مثل حلفائهم يربون في أبنائهم محبة الثأر من تركيا، ولا ينسون انتصار الأتراك عليهم وفتكهم الذريع بهم، ذكر الموسيو «ألبير مالي» الأستاذ الكبير في التاريخ السياسي: أن المؤرخ الصربي «ليوبا كوفاتشفيتش» وقف يرثي ابنه الذي قتل في إحدى معارك الحرب البلقانية فقال: «يا بني نم بسلام فقد أوفيت دينك للوطن، وقل لدوشان ولازار بل قل لجميع شهداء قوصوه إن أمتهم ثأرت لقوصوه ...» ولقد دلت الحرب على أن الثأر الذي أشار إليه هذا المؤرخ الصربي هو أمنية كل فرد من أمته، وأن الحقد على الأتراك شامل لطبقاتها، قال أيضا الموسيو «ألبير مالي»: إن معارك قوصوه (التي حدثت من نحو 500 سنة) ما زالت تذكر عندهم كما تذكر حوادث حرب السبعين عند الفرنسويين، وما برحوا يرددون تذكار القيصر دوشان والقيصر لازار حتى الآن.
ثم روى الأستاذ نفسه دليلا على احتفاظ الصربيين بما يضرم الضغينة في قلوبهم على الأتراك قال: إن ألفا من الصربيين كانوا سنة 1809 محصورين في أحد المعاقل على مقربة من مدينة نيش، فرأوا أن الأتراك أوشكوا أن يستولوا على موقعهم عنوة، فاختاروا أن ينسفوا معقلهم بما كان عندهم من البارود على أن يقعوا أحياء في أيدي أعدائهم، ثم جاء الأتراك بعد نسفه وفصلوا رءوسهم عن الجثث وجعلوا منها شبه برج. ولما دخل الصربيون مدينة نيش سنة 1878 كان ذاك البرج محفوظا على شكله فرفعوا الجماجم ودفنوها في مقبرة وأبقوا البرج ليراه الأبناء والأحفاد ولقبوه ببرج الجماجم، وأصبح أمره موضوع قصص العجائز والوالدات في البيوت والأساتذة في المدارس.
وليس من غرض هذا الكتاب أن نفيض في شرح الوقائع التاريخية التي أشعلت نار ذاك الحقد، فإنا نختم الكلام عن هذا السبب الأول من أسباب الحرب بما تضمنه قانون أصدرته حكومة الجبل الأسود سنة 1484 ليكون دليلا آخر على الحقد القديم في صدور أهل ذاك الجبل أيضا وهو: «إذا نشبت الحرب بيننا وبين الأتراك فلا يجوز لأحد من أهل الجبل أن يترك ساحة القتال إلا بأمر رئيسه، وكل من يفر أمام الترك يفقد شرفه إلى الأبد، ويصبح محتقرا منبوذا من آله، ثم يلبس ثوب امرأة ويعطى مغزلا ليشتغل به مع النساء، وتعمد النسوة أنفسهن إلى طرده كما يطرد الجبان الذي يخون وطنه.»
1
وهنا ندع القارئ يفكر في الحالة النفسية التي كان فيها أعداء تركيا يوم ساروا إلى الحرب وهم يأملون النصر. (2) السبب الثاني
هو طمع كل دولة من أعداء تركيا في بسطة الملك ومنعة الجانب واسترجاع شيء من مجدها القديم، فإن مجد الدولة اليونانية القديم معروف خالد وآثار سلطانها ما زالت بادية في شبه جزيرة البلقان بما نراه من انتشار لغتها ومبانيها وكنائسها، وسقوط الإمبراطورية البيزنطية ترك إلى اليوم حسرة في قلبها، وهي منذ شاءت أوروبا أن تمنحها الاستقلال تصرف قواها إلى استرجاع ما فقدته، وتذكر أبيروس وكريت وجزر الأرخبيل وسائر ما طلع عليه الهلال من البلدان التي كانت تحت سلطانها.
ثم إن دولة البلغار التي صارت إلى الأتراك بحكم السيف منذ سنة 1393، كانت على شيء كبير من البطش والقوة، وما برح البلغاريون يعنون عناية خاصة بتعليم تاريخها لأبنائهم ولبثوا قرونا طويلة يحنون إليها في سرهم، حتى كانت الحرب الروسية العثمانية الأخيرة فانتصرت روسيا وأجبرت تركيا على الاعتراف باستقلالهم وجعلت مملكتهم كبيرة واسعة في شبه جزيرة البلقان، على أن مؤتمر برلين الذي عدل معاهدة سان استفانو أنقص ما طلبته لهم روسيا في المعاهدة المذكورة. فخرجت بلغاريا صغيرة، ولكن مطامعها كبيرة، ثم أخذت تستعد لأخذ ما حرمتها منه السياسة الدولية.
والصرب من جهة ثالثة تطمع في استرجاع البلدان التي تحسبها مهد عزها ومجدها، فقد كان للصربيين ملك مستقل منذ القرن الثالث عشر ثم بقي ينمو نحو قرن ونصف، حتى بلغوا أعلى مرتبة من مراتب عزهم في أواسط القرن الرابع عشر وامتد ملكهم في أيام إمبراطورهم دوشان من البحر الأسود إلى الأدرياتيك ومن نهر الطونة إلى بحر الأرخبيل، ولما كانت سنة 1346 توج دوشان إمبراطور في أوسكوب، وكان الصربيون في تلك السنة ينوون الزحف على الأستانة؛ لأنهم رأوا الإمبراطورية اليونانية أصبحت في دور الشيخوخة والانحلال، ولكن إمبراطورهم دوشان توفي فجأة فحال موته دون مرامهم.
