مقدمة الكتاب
1 - الوحدة القومية والدولة القديمة
2 - الثورة الاجتماعية في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد
3 - الدولة الوسطى
4 - ثورة الشعب على الهكسوس وإجلاؤهم عن مصر سنة 1570 قبل الميلاد
5 - الدولة الحديثة: من الأسرة الثامنة عشرة إلى الأسرة الثلاثين
6 - أوج المجد: مصر في عهد تحوتمس الثالث، أو الأكبر
7 - إخناتون وثورته الدينية (1370-1349ق.م)
8 - رمسيس الثاني وحروبه الدفاعية: الأسرة التاسعة عشرة (1304-1195ق.م)
9 - الدفاع عن كيان مصر في عهد خلفاء رمسيس الثاني
10 - تحرير مصر من الاحتلال الآشوري
11 - الغزو الفارسي وثورات الشعب عليه (سنة 525ق.م)
ملحق للفصول السابقة
12 - الإسكندر الأكبر في مصر وجلاء الفرس عنها (سنة 332ق.م)
13 - البطالمة في مصر وثورات الشعب عليهم (323-30ق.م)
14 - مقاومة مصر للاستعمار الروماني وعصر الشهداء
15 - الفتح العربي لمصر (سنة 640-642م)
مصادر التاريخ المصري القديم ومراجع البحث
مقدمة الكتاب
1 - الوحدة القومية والدولة القديمة
2 - الثورة الاجتماعية في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد
3 - الدولة الوسطى
4 - ثورة الشعب على الهكسوس وإجلاؤهم عن مصر سنة 1570 قبل الميلاد
5 - الدولة الحديثة: من الأسرة الثامنة عشرة إلى الأسرة الثلاثين
6 - أوج المجد: مصر في عهد تحوتمس الثالث، أو الأكبر
7 - إخناتون وثورته الدينية (1370-1349ق.م)
8 - رمسيس الثاني وحروبه الدفاعية: الأسرة التاسعة عشرة (1304-1195ق.م)
9 - الدفاع عن كيان مصر في عهد خلفاء رمسيس الثاني
10 - تحرير مصر من الاحتلال الآشوري
11 - الغزو الفارسي وثورات الشعب عليه (سنة 525ق.م)
ملحق للفصول السابقة
12 - الإسكندر الأكبر في مصر وجلاء الفرس عنها (سنة 332ق.م)
13 - البطالمة في مصر وثورات الشعب عليهم (323-30ق.م)
14 - مقاومة مصر للاستعمار الروماني وعصر الشهداء
15 - الفتح العربي لمصر (سنة 640-642م)
مصادر التاريخ المصري القديم ومراجع البحث
تاريخ الحركة القومية في مصر القديمة
تاريخ الحركة القومية في مصر القديمة
من فجر التاريخ إلى الفتح العربي
تأليف
عبد الرحمن الرافعي
عبد الرحمن الرافعي. ولد في 8 من فبراير سنة 1889م، وتوفي في 3 من ديسمبر سنة 1966م.
مقدمة الكتاب
عندما كنت أؤرخ للحركة القومية في العصر الحديث، رأيت أن عظمة مصر القديمة - مصر الفرعونية - تستهوي الباحث لاستقصاء تاريخها، وخاصة حين طالعت ما نشره علماء الحملة الفرنسية منذ أوائل القرن التاسع عشر عن أمجادها ومفاخرها، وما رسموه في مجموعاتهم ومصوراتهم من آثارها الخالدة، ولقد كان هؤلاء العلماء أول من كشفوا عن هذه الآثار كشفا علميا، وكنت وأنا أطالع هذه الكشوف أتساءل: ألم تكن في مصر القديمة حركة قومية يصح أن تكون أساسا لتاريخها على غرار الحركة القومية في تاريخها الحديث؟ •••
لقد كنت موقنا بأن ما بلغته مصر القديمة من التقدم والحضارة والعظمة، لا بد أن يكون له أساس قومي هو عماد الحركة القومية، وهذا ما يقتضي البحث عنه وتدوينه، ولكني أرجأت هذا البحث حتى أستوفي تاريخ الحركة القومية في العصر الحديث، فلما أتممته بعون الله عاودتني فكرة التأريخ للحركة القومية في مصر الفرعونية. فأخذت أعيد النظر فيما كنت أقرؤه عنها، وأتعمق في دراسة المسائل التي تتصل بها، وأرجع إلى المصادر التي طالعتني بها قراءاتي السابقة وأزيد عليها مشاهداتي اللاحقة، وخلصت لي من ذلك كله صورة واضحة المعالم لهذا التاريخ أود أن أعرضها في هذا الكتاب، وإذا شاءت عناية الله فسأتبعها بصور أخرى للحركات القومية التي تعاقبت على البلاد حتى قبيل العصر الحديث. •••
والحركة القومية كما قصدتها وعنيتها، هي الجهود التي بذلها الشعب المصري بمختلف طبقاته في سبيل تكوين مصر الحرة المستقلة، والذود عن كيانها، والدفاع عن استقلالها، والثورة على كل من يعتدي على هذا الاستقلال ومقاومته بكل ما أوتيت من حول وقوة.
والتاريخ القومي للأمة لا يستكمل مداه إلا إذا كان مدروسا ومعروضا على ضوء الحركة القومية، فهي أساس وجودها، ومبعث نهوضها وتطورها.
وإذ كان هذا هو جوهر الحركة القومية، فأجدر بمصر القديمة أن يكون لها النصيب الأوفى والأول في هذا التاريخ. •••
فلقد كانت أسبق الأمم إلى تحقيق استقلالها، وتأسيس حكومة نظامية ترعى هذا الاستقلال وتضطلع بمقومات الحضارة منذ عصور متناهية في القدم، ولا غرو فتاريخها هو تاريخ الإنسانية.
ولقد حققت وحدتها القومية سنة 3200 قبل الميلاد، حين استطاع الملك «مينا» أن يضم الوجهين البحري والقبلي، ويجعل منهما دولة موحدة كانت أعرق الوحدات القومية ظهورا في التاريخ.
ومن يومئذ تتابعت الأسرات الملكية في ظل الوحدة وسارت بالبلاد قدما إلى الأمام ، ولم يسكت الشعب عن ضيم أصابه، وظل طوال القرون يناضل عن استقلاله ويرد عنه كيد المعتدين والغاصبين، وهذا أول ما عنيت بإبرازه في صحائف هذا الكتاب.
يحصي المؤرخون الأسرات الملكية المصرية بثلاثين أسرة، يقسمونها إلى ثلاثة عهود هي: الدولة القديمة، تليها الدولة الوسطى، ثم الدولة الحديثة، وقد سرت على هذه التسمية في إبراز الحوادث الهامة التي لها علاقة بالحركة القومية. •••
ففي أواخر عهد الأسرة السادسة من الدولة القديمة، قامت ثورة اجتماعية شعبية ظهرت لها نتائجها وآثارها على تعاقب السنين.
وبسقوط الأسرة العاشرة بدأت الدولة الوسطى من الأسرة الحادية عشرة إلى السابعة عشرة، ثم تلتها الدولة الحديثة من الأسرة الثامنة عشرة إلى الأسرة الثلاثين.
وفي عهد الأسرة الثالثة عشرة رزئت البلاد بالغزو الهكسوسي الذي عصف باستقلالها، واستمر يعبث به ردحا من الزمن، ثم لم تلبث مصر أن نهضت من كبوتها وخاضت معركة الحرية، وطردت الهكسوس سنة 1570 قبل الميلاد على يد «أحمس» الأول مؤسس الأسرة الثامنة عشرة. •••
وكان تحرير البلاد من الهكسوس قد غرس في النفوس روح القومية، وحفزها إلى غزو معاقلهم في فلسطين وسورية ولبنان، فشنت مصر عليهم وعلى حلفائهم في عهد الدولة الحديثة حروبا دفاعية بقيادة «تحوتمس الثالث» بطل معركة «مجدو» سنة 1479 قبل الميلاد، واستمرت هذه الحروب عدة سنين حتى اطمأنت مصر على كيانها، ومن ثم اتسعت رقعتها فامتدت حدودها من أعالي الفرات شمالا إلى الشلال الرابع على النيل جنوبا.
ثم ظهرت أطماع الدول المعادية لها وأخذوا ينتقصونها من أطرافها، وينالون من وحدتها، حين آنسوا منها ضعفا وانقساما في جبهتها الداخلية، فثبتت لهذه المحاولات، وامتاز عهد رمسيس الثاني بحروبه الدفاعية في سبيل حفظ كيان الدولة المصرية، وسار على نهجه خلفاؤه.
وتجددت الأطماع، واستطاع الآشوريون أن يغيروا على مصر ويحتلوها.
ثم لم يلبث الشعب أن أجلاهم عنها في عهد «أبسماتيك الأول»، وعادت لها حريتها واستقلالها. •••
وظلت على ذلك إلى أن نكبت سنة 525ق.م. بالغزو الفارسي، ولم يكن هذا الغزو الذي قاده قمبيز بمضيع كيان مصر أو مضعضع لمكانتها التي نالتها على تعاقب القرون. فإذا قارنا هذا الغزو بما أصاب الإمبراطورية الرومانية حين استهدفت في القرن الخامس بعد الميلاد لغزوات أقوام من الهمج انقضوا عليها فدمروها ودكوا معالمها ومزقوا أوصالها، نجد أن مصر على العكس قد صمدت للغزو الفارسي واحتفظت بكيانها وطابعها القديم، ولم تستسلم للمحتل المغير، بل ثارت عليه المرة بعد المرة، إلى أن جاء الإسكندر المقدوني يحارب الفرس ويصادق المصريين، فهزم دولة الفرس وقوض أركانها واستولى على عاصمتها. •••
وهناك احتلالان قرأت في بعض كتب المؤرخين أن مصر القديمة استهدفت لهما، فقالوا عنها: إنها خضعت يوما للحكم الليبي، ويوما آخر للحكم الإثيوبي، ولم يكن قولهم هذا قرين الحق والصواب، فقد زعموا أن الأسرة الثانية والعشرين التي أسسها «شيشنق» في القرن العاشر قبل الميلاد هي أسرة ليبية أجنبية حكمت البلاد زمنا طويلا، والصحيح أن «شيشنق» هذا وإن كان من أصل ليبي، ولكنه تمصر ومن قبله تمصر أسلافه منذ عدة قرون، ومضت عليهم بعد أن تمصروا أجيال وأجيال فصاروا من صميم المصريين، وقد كان حكم «شيشنق» مصريا خالصا لمصر أعاد إليها بعض ما كان لها من عز وسؤدد، واحتل فلسطين واستولى على أورشليم (بيت المقدس) واستخلصها من اليهود، واستردت البلاد بفضل حملاته الموفقة نفوذها في آسيا، وورد اسمه في التوراة لمناسبة حروبه مع الإسرائيليين.
وقال بعض المؤرخين أن «يبعنخى» أسس في القرن الثامن قبل الميلاد الأسرة الخامسة والعشرين، ووصفوه ووصفوا أسرته بالإثيوبيين وزعموا أن إثيوبيا حكمت مصر في عهدهم.
والحق أن «بيعنخى» هو من النوبة لا من إثيوبيا، وأصل أسرته من كهنة طيبة الذين هاجروا إلى الجنوب، والنوبة جزء لا يتجزأ من مصر وفيها الآثار الخالدة للفراعنة التي يتحدث عنها العالم المتحضر كل حين، فهم إذن من صميم المصريين، فلا هم إثيوبيون، ولا النوبة من إثيوبيا، وأسرتهم مصرية لا شك في مصريتها، والقول بأن إثيوبيا حكمت مصر يوما يتعارض مع الحقائق التاريخية والجغرافية، وإطلاق اسم إثيوبيا على النوبة هو خطأ انساق إليه بعض الرحالة الإغريق. •••
ولئن كان الحديث عن مصر القديمة أو مصر الفرعونية ينتهي على أرجح الآراء بالغزو الفارسي؛ فتاريخ مصر الخالدة يقتضي أن أستطرد إلى ذكر الثورات المصرية التي شبت في وجه الفرس، ثم استمرار هذه الثورات في عهد البطالمة، ثم في عهد الرومان، إلى أن حررها الفتح العربي من الاحتلال الروماني سنة 641م/18ه وبه ينتهي هذا الكتاب.
وأرى من واجبي أن أنوه بفضل العلماء المصريين والأجانب الذين سبقوني إلى الكتابة في تاريخ مصر القديمة، وقد ذكرت بعض مؤلفاتهم في مراجع البحث اعترافا بفضلهم وتقديرا للجهود التي بذلوها لإنارة السبيل لمن يجيئون بعدهم، وإذا كان الموضوع الذي عالجته مقصورا على تاريخ الحركة القومية، فإن ما كتبوه واستقصوه كان شاملا لكل نواحي التاريخ، فلهم الفضل أولا وآخرا.
هذه نظرة عامة على الكتاب، قصدت منها التعريف به إجمالا، وسيجد القارئ في فصوله توضيحا لما أجملت وتفصيلا لما أوجزت.
والله ولي الهداية والتوفيق.
مايو سنة 1963م
عبد الرحمن الرافعي
الفصل الأول
الوحدة القومية والدولة القديمة
تم على يد الملك «مينا» توحيد الوجه القبلي والوجه البحري وجعلهما دولة واحدة، وهذا العمل الجليل هو أساس الحركة القومية ونواتها، والغرض منه هو وحدة الوطن.
حدث هذا التوحيد حوالي سنة 3200 قبل الميلاد، فتأسست بذلك الدولة المصرية الموحدة، وكان «مينا» أول من حكم أرض مصر مجتمعة، وهو أول ملوك الأسرة الأولى.
1
كانت مصر قبل الوحدة مؤلفة من عدة ولايات أو أقاليم صغيرة، يحكم كلا منها أمير مستقل، ثم تكونت منها مملكتان: إحداهما تشمل الوجه البحري (أو مصر السفلى)، والثانية تشمل الوجه القبلي (أو مصر العليا).
وكان «مينا» من ملوك الوجه القبلي؛ نشأ في مدينة «طينة» (تينيس) بالقرب من العرابة المدفونة
2
بجوار جرجا.
وكان رجلا عظيما، يجمع بين الكفاية الحربية والمقدرة السياسية فاستطاع أن يخضع الوجه القبلي لحكمه، ثم تمكن من غزو الوجه البحري وضمه إلى ملكه، وألف من الوجهين القبلي والبحري دولة مصرية عظيمة كان هو أول الفراعنة الجالسين على عرشها، واتخذ «طينة » عاصمة لها، وكانت القوة سندا له في هذا العمل القومي المجيد.
ولا يغض من الوحدة أن القوة كانت سبيلها؛ فإن معظم الوحدات الهامة في التاريخ كان عمادها القوة، وكان الإرغام سبيلها إلى التقدم والعظمة، ولولا تأليف هذه الوحدات لظلت الأمم التي اتحدت فريسة الطامعين والمستعمرين.
فالوحدة الألمانية قد تألفت بقوة بروسيا، والوحدة الإيطالية تمت أولا بقوة البيمونت، ووحدة الولايات المتحدة الأمريكية قد تدخلت فيها القوة لدوامها واستقرارها؛ إذ نشب القتال فعلا بين الولايات الشمالية والولايات الجنوبية في القرن التاسع عشر بعد الميلاد، وأرادت الولايات الجنوبية أن تنفصل عن الشمالية، فلم تقبل الولايات الشمالية هذا الانفصال، وفي سبيل الوحدة حاربت الولايات الجنوبية حربا استمرت أربع سنوات، من سنة 1861م إلى سنة 1865 ميلادية، وانتهت بانتصار الولايات الشمالية على الجنوبية، وبذلك استقرت وحدة الولايات المتحدة الأمريكية، فالقوة كان لها الفضل الأكبر في بناء هذه الوحدة.
ولقد أحرز «مينا» شرف توحيد الدولة وتشييد دعائم القومية المصرية، ولولا هذا التوحيد لظلت مصر مفككة الأجزاء، يحارب بعضها بعضا ويطمع فيها الأقوياء.
كان هذا الحادث عملا قوميا رائعا، جعل من مصر دولة موحدة متماسكة مرهوبة الجانب، تسير بالبلاد في سبيل التقدم والحضارة والمتعة.
ولا يقل هذا التوحيد شأنا عن الوحدات التي تمت في التاريخ الحديث كالوحدة الألمانية، أو الوحدة الإيطالية، أو الوحدة الأمريكية (الولايات المتحدة).
كانت هذه الوحدة هي البداية الحقيقية للأسرات الملكية التي صارت عنوانا لمصر القديمة وتاريخها المجيد.
وقد أحصى المؤرخ المصري مانيتون
3
هذه الأسرات بثلاثين أسرة.
والأسرة الأولى - أسرة «مينا» وخلفائه - هي أول أسرة حكمت مصر مجتمعة موحدة. (1) تأسيس مدينة منف
تولى «مينا» شئون الدولة الموحدة وأدارها إدارة حكيمة حازمة، وظلت تينيس (طينة) عاصمة الدولة الموحدة.
على أنه أراد أن يقترب من الوجه البحري ليكفل الإشراف عليه وحسن إدارته، فأنشأ مدينة منف
4
أو منفيس كما يسميها اليونانيون.
وبدأ بإقامة قلعة اشتهرت باسم «القلعة البيضاء»، التي صارت نواة للمدينة التاريخية العظيمة التي عرفت باسم «منف»، واتخذها مركزا لإدارة الدلتا وموقعا حربيا هاما.
وفي سبيل إنشائها أقام جسورا لتجفيف بعض المناطق التي كان يغمرها الفيضان شرقي موقعها، وكان النيل يجري لجهة الصحراء الغربية، وتخلف عن هذا العمل فضاء واسع أنشأ به المدينة الجديدة، وأقام حولها جسرا هو المعروف الآن بجسر «قشيشه».
ولا ريب أن إقامة الجسور على مجرى النيل يدل على مبلغ تقدم المصريين في العلوم الهندسية.
يقول المؤرخ برستد
Breasted : إن الفضل في رقي القطر المصري في عهد الأسرات الأولى، الذي يقدر بحوالي أربعة قرون، يرجع إلى ضم سائر جهاته تحت حكم الملك «مينا» وسلالته، الذين اتخذوا مركزهم في بادئ الأمر بمدينة «طينة»، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى منف - منفيس - وارتقت في هذه المدة حضارة البلاد وزاد عمرانها وقوي نفوذها، فسمى الأثريون هذا العهد (الدولة القديمة)، وصارت مدينة «منف» عاصمة البلاد في عهد ملوك الأسرات الثالثة إلى السادسة الذين تربعوا في دست الحكم قرابة خمسة قرون سنة 2980 إلى سنة 2475 قبل الميلاد تقريبا.
5
ويقول الدكتور أحمد بدوي عن تطور حياة مصر وسياستها بعد الوحدة: «أخذت النظم السياسية تتطور منذ أيام الاتحاد، فهي قد كانت مقبولة على التطور مدفوعة إليه دفعا قويا، وأخذت قوة السلطان الجديد التي أقامت راية الاتحاد ورفعتها تجمع في يدي صاحبها عنصرين أساسيين من عناصر النظام والسياسة والإدارة التي كانت تتبع في قطري الوادي (الوجه البحري والوجه القبلي) قبل أيام الاتحاد، وما ندري ماذا قدر «مينا» وأصحابه من تطور لأنظمة هذه المملكة المتحدة، فهم كانوا أصحاب الغلبة وأرباب النصر والسلطان، ومن حق الغالب أن يأخذ المغلوب بنظامه وأن يفرض سلطانه عليه فرضا، ولكن «مينا» وأصحابه فيما يظهر قد رأوا عند أهل الشمال (الوجه البحري) من مظاهر الحضارة ومن النظم السياسية المستقرة ما أعجبهم فأبقوا عليه وأخذوا بها وأقروها، ولعلهم قدروا أيضا ما قد يكون لعملهم هذا من أثر في إرضاء خواطر المغلوبين وتطييب نفوسهم مما ينسيهم مرارة الهزيمة وذل الانكسار، فجمعت راية الاتحاد دولتين عظيمتين إحداهما في الجنوب والأخرى في الشمال، وأخذت الأمور تجري بكل من الدولتين على سنتها الخاصة ومنهاجها القديم، فنظام للجنوب ونظام للشمال، وإدارة للجنوب وإدارة للشمال، ووزير للجنوب ووزير للشمال، وسلطان واحد فوق هذا كله يدبر الأمر من القصر فيشقى بذلك كله، ويعالج مشاكله ويعاني متاعبه وربما يلقى من ذلك ألوانا من العنت والمشقة.»
6 (2) الحضارة المصرية قبل الوحدة
إن الحضارة المصرية أسبق من الوحدة، وكانت ولا ريب من أسبابها الممهدة لها، وجاءت الوحدة تثبيتا لها وتوسيقا لآفاقها.
بدأت الحضارة الإنسانية في وادي النيل، نشأت على ضفافه منذ عصور متناهية في القدم، ولا سبيل إلى تحقيق الزمن الذي بدأت فيه.
وأقرب الآراء إلى التقدير الوسط أنها ترجع إلى حوالي سبعة آلاف سنة قبل الميلاد.
وهي على أي تقدير سابقة على الوحدة، وسابقة على عهد الأسرات الملكية الذي جاء نتيجة مباشرة لرقي وتقدم تدريجي في حضارة الزمن السابق.
دخلت الحضارة مصر بجريان النيل فيها، فهي وليدة النيل، وهو مصدر الحياة والخير لها، والماء الذي يتدفق منه كل عام في أوقات معلومة يجلب معه الرخاء والرفاهية ويغرس فيها أصول الحضارة، وما يحويه من الطمي يهب الأرض خصوبة وإنتاجا، ولقد استشعر المصريون من قديم الأزل أن لا بد لهم من حكومة ونظام للري والأمن، يسهران على الاستفادة من مياه النيل بشق الترع والقنوات، وتقوية جسور النيل وإنشاء السدود وحفظ الأمن، وتوزيع الماء بين الناس بالعدل والقسطاس، وابتكار هندسة الري من أقدم العصور، وخاصة لأن مصر لا تعيش على الأمطار ولا تعتمد في حياتها المعاشية والاقتصادية إلا على النيل، فشعور المصريين بأنهم في حاجة إلى حياة متقدمة منظمة جعلهم أسبق الأمم إلى إيجاد مقومات الحضارة في بلادهم، هذا إلى ما طبعوا عليه من المواهب الفطرية، والاعتدال في المزاج، وحب الوطن والدفاع عنه والميل إلى التقدم في أسباب المعيشة، والبعد عن حياة الهمجية والضراوة؛ ولذلك مارس المصريون القدماء قبل عهد الأسرات الملكية مبادئ الحضارة، كالزراعة والصناعة واستخراج المعادن وقطع الأحجار، والملاحة والتجارة، وبناء السفن والآداب والفنون، وما إلى ذلك.
ومن ناحية أخرى فإن طبيعة مصر الجغرافية، وانحصار الوادي المسكون بين صحراوين كبيرتين جعل أهلها أقرب إلى التعاون والتضامن على تنظيم شئونهم.
وهذه النواحي كلها كان لها أثرها في سبقها الأمم الأخرى إلى الحضارة والتنظيم. (3) المصريون أول من اكتشفوا التقويم السنوي
يقول العلامة برستد
Breasted
في عرض الحديث عن العصر السابق للوحدة: إن مملكة الوجه البحري امتازت على الوجه القبلي بسرعة تقدمها في الحضارة؛ وقد ألهمت في سنة 4241 قبل الميلاد أن السنة الشمسية تتكون من ثلاثمائة وخمسة وستين يوما، وهذا التاريخ - أي سنة 4241 قبل الميلاد - هو أقدم تاريخ ثابت معروف للآن على ظهر البسيطة.
7
ويقول توضيحا لذلك: إن سكان الوجه البحري تنبهوا في القرن الثالث والأربعين قبل الميلاد
8
إلى أن السنة الشمسية تتكون من ثلاثمائة وخمسة وستين يوما، وأرخوا مبتدئين بالسنة التي ظهر فيها نجم الشعرى اليمانية مع شروق الشمس، ودلت المباحث الفلكية على أن هذا الحادث حصل حوالي سنة 4241 قبل الميلاد، ويعتبر هذا الكشف الميقاتي واستعماله في الشئون الدنيوية خطوة كبيرة نحو الرقي، وشرفا عظيما للوطن الذي كشف فيه، ولم تستكشف دولة من دول العالم منذ أقدم الأزمنة حتى مبدأ العصر الأوربي المتوسط توقيتا سنويا مثله، وأن يوليوس قيصر عاهل الرومان هو أول من أدخل التوقيت المصري إمبراطوريته ثم عم استعماله العالم. من ذلك يتضح أن استعمال التوقيت المصري عمر مدة ستة آلاف سنة تقريبا، وأن الفضل في ذلك يرجع إلى سكان الوجه البحري الذين عاشوا في القرن الثالث والأربعين قبل الميلاد.