وكان الأتراك في ذاك الوقت يتجهون نحو شبه جزيرة البلقان ويستولون على بلادها، وما لبثوا أن قهروا الصربيين وأذلوهم.
وإذا تدرجنا من ذاك العهد البعيد إلى عهد مؤتمر برلين وجدنا أن الصربيين كانوا يطمعون في شيء كثير فخابت آمالهم؛ لأن الدول لم تشأ أن تؤيدهم بقدر ما طلبوا؛ ولأن روسيا نفسها التي أراقوا دماءهم مع دمائها في حرب 1877 لم تكن تميل إليهم ميلا شديدا لما آنست من غيرتهم الشديدة على استقلالهم ودستورهم وحريتهم، ولا بدع فإن حكومة روسيا كانت تكره الدستوريين بالطبع ولا سيما في ذاك الوقت، فاختارت بعد معاهدة سان استفانو أن تجزل العطاء للبلغاريين الذين ساعدوها أيضا في الحرب، فتنشأ بلغاريا قوية بدلا من أن تعزز جانب الصرب.
ناپیژندل شوی مخ
أما الجبل الأسود الذي لا تزيد مساحته عن 9080 كيلومترا مربعا فهو يطمع في توسيع ملكه منذ عهد بعيد، ولا يرى مجالا لتوسيعه إلا بأخذ جانب من بلاد الدولة التي كان تاريخها سلسلة حروب دموية بينه وبينها. وأخص ما يطمع فيه أشقودره وما جاورها، وهو يعتمد على مساعدة روسيا التي طالما نفحته بالهدايا الكثيرة وأعطته بعض مطالبه في معاهدة سان استفانو التي ذهبت بها معاهدة برلين، ولعله يعتمد بعض الاعتماد على إيطاليا لأن ملكها صهره. •••
على أن الطمع الذي جاش في صدور اليونانيين والبلغاريين والصربيين ولد فيما بينهم من الضغائن والأحقاد بعد معاهدة برلين ما كاد يضارع حقدهم القديم على الدولة العلية، وكان معظم التنازع بينهم في الولايات المعروفة باسم مقدونيا.
أخذ كل فريق يعزز قومه هناك وينفق من دمه وماله في سبيل نفوذه الأدبي والسياسي، فانقسم مسيحيو مقدونيا إلى يونانيين وبلغاريين وصربيين وفلاخ، وأخذ كل قسم منهم يتلع عنقه إلى غايته ويؤيد نفوذ دولته التي كانت تحركه وتحرضه، فانتفعت تركيا إلى حد ما، من ذاك التنازع وأمنت اجتماع تلك الأقوام يدا واحدة، ولكنها كانت مهددة من جهة أخرى بعقارب الدسائس التي سعت إليها من الأمم البلقانية المستقلة، والتي كانت برهانا دامغا على طمع تلك الأمم الصغيرة في تركيا أوروبا.
وكان اليونانيون والبلغاريون والصربيون مقتنعين بأن مطامعهم مبنية على حقوق تاريخية وجنسية، ولكن المؤرخين المنصفين يرون أن بناء مطامعهم على التاريخ لا يمكن الاعتداد به؛ لأن مقدونيا وقعت على التوالي تحت سلطان الرومانيين واليونانيين والصربيين والأتراك. ولا يغلو من يقول: إن هذا التنازع الشديد الذي حمل العصابات اليونانية والبلغارية والصربية على ارتكاب أعظم الفظائع، كان من جملة عقبات الإصلاح. (3) السبب الثالث
هو السياسة الدولية ولا سيما السياسة الروسية التي تطمح إلى ضفاف البوسفور، وعاصمة البيزنطيين، ومدينة الذهب، والموقع الذي قال فيه نابليون: «إن من يملكه يصبح سيد العالم»، وإليك البيان، قال الأستاذ شوبلييه في تاريخه: «المسألة الشرقية بعد معاهدة برلين» إن روسيا تحسب نفسها وارثة الإمبراطورية البيزنطية، وسياستها لا تتغير لأنها مبنية على الروح المخامرة للشعب الروسي، فإذا كانت الحكومة الروسية تكف إلى أجل عن العمل لبلوغ الغاية التي عينها لها السلف، فإن الأمة الروسية لا تعدل عن طلب تلك الغاية، ولا تلبث أن تدعو حكومتها إلى التقدم نحوها.
ثم قال أيضا: إن الروسيين يريدون الأستانة، وهم لا يريدونها عاصمة روسيا بل يريدونها عاصمة الاتحاد الصقلبي (السلافي)؛ ليقيم فيها رئيس المذهب الأرثوذكسي ويجمع حوله جميع صقالبة البلقان، غير أنه لما فشلت روسيا في تأليف الجامعة الصقلبية أخذت تبدو لأوروبا في مظهر من عدل عن فتح أية بلاد عثمانية.
ولما انتصرت في حرب 1877 عاد أنصار الجامعة الصقلبية في روسيا فجددوا آمالهم وتوهموا أن صقالبة البلقان وصقالبة النمسا سينضمون إلى روسيا، ولكن السياسة الدولية لم تبق مجالا كبيرا لتلك الآمال بعد معاهدة برلين.