9
ويقول عن الحضارة المصرية عامة: لا يخفى أن العالم الغربي مدين بكثير من علومه وآدابه إلى أهالي وادي النيل، كيف لا وهم الذين زودوا أوروبا الجنوبية بالمدنية والمعارف، فأخذت هذه تنتشر شمالا متبعة سير النيل إلى أقاليم البحر الأبيض المتوسط.
10 (4) وأول من اكتشفوا القراءة والكتابة
ويقول برستد أيضا: «وزيادة على ما بلغه هؤلاء القدماء من مبادئ المدنية والرقي؛ فإنهم نجحوا في اختراع الكتابة والقراءة، واستدل من المباحث التي عملت لكشف طريقة التوقيت المصرية على أن قدماء المصريين استعملوا الكتابة منذ نحو خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، وأن كتاب الأسرة الخامسة الذين أتوا بعد ذلك بألف سنة دونوا طائفة كبيرة من أسماء ملوك الوجه البحري وبعض ملوك الوجه القبلي من الذين يرجع تاريخهم إلى ما قبل حكم الأسرات، ودليلنا على ذلك أن الخط الهيراطيقي كان مستعملا في مبدأ الأسرة الأولى، وهو كما لا يخفى اختزال للخط الهيروغليفي.»
وقال في موضع آخر: «والفضل في كشف حروف الهجاء يرجع إلى قدماء المصريين الذين توصلوا إلى معرفتها، منذ نحو ألفين وخمسمائة سنة قبل سائر الأمم.»
11
ويقول جون ويلسن
John Wilson : إن الكتابة قد ظهرت في مصر في فترة الانتقال بين عصر ما قبل التاريخ والعصر التاريخي، وإن الكتابة الهيروغليفية في مصر ظهرت على الحجر وعلى الطين، وقد استكملت نظام جمع الكلمتين لاستعمال نطقها في كلمة واحدة، ولكن جمع الصور التي وجدت طريقها إلى الكتابة الهيروغليفية كانت كلها صورا مصرية بحتة.
12 (5) الأسرتان الأولى والثانية (سنة 3200-2780 قبل الميلاد)
قلنا إن الملك «مينا» وحد الوجه البحري والوجه القبلي سنة 3200ق.م فهو أول من أسس الوحدة القومية وأسس الأولى، وقد استمر ملوك الأسرة الأولى نحو 200 سنة (من 3200 إلى 3000ق.م).
والأسرة الثانية حكمت نحو 200 سنة أيضا (من 3000 إلى 2780ق.م)، وكانت طينة (تينيس) عاصمة الدولة في عهد هاتين الأسرتين.
وليس معروفا على وجه التحقيق لماذا خلفت الأسرة الثانية الأسرة الأول.
وليس معروفا أيضا إذا كانت هناك صلة بين الأسرتين.
وقد اقتصر المؤرخون على إيراد أسماء الملوك كما ذكرها مانيتون، وما ورد في الآثار المصرية.
واقترنت مدة حكم هاتين الأسرتين بنمو مطرد في قوة الدولة وحضارة مصر.
ونظم ملوك الأسرتين الحكم ورتبوا السلطات المركزية، ونشطوا الزراعة والتجارة والملاحة والمراعي، ورقوا فن الكتابة، ونهضوا بالصناعة وبالنحت وعمارة البناء والهندسة والعلوم عامة.
وظلت الوحدة القومية رائدهم في سياسة المواطنين.
يقول برستد في هذا الصدد: «أسس الفراعنة الطينيون (نسبة إلى طينة) بناء المملكة المصرية، ورقوا أخلاقها ومدنيتها، ورغما عن قلة آثارهم فإن أعمال ملوك الأسرتين الثالثة والرابعة كافية لإثبات ما بلغته حالة البلاد الاقتصادية من العظم والقوة مدة حكمهم.»
13 (6) الأسرة الثالثة (2780-2680 قبل الميلاد)
اتخذ الملوك في عهد الأسرة الثالثة مدينة «منف» عاصمة لهم.
وفي مدة خمسة قرون تقريبا من الأسرة الثالثة إلى الثامنة كانت «منف» عاصمة المملكة. (6-1) زوسر
ومؤسس الأسرة الثالثة هو «زوسر».
وقد بنى هرم صقارة المدرج ومساحته مع ملحقاته 450 مترا × 370 مترا، ويقول عنه الدكتور أحمد بدوي: «ولو لم يكن لمصر يومئذ من مظاهر الحضارة غير عمارة الهرم المدرج وما أخرجت يد البناء فيها من روائع الفن لكفى، فهي أكبر بناء حجري عرفه تاريخ الإنسانية في ذلك الوقت.»
14
وقد صحب انتقال الحكم من «طينة» إلى منف تقدم تدريجي في الحضارة، وتحسين مطرد في أحوال البلاد طوال حكم الأسرات المنفية الذي دام حوالي خمسمائة عام.
شكل 1-1: هرم زوسر المدرج بسقارة.
بذل الملك «زوسر» جهودا موفقة لحماية البلاد من غارات البدو ممن حدثتهم أنفسهم بالتسلل من الحدود الشرقية والجنوبية لمصر؛ وأنشأ لمصر قوة حربية يعتمد عليها في صد الغارات الخارجية.
وضم إليها جزءا من النوبة.
وعني باستخراج النحاس والفيروز من سيناء. (6-2) إيمحوتب
Imhoteb : أبو الطب في مصر والعالم
وكان لزوسر وزير حكيم يدعى «إيمحوتب» عاونه على نهضة البلاد الاجتماعية والاقتصادية، وكان إيمحوتب هذا مهندسا معماريا من الطراز الأول، ونبغ في الطب وألف فيه، كما ألف في الحكمة.
وقد عرف «زوسر» قدر وزيره فكرمه بأن نقش اسمه على تماثيله، وهو تكريم لم يسبق لملك أن كرم أحدا بمثله، وكرمه المصريون بأن خلدوا اسمه، وهو أول مهندس معماري في تاريخ مصر يشيد قبرا يشبه الهرم في شكله العام،
15
وهو الذي بنى لزوسر هرمه المدرج.
وقد ذكره المؤرخ المصري مانيتون، وقال عنه إنه عاش في عهد زوسر، وإن الإغريق يعتقدون أنه شبيه باسكليبسوس إله الطب عندهم لمهارته في الطب، وأنه كان يقبل إقبالا كبيرا على التأليف.
وكان إيمحوتب فردا من أفراد الشعب، ولم تكن له صلة عائلية بالأسرات المالكة، بل ميزه نبوغه وعبقريته ونشأته الشعبية، فتبوأ مكانا رفيعا في التاريخ المصري، وهو جدير بأن يلقب بأبي الطب في مصر والعالم؛ لأنه سبق أبقراط بعدة قرون.
16
ومما قاله عنه برستد: إن الفضل في نجاح سياسة زوسر يرجع إلى حكمة ودهاء وزيره «إيمحوتب» الذي برع في الدين وفي الطب والعمارة، حتى ترك له اسما خالدا في التاريخ المصري على مدى العصور، ثم اتخذه الكتاب المصريون مثالا يحتذونه في حياتهم العلمية فصبوا مداد محابرهم تيمنا بذكره قبل البدء بأعمالهم الكتابية، وترنم الناس بأمثاله في مدى قرون عدة، وعلت منزلته وعظمت، فاعتبر في آخر التاريخ القديم إله الطب.
17
وقد ثبت في بردية إدوين سميث التي تعد أقدم رسالة علمية في الجراحة، مدى اهتمام المصريين القدماء بالطب في عصر بناة الأهرام، وكذلك علمهم بالتشريح.
18 (7) الأسرة الرابعة: بناة الأهرام (2680-2560 قبل الميلاد)
من الحق أن ندرج «زوسر» ضمن بناة الأهرام، فقد بنى هرمه المدرج كما أسلفنا.
ثم جاءت الأسرة الرابعة وكانت مدة حكمها نحو مائة سنة، نذكر هنا أهم ملوكها وهم: (7-1) سنفرو
Senefrou
هو مؤسس الأسرة الرابعة وأول ملوكها.
كان ملكا كبير الهمة، وله أعمال عمرانية عظيمة، فقد واصل استخراج النحاس والفيروز من شبه جزيرة سيناء، ووطد سلطة مصر في تلك الناحية حتى اعتبر في العصور التالية المؤسس الأكبر للنفوذ المصري بسيناء، وسمي باسمه أحد مناجم تلك الجهة.
وبعد أن مضى على وفاته ما ينيف على ألف سنة افتخر الملوك المصريون بأن مشروعاتهم بسيناء فاقت كل مشروعات عملت هناك منذ عهد الملك سنفرو، قام بتحصين حدود مصر الشرقية، وعمل على توسيع المعاملات التجارية بين مصر وشواطئ سورية ولبنان، وسار بحملة منظمة إلى بلاد النوبة وعاد منها بمغانم كثيرة، وبدأت العلاقات بين القطرين «مصر والنوبة» تأخذ مظهرا جديدا؛ إذ بدأ المصريون يرسلون منتجاتهم دون عائق إلى النوبة كما أخذ ملوك مصر يستغلون المحاجر فيها.
عني بإنشاء أسطول بحري لمصر.
وأرسل بعثة من أربعين سفينة إلى سواحل لبنان لاستيراد أخشاب الأرز من هناك، وبنى من هذه الأخشاب سفنا كثيرة استعمل بعضها في النيل وبعضها الآخر في البحر، واستخدمت هذه الأخشاب أيضا في مباني المعابد والقصور وصنع الأثاث الفاخر والتوابيت.
وفي عهد أسرة «سنفرو» أنشئت إدارة لبناء السفن كانت تشرف على تشييدها.
وقد بنى «سنفرو» هرمين له في دهشور، وهما من أقدم الأهرام المعروفة حتى الآن.
وكان ملكا عادلا محبوبا من الأهلين، ودام حكمه أربعا وعشرين سنة. (7-2) خوفو
هو أحد أبناء سنفرو
19 (خلافا لما جاء في برستد).
وقد خلد ذكره بالهرم الأكبر الذي يعرف باسمه (هرم خوفو)، والذي شيده على هضبة الجيزة.
وهو أكبر وأضخم الأهرام الموجودة في مصر، يبلغ ارتفاعه 146 مترا ونصف متر، أما قاعدته فمربعة الشكل، ويبلغ طول كل ضلع من أضلاعها نحو 230 مترا، وعدد أحجاره نحو 2300000 حجر، وزن كل منها في المتوسط 2,5 طن، أي إن مقدار وزن الهرم يبلغ نحو ستة ملايين طن.
وكان العدد الكبير من المصريين يعملون في بناء الهرم، ويشتغلون في بنائه طول مدة الفيضان، أي حين خلوهم من أعمال الزراعة في فترة فيضان النيل.
وقد كتب علماء الآثار كثيرا عن هذا الهرم وعن الأهرام الأخرى.
والهرم الأكبر هو موضع إعجاب الدنيا وحديث الناس في شتى القطار، يقصدونه كل حين لمشاهدة ضخامته وعظمته الباقية على الزمن، رغم انقضاء نحو خمسة آلاف سنة على تشييده.
وكل من يأتون إلى مصر من الأجانب سواء من العلماء أو من الأشخاص العاديين، يقصدون الهرم الأكبر والأهرام الأخرى لمشاهدتها، ويتملكهم الإعجاب بها وتروعهم عظمة من شيدوها.
شكل 1-2: خوفو، باني الهرم الأكبر.
شكل 1-3: الهرم الأكبر بالجيزة «هرم خوفو».
وحسبك أن هذه الأهرام - أهرام الجيزة - اعتبرت منذ العهد الإغريقي ضمن عجائب الدنيا السبع، أما الآن فهي البقية الباقية من هذه العجائب، وهي أعظم مجموعة أثرية، وأقدم المباني العظيمة في العالم، ومفخرة خالدة لمصر مدى التاريخ.
ومهما قيل عن الأهرام من أنها تدل على أنانية الملوك الذين شيدوها لتكون مقابر لهم واستبدادهم بالأهلين في إقامتها، فإنها ولا ريب رمز لتقدم الحضارة في ذلك العصر، ودليل خالد على ما وصل إليه المصريون من المكانة الرفيعة في العلوم والفنون، وخاصة العلوم الهندسية والرياضيات، وضبط الزوايا والأبعاد، والنحت، والنقش والتصوير، وفن العمارة وضخامة البناء وروعته.
وقد ذكر المؤرخ اليوناني «هيرودوت» حين زار مصر في القرن الخامس قبل الميلاد، أن بناء الأجزاء السفلى من الهرم الأكبر والممرات الصاعدة قد استغرق عشر سنوات، وأن بناء الهرم نفسه قد استغرق عشرين عاما. ومعنى ذلك أن تشييد الهرم بجميع أجزائه قد استغرق ثلاثين عاما، وأن عدد العمال الذين ساهموا في بنائه بلغ مائة ألف عامل كانوا يعملون في جماعات تتناوب العمل كل ثلاثة أشهر.
وقد سمع «هيرودوت» هذه الرواية من صغار الكهنة بعد مرور أكثر من ألفي سنة على الهرم.
وهي روايات يجب أن تقابل بالتحفظ والحذر، وأساسها ما تلقاه من الرواة من أن الأحجار التي بنى بها خوفو الهرم الأكبر كانت تجلب من محاجر الجهة الشرقية للنيل (محاجر طرة)، فكان العمال ينقلونها عبر النيل إلى الجيزة، فتحتاج إلى جهود مضنية لنقلها.
وقد نفى الأستاذ «سليم حسن» هذه الرواية؛ إذ أثبت أن أحجار هرم خوفو هي من أحجار الهضبة التي أقيم عليها، وقال إن هذا يثبت خطأ «هيرودوت» في زعمه أنها كانت تجلب من محاجر الجهة الشرقية من النيل، وقال أيضا إنه عثر في منطقة الأهرام على مساكن للعمال الذين كانوا يقومون بالبناء
20
وهذا يدل على أنهم كانوا يعاملون معاملة إنسانية.
وقال عن طريقة رفع الأحجار لبناء الهرم: إن العالم ظل إلى زمن قريب جدا يعتقد أن المصريين القدماء كانوا يبنون المزالق لجر الأحجار عليها، ولكن الكشوف الحديثة برهنت على أن المصريين كانوا قد وصلوا في ذلك العصر إلى استعمال «البكر» لرفع الأحجار، وأنه قد عثر في حفائر الجامعة المصرية على بكرتين: إحداهما وجدت بجوار الهرم الثاني، والأخرى عثر عليها في أحد بيوت مدينة الأهرام التي كشف عن جزء منها، وأنه يتضح من كل ذلك «أن أجدادنا المصريين كانوا قد وصلوا إلى مدى عظيم في فن البناء واستخدام قوى الطبيعة.»
21
شكل 1-4: الأهرام الثلاثة بالجيزة كما تشاهد من الجهة الجنوبية الغربية. هرم خوفو (الهرم الأكبر)، ثم هرم خفرع، ثم هرم منكاورع.
هذا ويجب ألا ننسى أن بناء الأهرام يرجع إلى العقيدة الدينية التي كان يدين بها المصريون الأقدمون في أن حياة الإنسان لا تنتهي بموته، بل إنه سيبعث بعد رحيله عن الدنيا، ويحاسب على أعماله في الآخرة.
هذه العقيدة هي التي أوحت إلى الفراعنة بناء الأهرام لتخلد فيها أرواحهم.
وهي في جملتها عقيدة صحيحة، وإذا كان الفراعنة قد خرجوا بها عن بساطتها إلى ذلك التعقيد في الفهم والتكييف، فيلزمنا ألا نحكم عليها بأفكارنا الحالية بل علينا أن نزنها بتفكير العهود القديمة التي نشأت فيها.
وعقيدة الحياة بعد الموت هي في جوهرها دليل على تقدم في الحضارة والتفكير، ولولا العقيدة في خلود الروح لما شيد أسلافنا الأقدمون هذه الآثار الضخمة التي صارت مع الزمن من مفاخر مصر الخالدة.
ومما ينفي الأنانية عن الفراعنة، ويدل على أنها لم تكن الملهمة لهم ببناء الأهرام، أننا لو فتشنا عن القصور التي بنوها لتكون سكنا لهم وموطنا لمسراتهم وعزهم، لما وجدناها تحاكي الأهرام في ضخامتها وروعتها، فلقد درست هذه القصور وعفت آثارها ولم تخلد على الزمن مثلما خلدت الأهرام.
وهذا يدلنا على أن الأثرة والأنانية لم يكن لهما دخل في بناء الأهرام، بل إن قوة العقيدة الدينية والإيمان بالحياة الأخرى كانا الباعثين لبنائها وخلودها. (7-3) خفرع
Khefhren : باني الهرم الثاني
ولما توفي خوفو خلفه على العرش ابنه ددف رع، وقد بنى له هرما في أبي رواش، وبعد وفاته خلفه أخوه خفرع، وهو ابن آخر لخوفو.
وخفرع هو باني الهرم الثاني بالجيزة في الجنوب الغربي من هرم خوفو، وقد بناه على غراره وإن كان لا يدانيه في الضخامة والارتفاع، وحافظت الدولة المصرية في عهده على تقدمها وعزها كما كانت في عهد خوفو.
شكل 1-5: خفرع، باني الهرم الثاني بالجيزة. وخلف رأسه المعبود حوروس في شكل الصقر المقدس حاميا بجناحيه رأس الملك. (7-4) منكاورع
Mycerinos : باني الهرم الثالث
وبعد وفاة خفرع أعقبه ابنه منكاورع باني الهرم الثالث.
شكل 1-6: أبو الهول.
وإلى جوار الأهرام الثلاثة، يربض أبو الهول العجيب وهو التمثال الهائل الرائع المشيد على هيئة أسد ضخم له رأس إنسان، ويرمز إلى اجتماع القوة والعقل معا.
وهو تمثال للملك خفرع باني الهرم الثاني، وفي قول آخر إنه تمثال لإله الشمس عند الغروب (آتوم)،
22
ويبلغ ارتفاعه من مسطح قاعدته حتى قمة رأسه عشرين مترا، وطوله ثلاثة وسبعون مترا ونصف ، وعرض وجهه أربعة أمتار ونصف. فهو حقا سر أو لغز من الألغاز في تاريخ مصر القديمة.
شكل 1-7: الهرمان الثاني والثالث بالجيزة، وتمثال أبي الهول.
يقول برستد عن حكم الأسرة الرابعة: «ومدة حكم الأسرة الرابعة المقدرة بمائة وخمسين سنة تمتاز بالنظام، وتوطيد الحكم واطراد التقدم والرقي، مما لم يسبق لأبناء وادي النيل أن يتمتعوا بمثله، وقد قاومت آثار ذلك العصر بمتانتها وعظمتها القرون العديدة حتى وقتنا هذا. ولا يبعد أن عهد خوفو كان أرقى عصر في عهد الأسرة الرابعة؛ لأن القطر أخذ يضمحل تدريجا في عهد خفرع، ثم في عهد منكاورع حتى عجز هذا الأخير عن القبض بقوة على ناصية الحل كما فعل سلفاه، ولم يحفظ لنا الزمن من آثار هؤلاء الملوك إلا التسعة الأهرام المشيدة بالجيزة، ولا تزال تحفظ ذكراهم إلى الآن.»
23 (8) الأسرة الخامسة (2560-2420 قبل الميلاد)
أسقط الكهنة الأسرة الرابعة وأسسوا الأسرة الخامسة، وكان لحكام الأقاليم الذين حرصوا على سلطانهم دخل في هذا التغيير، وقد عظم نفوذ الكهنة في عهد هذه الأسرة.
وكان أول ملوكها «أوسركاف»
Ouserkaf
وتلاه ملوك عديدون لم تقع في عهدهم حوادث حاسمة. (8-1) البحرية في عهد ساحورع
على أن خلفه «ساحورع» شيد لمصر أسطولا بحريا، جعلها أول دولة بحرية معروفة في التاريخ.
ويقول برستد: إنه عثر حديثا على لوح حجري بهرم هذا الملك ببوصير وجدت عليه رسوم لأربع سفن عظيمة محملة بالأسرى الفينيقيين حولهم بحارة مصريون، وتعتبر هذه النقوش أقدم رسوم بحرية وجدت حتى الآن (حوالي سنة 2750 قبل الميلاد)، وأن ساحورع أوفد أسطولا آخر إلى بلاد الصومال (بونت) وخليج عدن
24
في طلب البخور والروائح العطرة والأدهنة الجميلة الكثيرة الاستعمال عند الشرقيين.
25
والمعروف أن ساحورع هذا أول ملك أثبتت آثاره أنه مؤسس المواصلات البحرية مع الصومال رأسا.
الفصل الثاني
الثورة الاجتماعية في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد
تولت الأسرة السادسة الحكم سنة 2420، واستمرت حتى سنة 2280 قبل الميلاد . (1) بيبي الأول
وهو من الملوك النابهين الذين تولوا الحكم، وقضى فيه نحو ربع قرن. (1-1) الحملة في فلسطين وسورية
وفي عهده سارت في أوائل القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد حملة برية وبحرية إلى فلسطين وسورية.
وقاد هذه الحملة قائد قدير هو «أوني»
Uni
قائد الجيش في عهد بيبي الأول.
حارب «أوني» البدو على حدود مصر الشرقية، ثم حارب في جهة الكرمل بفلسطين الأعداء القادمين من بلاد الرافدين (دجلة والفرات).
واشترك في هذه الحرب الجيش والأسطول، فقد سار الجيش برا، وسارت الحملة البحرية محاذية سواحل فلسطين الجنوبية وأنزلت جنودها هناك، فهزموا أعداءهم وتعقبوهم حتى جبال فلسطين الشمالية.
ويعتبر هذا المكان أقصى ما وصل إليه النفوذ المصري في عهد الدولة القديمة، وامتد هذا النفوذ على الساحل الفينيقي.
ولعل هذه الحملة كانت الأولى من نوعها في العالم، اشترك فيها الجيش والأسطول معا، ودلت على كفاية المصريين من قديم الأزل في خوض الحملات فوق ظهر البحار.
شكل 2-1: بيبي الأول. (2) مرن رع
Merenra
وقد خلف بيبي الأول ابنه مرن رع وكان صبيا، ولم يطل حكمه أكثر من سبع سنوات. (3) بيبي الثاني: أطول حكم في التاريخ
بعد وفاة «مرن رع» تولى الحكم أخوه «بيبي الثاني»، وكان لم يزل صبيا مثله وتولت أمه الوصاية عليه، وحكم حوالي أربعة وتسعين عاما.
فعهده يعد أطول حكم في التاريخ.
واستمر القائد «أوني» صاحب النفوذ في الحكومة على عهد مرن رع وجزء من عهد بيبي الثاني.
ومن ملوك هذه الأسرة مرن رع الثاني، ثم الملكة نيتوكريس. (4) الرحالة حرخوف
اهتمت مصر القديمة بكشف المناطق الجنوبية في عهد الأسرة الخامسة والأسرة السادسة.
وامتاز الرحالة «حرخوف» بالكشف عن المناطق الجنوبية في النوبة والسودان في عهد الملك مرن رع، ثم في عهد بيبي الثاني.
وكان حرخوف هذا حاكما لإلفنتين (أسوان)، وقد قام بثلاث رحلات في عهد مرن رع، أما رحلته الرابعة ففي عهد الملك بيبي الثاني، وقد وصل إلى مناطق لم يكتشفها أحد من قبل واستمر في رحلاته نحو سبع سنوات.
يقول الأستاذ سليم حسن عن حرخوف إنه كان كاشفا عظيما في عصره، ويعد أول من فتح الطريق للكاشفين والرواد العظام في عصرنا للتوغل في مجاهل إفريقية، وإنه جلب الخيرات منها لمليكه «مرن رع»، وسهل سبيل التجارة بين مصر وتلك الأقطار.
1
ويقول الدكتور أحمد فخري: «قام المصريون بتلك الرحلات في القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، ليكشفوا قلب القارة الإفريقية، قبل أن يولد ستانلي ولفنجستون وغيرهما من الرحالة الحديثين بأكثر من أربعة آلاف ومائتي عام.»
2 (5) الأسرات السابعة إلى العاشرة
اضطربت الأحوال الداخلية منذ أواخر عهد بيبي الأول لضعفه واستفحال سلطة الكهنة وحكام الأقاليم، واستمر الاضطراب في عهد خلفائه، وتعاقب على العرش ملوك ضعفاء حكموا مددا وجيزة.
وزادت الحالة سوءا والجبهة الداخلية تفككا في عهد الأسرات السابعة إلى العاشرة، وانتهت الدولة القديمة بسقوط الأسرة العاشرة. (5-1) الثورة الاجتماعية الأولى
أخذت الأحوال تسوء منذ أواخر عهد الأسرة السادسة، فإن حكام الأقاليم والكهنة أنشئوا نظاما إقطاعيا، واقتطعوا كثيرا من سلطة الملك واستفحل طغيانهم، وضعفت رقابة الملك عليهم، فانحرفوا عن الحق والعدل في سيرتهم، واستبدوا بالأمر، واستغلوا السلطة لمصلحتهم أو مصالح ذويهم، وكثرت المظالم وتضاءل العدل، وانتشرت الفوضى.