بقيت آمال روسيا تشرق وتغرب، حتى رأت دول البلقان تعقد التحالف على تركيا فأيدتهم، أجل ليس لدينا من البراهين الدامغة ما يدلنا على أن ذاك التحالف هو صنيعة روسيا كما قرأنا في بعض الجرائد الأوروبية، بيد أن الأمر الذي لا جدل فيه هو أن إضعاف تركيا منطبق على مصالح روسيا ومعزز لآمالها القديمة، وأنها رئيسة الصقالبة فلا يمكنها أن تهملهم، ولا يمكنهم أن يخوضوا معمعان حرب هائلة قبل أن يثقوا بأنها لا تخذلهم في الأيام السوداء، وهم يعلمون من جهة أخرى أن الدول التي وضعت معاهدة برلين لم تسهر على حرمتها، بل تركت بلغاريا تخترقها بأخذ الرومللي الشرقية، ثم سمحت للنمسا بأن تضم البوسنة والهرسك إلى أملاكها، فقام في أنفسهم أن الدول إذا كانت لا ترضى بحل تركيا فجأة مخافة أن تقوم مشاكل عظيمة، فإنها لا تأبى أن تؤكل في أوروبا كالخرشوفة ورقة فورقة. قال المؤرخ شوبلبيه: «إن الدول لا تريد أن تفني تركيا بصدمة واحدة، ولكنها لم تعارض حتى الآن في تقسيمها شيئا فشيئا، فإن غرض الدول على ما يظهر هو أن تؤخر سقوطها لا أن تنقذها.»
عرف المتحالفون ذاك كله فأمنوا خسارة أي شبر من أرضهم، وتأكدوا أنهم إذا انتصروا على تركيا كانت غنيمتهم كبيرة، وإذا فشلوا فإن بلادهم تبقى لهم فأقدموا على الحرب بقلوب كبيرة وعزائم شديدة.
ولا يدحض هذا القول أن روسيا والنمسا سعتا بالأصالة عن نفسيهما والنيابة عن سائر الدول العظمى في سبيل منع الحرب، وأنهما نصحتا لحكومات البلقان بوجوب العدول عن العدوان، فإن البلقانيين كانوا يعلمون كنه سياسة الدول ويثقون بأن روسيا - كما قدمنا - لا يمكنها عند الضرورة أن تنبذ تقاليدها أو تعرض عن الرأي العام في إمبراطوريتها، ولقد أصابوا الغرض فإن روسيا لم تحجم عن تجنيد جيشها حين أخذت النمسا تهدد الصرب كما سترى في باب آخر، وأن فرح الشعب الروسي بانتصار البلقانيين بلغ حدا قصيا. وإذا أراد القارئ دليلا على شعور الروس، فحسبنا أن نقدم لهم خبرا ورد ونحن شارعون في طبع هذا الكتاب، وهو أن خبر سقوط أدرنه وصل بطرسبرج والموسيو دانيف مندوب البلغار في مؤتمر لندن جالس في الدوما (مجلس النواب)، فهتف حينئذ نواب الروس هتاف الفرح والابتهاج، وحملوا الموسيو دانيف والمعتمد البلغاري في عاصمة روسيا وأخذوا يغنون وينشدون.
ناپیژندل شوی مخ
فكيف تستطيع حكومة روسيا أن تغفل رأي الجمهور الروسي وتلك عواطفه؟! (4) السبب الرابع
هو غفلة كبار الدولة العلية وتنازعهم المتواصل على السلطة وإشراب الجيش سم السياسة، مما أفضى إلى الضعف والاضطراب في جميع فروع الإدارة ومنها إدارة الجيش.
وإن ضعف الخصم كثيرا ما يولد المطامع عند خصمه، أو يزيدها تفاقما إن كانت موجودة كامنة كمطامع البلقانيين العريقة في القدم، كما أن قوة الخصم تؤدي إلى إخفاء المطامع فلا تجيش في الصدور ولا تدفع أصحابها إن كانوا عقلاء إلى حد العدوان، ألا ترى أن فرنسا تطمع في استرجاع الإلزاس واللورين اللتين أخذتهما ألمانيا بعد حرب السبعين، ولكنها لا تحيد عن جادة الحكمة والفطنة؛ لأن ألمانيا ضخمة قوية لا يسهل نزع اللقمة من يدها الفولاذية.
فلو كان أقطاب السياسة العثمانية لم ينقسموا على أنفسهم ولم يدعوا السياسة ترسخ في قلوب الضباط فتصرفهم عن الواجب الوطني المقدس، لما رأت منهم دول البلقان ذاك الضعف الذي هاج طمعها، ولما كانت حمى التنازع تحدث في رءوسهم مثل دوار، فيذهب عنهم أن جواسيس البلغاريين والصربيين واليونانيين يملأون الأستانة وكل موقع حربي ويبحثون عن كل موضع من مواضع الوهن.
أثبت أولئك الجواسيس لدولهم أن الجيش العثماني يحتاج إلى الضباط، وأن الضباط الموجودين حزبان متنافسان، وأن الخلل ضارب في إدارة الميرة والذخيرة، ثم رأوا من جهة أخرى أن الحرب الطرابلسية زادت الدولة العلية ضعفا على ضعف - فقالوا: إن الفرصة الحاضرة هي خير الفرص لتحقيق الأمل وشفاء النفس من الحقد والطمع القديمين.
على أن حكوماتهم قامت تراعي دواعي السياسة فادعت أن السبب الذي دعاها إلى تعبئة الجيوش هو رغبتها في كشف الظلامة عن إخوانها المقدونيين المسيحيين، ثم شكت من إهمال المادة الثالثة والعشرين من معاهدة برلين، وهي التي توجب على الباب العالي أن ينفذ النظام الأساسي الذي وضع لجزيرة كريت، ونظامات شبيهة به ومنطبقة على الحاجات المحلية في بلاد تركيا أوروبا، وأن يكلف لجانا مشتملة على عدد كاف من أبناء البلاد لوضع تلك النظامات في كل ولاية عثمانية في أوروبا، ثم يستطلع فيها رأي اللجنة الأوروبية التي ألفت للنظر في شأن الرومللي الشرقية.
تلك هي الحجة التي تذرعت بها حكومات البلقان المتحالفة قبل أن تعلن الحرب بأيام، والحقيقة أنه لو كان المراد من حركة الممالك البلقانية طلب الإصلاح بالمعنى الصحيح، لما دفعت الجفاء إلى حد الحرب بينها وبين تركيا، ولكنها رأت نفسها قوية بتحالفها وبالخلل الضارب في الأستانة، فأرادت أن تنفذ اتفاقها السري، وليس تذرعها بمعاهدة برلين إلا ذرا للرماد في العيون، قال الموسيو كيدرلن وختر وزير خارجية ألمانيا السابق في حديث شهير تناقلته الجرائد الأوروبية في أوائل أكتوبر الماضي أي الشهر الذي أعلنت فيه الحرب: «إن جميع الحكومات البلقانية تدعي أنها تريد الإصلاح لمقدونيا، والحقيقة أنها تطمع في تقسيم أملاك الدولة العثمانية، ولكن يجب عليها أن تعلم بأن الدول العظمى لا يمكنها أن تسمح بتغيير خريطة الأراضي العثمانية في شبه جزيرة البلقان ...»
ويجدر بنا أن نعترف هنا بأن حوادث أليمة هاجت عواطف الأمم البلقانية قبل الحرب ولا سيما الأمة البلغارية، غير أنه يجدر بنا أيضا ألا ننسى أن الحزب الحربي من أولياء الأمور البلقانيين كان يعنى بتهييج تلك العواطف إرادة أن يعد أفكار الجماهير للحرب المنوية، وأن يبلغ بها إلى حيث يمكنه القول: «إن تيار الرأي العام دفعنا معه، فلا قبل لنا بالتقهقر»، وعند ذلك يتسني للحكومات البلقانية ما أرادت من اغتنام الفرصة الفريدة.
معاهدة برلين وعلاقتها بالحرب البلقانية
أشرنا فيما تقدم إلى شكوى الحكومات البلقانية من نبذ الدولة العلية للمادة الثالثة والعشرين من معاهدة برلين، ولما كان المؤتمر الدولي الذي عقد تلك المعاهدة سنة 1878 خطير الشأن كبير العلاقة بالمسألة الشرقية التي تحاول الدول البلقانية أن تحلها حلا نهائيا - رأينا أن ننشئ لها مقالا خاصا لنزيد حقيقة الحرب وضوحا وجلاء.
ناپیژندل شوی مخ
كانت المعاهدات التي تقدمت معاهدة برلين تقضي باحترام السلطة السلطانية السامية، أما معاهدة برلين فإنها بالعكس وضعت السلطنة العثمانية تحت وصاية أوروبا وأجازت تصدي الدول العظمى للشئون العثمانية، كما تشهد المادة الثالثة والعشرون التي ذكرنا معناها فيما سبق. ثم قررت منح البلغار استقلالا إداريا كاملا وأوجبت على الحكومة العثمانية أن تعترف باستقلال الجبل الأسود، إلى آخر ما يراه المطلع على تلك المعاهدة المؤلفة من أربع وستين مادة، فبعد أن كنا نرى الدول متفقة في المعاهدات السابقة على اجتناب كل مداخلة في شئون الدولة العثمانية صرنا نراها بفضل تلك المعاهدة متفقة على المداخلة.
وليس بخاف أن رأس الشروط في السلطة الدولية المعترف بها لكل دولة مستقلة هو أن لا تتداخل دولة أخرى في شئونها الداخلية؛ لأن هذا التصدي لها يمس حريتها الداخلية الحرية المطلقة التي تعد أساسا لكل سلطة دولية.
على أن المصالح التي تعد العامل الأعظم في السياسة كثيرا ما دفعت الدول إلى الشذوذ عن تلك القاعدة، فرأيناها تارة تنصر الملوك على الأمم وتسير الجنود لتأييدهم، كما فعلت فرنسا يوم أرسلت جيشا إلى إسبانيا لتعيد السلطة إلى الملك فردينان السابع، وتارة تنصر الأمم على ذوي العروش كما فعلت الدول الموقعة على معاهدة برلين.
وإذا كانت معاهدة برلين لم تدع روسيا تنشئ بلغاريا عظيمة كما طلبت في معاهدة سان استفانو، فإنها تركت مواضع كثيرة للخلل السياسي، ودواع جمة للطمع، ثم نامت الدول الواضعة لتلك المعاهدة عن صيانتها، فنشأ عن هذا كله أن الإمارة البلغارية ضمت إليها الرومللي الشرقية سنة 1885 ثم أعلنت استقلالها وارتقاءها من إمارة إلى مملكة سنة 1908، فهتكت حرمة تلك المعاهدة مرتين، ثم ضمت النمسا البوسنة والهرسك إلى أملاكها من جهة أخرى فهتكت حرمتها أيضا.