فلم يقبل الشعب الهادئ الوديع الصبر على هذه المظالم طويلا، وقام منذ عدة آلاف من السنين بأول ثورة شعبية، واستمرت حالة الثورة أكثر من قرنين من الزمان.
كان هدف الثورة تحقيق العدل بين الناس ومحاربة نظام الإقطاع وفساد الحكام، وإقرار العدالة الاجتماعية، ورفع مستوى موظفي الدولة عامة إلى المكان اللائق، بحيث ينظرون إلى المواطنين نظرة عدل وإنصاف ورعاية لمصالحهم.
فالظلم وانتشار الفوضى، وفساد الحكم، كل ذلك أهم أسباب هذه الثورة.
قامت الثورة ضد الهيئة الحاكمة وضد الإقطاعيين معا؛ إذ تعاون الفريقان على إهدار مصالح الشعب.
وفي ذلك يقول الدكتور أحمد بدوي: «كان لا بد للأمور من نتيجتها الطبيعية وهي الثورة والانحلال السياسي، فالدولة المصرية كانت قد شاخت وشاخ من حولها الزمان، وسياسة البلاد كانت تسير على نهج أعوج لا يكاد يستقيم؛ لأن الحكومة كانت تأخذ من الفقراء لتملأ خزائن الأغنياء، وتشبع الأغنياء من قوت الجائعين والفقراء ، وتسعد المترفين على حساب المعوزين، وتحول بين خطوة المظلوم وصوته وسمع السلطان وبصره، وليس أصعب من وصول كلمة الحق إلى ساحة الملوك والأمراء، البطانة تتلقاها فتحجبها، والمكر يتحداها فيطمسها، ونفاق البلاط يبتلعها ويقتلها، وقليل من ملوك الدهر من يستطيع أن يصل ببصره إلى ما وراء البطانة أو يمد سمعه إلى ما وراء أستار العرش، بل قليل من ملوك الدهر من يستطيع أن يلتوي على نفاق رجال القصر أو يغلب مكر البطانة. أخذت بواكير الثورة تتراءى من كل حدب وصوب، بينما انطوى شيخ القصر على نفسه لا يكاد يعرف من أمر ذلك شيئا، وانصرف حكام الأقاليم إلى مصالحهم الذاتية، وباتوا يرقبون بعين الحذر ما تطالعهم به الأيام، وأخذ كل منهم يتربص بصاحبه الدوائر، وأخذ الدهر يدس لهم قضاءه بين ثنايا الأيام وطيات الليالي حتى دهمهم بخيله ورجاله، فحيل بينهم وبين القصر، وحيل بين القصر وبين كل سلطان، وهب الشعب بثورته الاجتماعية الطاحنة التي اندلعت نارها في البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وغادرت الأيام «منف»، وأضحى القصر عاريا من ثياب الملك، عطلا من زينة السلطان، وزال نفوذه وتعطلت حقوقه، وتعطلت معها الحقوق المدنية والدينية جميعا، وتحللت الدنيا من كل قيد، وانطلق الناس من عقالهم، وقد أخذ بعضهم يومئذ يموج في بعض، واختفى الضمير الإنساني الحي، وارتفع عن الناس برقع الحشمة فتجردوا من ثياب الوقار، وساد في البلاد قانون الفوضى - إن صح أن يكون للفوضى قانون - فنادى داعي الفوضى في الناس يغريهم بكل شيء ويبشر فيهم بدستور الثورة ومنطقها، إن صح أن يكون للثورة دستور ومنطق.»
3
وقال الدكتور أحمد فخري في هذا الصدد: «كانت هذه الثورة الاجتماعية ثورة الشعب على من ظلموه، ومهما كانت نتائجها المخربة وقت حدوثها، فإنا نحمد لها ما بعثته في الشعب المصري من آراء جديدة، أهمها الإعلاء من شأن الفرد، وأن كل إنسان مسئول عما قدمت يداه من خير أو شر، بل عن حسن نيته أو سوئها، وأنه سيحاسب وسيجازى أمام الإله الأعظم على ذلك، دون نظر إلى فقره أو غناه، ودون نظر إلى قبر يشيده أو أوقاف يتركها ليستغلها الكهنة عندما يتلون الصلوات أو يقدمون لروحه قرابين صورية يستفيدون منها دون غيرهم، عرفت مصر قيمة الفرد وعمله في هذا الوقت المبكر من تاريخ البشرية قبل أن يصل إليه غيرهم بقرون كثيرة.»
4
تمثلت هذه الثورة في الانتفاض على الهيئة الحاكمة، والخروج على تقاليد الخضوع لها، والهجوم على مخازن الحكومة ومكاتبها، وعلى قصور الإقطاعيين الذين استغلوا السلطة، فتقاسموا والحكام خيرات البلاد.
ولم يعالج هذه الثورة حاكم حازم يوقف الحكام والإقطاعيين عند حدهم ويعيد الأمن ويقر النظام ويرفع منار العدل والقانون بين الناس، وتعاقبت على البلاد الأسرات السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة، والبلاد تتردى في هوة الانحدار والتفكك والفوضى، حتى انقرضت الدولة القديمة، واستمرت البلاد نحو ثلاثة قرون في ظلام حالك. (5-2) سبعون ملكا في سبعين يوما
ويقول مانيتون عن الأسرة السابعة إن عدد ملوكها سبعون ملكا وإنهم حكموا البلاد مدى سبعين يوما.
ومعنى هذا أن الملك كان يحكم يوما واحدا، وهذا أفظع مظهر للفوضى التي عمت البلاد وقتئذ.
وقد تحقق أخيرا هدف الثورة على يد رجل برز من صفوف الشعب، واعتلى عرش الملك، وهو «أمنمحات» الأول الذي أسس الأسرة الثانية عشرة.
وجاءت أسرة «أمنمحات» من خير الأسرات التي تولت الحكم، فأنقذت البلاد من الفوضى، وضربت على أيدي حكام الأقاليم الظلمة المستبدين والإقطاعيين، وأشاعت العدل بين المواطنين، وسنت قوانين عادلة لمصلحتهم، ورفعت من مستوى الموظفين وجعلتهم خداما للشعب، هذا إلى ما قامت به من المشروعات العمرانية التي عادت على البلاد وأهلها بالخير والرفاهية.
فانتهاء الدولة القديمة، وتأسيس الأسرة الثانية عشرة في أوائل عهد الدولة الوسطى هو من نتائج تلك الثورة الشعبية.
ولم تعد مقاطعات الدولة ملكا لحكام الأقاليم السابقين، وتضاءلت العائلات الكبيرة التي كانت تتصل بالملوك بروابط القرابة أو المصاهرة، وصار حكام الأقاليم موظفين لدى الملك، فأصبحت المقاطعات قومية بعد أن كانت ملكية.
5
وفي عهد «سنوسرت الثالث» خضعت أرستقراطية الحكام والكهنة للنظام، ولم يعد هناك فارق كبير بين أبناء النبلاء وأبناء الطبقات المتواضعة ، وسادت المساواة الجميع أمام القانون، وتطلعت الطبقات الشعبية إلى المناصب الرفيعة، وكان هذا من نتائج الثورة الاجتماعية، وانتقلت إلى الشعب حقوق الطبقة الأرستقراطية، حتى الحقوق الدينية التي كانت وقفا على الكهنة الوراثيين.
ومن نتائج هذه الثورة ظهور الطبقة المتوسطة من الصناع والتجار وأرباب الحرف في المدائن والقرى، واقتداء أفرادها بالطبقة العليا، ومعظمهم من غير موظفي الحكومة؛ ولذلك سموا أنفسهم «أهل البلد»، وتغيرت معالم الحياة عما كانت عليه في عهد الدولة القديمة، وارتقت الطبقة المتوسطة من الشعب، وبعد الطبقة المتوسطة أتت طبقة العمال، وجرت العادة وقتئذ أن يرسل هؤلاء العمال إلى معاهد خاصة ليتعلموا الصناعات المتنوعة.
وقد اعترف المؤرخون الأجانب بهذه الثورة فيما كتبوه عنها، فقال عنها «موريه»
Moret : إنها ثورة اجتماعية وسياسية، وإنها استهدفت محاربة الأوضاع القائمة في أواخر عهد الأسرة السادسة.
6
وقال «جون ويلسن»
John Wilson : إن منزلة الملك نزلت إلى مستوى البشر العاديين، وكانت الفكرة المميزة للدولة الوسطى أن الملك راع يقظ يسهر ضميره للمحافظة على الأمة، وكان الاتجاه الثقافي الحديث يدعو إلى حقوق الأفراد.
7 (6) انتهاء الدولة القديمة
انقضى عهد الدولة القديمة في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد.
ومن الحق أن نذكر أنها في الجملة قد نهضت بمصر وحضارتها واحتفظت بمكانتها في العالم، ويكفينا أن نذكر ما قاله عنها مؤرخ منصف وهو العلامة برستد
Breasted
إذ يقول عنها: «وقبل الفراغ من الكلام على تاريخ الدولة القديمة، يجدر بنا أن نشيد بأعمال ملوكها العظام الذين حكموا القطر مدة ألف سنة تقريبا، والذين يرجع إليهم فضل توطيد المملكة، وجمع قوتها وتوجيه مجهوداتها نحو النافع المثمر العائد بالخير والرفاهية، ولا تزال آثار هؤلاء القوم كالمعابد والأهرام المنتشرة على طول القطر لعدة أميال تلقي في نفس من يراها الإعجاب والدهشة، وقد شيدت معظم هذه الآثار على سلسلة جبال ليبيا بحافة الصحراء الغربية، وهذه الآثار تشهد لأصحابها إلى الآن بتوقد الذهن، وعظم الجهد، والبراعة في الأعمال الآلية (الميكانيكية)، والأنظمة الداخلية، وبناء السفن لعبور البحار، وارتياد البلاد للكشف، والحق يقال: إن هؤلاء القوم هم الذين ربطوا التجارة المصرية مع البلاد الأجنبية السحيقة حتى أواسط إفريقية، وحسنوا فني الحفر والنقش، ونهضوا بفن العمارة فشيدوا العمد العظيمة الشاهقة، والمباني الضخمة ذات العمد ، وبرعوا في سياسة البلاد داخليا وخارجيا فسنوا قانونا متينا عادلا وأنجبوا رجالا متضلعين في القضاء، وقد اعتنى أهل الدولة القديمة بديانتهم كثيرا لشدة اعتقادهم أنهم في الحياة الأخرى محاسبون على أعمالهم، وهم للآن أقدم أناس معروفين اعتقدوا بالبعث بعد الموت، وأن الثواب في الآخرة على قدر الحسنات في الدنيا. وجملة القول أن أعمال هؤلاء القوم ومدنيتهم انتشرت في العالم، فأعجب بها الخلق أكثر من إعجابهم بأي شعب آخر.»
8
الفصل الثالث
الدولة الوسطى
إن الدولة الوسطى وخاصة من عهد الأسرة الثانية عشرة قد سارت بالبلاد قدما إلى الأمام، وفي عهدها خطت الحركة القومية والحضارة المصرية خطوات واسعة نحو الكمال، وفي ذلك يقول المؤرخ «برستد»: «بقي علينا الآن أن نتفقد الحوادث لنعرف إذا كان اضمحلال الدولة القديمة وانفراط عقدها استمر حتى أفسد النخوة القومية، أو أن هذا الانقلاب كان حادثا عرضيا فقط، عالجته أذهان وأيدي رجال مصر العاملين، فأرجعوا المياه إلى مجاريها وساعدوا بلدهم على التقدم والرقي حتى أدهشوا العالم.»
1 (1) الأسرة الحادية عشرة (سنة 2134-1991 قبل الميلاد): بداية الدولة الوسطى
هي أسرة من طيبة، وقد اتخذتها عاصمة للدولة.
ومؤسس هذه الأسرة هو «أنتف»
Antef
وكان ملكا حازما عاملا على إنهاض البلاد، ثم أعقبه ابنه «أنتف الثاني» ثم الثالث. (1-1) منتوحتب الثاني وإعادة الوحدة القومية
وتلاه ابنه منتوحتب الأول
Mentoheteb
فمنتوحتب الثاني.
وهو من أهم ملوك هذه الأسرة، وقد بقي في الحكم نحو نصف قرن، وعمل على رأب الصدع وتثبيت سلطة العرش، وقد نجح في إعادة الوحدة القومية بعدما اعتراها من التفكك والتخاذل وسمي موحد الأرضين، وكان انتصاره على معارضيه وتوحيد مصر جميعها تحت سلطانه بداية مرحلة جديدة في تاريخ مصر القديم، وكانت مدة ملكه عهد استقرار وطمأنينة ونهضة.
وتلاه منتوحتب الثالث، ثم منتوحتب الرابع فالخامس،
2
وهو آخر ملوك هذه الأسرة، وكان وزيره «أمنمحات» الذي أسس الأسرة الثانية عشرة.
وأهم عمل للأسرة الحادية عشرة أنها عملت على توحيد البلاد ثانية، بعد أن كانت مفككة الأوصال.
ولكنها لم تصل إلى هذا التوحيد كاملا إذ كان حكام الأقاليم ينازعونها السلطة، وظلت الأمور غير مستقرة، ولعل عهدها كان تمهيدا للأسرة الثانية عشرة التي استقرت في عهدها إعادة الوحدة القومية. (2) الأسرة الثانية عشرة: أسرة أمنمحات (سنة 1991-1778 قبل الميلاد)
أسرة أمنمحات هي من أعظم الأسرات في تاريخ مصر القديمة ومن أجلها شأنا.
أسسها أمنمحات الأول، وكان كما أسلفنا رجلا عصاميا برز من صفوف الشعب، وأوصلته مواهبه وحكمته إلى منصب الوزارة في عهد منتوحتب الخامس، وتولى العرش بعد وفاة هذا الأخير.
وتمتاز أسرة أمنمحات عامة بأنها نزلت قليلا عن السلطة القدسية التي كانت لملوك الدولة القديمة.
وتقربت إلى الشعب بإقامتها منار العدل، وبالعديد من الإصلاحات والأعمال الاقتصادية والعمرانية التي زادت من رخاء الشعب، وتجلت هذه الناحية في تاريخ أمنمحات الأول والثاني والثالث.
وميزة أخرى لهذه الأسرة، وهي أنها قضت على حكم الإقطاع في الأقاليم وجعلت ولاتها عمالا خاضعين لسلطة الملك بعد أن كانوا منذ أواخر عهد الدولة القديمة شبه ملوك مستقلين.
وفي عهد أسرة أمنمحات - أي في مدى مائتي عام تقريبا - تقدمت البلاد تقدما عظيما في شتى النواحي.
ويعرف هذا العصر عند الأثريين بعصر «الآداب» لأنها بلغت فيه أعظم شأوه، فالشعر والنثر بلغا الذروة من حيث المتانة والجودة، وارتقى فن الحفر والعمارة بدرجة تسترعي النظر، وفاقت المصنوعات الفنية مثيلاتها في العصور الغابرة.
وزادت خيرات البلاد كثيرا لعناية الحكومة بشئون ضبط النيل وإقامتها مشروعات الري في الفيوم، واستصلاحها أقاليم شاسعة من الأراضي الزراعية، مما عاد على البلاد بالخير العميم.
وكانت مصر في عهدها أقوى دولة في الشرق الأدنى. (2-1) أمنمحات الأول
كانت أمه من أصل نوبي، وكان ملكا عادلا خيرا، حكيما حازما، أعاد الأمن والنظام والطمأنينة إلى البلاد ونظم أمورها الداخلية، وتحبب إلى الشعب بأعماله العمرانية، فاهتم بإقليم الفيوم لتنظيم الري والاستفادة من بحيرة موريس (بحيرة قارون)، وإن كان الفضل في تنفيذ مشروعات الري في الفيوم يرجع إلى أمنمحات الثالث.
وبذل همته في استغلال المناجم والمحاجر، وتسهيل وسائل التجارة، ووضع حد لغارات البدو على الحدود الشرقية والحدود الغربية.
وبنى سلسلة من التحصينات في كلتيهما، ونقل عاصمة البلاد إلى مقربة من منف، ووجه عنايته إلى بلاد النوبة وعمل على ضمها إلى مصر، وأخضع حكام الأقاليم وأخذهم بالحزم والحكمة فأبقى منهم أكثرهم ولاء له واتباعا لأوامره، فتمكن بهذه السياسة الرشيدة من جعلهم معاونين له ومساعدين، ولما تقدمت به السن أشرك معه في إدارة شئون الدولة ابنه «سنوسرت»، وظل يحكم البلاد نحو ثلاثين عاما.
قال الدكتور أحمد بدوي في صدد سيرته: «ولما تقدمت السن بالرجل، وكان قد أمضى على عرش البلاد قرابة عشرين عاما، بدأ يحس بحاجته الملحة إلى معين، فأشرك معه في إدارة البلاد بكر أولاده الأمير سنوسرت (سنوسرت الأول فيما بعد) وأسند إليه إمارة الجيش، واستطاع بذلك أن يؤمن سلطان القصر وأن يصل ماضيه بحاضره، ثم وفق في استئناف جهاده في سبيل تطهير البلاد وإضعاف شوكة الحكام من أمراء الأقاليم الذين كانوا يبذلون غاية الجهد في الدفاع عن استقلال أقاليمهم والمحافظة على سلطانهم، والواقع أن تلك الخطوة قد أعانت الرجل على التدخل في شئون أولئك الأمراء كلما وجد إلى ذلك سبيلا، وكان من نتيجة ذلك كله أن آل إلى القصر حق تولية الموظفين الذين يديرون شئون الأقاليم وحق عزلهم، ولم يكن ذلك قبل أيامه من حق الملوك، وبذلك استطاع أمنمحات أن يسترد ما كان للقصر من سلطان مفقود، ولم يكتف أمنمحات بتلك الخطوة في سبيل تأييد العرش وتنظيم شئون الحكم، وإنما جعل على رأس الإدارة وزيرا شد به أزره، وأشركه في أمره، كي يسهل عليه تسيير الأمور في سبيل سهلة لا عسر فيها ولا توقف، وليس من شك في أن ذلك النظام قد أراح البلاد من تلك الفوضى التي غمرتها أيام الإقطاع فأتعبت حكامها ودفعتهم إلى الخصام والحرب، وأتعبت من ورائهم ذلك الشعب المسكين فأشقته وأضنته وكلفته الشطط وأرهقته من أمره عسرا. بمثل هذه الخطوات الحازمة التي قدمنا، وضع أمنمحات حجر الأساس في بناء تلك النهضة الجديدة، فمهد لخلفائه من بعده سبيل السير بها إلى أبعد غايات السمو، وسجلها لتاريخ مصر في صحائف من ذهب. على أن أعمال الرجل لم تقف عند حد ما ذكرنا من إصلاح زراعي وإداري، وإنما الراجح أنها أكثر من ذلك، فقد نظر الرجل إلى واحة الفيوم من وراء قصره وأخذ يفكر في استغلالها، وإلى أيامه يعزو بعض المؤرخين أول تفكير في إصلاح تلك البقعة من الأرض؛ إذ كان هو أول من فكر في إنشاء ذلك الخزان الذي تم على عهد أمنمحات الثالث وسماه المؤرخون في عصر اليونان «بحيرة موريس».»
3
وقد توفي أمنمحات الأول سنة 1961ق.م. (أ) خلفاء أمنمحات الأول: سنوسرت الأول
Senousret
هو ابن أمنمحات الأول، وفي عهده توسعت مصر في بلاد النوبة.
شكل 3-1: سنوسرت الأول، من أسرة أمنمحات (الأسرة الثانية عشرة) ومشيد مسلة عين شمس.
وعني عناية كبيرة باستغلال المناجم في الصحراء يستخرجون منها الذهب والنحاس، ويستخرجون من محاجر النوبة الأحجار الممتازة.
وكان ملكا حازما يحب العدل، وإداريا يقظا، يراقب رجاله مراقبة شديدة يضمن بها استقامتهم ورعايتهم للصالح العام.
كتب «أميني» أحد رجاله يصف مسلكه في حكم مقاطعة الغزال، ويمتدح العدالة الاجتماعية التي كان ينشدها الناس وعلى رأسهم سنوسرت الأول قائلا: إني لم أسئ معاملة بنت أي رجل ولم أظلم أية أرملة، ولا يوجد فلاح احتقرته ولا راع أقصيته، ولا رئيس عمال قد سخرت عماله، ولا يوجد بائس في بلدي ولا جائع في عهدي، وعند حلول سني القحط كنت أحرث كل حقول مقاطعة الغزال إلى حدودها الجنوبية والشمالية، وبذلك حافظت على حياة أهلها، مقدما لهم الطعام حتى لم يبق فيها جائع، وأغدقت على الأرملة والمتزوجة الخيرات على السواء، ولم أميز العظيم على الصغير في كل ما أعطيت، وبعد ذلك كان يأتي نيل يحمل الحبوب وكل الأشياء، ومع ذلك فإني لم أحصل المتأخر على الحقول.
4
ولا شك أن هذه التصريحات تعبر عن المثل الأعلى في الحكم والاستمساك بالعدالة الاجتماعية ورعاية الفقراء والحدب عليهم، ومهما قيل عنها من المبالغة في الوصف والإطناب في محامد أميني، فإنها تدل على أن مثل هذا التقرير يقيد في السجلات العامة ويطلع عليه الملك، فواضعه وكاتبه قد اختار الصفات التي ترتاح إليها نفس الملك العادل وتطمئن إليها نفوس المواطنين.
جامعة عين شمس
كانت مدينة «أون» - عين شمس - وقتا ما مدينة العلم والنور، كانت عاصمة البلاد الفكرية والدينية.
جاءها أفلاطون لينهل من علومها وفلسفتها، وينقل من علومها.
ويقول المؤرخ بتلر: إن استرابون لما زار مصر دله الناس على المواضع التي كان أفلاطون يتلقى فيها العلم من قبل.
5
وقد سماها الدكتور عبد المنعم أبو بكر «جامعة هليوبوليس».
6
وكانت هذه المدرسة الجامعة أشهر مدارس مصر القديمة كمدرسة منف ومدرسة طيبة.
مسلة عين شمس
ومن أعمال هذا الملك عدا إنشاء جامعة عين شمس إقامته مسلة عين شمس المشهورة ب «المطرية» والباقية إلى الآن، ويبلغ ارتفاعها 66 قدما، وهي قطعة واحدة من الجرانيت الأحمر، وقد أقامها في مدخل المعبد والمدرسة الجامعة اللذين بناهما في عين شمس (التي يسميها اليونانيون هليوبوليس)، وهي أقدم مسلة قائمة في مكانها الأصلي.
7
وقضى سنوسرت في الحكم نحو أربعة وأربعين عاما، وهو من أعظم ملوك مصر.
شكل 3-2: مسلة سنوسرت الأول بعين شمس. (2-2) أمنمحات الثاني
هو ابن سنوسرت الأول، وكانت أيامه أيام هدوء وطمأنينة، وقد أرسل البعوث الاقتصادية إلى سيناء والنوبة في مناطق التعدين وإلى الصومال (بلاد بونت) للتجارة، وكان الوصول إلى هذه البلاد أمرا شاقا عسيرا في ذلك العصر لبعد المسافات بينها وبين مصر، وهذا يدلنا على الهمة ومضاء العزيمة في النهوض باقتصاديات البلاد. (2-3) سنوسرت الثاني
لم يزد حكمه على تسعة أعوام، وامتاز عهده بحسن العلاقات بين مصر والأقاليم الآسيوية. (2-4) سنوسرت الثالث
8
هو الفاتح الكبير، زادت مدة حكمه على ثمانية وثلاثين عاما، وامتاز عهده بقضائه التام على نفوذ حكام الأقاليم وعلى نظام الإقطاع، ثم بأعماله الحربية في النوبة وفي فلسطين وسورية.
شكل 3-3: سنوسرت الثالث.
وقد عمل منذ توليه الملك على ضم النوبة نهائيا إلى مصر، فشق لأسطوله طريقا بين صخور الشلال الأول، وأنشأ مهندسوه هذا الطريق المائي في أصعب مناطق الشلال الجرانيتية لمسافة مائتين وستين قدما بعرض أربعة وثلاثين قدما وعمق ستة وعشرين قدما، وحمل على النوبة عدة حملات وطدت فيها السلطة المصرية.
وشيد حصنين متقابلين في آخر الحدود الجنوبية للدولة على شاطئ النيل، أحدهما في «سمنة» والآخر في «قمة» (انظر موقعهما على الخريطة المنشورة شكل
6-2 ).
يقول المؤرخ برستد: «ولا تزال آثار هذين الحصنين باقية للآن تشهد لمصر في تلك الأوقات بالبراعة الحربية والكفاية في اختيار مواقع الدفاع الحصينة، والمقدرة على تشييد الحصون المنيعة.»