وما زالت دول البلقان منذ سنة 1878 تطلب زيادة على ما ربحت من تلك المعاهدة، وقام الخلاف بينها على الأراضي العثمانية المطموع فيها، وصارت كل دولة منها تنازع الأخرى أشد المنازعة حتى اصطبغت هضاب مقدونيا بدماء البلغاريين والصربيين واليونانيين والرومانيين. ولسنا نغالي إذا قلنا إن الدول العظمى التي وضعت تلك المعاهدة كانت شريكة في الجنايات التي اقترفت؛ لأنها جعلت معاهدتها دواء وقتيا وحلت المشكلة حلا نصفيا، قال الموسيو شوبلييه في تاريخه «المسألة الشرقية بعد مؤتمر برلين»: إن هذا المؤتمر زاد ضعف تركيا واشتياق رعاياها إلى الاستقلال كما زاد قوة أعدائها في البلقان.
فكل من يتنزه عن الغرض يحكم إذن بأن شطرا من تبعة تلك الفوضى يلقى على تركيا؛ لأنها أغفلت الإصلاح فوسعت أبواب الشكوى وأقامت لخصومها الحجة عليها، وبأن الشطر الثاني هو نصيب الدول العظمى التي وضعت معاهدة برلين، ونصيب الدول البلقانية التي ملئت البلقان من الدسائس والسعايات والمنازعات بلوغا إلى أغراضها وتحقيقا لمرادها.
على أن تلك السعايات والمنازعات لم يكن من شأنها أن تجعل الإصلاح مستحيلا على الدولة العلية بل كان من نتائجها أن تجعله صعبا جدا، وأول دليل على تحسين الحال لم يكن ضربا من المحال أن العصابات المختلفة أخذت تسلم سلاحها إلى ولاة الأمور ابتهاجا بالدستور العثماني، فلما كان ما كان من أمر هذا الدستور، وشبت الحرب بين إيطاليا والدولة العلية وثبت لساسة الدول البلقانية ما قام في الأستانة من الخلل الذي هو أبو المفاسد عادت الفوضى، ثم تناست الدول البلقانية عداوتها لتتحالف على «العدو العام» كما تقول جرائدها.
تحالف دول البلقان وكيف كان
ما كان يدور في خلد أحد، ولا يمر على مرآة الخيال أن اليونانيين الذين كانت عصاباتهم في مقدونيا تحرق القرى البلغارية وتمثل بأهلها تمثيلا، وأن البلغاريين الذين ما وجدت عصاباتهم يونانيا إلا جندلته قتيلا، يمكنهم أن يكونوا حلفاء في السراء والضراء، على أن المصلحة تفعل العجائب وهي التي أرتنا أعجوبة ذاك التحالف الذي كانت أوروبا نفسها تحسبه مستحيلا.
وليس بين أيدينا من الجرائد الأوروبية التي طالعناها منذ نشوب الحرب إلى اليوم، ولا من الكتب الستة التي ظهرت حتى الآن في موضوعنا ما هو أجدر بالمطالعة من الفصل الذي أنشأه الموسيو ريني بيو مراسل التان الحربي، الذي زار عاصمة الصرب وعاصمة البلغار وحادث كبار ساستها قبل أن سافر إلى ساحة القتال، وإليك صفوة ما قال:
ناپیژندل شوی مخ
ليت شعري كيف جهلت أوروبا إلى هذا الحد ما وضعته الدول البلقانية من المشروعات واتخذته من القرارات، ثم كيف قدرت تلك الدول نفسها التي طالما ظنوا أنها معادية بعضها لبعض، على عقد التحالف الذي سيمكنها من التغلب على الدولة التركية الضخمة؟!
أرى من المفيد لجلاء هاتين النقطتين أن أذكر حديثا دار بيني وبين الموسيو سبالايكوفتش معتمد الصرب في عاصمة البلغار الذي كان كاتب سر عام في وزارة الخارجية الصربية، والذي يرجع إليه وإلى الملك فردينان فضل المحالفة التي عقدت في 13 مارس سنة 1913.
ثم روى أن المعتمد المذكور أخبره بأن الغرض من الحرب هو إزالة «الحالة المؤلمة التي تضغط على الحياة الوطنية في البلغار والصرب واليونان والجبل الأسود، وأن الإصلاح المقدوني لم يكن مأمولا لا من تركيا ولا من الدول»، إلى أن قال: «إن أوروبا ارتكبت غلطتين؛ الأولى: أنها تأخرت في سعيها إلى منع الحرب، والثانية: أنها أخطأت في تقدير غايتنا ومقدرتنا على العمل، فقد كان الواجب أن تهتم بحل المشكلة البلقانية في اليوم الثاني لإعلان الحرب بين تركيا وإيطاليا، لا منذ ثلاثة أسابيع حين اضطرتنا التعبئة العثمانية إلى القيام بتعبئة عامة، ولا منذ أربعة أو خمسة أشهر عندما شاع خبر الاتفاق بين الصرب والبلغار، أو بعد سفر الموسيو بوشكوفتش إلى أثينا حيث كانت المسألة البلقانية شغله الشاغل، ألا كيف غاب عن السياسة الأوروبية أن الدول البلقانية وجدت الفرصة التي ترجوها وتنتظرها من زمن طويل، وأنها ستعمد إلى اغتنامها لتحل المسألة القديمة؛ إن السنة التي مضت على الحرب العثمانية الإيطالية مكنتنا من عقد روابط اتحادنا، وجعلت الموسيو جيشوف «رئيس الوزارة البلغارية» المعروف بميله إلى السلم وإلى تركيا، يطلب الحرب بعزم راسخ ويمسي من أقوى نصرائها.»