9
وعلى الحدود الجنوبية (في سمنة) نصب سنوسرت الثالث لوحته المشهورة التي يتحدث فيها إلى المصريين عن الكفاح الوطني ويحثهم عليه، قال في هذا الصدد: «ولقد جعلت تخوم بلادي أبعد مما وصل إليه أجدادي وزدت في مساحتها على ما ورثته، وإني ملك يقول وينفذ، وما يختلج في فؤادي تفعله يدي، وإني طموح إلى السيطرة وقوي لأحرز الفوز، ولست بالرجل الذي يرضى بالتقاعس عندما يعتدى عليه، أهاجم من يهاجمني حسبما تقتضيه الأحوال فإن الرجل الذي يركن إلى الدعة بعد الهجوم عليه يقوي قلب العدو، والشجاعة هي مضاء العزيمة، والجبن هو التخاذل، وإن من يرتد وهو على الحدود جبان حقا.»
10 (أ) قناة سنوسرت الثالث التي تصل النيل بالبحر الأحمر
يرجع إلى سنوسرت الثالث عمل من أجل الأعمال العمرانية، وهو وصل النيل بالبحر الأحمر بواسطة قناة مائية تيسر المواصلات التجارية.
وهذه القناة قد أعاد حفرها الملك «نيخاو» الثاني، ثم الإمبراطور الروماني تراجان.
وردمت بعد ذلك إلى أن أعاد حفرها عمرو بن العاص بأمر الخليفة عمر بن الخطاب، وسميت «خليج أمير المؤمنين».
ففي عهد سنوسرت الثالث اتصل النيل لأول مرة في التاريخ بالبحر الأحمر، وعرفت هذه القناة في التاريخ بترعة سيزوستريس، وهو الاسم الذي أطلقه الإغريق على سنوسرت، أو ترعة الفراعنة.
وكانت هذه القناة تبدأ عند ضواحي بوبسطة، وتأخذ مياهها من فرع النيل التانيسي (نسبة إلى مدينة تانيس وهي صان الحجر الحالية)، وتصل إلى البحيرات المرة ثم إلى خليج السويس.
ويقول موريه:
11
إن هذه القناة أنشئت في عهد سنوسرت الثالث، وقد حفرها في شرق الدلتا، واتصل النيل بواسطتها بخليج السويس عن طريق وادي الطميلات والبحيرات المرة، وتعد أقدم طريق مائي يصل النيل بالبحر الأحمر، وإن هذه أول تجربة لوصل البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر بواسطة النيل. (ب) مصر والبلاد الآسيوية
وفي عهد سنوسرت الثالث غزا المصريون الشام، وقد اصطحب قائده «سبك خو»
Sebek Khu
في هذا الغزو حيث هزم الآسيويين، ومن يومئذ وصلت سلطة مصر إلى هذه الأصقاع، ومارست السيادة على الساحل الفينيقي وعلى فلسطين وقسم كبير من سورية.
وسنوسرت الثالث يشبه في مواهبه الحربية «تحوتمس الثالث» الذي سيرد الكلام عنه في الفصل السادس. (2-5) أمنمحات الثالث
هو ابن سنوسرت الثالث وأعظم ملوك الأسرة، ومن أعظم الملوك في تاريخ مصر القديمة.
ومن أعماله الهامة مشروعات الري العظيمة التي نفذها، والتي عادت على البلاد بالرخاء والرفاهية.
كان محبا لصالح الشعب بمختلف طبقاته، ولما تولى الملك وسع نطاق المناجم في سيناء لاستخراج كنوزها، وذلل عقبات كئودا كان يشكو منها العمال هناك وأهمها أمور سكناهم، فقد أسس لهم بيوتا ثابتة بدل المساكن المؤقتة التي كانوا يأوون إليها بحيث لا تبقى أكثر من بضعة أشهر.
وانصرفت جهوده إلى مختلف نواحي الإنشاء والتعمير، فأرسل عدة بعثات إلى سيناء لاستخراج المعادن منها.
شكل 3-4: أمنمحات الثالث، صاحب مشروعات العمران الجليلة. (أ) أعمال الري والعمران
كان أمنمحات الثالث أكثر ملوك مصر اهتماما بشئون الري وضبط مياه النيل وخاصة مشروعات الفيوم.
وقد بدأ التفكير في هذه المشروعات في عهد أمنمحات الأول، ولكن تنفيذها كان على يد أمنمحات الثالث.
وأنشأ مقياسا للنيل في «سمنة» بالنوبة عند الشلال الثاني، لتسجيل ارتفاع النيل وليطمئن على حالة الفيضان، وكانت أنباء مقاسات هذا المقياس ترسل لموظفي مكتب الوزير بالوجه البحري، وكانوا يقدرون كمية الحبوب التي يمكن إنتاجها على ضوء هذه البيانات في السنة المقبلة. (ب) خزان بحيرة موريس
وأنشأ سدا للمياه ذا فتحات على بحيرة موريس الكائنة بالجزء الشمالي الغربي لإقليم الفيوم، لينتفع بالبحيرة كخزان لحماية البلاد من الفيضانات العالية، ولتؤخذ منها المياه لتحسين الملاحة ، ولري أراضي الوجه البحري، والاستفادة منها وقت التحاريق (انظر الخريطتين شكل
3-5
وشكل
3-6 ).
وهذه الفكرة شبيهة بالفكرة التي أدت إلى إنشاء خزان أسوان في العصر الحديث.
وتفصيل ذلك أن مياه النيل كانت تتدفق في بحيرة «موريس» قرابة ستة أشهر في العام.
وكان بحر يوسف كفرع من فروع النيل القديمة يصب فيها.
وكانت توجد فتحة بسلسلة جبال ليبيا بجهة الفيوم، تصل النيل بإقليم الفيوم المنخفض عن سطح البحر، وتسمى هذه الفتحة «ممر اللاهون».
وقبل حكم الأسرات الملكية كان فيضان النيل يغمر إقليم الفيوم محولا إياه إلى بحيرة كبيرة.
شكل 3-5: بحيرة موريس القديمة. مقتبسة من كتاب «بحيرة موريس واللاهون»، للعالم المهندس علي شافعي، مفتش عام ري الصحارى سابقا.
فلما جاء ملوك الأسرة الثانية عشرة فطنوا إلى تخزين كمية عظيمة من المياه في تلك البحيرة، وتصريفها وقت التحاريق.
فشيدوا على الفتحة سالفة الذكر سدا عظيما مزودا بفتحات لخزن المياه في بحيرة موريس، تاركين في الوقت نفسه مساحة كبيرة من الأرض للزراعة.
وقد بدأ الملوك الأول من الأسرة الثانية عشرة في تصميم هذا المشروع، ولكن الفضل الأكبر في تنفيذه يرجع إلى أمنمحات الثالث الذي نظم السد العظيم، ووفر مياه الري لأراضي الوجه البحري.
شكل 3-6: موقع خزان بحيرة موريس. كما رسمه العالم المهندس علي شافعي في كتابه «بحيرة موريس واللاهون». وترى في الرسم هرم أمنمحات الثالث وقصر اللابيرنت.
يقول السير «وليم ويلككس» الذي كان وقتا ما مديرا عاما للخزانات بمصر في محاضرة له ألقاها سنة 1904م عن بحيرة موريس: «إنه كان يوجد في زمن الملك «مينا» اتصال بين النيل والمكان الذي فيه هذه البحيرة، إلا أنه لم يوسع الترعة الموصلة بين النيل والبحيرة إلا الملك أمنمحات الثالث الذي جعل البحيرة التي كانت لا قيمة لها في عصر الملك مينا بحرا خضما واقعا في وسط الأرض يحفظها من غوائل الفيضانات العالية، ولعمري لقد كان أولئك الفراعنة القدماء جبابرة في علم الري، كما كانوا حكماء وذوي جراءة وإقدام.»
12
وقال: «إنه كانت هناك قناطر موازنة قائمة عند مدخل ومخرج بحيرة موريس في الممر الذي يوصل البحيرة بنهر النيل، فالقنطرة الأولى واقعة عن جسر اللاهون الحالي، والثانية عبارة عن ترعة متسعة منحدرة من الصخر المنحوت بمنسوب موافق لمرور مياه الفيضانات العالية، حيث يوجد الآن بحر يوسف الحالي، وكان في نهايتها سد ضخم قائم على رأس وادي «البطس» الضيق، وكان هذا السد يزال في أيام الفيضانات العالية الخطيرة، وبجوار قنطرة الموازنة الثانية قرية «هوارة المقطع» الحالية أو «هابوار» القديمة.»
13
وقال في موضع آخر: «ولعمر الحق إن الأسرات الملكية الفرعونية التي جاهدت في سبيل حماية البلاد من عدويها اللدودين «الشرق والفيضان»، وكفلت سعادة رعاياها في تلك الأزمان لجديرة بالثناء العاطر والذكر المجيد.»
ويقول المؤرخ برستد: «إن الزائر لمنطقة هذا السد العظيم يقدر جلال المجهود الإنساني الذي رفع من شأن الأراضي المنخفضة التي غمرتها المياه قديما.»
14
ويقول «هيرودوت» الذي زار مصر حوالي سنة 445 قبل الميلاد في عهد الاحتلال الفارسي: إن فيضان النيل كان يغمر تلك البحيرة العظيمة عن طريق الفتحة الموجودة بجبال ليبيا، وإن المصريين كانوا يروون أرضهم زمن التحاريق من مياه هذه البحيرة الواسعة.
وشاهد «استرابون» محال مراقبة المياه الداخلة والخارجة من إقليم البحيرة المذكورة. (ج) قصر اللابيرنت
وأنشأ أمنمحات الثالث في الجهة البحرية للفتحة الموصلة لأرض الفيوم قصرا ضخما يبلغ طوله حوالي ألف قدم، وعرضه ثمانمائة قدم، اتخذه معبدا دينيا ومقرا إداريا للحكومة، وحوى نحو ثلاثة آلاف غرفة، وفي هذا القصر كانت تجتمع هيئة الحكومة أحيانا، وقد بقيت آثاره واضحة حتى وصفه «استرابون» الذي شاهده، وأطلق على هذا القصر في العهد الروماني اسم «لابيرنتا»
Labyrinth
أي (التيه) لكثرة ما حواه من غرف وأبهاء وممرات.
وقد شاهد «هيرودوت» هذا القصر وقال عنه: إنه يفوق الوصف وإن عمارته منقطعة النظير، ولا يفضل عليه عمارة الهرم الأكبر.
وظل أمنمحات الثالث على العرش قرابة خمسين عاما، كانت من خير السنين في تاريخ مصر القديمة. (2-6) أمنمحات الرابع
وقد خلفه على العرش ابنه أمنمحات الرابع، ولم يكن على غرار أسلافه في الهمة والكفاية، وحكم نحو تسع سنوات. (2-7) الملكة سبك نفرو
وكان آخر ملوك هذه الأسرة الملكة «سبك نفرو» ابنة أمنمحات الثالث، وقد حكمت نحو ثلاثة أعوام، ثم انقطع نسل هذه الأسرة، وهوى نجمها. (3) الأسرتان الثالثة عشرة والرابعة عشرة
بعد أن انتهى حكم الأسرة الثانية عشرة خلفتها الأسرة الثالثة عشرة، وكانت عاصمة ملكها «منف».
وفي عهدها ضعفت الجبهة الداخلية لتنازع الطامعين في الحكم.
وتدهورت الحالة الاقتصادية في البلاد.
فبعد أن كان نظام الري ينفذ في أنحائها تحت إشراف الملك، انعدم نظامه واضطربت شئونه، فقلت الحاصلات والمصنوعات، ثم عمد حكام الأقاليم إلى استعمال الشدة والظلم مع المواطنين. ففرضوا عليهم الضرائب والإتاوات الباهظة وأثقلوا كاهلهم، وجاءت هذه الأحداث هادمة لنهضة البلاد ورخائها اللذين كانا مبعث عناية أسرة أمنمحات في مدى مائتي سنة تقريبا.
وليس معروفا على وجه التحقيق كيف تبوأت الأسرة الثالثة عشرة عرش مصر، وقد يكون للضعف الذي أصاب جبهتها الداخلية دخل في قيامها. (4) الأسرة الرابعة عشرة
وأعقبتها الأسرة الرابعة عشرة، وكلتا الأسرتين تخاذلت أمام الغزو الهكسوسي في القرن الثامن عشر قبل الميلاد.
الفصل الرابع
ثورة الشعب على الهكسوس وإجلاؤهم عن مصر سنة 1570 قبل الميلاد
رزئت البلاد في القرن الثامن عشر قبل الميلاد بالغزو الهكسوسي.
وقع هذا الغزو حوالي سنة 1730 قبل الميلاد في عهد الأسرة الثالثة عشرة.
1
والهكسوس أو الرعاة قوم من قبائل مختلفة لا تربطهم رابطة، يرجع أصلهم إلى أواسط آسيا، وقد انحدروا غربا يقصدون النهب والسلب أو الاستعمار والغصب، فنزحوا إلى بلاد الرافدين، ثم استقروا وقتا ما في سورية ولبنان وفلسطين وحكموها دون أن يكونوا من أهلها، ثم حدثتهم أنفسهم بأن يضموا إلى البلاد التي غزوها بلادا أخرى طمعا في خيراتها وهي مصر.
ولقد كانت حالة مصر الداخلية في عهد الأسرة الثالثة عشرة مغرية للهكسوس بأن يهاجموها ويغزوها، فالاضطراب كان يسودها في عهد هذه الأسرة، والجبهة الداخلية مفككة متخاذلة، والنزاع على السلطة يفرق بين أبناء الوطن الواحد، والحالة الاقتصادية والاجتماعية في تدهور.
فمصر كانت تمر بفترة انحلال وضعف قومي يسهل على الأجنبي المغير أن ينال منها.
أضف إلى ذلك أن الهكسوس كانوا يستخدمون في هجومهم سلاحا جديدا بالنسبة لذلك العصر، وهو سلاح العربات التي تجرها الخيل في ساحة الوغى، ولم يكن هذا السلاح مألوفا ولا معروفا وقتئذ لدى المصريين القدماء، فكان تميزا للهكسوس في نضالهم ضد مصر.
وليس في المراجع القديمة ما يدل على وقوع معارك حاسمة بين المصريين والهكسوس، بل يبدو مما كتبه المؤرخ المصري «مانيتون» أن الغزو كان مفاجأة لمصر، فهو يقول في الحديث عنه: «وفي عهد الملك توتيمايوس
Toutimaius
لا أدري لماذا أرسل الله في عهده ريحا عاكستنا، فقدم بلادنا أناس من الشرق محتقرون مهينون فأغاروا عليها وأخضعوها بسهولة ومن غير قتال، وهذا أمر بعيد الاحتمال ولم يكن في الحسبان، فإن الأغراب انقضوا على الدلتا وانتشروا في أنحائها انتشار الجراد، وما لبث أولئك الرعاة أن اختاروا سلاطيس
Slatis
أحد رؤسائهم فولوه ملكا عليهم وألزموا الأمراء الوطنيين الاعتراف به والخضوع لسلطانه.»
فهذا الوصف يدل على أنه لم يكن هناك معارك جدية أدت إلى غلبة الهكسوس، بل كان غزوا فجائيا نكبت به البلاد على حين غرة، وكان تخاذل الجبهة الداخلية أول الأسباب لوقوعه.
تخاذلت الأسرة الثالثة عشرة ثم الرابعة عشرة أمام الهكسوس، فحكموا شرق الدلتا حكما مباشرا وعاثوا فيها فسادا، وكانوا قوما مخربين، فعصفوا بكل مظاهر الحضارة المصرية واضطهدوا الأهلين.
يقول موريه
Moret : إن هذه أول مرة منذ عهد الملك مينا، استهدفت فيها مصر لغزوة أجنبية طويلة المدى.
وبقيت الأسرة الرابعة عشرة تحكم غربي الدلتا موالية للاستعمار، أما أمراء الوجه القبلي فقد احتفظوا بشبه استقلال ذاتي مع دفع الجزية للهكسوس، وهذا معناه أن الهكسوس كانوا يحكمون شرقي الدلتا حكما مباشرا، وكانت لهم السيادة على غربيها وجزء من مصر الوسطى، أما الوجه القبلي فكان له شبه استقلال ذاتي ولم يستطع الهكسوس إخضاعه لحكمهم المباشر.
ولم يطمئن الهكسوس يوما على سيطرتهم ونفوذهم في مصر؛ ولذلك اتخذوا عاصمتهم في «أواريس»، وهي بلدة تقع في الشمال الشرقي من الدلتا، اختاروها لكي لا يحاط بهم إذا تغلغلوا في الدلتا، أو الوجه القبلي وليكونوا على اتصال بمعاقلهم في فلسطين.
وليس معروفا على وجه اليقين موقع «أواريس» هذه، واختلف الأثريون في تحديدها، فبعضهم كان يظن أنها «هوارة» بالفيوم ولكن هذا الرأي قد استبعد استبعادا تاما لوضوح خطئه، وقال البعض إنها «صان الحجر» - تانيس - في الشمال الشرقي من الدلتا، وقال آخرون: إنها في المكان الذي أنشئت فيه «بر رعمسيس» أي جنوبي بيلوز (الفرما).
2
وقع الغزو الهكسوسي حوالي سنة 1730 قبل الميلاد كما أسلفناه، وتحررت منه البلاد حوالي سنة 1570ق.م.
وهذان التاريخان هما أرجح الآراء عن مدة بقاء الهكسوس في مصر إلى طردهم منها؛ أي أن احتلالهم دام قرابة قرن ونصف قرن من الزمان. (1) الغزو الهكسوسي والاحتلال الإنجليزي ومدة كليهما
ولا تهولنك هذه المدة ولا تجعلها موضع الدهشة والاستغراب لطولها، فإذا عقدنا مقارنة بين احتلال الهكسوس في العصر القديم، واحتلال الإنجليز مصر في العصر الحديث، نجد أن الاحتلال الإنجليزي بدأ سنة 1882 ميلادية ولم ينته إلا سنة 1956م، أي إنه بقي أربعا وسبعين عاما جاثما على صدر البلاد، في الوقت الذي ارتقى الشعور الوطني والوعي القومي في مصر الحديثة، فلا تلام مصر القديمة على بقاء الاحتلال الهكسوسي فيها ضعف هذه المدة، فالأمر كما ترى قريب من قريب.
على أنه في كلا الاحتلالين كان ولاء الأسرة الحاكمة للاحتلال والاستعمار الأجنبي هو السبب الجوهري لوقوعه ولبقائه ردحا طويلا من الزمن، والناس على دين ملوكهم أو زعمائهم.
ويبدو حسن استعداد المصريين لكفاح الاستعمار أنه لم تكد حرب التحرير تبدأ في «طيبة» حتى لبى الشعب نداء «سقنن رع» ملك طيبة المجاهد.
وتملكت المواطنين الروح القومية الوثابة، وانضووا تحت علم الثورة حتى جلا المستعمر عن البلاد سنة 1570 قبل الميلاد.
تعاقبت على البلاد الأسرات الرابعة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة، ولم تبدأ حرب الاستقلال إلا على يد الأسرة السابعة عشرة.
ومن المحقق أن ملوك الأسرتين الخامسة عشرة والسادسة عشرة كانوا من صميم الهكسوس.
فلا يصح إحصاؤهم ضمن الأسرات المصرية، ومن أهم ملوكهم «خيان»، وآخر ملوكهم «أبو فيس».
وبقي الأمراء الوطنيون في مناطقهم شبه مستقلين يدفعون الجزية للهكسوس، ثم تزعمت طيبة حركة التحرير.
بدأت حرب التحرير على يد «سقنن رع» ملك طيبة من ملوك الأسرة السابعة عشرة، وكان أبو فيس الملك الهكسوسي يتحرش بسقنن رع ويتحداه ويريد إذلاله، ولكن سقنن رع سارع إلى إعداد العدة لمحاربة المحتل الغاصب وأعلن الحرب على الهكسوس، فحاربهم بمعاونة الشعب في كفاحه.
وما زال «سقنن رع» يحارب الهكسوس حتى سقط شهيدا في ميدان الجهاد.
وبعد مقتله حمل الراية من بعده ابنه «كامس»
Kames
فحاربهم واستولى على المدن الواقعة بين الأشمونيين وأطفيح.
على أنه مات هو أيضا في ميدان الكفاح، فخلفه أخوه «أحمس»
Ahmes
الذي ثابر على حرب الهكسوس، واستمر يحاربهم في الصعيد وفي الدلتا حربا لا هوادة فيها.
واستخدم المصريون السلاح الذي حاربهم به الهكسوس من قبل، سلاح العربات التي تجرها الخيل، كما تذرعوا بالشجاعة والصبر والإيمان.
فما زالوا يجاهدون الهكسوس حتى ارتدوا إلى «أواريس» التي اتخذوها من قبل عاصمة لهم كما أسلفنا، فحاصرهم فيها المصريون وحملوا عليهم فيها ثلاث حملات، حتى استسلمت سنة 1570 قبل الميلاد.
كانت حرب التحرير ضد الهكسوس حربا ضروسا، تجلت فيها بطولات كتائب التحرير المصرية، سجل أحد الضباط الشبان «أحمس بن أبانا» على جدران مقبرته نصوصا، قال فيها: «أمضيت صدر شبابي في مدينة الكاب، وكان أبي ضابطا في جيش الملك سقنن رع، ولما توفي أبي دخلت الجندية وأصبحت ضابطا على سفينة من سفن الملك في عهد أحمس، وكنت شابا لم أتزوج بعد، فلما تزوجت وصارت لي أسرة نقلت إلى أسطول الشمال تقديرا لشجاعتي وإقدامي.» ثم يقول إنه نقل من البحرية إلى الجيش وأنه تولى قيادة الحرس الملكي، وأنه كان يتبع الملك «أحمس» في سيره حينما أقلته عربته، وأشار إلى أنه أظهر بسالة رائعة في القتال، وقد كافأه الملك أكثر من مرة بالذهب، ورقاه إلى قيادة سفينة كبيرة اسمها «ضوء منف»، يبدو أنها ساهمت في حصار مائي يعلي أواريس، وتحدث عن سقوط المدينة ورحيل الهكسوس عنها.
ولم يكتف بطرد الهكسوس من مصر، بل تعقبهم في فلسطين لكي يأمن عودتهم، فاعتصموا في «شاروهين»
Sharuhen
جنوبي غزة، فحاصرهم فيها واستمر الحصار ثلاث سنوات حتى استسلمت وسلمت، وفر فلول الهكسوس إلى الشمال. (2) أبطال الاستقلال من الرجال والنساء
أود أن أذكر في هذا الثبت أسماء أبطال الاستقلال البارزين من الرجال والنساء الذين امتازوا ببطولتهم في الثورة على الهكسوس وتحرير مصر من احتلالهم؛ لأن أقل ما يجب علينا نحوهم أن نخلد ذكراهم المجيدة. (2-1) سقنن رع
هو أول ملوك طيبة الذين أثاروا الشعب على الهكسوس، وحملوا علم الجهاد ضدهم، فهو بطل من أبطال الجهاد القومي، وقد قتل في ساحة الوغى ولم يتجاوز الثلاثين من عمره.
ومومياؤه محفوظة بالمتحف المصري بالقاهرة، وفيها آثار الجراح القاتلة التي أصابته في صدره ورأسه.
وطيبة هي المدينة التي بدأت فيها حرب الاستقلال، وانبعثت منها الشرارة الأولى للثورة على الهكسوس. (2-2) الملكة تتي شري
Tetisheri
وهي أم سقنن رع، وكانت من صميم الشعب، أي لم تكن من سلالة ملكية، وقد غرست ولا ريب في ابنها روح البطولة والتضحية، وكانت بطلة أم بطل، وجدة بطل «الملك أحمس». (2-3) الملكة إياح حوتب
هي زوجة سقنن رع وأم الملك أحمس، وهي التي بثت في ابنها روح الاستمرار في الجهاد بعد مقتل أبيه سقنن رع، وهي من الملكات الخالدات، جاهدت مع زوجها، وجاهدت مع ولديه: كامس، وأحمس.
وقد أقام الملك «أحمس» لوحة في معبد الكرنك خلد فيها أعماله وأعمال والدته (إياح حوتب)، ومما قاله عنها في هذه اللوحة: «اسمها رفيع الشأن في كل بلد أجنبي، فهي التي تضع الخطة للجماهير، زوجة ملك، وأخت ملك، وأم ملك، العظيمة الحاذقة التي تهتم وتضطلع بكل شئون مصر، وهي التي جمعت جيشها، وحمت أولئك الناس، وأعادت الهاربين، وجمعت شتات الذين هاجروا، وهدأت روع مصر العليا (أي مملكة طيبة) وأخضعت عصاته؛ الزوجة الملكية إياح حوتب العائشة.»
3 (2-4) كامس
ابن سقنن رع، حمل لواء الثورة بعد أبيه واستمر يجاهد ويتم رسالته، وقتل هو أيضا في حرب التحرير. (2-5) أحمس
هو ابن سقنن رع وأخو كامس، وقد خلفه في قيادة حرب التحرير، واستمر يحارب الهكسوس حتى قضى عليهم واستولى على عاصمتهم «أواريس»، وتعقبهم في فلسطين، وقضى على فلولهم في «شاروهين» وفروا إلى سورية. (2-6) نفرتاري
بنت إياح حوتب من سقنن رع، كانت أختا لكامس وأحمس وتزوجتهما واحدا بعد الآخر،
4
وظل لها النفوذ الكبير في عهد ابنها أمنحوتب الأول.