غير أنه يجدر بنا أن نعترف هنا بإسرافنا في الوقت قبل أن نفذنا الفكرة السياسية الحكيمة التي أبداها أستاذي المأسوف عليه ميلوفانوفتش، أعني فكرة الاتحاد السياسي بين الصرب والبلغار، فإن الأستاذ المشار إليه هو الذي أظهر وجوب العمل لعقد ذاك الاتحاد مخافة أن يجيء التيار الغربي فيجرف الأمتين، وأول خطأ ارتكبته أوروبا: هو أنها لم تدرك منذ مدة أن عقد هذا الاتفاق سيتم بحكم الضرورة.
أما الخطأ الثاني الذي ارتكبته أيضا: فهي أنها بقيت تنظر إلينا بعين غلادستون، فلا تحسبنا قادرين على تجنيد 700000 جندي وإرسال 1500 مدفع إلى مواقع القتال، ولا تعدنا إلا أطفالا في الأسرة الأوروبية الكبرى، ثم ألفت هذا الفكر إلى حد أنها باتت تعتقد أن هؤلاء الأطفال يكفيهم أن يعنفوا ولا يطعموا إلا الخبز الجاف ليخلدوا إلى السكينة، وفاتها أنا بلغنا سن الرجال وطلبنا حريتنا في العمل.
عبأنا جيوشنا فلقبوا تعبئتنا بخدعة كبيرة النفقة، وإن هذا القول إلا جهل تام للحالة الراهنة، ويظهر أن الدول العظمى أصبحت لا تدرك معنى السياسات الوطنية التي لا تسير طبقا لمصالحها المادية.
ثم كرر هذا المعتمد الصربي أن الغاية من الحرب إنقاذ إخوانه البلقانيين ومحو السلطة التركية، ثم قال:
ألا كيف يكون المستقبل وكيف يكون حكم السيف؟ إن الجواب لا يستطيعه أحد الآن، لكن جنودنا ستقاتل قتال الأسود والبغضاء تغلي في قلوبها وحب الانتقام يملأ صدورها، وسيبقى وقت كاف لتنظيم البلاد التي سننقذها بعد أن يصدر السيف حكمه، ويجب حينئذ على أوروبا التي أخطأت نظراتها في الماضي، أن تفعل ما تقتضيه المصالح الأوروبية العظمى، فإن الاتفاق بين الدول موقوف على ما ستفعله عندئذ، ومهما يكن من شأن تضامن الدول على السعي السلمي الذي تدل عليه المذكرة الروسية النمساوية، فإن الذي يستوقف روسيا في أوروبا إنما هو المصالح البلقانية، والضمان الوحيد للتوازن الذي تعيش به الدول اليوم هو اتفاق فرنسا وإنكلترا مع روسيا على العمل يدا واحدة في مسائل البلقان بعد إسكات المدفع وإغماد السيف.
نقل مراسل التان الحربي هذا الحديث عن سياسي من أعرف ساسة الصرب، ثم فرش للقارئ دخلة المسألة بإيضاح قال فيه:
والواقع أن فكرة الاتفاق بين البلغار والصرب قويت واشتدت بعاصمتي هاتين الدولتين في شهر سبتمبر سنة 1912؛ أي وقت إعلان الحرب بين تركيا وإيطاليا فأسرع الموسيو مليوفان ميلوفانوفتش وزير خارجية الصرب إلى إرسال منشور سري إلى دول الاتفاق الثلاثي؛ أي روسيا وفرنسا وإنكلترا، ذكر فيه أن الحالة التي نشأت عن الحرب العثمانية الإيطالية من شأنها أن تحدث تأثيرا في البلقان، وأن دولة الصرب عقدت العزم على فعل ما تراه واجبا لحماية مصالحها عند حدوث مشاكل.
ناپیژندل شوی مخ
وكتب الموسيو هارتويج المعتمد الروسي في عاصمة الصرب (الذي يشتغل منذ سنة 1909 بعقد اتحاد بين صقالبة الجنوب) إلى الموسيو سازونوف وزير خارجية روسيا يحول نظره إلى أهمية الحوادث التي يتأهبون لها في شبه جزيرة البلقان، ولكن الحكومة الروسية بقيت جامدة بعد هذا التنبيه، أما الحكومة الصربية فإنها عزمت على العمل وكان معتمدها بالعاصمة البلغارية وقتئذ غائبا عن منصبه فأصدر إليه وزير الخارجية الصربية أمرا بالرجوع مسرعا إلى صوفيا ليشتغل بعقد معاهدة بين دولته والبلغار.
ثم ازداد الأمر خطرا واستفحالا في ذاك الوقت بتعبئة جانب من الجيش العثماني في البلقان؛ لأن الحكومة العثمانية تفزعت من أن يكون لصدى حرب طرابلس رجعا قويا في البلاد البلقانية، ثم قامت الدولة البلغارية تريد تعبئة جيشها أيضا. فأخذ وزير خارجية الصرب يفرغ الجهد في حمل بلغاريا على الصبر والأناة رجاء أن يدخر قوتها إلى ما بعد المحالفة التي كان يشتغل بتمهيد سبيلها؛ لأن هذا السياسي المحنك كان يدرك أن كلا من جيش الصرب وجيش البلغار لا يستطيع وحده أن يقهر الجيش العثماني برغم ما عرفه الجواسيس من ضروب الخلل.
ولما وصل الموسيو سبالايكوفتش معتمد الصرب إلى صوفيا كان سبب السلم مضطربا كل الاضطراب، وملك البلغار يستحم في النمسا، والموسيو جيشوف رئيس وزارته يجول في أوروبا، والموسيو تيودورف وزير المالية ينوب عنه في الرئاسة ، فوقعت الوزارة البلغارية في حيرة لا تدري أي نهج تنهج، وإنها لعلى تلك الحال إذا بتلغراف من رئيس الوزارة يطلب فيه إلى زملائه أن يحجموا عن كل قرار ريثما يصل إلى صوفيا ثم أخبرهم بأنه قابل مولاه الملك في المدينة التي كان يستحم فيها وحادثه مليا في شأن الحالة.
ثم وصل رئيس الوزارة غير مبطئ إلى صوفيا وأخبر زملاءه بأنه حادث الملك فردينان واتفق معه على الصبر والتؤدة أمام التعبئة العثمانية، وبأنه سافر مع وزير الخارجية الصربية واتفقا أيضا على وجوب عقد محالفة بين الدولتين. ثم دارت المفاوضة في هذا الشأن بين معتمد الصرب ورئيس الوزارة البلغارية، وفي 13 مارس سنة 1912 تم توقيع معاهدة هجومية دفاعية بين حكومتي صوفيا وبلغراد.
وكانت الحكومة الروسية حامية الصقالبة أول العارفين بذاك الحادث السياسي الخطير في الشرق، ثم تطرق الخبر إلى باريس فلندرا، وأصبح في وسع حكومتي الصرب والبلغار منذ تلك الساعة التاريخية أن تفكرا في مسألة إعلان الحرب على تركيا.
على أنهما رأتا من الحكمة وأصالة الرأي أن تسعيا في إدخال العدو الثالث لتركيا في هذا التحالف الجديد، فأخذتا منذ اليوم التالي في استطلاع طلع اليونان واستجلاء رأي حكومتهم، فوجدتا منها إقبالا سريعا على الدخول في سلك المحالفة البلقانية، وكان أكبر أنصارها في العاصمة اليونانية الموسيو فنزيلوس رئيس الوزارة، فأمضت الحكومة اليونانية معاهدة التحالف على «العدو العام» كما يقولون، فلم يبق إلا اختيار الوقت الموافق لإيقاظ السيف الهاجع.
سرت ريح هذا النبأ من دواوين السياسيين إلى مكاتب الصحافيين، لكنه أتاهم غامضا مبهما فحاموا حول الموضوع وخبطوا بعض الخبط، ثم تمكنوا من إثبات وجود التحالف، أما الحكومة العثمانية وقتئذ فلم تقم بكل ما وجب عليها من التأهب تلافيا للشر، بل عززت الجيش بعض التعزيز ولبثت تعتقد أن الخطر غير داهم إما لجهل من معتمديها في عواصم الدول الثلاث وقصورهم عن معرفة ما يهدد دولتهم، وإما لتطرف رجالها في التفاؤل الحسن وفي الثقة بسياسة أوروبا.
وليس لدينا شك بعد ما قاله معتمد الصرب بالعاصمة البلغارية (كما عرفنا من حديثه المتقدم) في أن الحرب الطرابلسية كانت من العوامل التي جعلت الدول البلقانية تعقد العزيمة وتوطن النفس على إعلان الحرب بلا مهل؛ فلذلك كانت حكومات صوفيا وبلغراد وأثينا تود من صميم القلب أن تفشل الدول في التوسط بين الحكومة العثمانية والحكومة الإيطالية، كما قال الموسيو رينيه بيو، ثم ازداد خوفها من ضياع تلك الفرصة «الفريدة» حين اقترحت الحكومة النمساوية على الحكومة العثمانية أن تتبع طريقة الاستقلال الإداري المحلي (اللامركزية)، وقام في خلدها أن النمسا ما اقترحت هذا الاقتراح إلا وهي تضمر التقدم جنوبا فتستولي على سنجق نوى بازار، ثم تهبط سلانيك، ثم تجعل ألبانيا كمستعمرة نمساوية، والواقع أنه لا يسع أحدا أن ينكر سعي النمسا في بسط نفوذها بأنحاء ألبانيا على أيدي رجال الدين كما كانت تفعل في البوسنة والهرسك في سالف الزمان، وهي تدعي حماية الكاثوليك الألبانيين وتنفق في سبيل نفوذها هناك مالا كثيرا. •••
وليس من فضلة الكلام أن نذكر هنا محصل ما نشره الموسيو ه. وجنر الكاتب الحربي الشهير في النمسا، ومراسل «الريشبوت» أيام الحرب البلقانية، فإن هذا الكاتب الذي قربه إليه ملك البلغار ورئيس الوزارة البلغارية عقد فصلا عن التحالف البلقاني في كتابه المسمى «في سبيل الانتصار مع جيش البلغار» نأخذ منه ما يلي:
إن فكرة الحرب البلقانية لم تمتد وتنتشر إلا بعد نشوب الحرب الطرابلسية التي هي أول حرب قاست تركيا الدستورية نيرانها وخاضت معمعانها، وهي التي هيجت شوق الحكومات البلقانية «إلى تصفية حساب» المنازعات القديمة دفعة واحدة مع الدولة العثمانية، فعمدت إلى المفاوضة الأولى في ذاك الوقت إرادة أن تنال منها نتيجة قبل أن تضع الحرب الطرابلسية أوزارها. وفي ذاك الوقت أيضا ذهب مندوبون مقدونيون إلى روما للمذاكرة في الموضوع.