أبطال الثورة على الهكسوس
شكل 4-1: الملك سقنن رع بطل حرب الاستقلال ضد الهكسوس.
شكل 4-2: الملكة تتي شري أم سقنن رع، كانت بطلة أم بطل وجدة بطل (أحمس).
تابع أبطال الثورة على الهكسوس
شكل 4-3: الملكة البطلة إياح حوتب زوجة سقنن رع أم أحمس.
شكل 4-4: الملكة نفرتاري بنت إياح حوتب وأخت كامس وأحمس.
تابع أبطال الثورة على الهكسوس
شكل 4-5: أحمس الأول محرر مصر من الهكسوس. (3) تمجيد البطولة وتخليدها
إن بطولة المصريين في حرب التحرير من الهكسوس جديرة بأن تكون مخلدة في ملاحم من الشعر تحوي وقائع هذه البطولة وأسبابها ومراحلها وأطوارها، والشعر أول ما يعنى بتخليد هذه البطولات.
ولعمري إن بطولات المصريين في هذه الحرب أولى بالتخليد من بطولة اليونانيين في حرب طروادة، تلك البطولة التي خلدها شاعر اليونان الكبير هومير
Homere
في ملحمة الإلياذة
Iliade
وملحمة الأوديسة
Odysseé . (3-1) ما هي الإلياذة؟ وما هي الأوديسة؟
الملاحم أقدم قصائد الأدب اليوناني، وأعظم شاعر نظمها هو هومير، وطروادة مدينة ذات أسوار منيعة كانت تقع قرب بوغاز الدردنيل بالشمال الغربي لآسيا الصغرى.
وأشهر الملاحم التي نظمها هومير هو الإلياذة والأوديسة، وهما صورة واضحة المعالم للمجتمع اليوناني في عصر الأبطال.
عاش هومير في النصف الثاني من القرن التاسع قبل الميلاد، وأشهر أشعاره الإلياذة والأوديسة.
وصف في ملحمة الإلياذة حوادث حرب اليونان ضد طروادة حوالي القرن الثاني عشر ق.م. في مرحلتها الأخيرة.
فبينما كان «باريس
بن بريام
Briam » ملك طروادة يسير في الجبل؛ إذ قابل أفروديتا وأثينا وهيرا، وطلبن منه أن يحكم على جمالهن.
فحكم بأن «أفروديتا» أعظمهن جمالا.
وقد ساء أثينا وهيرا هذا الحكم، وعولتا على الانتقام من مدينة طروادة بالانضمام إلى اليونان في حربهم ضدها.
وأوحت أفروديتا إلى باريس بالذهاب إلى اليونان؛ ليخطف هيلينا زوجة الملك منيلاوس شقيق أجاممنون، وقد أغرتها الآلهة بالرحيل معه إلى طروادة.
فغضبت المدن اليونانية وصمم أهلها على غسل هذه الإهانة.
فأجمعوا أمرهم على حرب طروادة وتدميرها، وأعدوا جيشا أبحر تحت قيادة أجاممنون سيد الإغريق عامة؛ ليستردوا هيلينا رمز الجمال ويدمروا طروادة.
واستمرت الحرب بين الفريقين عشرة أعوام، وصف الشاعر هومير حوادث الأسابيع الأخيرة منها.
وقد انتهت الحرب بانتصار اليونانيين.
وكان «أخيل» أعظم بطل في المعسكر الإغريقي.
وتقع الإلياذة في خمسة عشر ألف وخمسمائة وثلاثين بيتا.
ويعد «أخيل» بطل الإلياذة الأول.
ونظم هومير في الإلياذة ما وقع بين اليونانيين وأهل طروادة من الحروب، وما ظهر من اليونانيين من السياسة والشجاعة في هذه الحروب.
ويجمع النقاد على أن هذه الملحمة حوت أحسن ما يمكن في ذلك العصر أن يأتي به خيال شاعر، في تمجيد الأبطال ووصف عواطف النفس وخطرات الأفئدة.
أما الأوديسة فتتألف من اثني عشر ألف بيت، وهي تروي قصة بطلها الأول «أوديسيوس»
5
ومغامراته وزوجته الجميلة «بنيلوبي».
لقد ذهب «أوديسيوس» مع غيره من أبطال اليونان واشترك في حرب طروادة، وأثناء عودته ضلت سفينته طريقها وحاصرتها الأمواج، فألقت به على شواطئ محفوفة بالمهالك، ولكن «أوديسيوس» صارع الأهوال عدة أعوام و«بنيلوبي» تنتظره وفية له إلى أن عاد إليها زوجها وحبيبها.
وأجمع النقاد القدماء والمحدثون على أن الإلياذة والأوديسة هما أجمل ما نظم في شعر الملاحم، وأن بعض أجزائها تعد من أجمل ما ظهر في عالم الشعر.
والإلياذة والأوديسة فيهما تمجيد للبطولة، وتصوير لها في أشعار خالدة، تغرس في النفوس حب البطولة والفداء.
ومن طريف ما يذكر عن تأثير الإلياذة أنها أثرت تأثيرا بالغا في نفس الإسكندر الأكبر، فقد كان يتلوها المرة بعد المرة، واتخذ بطلها أخيل مثالا يحتذيه، ولعل إعجاب الإسكندر الأكبر بشعر هومير في الإلياذة كان نتيجة لإعجاب أستاذه الفيلسوف «أرسطو» بها؛ فقد كتب شرحا وافيا لها وأشاد بها في كتاب «فن الشعر». (أ) هل لنا في هومير الثورة على الهكسوس؟
فهل لنا أن نأمل في تخليد بطولة المصريين في حرب التحرير ضد الهكسوس، وأن تمجد هذه البطولة في ملحمة من نظم شاعر عربي يشيد بالروح الوثابة التي انبعثت في الشعب المصري القديم، وجعلته يكافح الهكسوس من أجل حرية الوادي واستقلاله؟
هل نجد في شعرائنا هومير الثورة على الهكسوس؟
إننا نأمل ونرجو.
الفصل الخامس
الدولة الحديثة: من الأسرة الثامنة عشرة إلى الأسرة الثلاثين
يعتبر المؤرخون بداية الدولة الحديثة من الأسرة الثامنة عشرة.
ومؤسس هذه الأسرة هو أحمس الأول، محرر مصر من الهكسوس.
وللأسرة الثامنة عشرة شأن عظيم في تاريخ مصر.
وقد امتدت حدودها في عهدها إلى أقصى ما وصلت إليه في ذلك العصر. (1) الأسرة الثامنة عشرة (1570-1304 قبل الميلاد) (1-1) أحمس الأول
هو مؤسس الأسرة الثامنة عشرة.
ومع أنه يعتبر من الأسرة السابعة عشرة لأنه ابن «سقنن رع» من ملوك هذه الأسرة، وقد سبق الحديث عنه، ولكن المؤرخ المصري «مانيتون» وضعه على رأس الأسرة الثامنة عشرة؛ لأنه وقد حرر مصر من الهكسوس جدير بأن يكون على رأس أسرة جديدة.
وحسنا فعل مانيتون؛ لأن تحرير البلاد من الهكسوس حادث تاريخي هام يحق أن يكون بداية لأسرة جديدة، بل لعصر جديد.
وفي الحق أن الأسرات الأولى للدولة الحديثة تمثل مصر الكبرى، وقد بلغت البلاد في عهدها أرفع درجات الحضارة والمتعة. (أ) حروب قومية دفاعية
ولا غرو فإن غزو الهكسوس قد استثار في نفوس المصريين الشعور القومي والتعلق بالحرية، وحفزهم وملوكهم إلى الجهاد في سبيل الذود عن الاستقلال، وتم لهم ما أرادوا.
ثم إنهم فطنوا إلى أن تأمين الاستقلال لمصر لا يكون بتحصين حدودها فحسب، بل لا بد لها من بسط نفوذها على البلاد المجاورة التي جاء منها الغزو الأجنبي.
ولقد كان «أحمس» أول من طبق هذه السياسة الحكيمة، فإنه بعد أن حرر البلاد من الهكسوس تعقبهم في جنوب فلسطين وحاربهم وحاصرهم في شاروهين حتى استسلمت.
ولكنه لم يقض عليهم القضاء التام، فإن ملك الهكسوس قد فر منها قبل أن تستسلم، وظل وقومه يدبرون المكايد في فلسطين وفينيقية «لبنان» وسورية.
فكانت سياسة مصر في الدولة الحديثة أن تحارب بقايا الهكسوس في تلك البلاد.
ولم تكن في سياستها معتدية أو باغية، ولم تكن هذه الحرب هجومية هدفها الفتح والغزو والاستعمار، بل كانت حربا دفاعية اقتضاها الدفاع عن النفس وتأمين حرية مصر واستقلالها.
قال «ستانلي كوك» تأييدا لهذه الفكرة: «قد قاومت شاروهين الحصار ثلاث سنوات قبل أن تسقط، وهذا دليل على أن حملة أحمس لم تكن مجرد غارة كالتي شنها سنوسرت انظر [الفصل الرابع: ثورة الشعب على الهكسوس وإجلاؤهم عن مصر سنة 1570 قبل الميلاد]، بل كانت تستهدف غرضا خطيرا وتقصد محاربة عدو لم يزل قويا، أضف إلى هذا أننا نعود فنجد جيوشه تحارب ظافرة في شمال فلسطين وفي بلاد فينيقية، وأكبر الظن أن الغرض من هذه الحروب، فيما يرجح، لم يكن هو التوسع الإمبراطوري بل كان يقصد منها تأمين مملكة مصر وتوطيدها بعد تحريرها، فلم تكن حروب أحمس في سورية سوى تكملة لحرب التحرير.»
1
هذا، ولم تكن مصر تحارب أهل هذه البلاد، بل حاربت الهكسوس الذين استعبدوها واتخذوا منها قواعد لمهاجمة مصر كلما سنحت لهم الفرصة، ولقد نفذ هذه السياسة الدفاعية القومية ملوك مصر وخاصة «تحوتمس الثالث» و«رمسيس الثاني»، كما سيجيء بيان ذلك فيما يلي.
ووجه ملوك مصر عنايتهم إلى تقوية الجيش المصري وإذكاء الروح الحربية في نفوس المصريين ليطمئنوا على سلامة الوطن وحريته.
وفي ذلك يقول برستد
Breasted : كان حكم الهكسوس وطردهم من مصر عظة كبيرة للمصريين، أفهمتهم لأول مرة حقيقة الاستعمار وسياسة البطش، فأنشئوا جيشا عظيما منتظما استعملوا فيه المركبات الحربية التي تجرها الخيل، فتحولت مصر بذلك إلى دولة حربية، وتعتبر الإمبراطورية المصرية في عهد الأسرة الثامنة عشرة من أكبر إمبراطوريات العالم؛ لأنها امتدت شمالا من سورية وأعالي الفرات إلى شلال النيل الرابع جنوبا، وكان تشييد هذه الإمبراطورية المعتبرة الأولى في العالم مصحوبا بثروة باذخة، وعز عظيم في جهاتها الشاسعة بدرجة لم تبلغها مصر في عصر آخر، حتى صارت «طيبة» مركز التمدن العالمي وصاحبة الآثار الشامخة، وخيمت الروح الحربية على القطر المصري مدة قرن ونصف بعد طرد الهكسوس، فصار أبناء الفراعنة يعينون قوادا للجيش، ثم زيد عدده وزود بالسلاح والعتاد، ودربت الحروب المصريين على الأساليب الحربية الحديثة «وقتئذ»، ويعتبر هذا التقدم الحربي أقدم ما عرف من نوعه في التاريخ، وقد قسم الجيش المصري إلى فرق وفيالق، وقسمت قواته إلى قلب وجناحين، واستكمل بذلك نظام المعارك الحربية، وتمكن المصريون من القيام بحركات التفاف حول أعدائهم.
2
كان عهد «أحمس» دور اليقظة من سبات عميق، وتقوية للمواهب القومية الدفينة في الأمة المصرية، ولا غرو فقد كان هو مثال الشجاعة والجد والحكمة والدهاء، قوي الإرادة، ماضي العزيمة، فهابه الجميع واحترموه، وحكم البلاد اثنتين وعشرين سنة، وكانت وفاته حوالي سنة 1557ق.م، وهو واضع اللبنة الأولى في صرح الإمبراطورية المصرية في مصر القديمة. (1-2) خلفاء أحمس الأول (أ) أمنحوتب الأول
Amenhotep
هو ابن أحمس الأول، وقد حافظ على عهد أبيه، وكانت النوبة قد انتقضت على مصر فغزاها أمنحوتب ووصل إلى حد الدولة الوسطى بجهة الشلال الثاني.
وحارب الليبيين حين حدثتهم أنفسهم بالعدوان على غرب الدلتا فصدهم وهزمهم، وحكم البلاد نحو عشرين عاما. (ب) تحوتمس الأول
وخلفه تحوتمس الأول، وفي عهده وصلت مصر إلى الشلال الرابع على النيل جنوبا، إذ كان على رأس حملة وطدت سلطة مصر في بلاد النوبة.
وحارب بقايا الهكسوس في فلسطين وسورية، فإنهم ما فتئوا يلوذون بهذه النواحي بعد هزيمتهم في شاروهين.
وفي عهده خضعت لحكم مصر الأقاليم الآسيوية في تلك الأصقاع، ووصل إلى نهر الفرات شمالا وأقام على ضفته لوحة تذكارا لهذا الحادث التاريخي.
وبلغت مدة حكمه ثلاثين سنة، وهو من أعظم ملوك مصر. (ج) تحوتمس الثاني
هو ابن تحوتمس الأول، وقد تزوج من أخته لأبيه «حتشبسوت»، وكانت سيدة طموحا إلى الملك فانفردت به، واستسلم لها زوجها.
وبقي على العرش نحو عشرين عاما. (د) الملكة حتشبسوت
Hatshepsout
ولما مات تحوتمس الثاني آل الملك إلى «حتشبسوت» ابنة تحوتمس الأول بالاشتراك مع تحوتمس الثالث (ابن أخيها)، وتجدد النزاع على من ينفرد بالحكم.
واستطاعت «حتشبسوت» بتأييد أنصارها في الدولة أن تنفرد به نحو سبعة عشر عاما، تولت فيها الوصاية على العرش إذ كان تحوتمس الثالث لا يزال صبيا، وكذلك ابنتها «نفرورع».
شكل 5-1: معبد الدير البحري بطيبة. شيدته الملكة حتشبسوت.
شكل 5-2: سفينتان من سفن الحملة البحرية التجارية . التي أنفذتها حتشبسوت إلى الصومال (بلاد بونت).
وسكت «تحوتمس الثالث» على هذا الوضع، ولم يثر أي شقاق أو نزاع حرصا على وحدة الصف، وبرهن منذ الساعة الأولى على بعد نظره، وما تذرع به من الحكمة والأناة.
وكانت «حتشبسوت» سيدة عظيمة، وملكة عظيمة، وقد صورت على بعض آثارها مرتدية زي الرجال، وكان لها من النشاط ما يفوق نشاط كثير من الرجال، على أنها لم تكن محاربة، ولم تكن تميل إلى امتشاق الحسام.
فصرفت همتها في الإصلاح والتعمير بعد التخريب الذي أصاب البلاد، أثناء حكم الهكسوس.
وهي بانية معبد «الدير البحري» المشهور في طيبة، القائم في حضن الجبل (انظر شكل
5-1 )، والذي يقصده الناس من كل فج حتى اليوم؛ ليشاهدوا فيه جمال الفن وروعة التصميم والبناء.
وكان لمهندسها القدير «سنموت»
Senmout
فضل كبير في هذا البناء الضخم وتصميم كثير من الآثار التي خلدت اسم حتشبسوت، وكان سنموت هذا أهم شخصية في عهدها، وكان أثيرا عندها والمربي الأول لابنتها (نفرورع)، وصاحب الكلمة النافذة في الدولة إلى أن تغيرت عليه في أواخر عهدها وأقصته عن النفوذ والسلطان.
وقد أقامت مسلتين كبيرتين بساحة الكرنك، وتعتبران أعلى الآثار المصرية التي يرجع تاريخها ولم تكن فيإلى تلك العصور؛ لأن ارتفاع كل منهما بلغ حوالي سبعة وتسعين قدما ونصفا، أما زنة كل منهما فتقرب من 350 طنا، ولا تزال إحداهما شاخصة في مكانها الأصلي إلى الآن تسترعي أنظار الزائرين كل حين، وبلغ عدد المسلات التي أقامتها ستا.
شكل 5-3: تمثال الملكة حتشبسوت، في شكل «أبو الهول».
حملة بحرية إلى الصومال
وأوفدت «حتشبسوت» حملة بحرية كبيرة إلى بلاد الصومال (وكانت تسمى بونت)؛ لتبادل المتاجر معها.
وكانت حملة سلمية ودية، مؤلفة من خمس سفن شراعية.
وقد أقلعت هذه السفن من طيبة على النيل، واتجهت شمالا حتى بلغت وادي الطميلات، وسارت في القناة التي حفرت في عهد سنوسرت الثالث حتى بلغت البحيرات المرة، فالبحر الأحمر.
وحملت السفن إلى الصومال كثيرا من مختلف الجواهر والمعادن والحلي والأطعمة والأشربة والسلاح، وعادت بالكثير النفيس من حاصلات تلك البلاد ومنتجاتها، كشجر المر والبخور والصمغ والأبنوس والتبر والعاج والحيوان، وكانت هذه الحملة من أهم أعمالها العمرانية.
وأرسلت البعثات إلى سيناء لاستثمار ما فيها من المناجم، ونهضت بمصنوعات البلاد وزادت من ثروتها، وكان عهدها عهد سلام وازدهار ورخاء للشعب.
فلما توفيت انفرد تحوتمس الثالث بالملك، ومحا اسمها من الآثار التي خلفتها. (ه) تحوتمس الثالث (1490-1436 قبل الميلاد)
هو ابن تحوتمس الثاني وابن أخي حتشبسوت.
ووالدته تدعى «إيزيس»، وهي زوجة ثانوية لأبيه (من الجواري)، ومن حقها أن تفخر بأنها أنجبت لمصر البطل العظيم تحوتمس الثالث.
ولما توفي أبوه كان تحوتمس لا يزال صبيا لم يبلغ الحلم بعد، فتولت حتشبسوت وقتا ما الوصاية عليه وعلى ابنتها نفرورع، ثم انفرد بالحكم بعد وفاة حتشبسوت.
وهو أعظم ملوك مصر قاطبة، كما سيجيء في الفصل التالي.
شكل 5-4: إيزيس، والدة البطل العظيم تحوتمس الثالث.
شكل 5-5: تحوتمس الثالث (أو الأكبر) بلغت مصر القديمة أوجها في عهده، في القرن الخامس عشر قبل الميلاد.
الفصل السادس
أوج المجد: مصر في عهد تحوتمس الثالث، أو الأكبر
بلغت مصر القديمة أوج المجد في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، على عهد تحوتمس الثالث
Thoutmes ، ويسمى «الأكبر».
عندما تولى هذا الملك عرش مصر، كانت الأطماع تتجه إليها، وكان الطامعون قد أخذوا يتربصون بها حين رأوا قوة مصر الحربية مسالمة متراخية في عهد الملكة «حتشبسوت»، فظنوا بجيش مصر الظنون.
وخيل لهم الوهم أن الملك الشاب تحوتمس الثالث لا يقوى على إحباط مؤامرتهم، وصد تحركاتهم العدائية.
ولم تكن مواهب تحوتمس الثالث الحربية قد تجلت بعد وظهرت للعيان؛ لأنه لم يسبق له قبل تولي العرش أن مارس الحرب والكفاح.
فحدث تحالف بين أعداء مصر في سورية ولبنان يتزعمه أمير «قادش»،
1
وهو من بقايا الرعاة (الهكسوس)، فأخذ هو وحلفاؤه يثيرون فريقا من الأهلين ضد الحكم المصري الذي كان مبسوطا على البلاد نحو خمسين عاما منذ عهد تحوتمس الأول، وانضم إلى هذا الحلف بعض سكان سورية وفلسطين، كما انضمت إليه مملكة «ميثاني»،
2
وتألبوا جميعا على مصر لينالوا منها، ويقوضوا سلطانها في تلك الجهات.
وإذ توالت النذر بأن هذا الحلف إذا ترك وشأنه؛ فإنه لا يلبث أن يكون مصدر خطر على مصر، فقد بادر تحوتمس الثالث إلى مهاجمة هؤلاء الحلفاء في عقر دارهم، واعتزم في أوائل حكمه أن ينازلهم حيث كانوا، فأعد للزحف عليهم جيشا مدربا منظما كان هو على رأسه، واستعد للحرب والنضال.
وبدأ زحفه في أبريل سنة 1479 قبل الميلاد من مدينة ثارو
Tharu .
3
وكان جيشه مؤلفا من نحو عشرين ألفا إلى ثلاثين ألف مقاتل وسار بقيادته، فوصل إلى غزة التي تبعد نحو 125 ميلا عن «ثارو» بعد مسيرة تسعة أيام، وهي مدة وجيزة بالنسبة لذلك العصر لانتقال جيش بأكمله طول هذه المسافة، ثم استمر زحفه إلى الشمال، ثم إلى الشرق، قاصدا سهل «مجدو» حيث كان الأعداء يحتشدون هناك.
4 (1) معركة مجدو (سنة 1479 قبل الميلاد)
تعد معركة «مجدو» من المعارك الفاصلة في التاريخ.
تقدمت قوات أمير «قادش» وحلفائه جنوبا، واحتلت حصن «مجدو» على المنحدر الشمالي لجبل «الكرمل»، واتخذته أول موقع منيع لصد زحف الجيش المصري القادم من سهل مجدو.
وحين علم تحوتمس الثالث باحتلال الأعداء هذا الحصن، اتجه إليه بجيشه.
وكان أمامه ثلاث طرق لعبور تلك المنطقة الجبلية، اثنان منها يدوران حول سفح جبل الكرمل، والثالث طريق ضيق صعب المرتقى يصل مباشرة إلى أبواب مجدو.
وعقد تحوتمس مجلسا حربيا، شاور فيه مستشاريه العسكريين في أي الطرق يختار، فأشاروا عليه باجتناب الطريق الضيق واختيار أحد الطريقين الآخرين.
ولكنه أصر على السير في الطريق الوعر؛ لأنه أقرب الطرق وأكثرها استقامة.
وفي فجر يوم الواقعة (15 مايو سنة 1479ق.م) أمر تحوتمس الجيش بالزحف والهجوم على العدو، واعتلى مركبته الحربية البراقة المصنوعة من خليط الذهب والفضة، وسار على رأس جيشه في الطريق الوعر، فبعث في نفوس جنوده الحماسة والحمية، وشجعهم هو قائلا: سأسير أمامكم لكي أظهر لكم الطريق فتقتفوا أثري.
وقد تأججت في نفوس الجنود روح الحرب، وبلغت مشاعرهم ذروتها.
وإذ شاهد أمير قادش هذا الهجوم ألقى بجنوده بين جيش تحوتمس ومجدو، فانقض عليهم تحوتمس وهو في مقدمة جيشه شاهرا حسامه، وأخذ الجيش المصري يدحرهم ويفتك بهم.
وعلى أثر هذا الهجوم تقهقر العدو وارتد نحو مجدو واحتمى بها، فحاصرها الجيش المصري وظل على حصارها حتى سلمت بعد أن فر منها أمير قادش، وعظمت غنائم الجيش المصري في هذه الموقعة، وكانت نصرا مبينا فرحت له نفوس المصريين جميعا.
يقول برستد
Breasted
تعليقا على هذا النصر: «لكي يتصور القارئ الصعوبات التي قاساها تحوتمس الثالث في حروبه الآسيوية، يجدر به أن يطلع على الأهوال التي قاستها جنود نابليون في تلك المنطقة سنة 1799 بعد الميلاد، أثناء زحفها من مصر إلى مدينة عكا التي تبعد عن حدود القطر المصري بقدر المسافة التي تبعد بها مجدو (تقريبا).» ويقول أيضا: «هذا هو أقدم جيش معروف للآن دخل ذلك السهل التاريخي الذي أصبح من ذلك الوقت معتركا حربيا حتى اللورد «أللنبي» سنة 1918 ميلادية، ويلاحظ أن «أللنبي» في زحفه على الجيش التركي المتقهقر قد اتخذ نفس الطريق الذي سار فيه تحوتمس الثالث.»
5
شكل 6-1: خريطة معركة مجدو، سنة 1479 قبل الميلاد، (مقتبسة من خريطة برستد).
وعامل تحوتمس الأسرى من الأعداء معاملة حسنة كريمة.
وعلق على ذلك المؤرخ ويجول
Weigall
بقوله: «إن المصريين كانوا أعظم شعوب العالم القديم رحمة وإنسانية.»
6 (1-1) نتائج معركة مجدو
قررت معركة «مجدو» مصير فلسطين ووطدت سلطة مصر فيها، وفتحت أمام تحوتمس الثالث طريق لبنان وسورية، ووصل إلى منحدرات هذين القطرين، وكانت تحت حكم أمير قادش، فسرعان ما سلمتا للمصريين، وقد امتلأت نفوس الأعداء فزعا من هيبته.