ناپیژندل شوی مخ
وكان أثر الحرب الطرابلسية على أشده في البلاد البلغارية، حيث يعتقد جماعة من السياسيين منذ زمن طويل أن تضامن الصرب والبلغار واليونان هو أمر ممكن برغم التنازع الذي كان قائما بينهم، ثم قويت الفكرة شيئا فشيئا حتى اتجهت إليها أفكار الحكومات وكان الموسيو فنزيلوس رئيس الوزارة اليونانية من أشد أنصارها.
ولما كان شهر مايو سنة 1912، وضع مشروع أولي للتحالف، وجميع القرائن تدلنا على أن دولة الصرب ودولة البلغار هما اللتان تفاوضتا واتفقتا أولا، ثم أخذت الحكومة البلغارية تفاوض حكومة اليونان، وأخذت حكومة الصرب تفاوض الجبل الأسود وتوقف الحكومة البلغارية على مجرى المفاوضة، والظاهر أن حكومة الصرب هي التي شرعت في تلك الحركة قبل غيرها، وأن الاتفاق بني أولا على شئون سياسية واقتصادية لا على مقاصد عدائية، ثم عقد التحالف العسكري قبل نشوب الحرب بمدة قصيرة.
وروى الموسيو وجنر في محل آخر من كتابه أن الموسيو جيشوف رئيس الوزارة البلغارية عقد في فينا اجتماعا من معتمدي دولته السياسيين في باريس وفينا وروما وبرلين وشاورهم في أمر الحرب، فارتأى معتمدا فينا وبرلين على ما قيل: إن الوقت غير موافق لحل العقدة بحد السيف.
أما معتمد باريس الدكتور ديمتري ستانيسيوف فخالفهما في الرأي، وذهب إلى أن تصريح الدول بعزمها على حفظ خريطة تركيا كما هي لا يعتد به ولا ينظر إليه بعين الجد، ولا سيما أن إحدى تلك الدول (إيطاليا) هبت تخالف ذلك. ثم وافقه الموسيو ريزوف معتمد البلغار في العاصمة الإيطالية وطلب أن لا تضيع بلغاريا فرصة الحرب الطرابلسية كما أضاعت فرصة 1908-1909.
وأما الموسيو جيشون رئيس الوزارة البلغارية فلم يكن شديد الميل إلى معاداة الدولة العلية، وليس جنوحه إلى المسالمة في ذاك الحين إلا اجتنابا للمجازفة والمخاطرة، فإن الرجل مثل سائر البلغاريين يدعوهم الطمع والحقد والسياسة والجنس والدين إلى تلقف كل ما يمكن أخذه من يد السلطنة العثمانية. ومما يذكر هنا كتاب بعث به إلى الموسيو وجنر (فنشره في صدر مؤلفه)، وروى فيه أن ولاة الأمور العثمانيين قبضوا عليه بمدينة فليبولي في شهر سبتمبر سنة 1877 وزجوه في السجن؛ لأنه نشر في جريدة التيمس سلسلة مقالات طعن فيها على الحكومة العثمانية، ثم اتفق له بعد سجنه أن نظر في جريدة تركية اسمها «وقت»، فإذا فيها أن المحكمة أصدرت حكما بإعدامه، ولكنه ما لبث أن نجا بأعجوبة - على قوله - من المشنقة، وبعد ذاك الحادث بخمس وثلاثين سنة صار رئيسا لمجلس النظار البلغاري، ولما عرضت فرصة الانتقام ورآها موافقة لدولته أصبح هو حربا على تركيا بعد أن كان يبتسم لها ويميل إلى مجاملتها.
مرسح السياسة قبل إعلان الحرب
من 3 إلى 17 أكتوبر
أصح ما نشبه به السياسة قبل إعلان الحرب ببضعة عشر يوما بحر عجاج متلاطم الأمواج، يقذف بالدول تارة إلى مينا الأمان وتارة إلى لجة الخطر، وليس أدل على حالة السياسة العامة في ذاك الوقت من الوقوف على الأقوال الرسمية والشبيهة بالرسمية.
والمستفاد من تلك الأقوال التي كانت تنشرها الجرائد الكبرى أن أوروبا عرفت بتعبئة جيوش البلغار والصرب واليونان، ثم سمعت بأن المدفع أخذ يغني نغمة الشؤم على حدود الجبل الأسود، وبقيت تؤمل تبديد الغيمة السوداء التي تكاثفت في جو البلقان.
لكن ذوي النظرات الصادقة الذين قابلوا السياسيين البلقانيين وأدركوا مقاصدهم عرفوا منذ أوائل أكتوبر أن كفة الحرب رجحت كل الرجحان، فصار عود المياه إلى مجاريها غير مأمول، وإليك ما كتبه الموسيو رينيه بيو في 5 أكتوبر بعد أن قابل ساسة البلغار في صوفيا:
ناپیژندل شوی مخ