وأخذ تحوتمس ينظم ما أخضعه من البلاد، ويوطد السلم والأمن فيها، ويستبدل بحكامها المعادين آخرين موالين له.
وسمح للحكام الجدد أن يحكموا البلاد بحرية بشرط أن يدفعوا لمصر الجزية، ووصلت سلطته إلى جبال لبنان الشمالية، وتوغل حتى مدينة دمشق.
وعامل الأهلين بالرفق والعدل، وحبب إليهم العلوم والمعارف، وغرس في قلوبهم حب مصر.
وعاد إلى مصر في أوائل أكتوبر من ذلك العام (1479ق.م) ووصل إلى طيبة، فاستقبله الشعب استقبالا مجيدا.
وجدد تحوتمس على تعاقب السنين حملاته على الأقطار الأسيوية، حتى وصل إلى الفرات.
وقد رأى بثاقب نظره أن مدينة قادش الواقعة على نهر العاصي (الأورونت)، تقف عقبة أمامه وتحول دون وصوله إلى وادي الفرات.
فأعد أسطولا يشترك مع الجيش البري في هذه الحملات، واتخذ من الشواطئ الفلسطينية والفينيقية التي فتحها مواقع لتأمين خطوط جيشه في الزحف.
قال برستد في هذا الصدد: «ولا شك أن هذه الخطوات سديدة لدرجة يستحيل على أي ضابط حربي حديث أن يبتكر أحسن منها بحيث تناسب أحوال تلك العصور، أو أن ينجزها بمثل ما أنجزها تحوتمس من الدقة والمثابرة، والحق أن الحلفاء لو اتبعوا في الحرب العالمية (الأولى) هذه الخطة في محاربة الترك، لفازوا بالنصر هناك في أقل من سنة واحدة.»
7 (2) سقوط قادش
ووصل تحوتمس الثالث إلى قادش معقل أميرها الذي ناوأه في حملاته، وضرب عليها الحصار وهاجمها حتى سلمت، وكان سقوط قادش انهيارا لآخر صرح للهكسوس.
وأتم إخضاع شاطئ فينيقية (لبنان). (3) سقوط قرقميش
وأعد حملة أخرى للوصول إلى بلاد الرافدين (ما بين النهرين) زحف عليها من طريق قادش، وأعد لعبور الفرات سفنا حملت أجزاؤها على عربات، وصنعت هذه السفن في «جبيل» ونقلت إلى قرقميش.
واستولى على «قرقميش»؛ إذ جرت بينه وبين ملك «ميثاني»
8
معركة انتهت بهزيمة هذا الأخير، وعبر تحوتمس نهر الفرات، ووطدت هذه المعركة سلطته في بلاد ميثاني.
وأقام على ضفة الفرات لوحة تذكارا لانتصاره، وكانت على مقربة من اللوحة التي أقامها جده تحوتمس الأول.
وأخذ أمراء ما بين النهرين يظهرون الولاء والخضوع له، ويدفعون الجزية لمصر وسالمته مملكة ميثاني وبابل ومملكة خيتا (الحيثيين) بآسيا الصغرى، وأرسلت إليه الهدايا.
واستمرت حملات تحوتمس الثالث إلى أن كانت الحملة السادسة عشرة؛ إذ أعلنت مدينة قادش العصيان يساندها ملك ميثاني، فهاجمها من جديد وخضعها وقضى بذلك على كل أثر لمعارضة النفوذ المصري في سورية.
وبلغت قوة مصر البحرية درجة كبيرة خضع لها ملك قبرس.
وتمكن الأسطول المصري من بسط نفوذه على جزيرة كريت، وبقية الجزر الشرقية للبحر الأبيض المتوسط. (4) من أعالي الفرات شمالا إلى الشلال الرابع على النيل جنوبا
وامتدت حدود الدولة المصرية في عهده، فوصلت إلى أعالي الفرات شمالا وجزر البحر الأبيض المتوسط، ووصلت جنوبا إلى الشلال الرابع على النيل، وكانت هذه الحدود أقصى ما وصلت إليه مصر القديمة.
وتأسست الإمبراطورية المصرية وبلغت أوجها في عهده، وهو أول عاهل خضع له العالم المتمدن في إفريقيا وآسيا، وأول منشئ عظيم للإمبراطورية في العالم، وأول من سبق الإسكندر ونابليون في هذا المجال.
شكل 6-2: خريطة الدولة المصرية في عهد تحوتمس الثالث في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، «كانت حدودها تمتد من أعالي الفرات شمالا إلى الشلال الرابع على النيل جنوبا.» (5) نابليون الشرق
ذاعت شهرة تحوتمس الثالث كقائد عظيم، وتجلت مقدرته الحربية في حروبه وحملاته الموفقة التي بلغت سبعة عشرة حملة، كان النصر حليفه فيها جميعا.
وقد لقبه المؤرخون بنابليون الشرق.
وصارت طيبة عاصمة العالم المتمدن، وعرفت لدى الإغريق بالمدينة ذات المائة باب، وجاء ذكرها بهذا الاسم في أشعار هومير، فأطلق عليها نفس الاسم (المدينة ذات المائة باب) يتسع كل باب لمائتي رجل، وتخرج منها جيوش فرعون بكامل عدتها وعتادها فوق عجلاتها الحربية. (6) بين مصر وسورية
عامل تحوتمس الأهلين في فلسطين ولبنان وسورية بالرفق والعدل، لم يكن جبارا في الأرض ولا متغطرسا، بل كان حاكما قويما يحب العدل ويدافع عنه، يكره الانتقام وسفك الدماء، لم ينتقم من الأمراء الذين ساروا في ركاب أمير «قادش»، بل أبقى الموالين منهم في مراكزهم.
وفي سبيل دعم الروابط بين مصر وسورية، أمر بإيفاد بعض أبناء حكام تلك البلاد إلى مصر؛ ليتثقفوا وينهلوا من العلوم والمعارف، وليغرس في قلوبهم حب مصر.
لم يكن يبغي من فتح هذه البلاد تأمين كيان مصر فحسب، بل أراد أن يجمع بين فلسطين وسورية ولبنان ومصر في وحدة شاملة، ففي فتوحه الآسيوية لم يرهق الأهلين ولا كان يحاربهم، بل كانت حروبه ضد حلف يتزعمه أمير قادش من بقايا ملوك الهكسوس (الرعاة)، ولم يكن أمير قادش من أهل هذه البلاد ولا من المواطنين فيها، بل كان من غزاتها وسليل غزاتها السابقين.
ومن المحقق أن الهيبة التي كانت لتحوتمس في النفوس والتي نتجت عن انتصاراته في ميادين القتال، والقوة الحربية التي اعتمد عليها في بسط سيطرته على تلك الأصقاع، كانت هي الدعامة الأولى للدولة المترامية الأطراف التي أنشأها في آسيا، ولولا تلك القوة لما استطاع أن يوطد سلطانه فيها. (7) وفاة تحوتمس الثالث
توفي تحوتمس الثالث سنة 1436ق.م؛ بعد أن جلس على عرش مصر أربعة وخمسين عاما، كانت أوج المجد لمصر القديمة.
يقول برستد في وصفه وتمجيده: «إن صفات تحوتمس الثالث وشخصيته برزت في التاريخ المصري القديم بدرجة منقطعة النظير، في ملوك مصر قاطبة، والحق يقال: إن نشاطه فاق كل نشاط سواء أكان قبله أم بعده، زد على ذلك أنه كان هاويا فنانا يتلهى وقت فراغه بصياغة الأواني وإبداع أشكالها، وكان حسن التدريب في السياسة حاد الذاكرة، يقوم بالحروب الكبيرة في آسيا مستعملا في الوقت نفسه شدته في منع انتشار الرشوة والحيف في أثناء جمع الضرائب من الأهلين؛ لذلك اعتبر عهد تحوتمس الثالث عهدا ممتازا في مصر والشرق عامة، ولم يظهر في التاريخ إلى ذلك العهد ملك جمع إيراد مملكته الشاسعة، وأقام عليه إدارة حكومية مركزية ثابتة مستمرة دامت سنوات عدة كما فعل، وهو يذكرنا بتاريخ الإسكندر المقدوني ونابليون لتشابه تاريخهم جميعا، وخلاصة القول أن تحوتمس كان أول رجل في التاريخ أسس إمبراطورية حقيقية، فهو لذلك أقدم بطل معروف على الأرض، ولا غرابة فقد خضعت لقوته آسيا الصغرى وأعالي الفرات، وجزر البحر الأبيض المتوسط، ومستنقعات بابل وشواطئ ليبيا السحيقة وواحات الصحراء، وهضاب الصومال، وشلالات النيل العليا، يضاف إلى ذلك أن أمراء تلك الجهات تسابقوا في تأدية جزيتهم وهداياهم إليه، ويعتبر هذا برهانا ساطعا وتذكارا عظيما للعالم على نجاح نظمه وترتيباته الحديثة، وقد تجلت شخصية هذا الملك العظيم وشدة توقيعه للقصاص العادل في مشاحنات أمراء سورية، فطهر جو الشرق السياسي من المفاسد، ومن أجمل مآثر هذا الملك مسلتاه الأثريتان العظيمتان المنصوبتان على شاطئ المحيط الأطلسي.
9
وقد اعتبرت هاتان المسلتان في بلادنا نحن الغربيين تذكارا عظيما لأول بناء للإمبراطوريات في تاريخ العالم.»
10
وقال في وصف نتائج الروابط بين مصر والأقاليم الآسيوية: «يمتاز هذا العهد بكثرة رخائه وتقدم مدنيته، فقد زالت العوائق التي أوجدها الهكسوس بين مصر وآسيا، ومحا تحوتمس الثالث بحروبه أثرها من الوجود، فتيسر التعامل بين إفريقية وآسيا، وزالت الفوارق القديمة فلم يبق هناك ممالك صغيرة، بل أصبحت البلاد كلها الممتدة من منابع الفرات إلى أعالي النيل متحدة على تباين عناصرها ولغاتها، وأخذت تجارة شرقي البحر الأبيض المتوسط تتحول تدريجيا من إقليم الفرات وبابل إلى مصر، وبالأخص إقليم الدلتا الذي كثرت خيراته وتضاعفت روابطه التجارية، وكان هذا الإقليم الأخير منذ عدة قرون على اتصال بالبلاد الآسيوية بالقناة التي توصل البحر الأحمر بالنيل، فانحصرت تجارة العالم في الدلتا، وصارت أكبر أسواق العالم، وكانت آشور في هذا الوقت فتية، وانعدم من بابل نفوذها السياسي تماما في البلاد الغربية، فأصبحت سلطة فرعون على إمبراطوريته الشاسعة عظيمة مهيبة.»
11 (8) خلفاء تحوتمس الثالث (8-1) أمنحوتب الثاني
12
شقت الأقاليم الآسيوية عصا الطاعة على مصر بعد وفاة تحوتمس الثالث، فانبرى لها ابنه أمنحوتب الثاني، وقد أنشأه أبوه النشأة العسكرية وغرس فيه الشجاعة والفروسية، ودربه على ضروب القتال، وكان ملكا قويا نافذ البصيرة ماضي العزيمة، وقاد الجيش المصري بنفسه كما كان يفعل أبوه وأخمد العصيان.
وتوفي سنة 1420 قبل الميلاد، بعد أن حكم حوالي 26 سنة. (8-2) تحوتمس الرابع
هو حفيد تحوتمس الثالث، وقد ذهب على رأس جيشه إلى سورية والفرات لقمع الفتن والثورات، وكان آخر ملوك مصر المحاربين من الأسرة الثامنة عشرة.
وعقد معاهدة صداقة مع «ميثاني» ثم مع «بابل»، وتزوج من ابنة ملك ميثاني؛ ليؤكد الصداقة بين البلدين، ويفتح بين دول الشرق عهدا جديدا من الصلات الودية والمصاهرة والتحالف.
ومن أعماله أنه أتم إقامة المسلة التي تركها جده تحوتمس الثالث بمدخل الكرنك الجنوبي. وارتفاع هذه المسلة الشاهقة مائة وخمسة أقدام، وهي أكبر مسلة باقية إلى الآن.
وقد نقلت إلى إيطاليا، حيث لا تزال منصوبة بروما. (8-3) أمنحوتب الثالث
13
هو ابن تحوتمس الرابع من زوجته الميثانية.
وفي عهده تنافست بابل وآشور وميثاني وقبرص في اكتساب صداقة مصر، ويعتبر هذا أول مظهر سياسي دولي في تاريخ الممالك المعروفة وقتئذ.
وقد سمى «موريه» النظام الذي أنشأه ملوك الأسرة الثامنة عشرة في البلاد الآسيوية نظام حماية مقرونا بالاتجاهات الحرة والرفق بالأهلين.
قال في هذا الصدد: «إن الإدارة المحلية لهذه البلاد كانت إدارة أهلية في معظم نواحيها، فالحاميات كانت أهلية مع بعض فئات من الضباط والموظفين المصريين، وهناك مفتشون لهم سلطات واسعة يعملون تحت رقابة الملك الشخصية، وهذا النظام قد أسميناه في العصر الحديث بالحماية، وقد اقتبسناه في القرن التاسع عشر، ومما يشرف المصريين أنهم طبقوه في آسيا القديمة مع ميل حقيقي للحرية وحكمة مؤكدة بالنظر لما ركب في طباع السوريين والكنعانيين من مجاناة للمرونة. فما أبعد الفارق بين هذه المعاملة التي تشرف أبناء وادي النيل، وبين الوسائل القاسية للملوك الآسيويين الذين عرفوا بالمذابح والنهب وتشريد السكان تشريدا جماعيا وإحلال الجند المستعمرين محلهم في البلاد المحتلة!»
14
شكل 6-3: الملكة «تي» زوجة أمنحوتب الثالث.
تزوج أمنحوتب الثالث من فتاة مصرية من صميم الشعب تدعى «تي».
كان أبوها كاهنا، وأمها إحدى سيدات القصر المشرفة على الملابس.
وكانت «تي» في عهده لها النفوذ الكبير باعتبارها ملكة مصر، وكانت على جانب كبير من الذكاء والجمال، وكانت لها في نفسه منزلة كبيرة.
ومن دلائل حبه لها أن أمر بحفر بحيرة تلهو بها في قارب من خشب الأبنوس مصفح بالذهب بجوار قصرها، وبلغ طول هذه البحيرة نحو 1800 متر وعرضها 350 مترا، وكان حفره لهذه البحيرة تلبية لرغبة عابرة لها.
ثم تزوج عليها من أخت دشراتا ملك ميثاني، وكان يكثر من الزوجات والجواري.
على أن «تي» ظلت زوجته المفضلة، واستمرت على نفوذها وسيطرتها على الملك وعلى شئون الدولة.
وقد أرسل «دشراتا» ملك ميثاني إلى أمنحوتب الثالث (صهره) خطابا يدل على الود بينهما، ويدل على السذاجة في التفكير، وعلى أن مصر كانت مطموعا في ثرواتها وخيراتها حتى ممن كانوا يرتبطون بها بصلات الود والمصاهرة.
قال: «إلى أخي وصهري الذي يحبني وأحبه أمنحوتب الثالث الملك المعظم وفرعون مصر.
من دشراتا الملك العظيم أخيك وحميك الذي يحبك، أنا في صحة جيدة، لعلك أنت كذلك، وكذا منزلك وأختي وسائر زوجاتك وبناتك وعجلاتك وخيلك، وكبار رجالك وأرضك وكل ممتلكاتك، لعلكم جميعا بخير. كان آباؤك قديما على أوفق وئام مع آبائي، لكنك قويت تلك الرابطة عما كانت عليه كثيرا. حقيقة كنت صديقا حميما لوالدي، وتجاذبنا أطراف الصداقة معا، لكنها الآن أشد مما كانت عشر مرات، لعل المعبودات تزيد من ودنا هذا على توالي الأيام، ولعل المعبودة «تشوب» (معبودة مملكة ميثاني) والمعبود آمون يحافظان على هذا الود كما هو الآن، لما حضر إلي رسول أخي المدعو «ماني» قائلا إنك تخطب كريمتي لتكون ملكة على مصر، لم أتجاسر على تكدير قلب أخي، بل استمررت على أداء ما هو واجب نحو صداقتنا، وتنفيذا لرغبتك يا أخي أرسلتها مع «ماني» الذي سر جدا برؤيتها، فإذا وصلت إلى أرضك يا أخي أتعشم أن المعبودة «عشتار» والمعبود آمون، يجعلانها محبوبة ومقبولة لديك. لقد أحضر لي رسولي «جيليا» خطابك يا أخي، ولما قرأته فرحت فرحا جزيلا حتى إنني قلت وقتئذ إذا فرضنا أن صداقتنا ذهبت، فإن هذه الرسالة ستجعلني أثابر على الود لك الآن، وكتبت لك يا أخي قائلا: أما من جهتي فإننا سنكون أعز أصدقاء وأوفى أخلاء، ثم سألتك يا أخي أن تقوي صداقتنا أكثر عشر مرات مما كانت عليه أيام آبائنا، ولقد طلبت منك يا أخي مقدارا كبيرا من الذهب قائلا: أرسل لي يا أخي أكثر مما كان يرسل لوالدي من قبل، لقد كنت ترسل لوالدي كميات كبيرة من الذهب، أما الذي أرسلته فعبارة عن قرص من الذهب يظهر أنه مخلوط بنحاس؛ لذلك أرسل لي يا أخي كميات كبيرة من الذهب بلا حساب، وليكن مقداره أكثر من الذي كنت ترسله لوالدي؛ لأن الذهب في أرضك يا أخي كثير كالتراب.»
15
فمملكة ميثاني في شمال العراق ربطتها بمصر روابط التحالف والود والمصاهرة، ولكن مملكة الحيثيين بالأناضول ناصبتها العداء، فاستنجد ملكها بمصر فأمده أمنحوتب الثالث بنجدة ساعدته، فحنق ملك خيتا (الحيثيين) على مصر وألب عليها عناصر الشغب في سورية.
وفي آخر عهده ظهرت بوادر الهجوم من جانب «الحيثيين» فلم يذهب إليهم على رأس جنده؛ ليرد هجومهم كما فعل تحوتمس الثالث وأمنحوتب الثاني وتحوتمس الرابع، بل اكتفى بإرسال جيش لمحاربتهم.
وكان أمنحوتب الثالث متراخيا في شئون الدولة العليا، فتخلخل الحكم المصري في آسيا، وظهرت المؤامرات في سورية يدبرها أمير قادش وملك خيتا (الحيثيين).
ولم يكن ميالا إلى الحرب والهيجاء، وركن إلى حياة الدعة والاستمتاع.
وتوفي بعد أن حكم البلاد نحو ست وثلاثين سنة.
وبعد وفاته خلفه ابنه أمنحوتب الرابع (إخناتون) من زوجته «تي»، وكان قد اشترك في الملك مع أبيه أمنحوتب الثالث عدة سنين قبل وفاته.
الفصل السابع
إخناتون وثورته الدينية (1370-1349ق.م)
كانت مصر في حاجة بعد وفاة أمنحوتب الثالث إلى ملك قوي الشكيمة مثل تحوتمس الثالث، يصد عنها هجوم الطامعين فيها ويقفهم عند حدهم، ويقمع الفتن التي يديرونها في بعض الأصقاع الآسيوية.
ولكنها وجدت من إخناتون (أمنحوتب الرابع) ملكا مسالما، وفيلسوفا هادئا، منصرفا إلى دعوة دينية.
حقا إن دعوته هي اقتراب من رسالة التوحيد.
فلقد فكر طويلا في تبسيط العقيدة الدينية، ورأى من تعدد المعبودات ما يتنافى مع التبسيط الذي ينشده، كما رأى في استفحال سلطان كهنة المعابد وتدخلهم المستمر في شئون الدولة خطرا على أداة الحكم، فناوأهم وناوءوه، ودعا إلى توحيد الآلهة، وجعل من القوة الكامنة في الشمس (آتون) رمزا للإله الواحد.
كل هذا لا شبهة فيه، فدعوته وقتئذ كانت سليمة، وكان تفكيره تقدميا.
ولكن الواجب الأول على رئيس الدولة أن يعمل على حفظ كيانها؛ لأن المحافظة على كيان الوطن أول واجب مفروض عليه بل على كل مواطن، وهو واجب مقدم على الأبحاث الفلسفية والدينية.
أما «إخناتون» فقد صرف كل همه إلى الثورة الدينية في وقت كان فيه الوطن في خطر، ومن هنا كانت المآخذ على شخصيته وسياسته.
ففي عهده حرك الحيثيون الفتن في سورية واستولوا على مدنها الشمالية، وانتقضت مدن عديدة في فينيقية وفلسطين، وسرى الانحلال إلى أطراف الدولة، فلم يحرك «إخناتون» ساكنا ومضى في تأملاته ودعوته الدينية.
وفي نحو السنة السادسة من حكمه أعلن دعوته، وجاهر بها على ملأ الناس، وخاصم من أجلها الكهنة ورجال الدين كافة.
كانت دعوته قريبة من التوحيد، ولكنها لم تصل إلى الكمال الذي وصلت إليه الرسالات السماوية.
شكل 7-1: إخناتون، ملك مصر وصاحب الثورة الدينية القريبة من التوحيد.
فمن أناشيده الدينية الدالة على ذلك قوله:
1
أنت تشرق ببهاء في أفق السماء
يا آتون الحي، يا بداية الحياة.
عندما تبزغ في الأفق الشرقي،
تملأ البلاد بجمالك.
أنت جميل، عظيم، متلألئ، وعال فوق كل بلد،
وتحيط أشعتك بالأراضي كلها التي خلقتها.
لأنك أنت «رع» وتصل إلى نهايتها،
وتخضعها لابنك المحبوب.
وبالرغم من أنك بعيد فإن أشعتك على الأرض،
وبالرغم من أنك أمام أعينهم فلا يعرف أحد خطوات سيرك.
وعندما تغرب في الأفق الغربي،
تسود الأرض كما لو كان حل بها الموت.
ينام الناس داخل حجرة وقد لفوا رءوسهم،
فلا ترى عين عينا أخرى.
ويمكن أن تسرق أمتعتهم التي يضعونها تحت رءوسهم فلا يحسون بذلك،
يخرج كل أسد من عرينه،
وجميع الزواحف تخرج لتلدغ،
ويلف الظلام كل شيء ويعم الأرض السكون؛
لأن الذي خلقهم يرتاح في أفقه.
وعندما يصبح الصباح وتطلع من الأفق،
وعندما تضيء كآتون أثناء النهار،
تطرد الظلمة وتمنح أشعتك،
فالأرضان في عيد كل يوم،
ويستيقظ الناس ويقفون على الأقدام،
لأنك أنت الذي أيقظتهم. •••
يغسلون أجسامهم ويلبسون ملابسهم،
ويرفعون أذرعهم ابتهالا عند ظهورك،
والناس جميعا يؤدون أعمالهم،
وتقنع كل الحيوانات بمراعيها،
وتزدهر الأشجار والنباتات،
والطيور التي تطير من أعشاشها،
تنشر أجنحتها لتمدح قوتك.
وتقف الحيوانات على أرجلها وكل ما يطير أو يحط.
إنهم يعيشون لأنك أشرقت من أجلهم،
وتسير السفن نحو الشمال ونحو الجنوب؛
لأن الطرق كلها مفتوحة عندما تظهر،
وتسبح الأسماك في النهر أمامك. •••
لأن أشعتك تتغلغل في المحيط،
أيها الخالق لبذرة الحياة في النساء.
إنك أنت الذي يجعل من البذرة السائلة إنسانا،
إنك أنت الذي يعنى بالطفل في بطن أمه ،
وأنت الذي يهدئه بما يوقف بكاءه؛
لأنك تعنى به وهو في الرحم.
أنت الذي يعطي النفس ليحتفظ حياة كل من يخلقهم،
عندما ينزل الطفل من بطن أمه ليتنفس في اليوم الذي يولد فيه،
تفتح فمه، وتمده بكل ما يحتاج إليه،
وعندما يصرخ الفرخ وهو داخل البيضة.
فأنت الذي يمده بالنفس في داخلها ليعيش،
وعندما تتم خلقه داخل البيضة تجعله يكسرها،
ويخرج من البيضة وهو يصوص عندما يحين موعده،
ويمشي على رجليه عندما يخرج منها. •••
ما أعظم أعمالك التي عملتها!
إنها خافية على الناس،
أنت الإله الأوحد لا شريك لك في الملك.
لقد خلقت الدنيا كما شئت،
عندما كنت وحدك،
الناس والماشية والوحوش الضارية،
وكل ما على الأرض يسعى على قدميه،
وكل ما يرتفع في السماء ويطير بجناحيه. •••
في بلاد سورية والنوبة وأرض مصر،
تضع كل شيء في مكانه.
إنك أنت الذي يمدهم بما يحتاجونه،
ويحصل كل شخص على طعامه وسنوات حياته مقدرة له،
يختلف الناس في لغاتهم،
كما يختلفون أيضا في طبائعهم.
يمتاز لون جلودهم عن بعضهم البعض؛
لأنك أنت الذي يميز أهل الأمم الأجنبية.
أنت الذي خلقت نيلا في ذلك العالم الآخر،
وأنت الذي يأتي به عندما يشاء لتبقي على الناس؛
وذلك لأنك أنت الذي خلقتهم لأجل نفسك.
وأنت سيدهم جميعا، سيدهم الذي يشغل نفسه من أجلهم،
سيد كل أرض الذي يشرق لأجلهم،
أنت آتون شمس النهار عظيم البهاء. •••
أنت الذي يعطي الحياة أيضا لكل البلاد الأجنبية البعيدة؛
لأنك خلقت نيلا في السماء،
لينزل لأجلهم ويحدث أمواجا فوق الجبال،
مثل أمواج البحر؛
لتروي حقولهم في قراهم.
ما أجمل أعمالك يا رب الأبدية!
فالنيل الذي في السماء خلقته للأجانب،
ولكل حيوانات الصحراء التي تسعى على الأقدام. •••
أما النيل الحقيقي فإنه ينبع من العالم الآخر لأجل مصر.
تغذي أشعتك كل مرج،
وعندما تشرق تحيا وتنمو لأجلك.
وجعلت فصول السنة لتغذي كل ما خلقت،
فالشتاء يبرد أجسامهم،
والحرارة تجعلهم يحسون بك.
لقد خلقت السماء البعيدة لتشرق منها،
وحتى ترى كل ما صنعت ،
وذلك عندما كنت وحيدا،
تشرق في صورتك كآتون الحي،
لامعا مضيئا في جيئتك ورواحك.
جعلت ملايين الصور من نفسك وحدها،
وسواء أكانت مدنا أم بلادا أم حقولا طريقا أو نهرا؛
فإن كل عين تراك فوقها مشرقا؛
لأنك آتون (شمس) النهار على الأرض. •••
أنت في قلبي،
وليس هناك من يعرفك،
غير ابنك «إخناتون»؛
لأنك أنت الذي خلقته عالما بمقاصدك ومدركا لقوتك.
أنت الذي صنعت الدنيا بيديك،
وخلقت الناس كما شئت أن تصورهم،
فهم يحيون عندما تشرق،
ويموتون عندما تغرب.
إنك أنت الحياة بعينها،
ويعيش الإنسان فقط إذا أردت.
تتعلق العيون بالجمال حتى تغيب،
ويترك الناس أعمالهم تغرب في الغرب.
ولكن عندما تشرق ثانية،
يزدهر كل شيء لأجل الملك؛
لأنك أنت الذي خلقت الأرض.
وأنت الذي خلقتهم (الناس) لأجل ابنك،
الذي ولد من صلبك.
ملك الوجه القبلي والوجه البحري: إخناتون،
وزوجة الملك العظيمة ... نفرتيتي،
عاشت متمتعة بالشباب دائما وإلى الأبد.
فالقارئ لهذا الدعاء يرى في واضعه سعة الأفق وعمق التفكير، وإحاطته بالكثير من أسرار الكون بالنسبة للعصر الذي ظهر فيه إخناتون، أي في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
ولعلك تلحظ في حديثه عن رأفة الله بشعوبه، أنه ذكر سورية والنوبة قبل مصر في تعداد الشعوب، وهذا يدل على أن تأملاته الفلسفية قد طغت على النظرة القومية الجديرة بملك مصر، بل بكل مواطن من أهلها. (1) التوحيد عند قدماء المصريين
ويبدو من المحاضرة التي ألقاها علينا العلامة المؤرخ أحمد كمال باشا سنة 1907م بنادي المدارس العليا، أن عقيدة التوحيد كانت معروفة لدى المصريين القدماء قبل إخناتون، وقبل عصر الأسرات الملكية، فقد قال في هذه المحاضرة تحت عنوان «التوحيد عند قدماء المصريين»: «قال تعالى:
قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد ، هذه هي صيغة التوحيد عند المسلمين، وهي موافقة تقريبا للصيغة التي كان يدين بها المصريون قبل عصر الأسرات الملكية، ويدلنا على ذلك رسوم هيروغليفية، وجدت في أوراق البردي القديمة وترجمتها: «الله وحده لا ثاني له، يودع الأرواح في الأشباح، أنت الخالق، تخلق ولا تخلق، خالق السموات والأرض.»
وإن الإفرنج كانوا يعتقدون إلى ما قبل عشر سنين
2
أن قدماء المصريين وثنيون، ولكن زال هذا الاعتقاد باكتشاف هذه الصيغة التي يعززها عدم وجود أصنام في مقابر ذلك العهد القديم، ثم قال: من أين أتى التوحيد لقدماء المصريين على هذه الصورة؟ أتاهم التوحيد من نوح عليه السلام فقد كان موحدا، بدليل قوله تعالى:
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ،
3
والخطاب للمسلمين الذين قدمنا عقيدتهم في التوحيد، وهنا يتجه اعتراض مؤداه أن الشرك كان شائعا عند قدماء المصريين بدليل قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام:
أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ،
4
ومعلوم أن يوسف كان سجينا عند فرعون مصر، ونجيب على هذا بأن عقيدة الشرك لم تدخل إلا مع العرب في الجاهلية الذين دخلوا مصر في العهد القديم، أي قبل عصر الأسرات، وأن الوثنية أتت من بلاد العرب في الجاهلية بدليل أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
وجد بالكعبة 365 صنما فهشمها، وأن من الأصنام العربية اللات والعزى ومناة.»
5
ثابر إخناتون على دعوته، ونقل العاصمة من طيبة إلى بلدة جديدة (أخت آتون)، أي سماء آتون، ومكانها الآن في تل العمارنة.
6
شكل 7-2: الملكة نفرتيتي زوجة إخناتون.
وتيمن باسم آتون فغير اسمه، وسمى نفسه «إخناتون» أي سرور آتون، بعد أن كان اسمه أمنحوتب.
وناصره قلة من قومه، ولكن كهنة المعابد، كهنة آمون، حاربوه حربا شعواء، وانضمت إليهم غالبية الشعب، فكان عهده عهد ثوران في الخواطر وتبلبل في الأفكار.
على أنه عني بتقدم الفنون الرفيعة، فكان عهده ممهدا للشأو الرفيع الذي بلغته في عهد صهره توت عنخ آمون.
وجاء تراجع الدولة وتفككها في عهده، وتغلغل الحيثيين في الولايات السورية، وسكوت إخناتون عنهم، وامتداد العصيان إلى فلسطين، فكانت هذه الأحداث مضعضعة لدعوته الدينية.
ولا غرابة في ذلك، فإن المصير السياسي للدول له الشأن الأول في النجاح أو الإخفاق الذي يصيب الدعوات الدينية أو السياسية أو الاجتماعية فيها، فلا عجب أن أخفقت دعوة إخناتون؛ لأن كيان الدولة السياسي قد تصدع في عهده، ومات بعد أن حكم نحو تسعة عشر عاما. (2) خلفاء إخناتون
تزوج إخناتون بفتاة مصرية اشتهرت في التاريخ وهي «نفرتيتي»
7
فصارت ملكة مصر.
ولم يرزق منها بأولاد ذكور، وأنجبت له بنات. (2-1) سمنخ كارع
ولما توفي إخناتون خلفه على العرش صهره وأخوه «سمنخ كارع»، ولم يدم ملكه طويلا. (2-2) توت عنخ آمون
وبعد وفاته خلفه «توت عنخ آمون»، وهو صهر آخر لإخناتون، وقد حكم نحو عشر سنوات.
وتقدمت في عهده الفنون والهندسة والعمارة ومظاهر الثراء والحضارة الرفيعة، ومات في سن مبكر إذ لم يتجاوز العشرين من العمر.
شكل 7-3: توت عنخ آمون، «القناع الذهبي لمومياته».
وهو الذي اكتشف مقبرته وكنوزه سنة 1922م، ذلك الاكتشاف الذي دوى صداه في العالم، وجعل اسم توت عنخ آمون في الخالدين، وصار على تعاقب السنين حديث الناس في شتى أقطار المعمورة لما بدا على ذخائره من الروعة والعظمة، وتجلى فيها مبلغ ما وصلت إليه مصر القديمة من الحضارة والتقدم في الفنون الرفيعة، وفي أساليب المعيشة وقوة العقيدة. (2-3) آي
انقطع نسل ملوك الأسرة الثامنة عشرة بوفاة توت عنخ آمون من غير عقب من الذكور.
واعتلى العرش بعده الكاهن «آي» فترة وجيزة؛ إذ كان موظفا كبيرا في القصر الملكي، وكان شيخا كبيرا طاعنا في السن فأهلته هذه الظروف مجتمعة إلى اعتلاء العرش. (2-4) حور محب
ومرت فترة ضعف واضطراب بدأت من أواخر عهد إخناتون.
وكادت البلاد تقع في هاوية الانقسام الداخلي والانحلال، لولا أن قيض الله لها زعيما من عامة الشعب، أهلته مواهبه وشخصيته لتسلم زمام الأمور وإنقاذ الوطن، وهو «حور محب» الذي كان من ضباط الجيش في عهد إخناتون، وقائد الجيش في عهد توت عنخ آمون.
ثم شغل المركز الذي شغله من قبل أمنمحات الأول، فلقد برز أيضا من صفوف الشعب وأنقذ مصر من الفوضى والانحلال، وكلاهما كان عصاميا، وكلاهما أسس ملكا عظيما.
شكل 7-4: حور محب برز من صفوف الشعب.
و«حور محب» من إقليم المنيا، ولم يكن طامعا ولا راغبا في أن يؤسس أسرة ملكية ولا أن يكون هو ملكا؛ ولذلك يعد من الأسرة الثامنة عشرة، وإنما مهد الأسرة التاسعة عشرة التي كان لها في تاريخ مصر القديمة شأن كبير.
تولى حور محب الملك؛ لأن الظروف دفعته إلى ذلك دفعا لإنقاذ البلاد من الهاوية التي تردت فيها، فقد دخل طيبة زعيما لمصر وقائدا لجيشها، وتوج فيها ملكا عليها.
فعاد إلى مصر الاستقرار الداخلي.
ولم يكن مؤيدا لدعوة إخناتون الدينية، ووقف في صف كهنة آمون، فأيدوه وناصروه.
ومع أنه نشأ نشأة عسكرية وكان قائدا للجيش، فإنه قدم توحيد الجبهة الداخلية على خوض غمار الحرب.
على أنه حارب الحيثيين.
وعقد مع ملك «خيتا» معاهدة ضمنت له استقرار الأمور مؤقتا على الحدود، وتفرغ للإصلاح الداخلي حتى تستعيد البلاد قوتها وهيبتها.
فنظم شئون الجيش، وسن القوانين الصالحة لمحاربة الرشوة والفساد في دواوين الحكومة، وأصلح المحاكم ومنع الاختلاس والتهريب عند دفع الضرائب، وطاف في أنحاء البلاد باحثا عن الأشخاص الأكفاء الذين يمكن أن يأتمنهم على شئون الحكم والعدل والقضاء بين المواطنين، وعاد الأمن وعادت الطمأنينة إلى البلاد، ومات بعد أن حكم ثلاثين عاما.
كتب عنه الدكتور أحمد بدوي بعنوان «حور محب أبو الشعب وصديق الفلاح» ما يلي ضمن ما قال: «كان يؤذيه ما رأى من حال الشعب، فالفلاح المسكين قد أهمل حاله واشتد بؤسه بعد أن تجرع مرارة العيش قبل أيام «حور محب» فشرب منها بالكثير وبالصغير ...، فارتاع من حال الشعب، وعزم على إصلاح شأنه وتأمين رزقه، وتوفير سعادته، فعمد إلى إصدار قانون ينظم حياة الأمة أملاه بنفسه على كتابه.
ثم فرض على من يخالف القانون أشد أنواع العقاب وآلمها، يستوي في ذلك لديه كبراء الأمة ومن كان صغيرا، فهو يحمي الفلاح من قسوة رجال الإدارة حين جمع الضريبة، وحماه من أداء الضريبة مرة أخرى إن هي فقدت في طريقها إلى دواوين الدولة، ونظم تحصيل الضرائب المفروضة على محاصيل الخضر المنزرعة في أرض التاج، وتحصيل الضرائب من أرزاق الأرض وغلاتها جميعا، كما حدد القانون شروط تعيين القضاة في محاكم الدولة، فاختارهم من أحسن الناس سيرة وأكرمهم خلقا، وأجرئهم قلبا، وأطهرهم لسانا، وأعفهم يدا، وحرم على القضاة أن يصادقوا أحدا من الناس، أو يتهادوا مع الناس، أو تكون بينهم وبين الناس معاملات مالية. وهكذا كان حور محب رجل حزم وعزم، لا يلين في الحق، ولا تأخذه في تنفيذه لومة لائم، رد على القوانين المصرية حرمتها وجلالها، فجنب البلاد شر الظلم، وطهرها من آثار العبث، وصفاها من شوائب الباطل، وليس أدل على حزم الرجل وصدق وفائه لشعبه من تصريحه حين إصدار القانون إذ يقول: «إني قد وضعته لضمان رفاهية شعبي»، ثم يخاطب رجال حكومته آمرا، فيقول: نفذوا أوامري في تطبيق مواد هذا القانون، فإني قد رأيت في هذه البلاد ظلما شديدا، ومن ذلك يتضح لنا أن حور محب كان مصلحا ومشرعا وقيما على تنفيذ ما أصدر من قوانين حريصا على تطبيقها بالعدل.
وكان فوق ذلك كله إنسانا قل أن نعرف له في تاريخ الملوك والمالكين من آل فرعون نظيرا.»
8
الفصل الثامن
رمسيس الثاني وحروبه الدفاعية: الأسرة التاسعة عشرة (1304-1195ق.م)
(1) رمسيس الأول
كان رمسيس الأول زميلا لحور محب ووزيره الأول، وهو أول ملوك الأسرة التاسعة عشرة، ومنشؤه في مدينة صان الحجر (تانيس) بشمال الدلتا.
وأهم عمل لرمسيس الأول أن بدأ في إنشاء بهو الأعمدة العظيم بالكرنك الباقي إلى الآن شامخا في مكانه، والذي يعد نسيج وحده بين آثار الفراعنة.
ولكنه لم يتمه، وترك إتمامه لابنه سيتي الأول وحفيده رمسيس الثاني.
ولم يعتزم رمسيس الأول امتشاق الحسام وتجريد جيش لمحاربة الحيثيين أعداء مصر الذين كانوا يتحرشون بها ويغتصبون أملاكها، ولم يحرك ساكنا لضعفه واعتلال صحته وتقدمه في السن وقصر مدة حكمه.
وترك هذه المهمة لخلفائه من بعده، ومات قبل أن يتم عامين ونصفا في الحكم.
وترجع شهرته إلى شخصيته، وإلى أنه أنجب سلسلة من الفراعنة العظام الذين كان لهم الشأن الكبير في تاريخ مصر القديمة، وهم: (2) سيتي الأول
هو ابن رمسيس الأول، وقد بدأ يستعيد بعض ما فقدته مصر في فلسطين وسورية، وكانت مملكة خيتا (الحيثيين) هي العدو اللدود لمصر في تلك الجهات.
وقد ظلت مصر تبسط سيادتها عليها، منذ منتصف القرن الخامس عشر ق.م في عهد تحوتمس الثالث حتى القرن الثاني عشر، أي إن سلطان مصر ظل مبسوطا على سورية وفلسطين زهاء أربعة قرون.
جهز سيتي الأول جيشا لمحاربة الحيثيين، واستعاد أكثر من ثلث أملاك مصر الآسيوية ودانت له فلسطين وفينيقية وجنوب سورية، ولم يكن يحارب الأهلين فيها، بل كان يحارب جنود خيتا (الحيثيين) وأعوانهم.
وعاد سيتي إلى مصر بعد انتصاره في الأقاليم الآسيوية فاستقبلته البلاد استقبال الظاهر، وذهب رجال الحكومة لمقابلته في مدينة ثارو (القنطرة)، واجتمعوا على رأس الجسر المشيد على القناة العذبة الموصلة النيل بالبحيرات المرة، وهناك شاهدوا الجنود المصريين العائدين من القتال يعلو وجوههم الغبار، وتبدو عليهم علامات التعب يتقدمهم سيتي راكبا مركبته الحربية، فهتف الجميع بحياته، ولما وصل إلى طيبة أقيمت له احتفالات عظيمة أخرى.
وانتهى الصراع بينه وبين الحيثيين بعقد معاهدة صداقة بينهما، ظلت مرعية الجانب حتى وفاة سيتي.
وكان حد الدولة المصرية الذي يفصلها عن مملكة خيتا عند نهر الكلب شمال بيروت.
وصد هجوما لليبيين على حدود مصر الغربية، وانتصر عليهم.
وسار سيرة عدل وإصلاح، ونشطت في عهده الفنون والعمارة، واستمر في العمل الذي بدأ به رمسيس الأول في تشييد بهو الأعمدة العظيم في الكرنك.
وقضى في الحكم نحو تسعة عشر عاما. (3) رمسيس الثاني، أو الأكبر: حكم 67 عاما (من سنة 1290 إلى 1223ق.م)
يعد رمسيس الثاني من أعظم ملوك مصر، ويلي تحوتمس الثالث في المكانة والشهرة.
قضى في الحكم سبعة وستين عاما، أي قرابة ثلاثة أرباع قرن، فهو من أطول الملوك عهدا بالحكم، وقد ساعده ذلك على ذيوع شهرته بين ملوك مصر والعالم.
وهو ابن سيتي الأول، تولى الحكم وهو في نحو العشرين من عمره.
وكانت مملكة خيتا (الحيثيين) في عنفوان قوتها، لم تحترم المعاهدة التي أبرمت بينها وبين سيتي الأول، بل اتخذتها ذريعة لتحصين ما وضعت يدها عليه من الأقاليم السورية.
وزحف «موتللي » ملكها على وادي نهر العاصي، واستولى على «قادش» مركز النفوذ في سورية منذ عهد تحوتمس الثالث.
وصارت هذه المملكة خطرا على مصر، وخاصة بعد أن تم لها التغلب على مملكة ميثاني في أعالي الفرات.
تولى رمسيس الثاني الحكم، ورأى الحيثيين واضعين أيديهم على معظم الأقاليم السورية، يتحدون مصر ويناصبونها العداء، فجرد جيشا لمحاربتهم.
واتبع رمسيس الثاني طريقة تحوتمس الثالث.
شكل 8-1: رمسيس الثاني، أو الأكبر، في عنفوان شبابه، عن تمثاله الموجود بمتحف تورين بإيطاليا، ويعتبر أجمل تمثال يزين هذا المتحف.
لم يكن رمسيس يحارب أهل هذه البلاد، بل كان يحارب ملك خيتا الذي استعبد أهلها، كانت حروبه ضد الحيثيين لا ضد السوريين مثلما كان يفعل تحوتمس الثالث في حروبه الآسيوية، فقد كانت مشبوبة على بقايا الهكسوس لا على المواطنين.
فبدأ أولا بإخضاع الشاطئ البحري ليتخذه قاعدة حربية لحركاته؛ لأن المواصلات البحرية كانت أسهل وأسرع من البرية.
ثم زحف بجيشه من مدينة ثارو (القنطرة شرق)، وتولى بنفسه قيادة فيلق «آمون» في مقدمة الجيش، تتلوه فيالق: رع، وبتاح، وسوتخ، على التعاقب.
وكان يحتذي حذو تحوتمس الثالث، فسار في الطريق القديم الذي سلكه تحوتمس، ووصل إلى بلاد كنعان، واتجه شمالا متبعا الشاطئ حتى شمالي بيروت، ومن هناك توغل في الداخل حتى بلغ وادي نهر العاصي. (3-1) معركة قادش
التقى رمسيس الثاني بجيش الحيثيين في العام الخامس من حكمه بالقرب من «قادش» على نهر العاصي، وتقدر قوات الجيش المصري بنحو عشرين ألف مقاتل عدا الجنود المرتزقة، وجيش «موتللي» ملك الحيثيين بمثل هذا العدد، وكلاهما عدد لا يستهان به في ذلك العصر.
وكانت المعركة في المرحلة الأولى منها نصرا للحيثيين، ذلك أن رمسيس لم يكن المكان الذي حشد فيه موتللي جنوده، ولم يخبره أحد من ضباطه بهذا المكان، وصدق ما قاله بدويان جاسوسان ادعيا أنهما هربا من جيش الحيثيين وزعما أن «موتللي» قد انسحب بجيشه شمالا إلى حلب.
والواقع أن هذه القصة كانت خديعة لاستدراج رمسيس إلى التقدم شمالا.
فاعتزم رمسيس أن يسرع خلف عدوه، وعبر على عجل، ولم ينتظر حتى تتجمع بقية جيشه، وسار لفتح قادش مطمئنا إلى خلوها من الحيثيين، وتقدم مصحوبا بحرسه الخاص وحده تاركا خلفه فيلق آمون يتبعه، وكانت الفيالق المصرية الأخرى لا تزال متفرقة على مسافة ثمانية أو عشرة أميال من الطريق.
وعلم رمسيس أخيرا أن «موتللي» حشد قواته خلف قادش، في الوقت الذي كانت قوات رمسيس لم تعبر بعد نهر العاصي.
وعبر «موتللي» النهر جنوبي قادش، قائدا جيشه اللجب، فشطر فيلق رع شطرين.
وكانت قوات «موتللي» راكبة مركباتها الحربية التي تزيد على الألفين وخمسمائة مركبة، بينما كان فيلق رع مكونا من المشاة فقط.
وقد ظفر «موتللي» بالقسم الجنوبي من هذا الفيلق، أما جنود القسم الآخر فارتدوا إلى معسكر رمسيس ودخلوه مبهوتين من المفاجأة، ثم اقترب الحيثيون من المصريين واتسعت مقدمتهم حتى طوقت المعسكر المصري تماما.
شكل 8-2: خريطة معركة قادش، مقتبسة من خريطة برستد.
وفي المرحلة الثانية من المعركة تحول الموقف، وكان النصر حليف رمسيس ذلك أنه على عظم الخطر الذي أحدق بجيشه وبعد المسافة بينه وبين بقية هذا الجيش، فقد هجم بشجاعة نادرة على الحيثيين المتدفقين عليه وركز هجومه على القسم الشرقي من قوات الأعداء فأوقع في قلوبهم الرعب، وألقاهم في النهر تحت أعين موتللي الذي وقف على الشاطئ المقابل مصحوبا بثمانية آلاف من مشاته.
وساق القدر إلى رمسيس حادثا رجح كفته في ميدان المعركة؛ ذلك أن الحيثيين الذين أحاطوا بالمصريين من الجنوب والغرب لم يتابعوا هجومهم لاشتغالهم بالنهب والسلب، فقد أخذوا يسلبون ما وصلت إليه أيديهم من مهمات المصريين ومتاعهم، بدلا من الاستمرار في تعقبهم، واتفق في وقت اشتغالهم بالنهب أن وصلت إمدادات حربية مصرية آتية من الشاطئ، وهي غير الفيالق التي يتكون منها جيش رمسيس، فانقضت هذه الإمدادات على الحيثيين على غرة وأبادتهم عن آخرهم.
فكان ثبات رمسيس الثاني أمام المفاجأة الأولى وشجاعته في صد هجوم الحيثيين، ووصول هذه الإمدادات واشتراكها في القتال، كل هذه الأسباب قد جعلت المعركة في مرحلتها التالية نصرا مؤزرا للجيش المصري.
قال برستد في سياق وصفه للمعركة: «والمعروف أن المصريين دافعوا عن أنفسهم دفاع الأبطال حتى اضطر «موتللي» أن يمد جنده بآخر رديف، وهو المكون من ألف مركبة حربية مسلحة، وبالرغم من هجوم رمسيس على أعدائه ست مرات؛ فإن «موتللي» لم يرسل جنده المشاة الثمانية آلاف الذين كانوا معه على الشاطئ الشرقي لنهر العاصي؛ ولذلك لم يحارب من الحيثيين إلا قسم المركبات الحربية، أما المشاة فلم يشتركوا في الكفاح، ويلاحظ أن مقاومة رمسيس دامت حوالي ثلاث ساعات كان يراقب بلهفة في أثنائها، وصول قواته الجنوبية التي لم تكن عبرت النهر بعد، ولما مالت الشمس للمغيب لاحت في أفق السماء رءوس حراب فيلق بتاح لامعة مسرعة مكفهرة، فابتسم لها محيا رمسيس؛ إذ علم بقرب نجاته. فوقع الحيثيون بين قوتين مصريتين، واضطروا أن ينسحبوا إلى قادش بعدما تكبدوا خسائر جسيمة.»
1
وإذ أدرك ملك الحيثيين عظم الخسارة لحقت بجيشه، فقد أرسل إلى رمسيس خطابا يطلب فيه الصلح، فوافق رمسيس على هذا الطلب، ووقف القتال.
لم تكن معركة قادش معركة فاصلة، ولم يستطع رمسيس أن يستولي على قادش ذاتها، واتفق الطرفان على أن يحترم كل منهما حدود الآخر، وهذا يدلك على قوة مملكة الحيثيين.
وعاد رمسيس إلى مصر، واقتصرت الدولة المصرية في آسيا على فلسطين ولبنان وجزء صغير من سورية. (3-2) معاهدة صلح وعدم اعتداء بين مصر وخيتا (سنة 1280ق.م)
وثابر رمسيس على حروبه في آسيا عدة أعوام، ثم توفي موتللي ملك الحيثيين فخلفه أخوه «خوتوسيل»، ورأى من الحكمة أن يحارب مطامع آشور، فآثر التحالف مع مصر، وعقد مع رمسيس معاهدة صلح وعدم اعتداء.
وتعد هذه المعاهدة أقدم وثيقة من نوعها في تاريخ الشرق القديم، بل في التاريخ الدولي العام.
وتوثقت الصداقة بين مصر وخيتا وقتا ما.
وأكدتها صلة المصاهرة، فقد زوج ملك خيتا «خاتوسيل» ابنته لرمسيس الثاني، وجاء زائرا لمصر ومعه ابنته، وحضر الاحتفال البهيج في طيبة بتأهيلها لرمسيس.
على أن رمسيس في حروبه الآسيوية لم يصل إلى ما بلغه تحوتمس الثالث.
وبالرغم من هجوم سيتي الأول، وحروب رمسيس الثاني، لم تجاوز حدود مصر الآسيوية فلسطين وسورية الجنوبية، واستحال على المصريين أن يحكموا سورية ثانية حكما مستمرا.
ويبدو الفرق جليا بين رمسيس الثاني وتحوتمس الثالث، فتحوتمس الثالث كان من أبطال الحرب والكفاح، على حين كان رمسيس أميل إلى السلم، ولم يكن على كفاءة تحوتمس في قيادة المعارك، فإن تسرعه في معركة قادش كاد يورده مورد الهلاك لولا تدخل القدر في المعركة.
وقد تزوج رمسيس الثاني في حياته الطويلة بزوجات كثيرات، عدا المحظيات والزوجات الثانويات، كما تزوج من ثلاث من بناته، ورزق بأولاد بلغ عددهم 79 من الذكور و59 من البنات، فزاد أولاده وبناته على ذرية أي ملك مصري آخر.
2
وعظم النفوذ السامي بمصر وقتئذ، ثم ظهر الأوربيون لأول مرة في تاريخ مصر القديمة، فأنزلوا جنودهم على ساحل غربي الدلتا، واتحدوا مع الليبيين على اقتحام الوجه البحري، فصدهم جيش «منفتاح» وأبعدهم إلى بلادهم الأصلية كما سيرد ذلك في الفصل التاسع، ثم اضطربت أحوال القطر المصري بعد ذلك فسقطت الأسرة التاسعة عشرة.
وكانت طيبة عاصمة العالم المتمدن في ذلك العصر، وشغلت هذا المركز قبل روما بألف عام.
3 (3-3) ثورة 23 يوليو سنة 1952م (تكريم رمسيس الثاني)
في سنة 1955م نقلت حكومة الثورة تمثال رمسيس الثاني الضخم الذي كان ملقى على الثرى في ميت رهينة منذ آلاف من السنين، وأقامته على قاعدة جرانيتية فخمة وسط ميدان من أكبر ميادين العاصمة، وهو ميدان باب الحديد، وأسمته ميدان رمسيس، وأسمت الشارع المؤدي له شارع رمسيس، فصار هذا التمثال رمزا لعظمة مصر القديمة، يشاهده القادمون إلى العاصمة من داخل القطر وخارجه.
وإن في إقامته في هذا المكان تكريما وتقديرا لرمسيس العظيم. (3-4) أمجاد رمسيس الثاني البنائية
إنها منشآت ضخمة شيدها رمسيس الثاني في مناطق عديدة بالوجه القبلي والوجه البحري، والنوبة.
ولا يوجد ملك من ملوك مصر له مثل هذا العدد من العمائر الشاهقة، ولعلها كانت ولم تزل السبب في ذيوع اسمه ورفعة شأنه بين ملوك مصر قاطبة.
فقد أسس مدينة «بر رمسيس» بشمال الدلتا، ومكانها الآن على أرجح الآراء في «قنتيرة » الحالية بمركز فاقوس الآن.
شكل 8-3: معبد الرمسيوم بالقرنة (بالبر الغربي للنيل).
وحسبنا أن نذكر معابده العديدة التي شيدها، تلك المعابد التي هي من مفاخر مصر القديمة، وكان لها الفضل الأكبر في تخليد اسم رمسيس، وهي رمز خالد لما كانت عليه مصر من حضارة وعظمة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
ولقد شيد لنفسه معبدا ضخما رائعا بالبر الغربي للنيل بطيبة يعرف بالرمسيوم (شكل
8-3 )، وصرحا شامخا بمعبد القصر.
وأتم تشييد البهو الكبير ذي العمد العظيمة في معبد الكرنك، وهو الذي بدأ إنشاؤه في عهد رمسيس الأول ثم سيتي الأول، وأتمه رمسيس الثاني، ويعد من أعظم عمائر العالم القديمة والحديثة، والباقي إلى اليوم، ويبلغ ارتفاع أوسط هذا البهو أربعة وعشرين مترا، وسقفه مرفوع على عمد ضخمة عددها 134 عمودا يتجاوز قطر الواحد منها عشرة أمتار (انظر شكل
8-4 ).
شكل 8-4: البهو الكبير ذو العمد العظيمة بالكرنك، ويبلغ ارتفاع الأعمدة العظيمة المحلاة تيجانها بأكمام الزهر 80 قدما، ومحيطها 33 قدما، أما الأعمدة الواطئة المنحوتة تيجانها على هيئة البراعم (زهر النبات قبل أن يتفتح)، فيبلغ ارتفاعها نحو 43 قدما.
يقول «برستد» يصف بهو الأعمدة الكبير بالكرنك: «إن هذه الساحة أعظم العمارات تأثيرا في النفوس، وقد وافق على هذا الأستاذ رسكن
Ruskin
حيث قال: «إن أقل ما يقال عن هذه الساحة أنها ضخمة شاهقة لدرجة تؤثر كثيرا في نفس ناظرها، فإذا وقفت بجوار عمدها وألقيت بنظرك على تلك العمد العديدة الشامخة المعتبرة أعظم أعمال البشر، وأمعنت في رءوسها الباسقة الحاملة لصحن المعبد، نقول: إذا لاحظت أن مسطح قمة كل عمود يسع ما يقرب من مائة رجل، وأن جدر هذه الساحة تسع فيما بينها كنيسة نوتردام
Notre Dame
بباريس ويبقى منها مكان فسيح، وإذا نظرت إلى باب ذلك المعبد العظيم البالغ طول عتبته أربعين قدما وزنتها مائة وخمسين طنا تقريبا. إذا تأملت كل ذلك لا يسعك إلا الإعجاب والإشادة بأعمال ذلك العصر الذي شيد رجاله أعظم ساحة ذات عمد أقامها البشر على ظهر البسيطة إلى الآن.
4
وإذا كان تأثر السائح من ضخامة هذه الساحة أكثر من تأثره بجمالها ورونقها، فليذكر أن العمال الذين شيدوها قد شيدوا أيضا معبد رمسيس المعروف بالرمسيوم الذي لا يقل في الجمال والكمال عن أحسن عمارات الأسرة الثامنة عشرة.»
5 (أ) معبدا أبو سمبل
وشيد رمسيس الثاني معابد في النوبة.
أهمها معبدا «أبو سمبل»
6
أعظم وأجمل آثار رمسيس الثاني بالنوبة، وقد نحتا في الصخر الذي يتكون منه الجبل بدلا من إقامتهما من الحجر، فجاءا آية في الروعة والضخامة والخلود على الزمن، ويقعان على شاطئ النيل.
شكل 8-5: التمثالان الهائلان لرمسيس الثاني جالسا، بمدخل معبد «أبو سمبل» الكبير، ارتفاع كل منهما عشرون مترا (انظر صورة مدخل المعبد بتماثيله الأربعة شكل
8-6 ).
شكل 8-6: واجهة معبد «أبو سمبل» الكبير، وعلى كل جانب من مدخل المعبد تمثالان هائلان لرمسيس الثاني جالسا.
وعلى مدخل المعبد الكبير من اليمين تمثالان هائلان لرمسيس الثاني جالسا، يبلغ ارتفاع كل منهما عشرين مترا (شكل
8-5 )، وفي الجانب الأيسر من مدخل المعبد تمثالان هائلان آخران بنفس الارتفاع، أحدهما قد كسر جزؤه العلوي (شكل
8-6 ).
وقد بناه رمسيس لعبادة المعبود «حور أختي»، ويبلغ ارتفاع واجهة هذا المعبد 33 مترا، وفوق بوابة المعبد نحت تمثال المعبود «حور أختي»، وبجانب أرجل التماثيل الهائلة الأربعة على المدخل أو بينها، توجد تماثيل لعائلة رمسيس الثاني، كأمه وزوجته المفضلة نفرتاري، وبعض بناته وأبنائه.
وعندما يدخل الزائر مدخل المعبد يشاهد صالة الأعمدة الضخمة التي تحتوي على ثمانية أعمدة، على الوجه الأمامي لكل منها تمثال ضخم لرمسيس الثاني.
أما سقف الصالة فمزين تارة بالصقر المجنح وتارة بالنجوم، وعلى جدران صالة الأعمدة مناظر معركة «قادش» التي نشبت بين رمسيس والحيثيين، ويشاهد الجيش المصري وهو يزحف نحو المدينة، والمعسكر المصري وقد اكتظ بالجند والمركبات الحربية، ومنظر الأسيرين اللذين أمسكت بهما القوات المصرية وهما يجلدان ليعترفا بمواقع جيش الحيثيين ، ثم رمسيس الثاني وهو يعقد مجلس الحرب، ثم التحام الجيشين، وانقضاض رمسيس الثاني بمركبته الحربية على العدو الذي أحاط به، كما يشاهد الزائر مدينة قادش والجيش الحيثي وهو يتقهقر.
ويلي صالة الأعمدة صالة أخرى تحتوي على أربعة أعمدة مربعة ، وفي جوانب هذه القاعة عدة غرف لحفظ القرابين، ويلي ذلك قدس الأقداس حيث تشاهد في نهايته التماثيل الأربعة لبتاح وآمون ورمسيس وحور أختي، وتبلغ المسافة بين هذه التماثيل ومدخل المعبد 63 مترا.
شكل 8-7: واجهة معبد «أبو سمبل» الصغير.
شكل 8-8: معبد «أبو سمبل» الكبير والصغير، على شاطئ النيل، الصغير إلى اليمين والكبير إلى اليسار.
أما المعبد الصغير فقد بناه رمسيس لعبادة المعبودة «حتحور»، ويعرف بالمعبد الصغير أو معبد نفرتاري، وتقع على مسافة نحو 150 مترا من شمال المعبد الكبير، وقد نحته رمسيس الثاني أيضا في الصخر، ويزين واجهة هذا المعبد ستة تماثيل، أربعة منها لرمسيس الثاني، والاثنان الآخران لزوجته المفضلة الملكة نفرتاري (شكل
8-7 ).
وقد استرعت هذه الآثار الخالدة أنظار العالم، وبخاصة بعد أن تقرر إنفاذ مشروع السد العالي، ويؤدي هذا المشروع أن تغمر مياه النيل مساحات واسعة من الأراضي، ومنها البلاد القائمة فيها هذه الآثار، فاهتمت الهيئات العلمية في مختلف البلدان بضرورة العمل على إنقاذ تلك الآثار؛ لأنها ليست ملكا لمصر وحدها بل تخص التراث الحضاري للإنسانية جمعاء.
شكل 8-9: الملكة نفرتاري، زوجة رمسيس الثاني المفضلة، كما تبدو منقوشة على جدران معبد «أبو سمبل» الكبير.
وكان رمسيس يعامل العمال الذين اشتغلوا في إقامة هذه المباني الضخمة معاملة إنسانية نعموا في خلالها برغد العيش، وعاشت طبقات الشعب في عهده عيشة رخاء.
وتوفي رمسيس الثاني حوالي سنة 1225ق.م، وقد بلغ من العمر نيفا وتسعين سنة، وكانت وفاته في السنة السابعة والستين من حكمه، وقد استمر عشرة فراعنة يسمون أنفسهم باسمه بعد وفاته.
شكل 8-10: صخور النوبة على شاطئ النيل.
الفصل التاسع
الدفاع عن كيان مصر في عهد خلفاء رمسيس الثاني
أخذ جيران مصر في أواخر عهد رمسيس الثاني يتطلعون إلى انتقاصها من أطرافها، وخاصة حين تقدمت به السن وضعفت لديه الرغبة في الحرب والهيجاء، على أنهم ظلوا ساكتين تهيبا من سطوته وبطشه، فلما مات أخذوا يتحرشون بمصر.
وفي الحق إن خلفاء رمسيس الثاني قد صمدوا لهذا التحرش وما أعقبه من هجوم، وقاموا بواجبهم في النضال عن كيان الوطن ودافعوا عنه بكل ما أوتوا من حول وقوة.
وفي ذلك يقول موريه: «في مدى مائة وخمسين عاما تقريبا (من سنة 1309 إلى سنة 1168ق.م) من عهد رمسيس الأول إلى الثالث قد أدهشت مصر العالم الشرقي بتفوقها في القوة الحربية، وبارتقاء حضارتها التي لم يستطع الهمج أن ينالوا منها.»
1 (1) منفتاح
هو ابن رمسيس الثاني، ولم يكن صغير السن حين آل إليه الملك، بل كان في نحو الستين من عمره. (1-1) منفتاح يصد الغارات عن مصر
وفي عهده تآمر الليبيون
2
وقرصان بحر الأرخبيل على مهاجمة مصر من الغرب.
شكل 9-1: منفتاح، ابن رمسيس الثاني وخليفته في الحكم.
فانبرى لهم «منفتاح» وجرد عليهم جيشا صد هجومهم، وكسرهم في غرب الدلتا وأوقع بهم هزيمة كبيرة أسفرت عن قتل عدة آلاف من المغيرين وأسر أخرى منهم، فأمنت مصر شر الغزو الليبي.
أما من جهة الشرق؛ فلئن ظلت العلاقات ودية وقتا ما بين مصر و«الحيثيين»؛ تنفيذا لمعاهدة الصداقة التي عقدت بينهما سنة 1280ق.م منذ نحو ست وأربعين سنة؛ فإن هذا الود لم يدم طويلا.
فقد تبين أن الحيثيين عاودتهم أطماعهم وعداواتهم القديمة، وساعدوا قرصان بحر الأرخبيل على شن الغارة على مصر.
ولم يكتفوا بذلك، بل أوقدوا نار الفتنة في الأقاليم السورية الخاضعة لمصر، فهبت فيها وفي فلسطين اشتركت فيها قبائل بني إسرائيل.
فانبرى لهم منفتاح في السنة الثالثة من حكمه وحاربهم وقمع هذه الفتنة، وأمن حدود مصر الشرقية.
فمنفتاح بالرغم من كبر سنه أظهر مضاء في العزيمة وقوة وصلابة في الكفاح، واستحق الإعجاب لصده الهجمات الأجنبية عن مصر من الشرق والغرب، ومات بعد أن حكم نحو عشر سنوات. (2) سيتي الثاني
لم تقع في عهده أحداث تستحق الذكر، ووقعت في البيت المالك انقسامات أودت بالأسرة التاسعة عشرة. (3) الأسرة العشرون (1195-1080ق.م) (3-1) رمسيس الثالث
اعتبر المؤرخ «مانيتون» رمسيس الثالث مؤسسا للأسرة العشرين.
وقد عني هذا الملك بإصلاح نظام الجيش؛ ليكون عدته في الدفاع عن البلاد.
وصد غارة لسكان البحر المتوسط، ونازلهم بأسطوله على شواطئ فينيقية فأوقع بهم، وغرقت سقن كثيرة من سفنهم، وأنقذ مصر من هذا الغزو الذي كان شبيها بغزو الهكسوس لولا أن سحقه رمسيس الثالث، فاستحق الثناء العظيم على شجاعته في رد العدوان الخارجي الغادر.
واستردت مصر بفضل هذا الدفاع نفوذها في جزء من سورية وفي فلسطين.
وصد هجوما آخر لليبيين وحاربهم وهزمهم.
وحكم البلاد إحدى وثلاثين سنة.
ويعتبر آخر الفراعنة العظام من المحاربين في تاريخ الأسرة العشرين.
وتبع رمسيس الثالث في الحكم تسعة من الملوك سموا باسم رمسيس، من رمسيس الرابع إلى الحادي عشر، ولكن ليس فيهم همة رمسيس الثاني ولا مضاء عزيمته ولا نباهة ذكره. (4) الأسرة الحادية والعشرون
وتبعتها الأسرة الحادية والعشرون، فحكمت نحو مائة وخمسين سنة، وكانت عاصمة البلاد في عهدها تانيس «صان الحجر».
ولم يقع في عهد هذه الأسرة حادث يستحق الذكر، وخيم على البلاد جو من الخمول والتراجع والانتكاس. (5) الأسرة الثانية والعشرون (سنة 950-730ق.م)
وظلت البلاد تعاني مرارة الفوضى والانقسام، حتى قام زعيم يدعى «شيشنق» وأسس الأسرة الثانية والعشرين.
وقيام هذه الأسرة راجع إلى ضعف الأسرة الحادية والعشرين، وإلى وفاة آخر ملوكها وانقراض ذريتهم. (5-1) شيشنق الأول
Sheshonk
هو الذي زعم بعض المؤرخين أنه ليبي، وأنه أسس أسرة ليبية، وأن الليبيين حكموا مصر في عهده وعهد خلفائه.
والصحيح أنه وإن كان أصله البعيد يرجع إلى ليبيا، لكن أسرته تمصرت منذ أن استوطنت مصر من عدة أجيال مضت، وسكنوا أهناسيا المدينة، وصاروا من المواطنين المصريين، وتقلد كثير منهم مناصب الدولة وأظهروا فيها إخلاصا لوطنهم.
شكل 9-2: شيشنق الأول، مؤسس الأسرة الثانية والعشرين.
فلا يصح القول بأن هذه أسرة ليبية وأن الليبيين حكموا مصر، بل الصحيح أنها أسرة مصرية اندمجت في المواطنين فصارت منهم، شأنها في ذلك شأن بعض الأسرات المالكة التي تولت الحكم ولا تزال تتولاه في بعض البلاد الأوروبية، ويرجع أصلها البعيد أو القريب إلى سلالة أجنبية، ولم يقل أحد إن هذه البلاد يحكمها الأجانب أو أشباه الأجانب، فما يسري على أوروبا يسري على مصر.
وفي ذلك يقول الدكتور أحمد فخري: «من التجني على التاريخ أن يسمى وجود أفراد هذه الأسرة على عرش البلاد أنه استعمار ليبي، أو أن مصر فقدت استقلالها وأصبحت محكومة بغير أبنائها؛ ففي كثير من بلاد الأرض في الأزمان الغابرة وفي وقتنا الحاضر عائلات ملكية من أصل أجنبي، ولكن لم يقل أحد إن إنجلترا محكومة بالألمان، أو إن اليونان وبلجيكا وهولندا وغيرها مستعمرات ألمانية، أو إنها فاقدة لاستقلالها لأن ملوكها الحاليين من أصل ألماني غير وطني.»
3
كان تولي «شيشنق» العرش برضا الأهلين، ولم يجد أي معارضة منهم، وقد اتخذ تل بسطة (الزقازيق الحالية) عاصمة لملكه.
حقا إن كهنة آمون في طيبة لم يرتاحوا لجلوسه على العرش؛ خوفا على سلطانهم وامتيازاتهم، ونقموا منه تعيينه أحد أبنائه في وظيفة الكاهن الأكبر لآمون، وغضبوا لذلك، ورحلوا إلى نباتا بالنوبة وأسسوا فيها أسرة حاكمة، ولكن هؤلاء الكهنة لم يكونوا في معارضتهم يمثلون الشعب.
اعتبر مانيتون شيشنق مؤسس الأسرة الثانية والعشرين التي حكمت نحو قرنين ونصف حكما حازما.
وكان حريصا على وحدة مصر واستقلالها، عاملا على رفعة شأنها، وقد أعاد إليها الأمن والنظام، وسعى جاهدا في أن يسترجع لها عظمتها ومجدها وهيبتها في الخارج.
وقد زوج ابنه وولي عهده «أوسركون» بابنة آخر ملوك الأسرة الحادية والعشرين، وبذلك خلع عليه الدم الفرعوني.
وأخذ يبسط نفوذ مصر على فلسطين حتى جعل سيادة مصر فيها فعلية، بعد أن تراخت في عهد الأسرة الحادية والعشرين بل منذ وفاة رمسيس الثالث، واستولى على بعض المدن التي كان يحتلها اليهود.
وغزا فلسطين كلها تقريبا، واستولى على أورشليم (بيت المقدس)، فجدد بذلك عهد فراعنة مصر الأقدمين.
وفي ذلك يقول برستد: «وهكذا أرجع شيشنق لمصر لأمد قصير بعض مجدها القديم الذي شاهدته الإمبراطورية في عهد الأسرة التاسعة عشرة، لما أخذت ترد على خزائنها جزية الأقاليم الواسعة الممتدة من شمالي فلسطين شمالا إلى أعالي النيل جنوبا.»
4
وورد ذكره في التوراة باسم «شيشق» بالإصحاح الرابع عشر، بالآية الخامسة والعشرين.
ومات حوالي سنة 920ق.م بعد أن حكم مصر 21 سنة.
وخلفه ابنه «أوسركون» الأول فاتبع سياسة أبيه.
وتلاه ملوك آخرون من أسرة شيشنق، إلى أن اضمحل شأنهم وتفككت الجبهة الداخلية في عهد أواخرهم.
وفي أواخر عهد هذه الأسرة ظهر الخطر الأشوري على مصر. (6) الأسرتان الثالثة والعشرون والرابعة والعشرون
ناصب كهنة آمون ملوك الأسرة الثانية والعشرين العداء، وأقاموا ملكا بدلهم، فأسس الأسرة الثالثة والعشرين، وتنازع أمراء البلاد السلطة وضعف شأن الحكم.
وظهر أمير يدعى «تفنخت»
Tafnakt
حاكم سايس (صا الحجر) غربي الدلتا،
5
وأسس الأسرة الرابعة والعشرين، وتنازع الملك مع منافس له، فازدادت البلاد ضعفا؛ إذ صار فيها بيتان مالكان. (6-1) قانون بوخوريس
Bochoris
بدأت مصر منذ فجر التاريخ بنظام قانوني أصيل هو أقدم نظام عرفته الإنسانية، وقد استمر هذا النظام قائما أكثر من أربعين قرنا، ولا يوجد له مثيل في تاريخ الأمم الأخرى، ولكنه لم يجاوز المرحلة التي وصلت إليه جميع الشرائع القديمة، وهي مرحلة التدوين أو التقنين، أي وضع القوانين في صيغ محددة ونشرها على الناس.
6
ولما تولى الحكم بوخوريس بن تفنخت مؤسس الأسرة الرابعة والعشرين لم يحكم سوى أربع سنوات وقد وضع قانونا يسمى «قانون بوخوريس» عام 740ق.م. أدخل فيه كثيرا من الإصلاحات والتعديلات على القانون القديم وأتى فيه بجديد، وأخرج قواعد القانون عن دائرتها الدينية وأضفى عليها طابعا مدنيا.
ويعتبر هذا القانون المرحلة الأخيرة التي وصل إليها تطور القانون المصري في عهد الفراعنة، وقد أشاد الإغريق بمكانة بوخوريس من هذه الناحية، واعتبروه أحد عظماء المشرعين في مصر القديمة.
ومن أهم اصطلاحات بوخوريس أنه نظم المعاملات على أساس حرية التعاقد، ولم يبق فيها أثر للشكلية القديمة.
وفي الأحوال الشخصية ساوى بين الرجل والمرأة ومنحها حقوقا لم تتمتع بها المرأة اليونانية ولا الرومانية، وبقي الطلاق من حق الزوج، وأصبح للزوجة بحكم مبدأ حرية التعاقد أن تشترط أن يكون لها الحق في فسخ عقد الزواج أو ما يدرأ عنها خطر الطلاق، كأن تحصل على إقرار من الزوج بمبلغ معين يلتزم به كنفقة حين الطلاق، أو تتفق معه على شرط جزائي فيقوم الزوج بدفع مبلغ من المال إذا طلق زوجته.
وظل تعدد الزوجات مباحا وحرم فقط على الكهنة، ولكن الزوجة تستطيع أيضا أن تنص في عقد الزواج على ألا يباح للزوج أن يتزوج من أخرى، وبذلك كان يتعذر على الزوج أن يتخذ أكثر من زوجة واحدة.
7 (7) الأسرة الخامسة والعشرون (7-1) بعنخي
Biankhi
كانت البلاد في حاجة إلى منقذ يستخلصها من الفوضى والانقسامات، ويعيد إليها وحدتها.
لم يكن هذا المنقذ سوى الشاب «بعنخي» الذي أنفذ من «نباتا» على الشلال الرابع جيشه؛ لاستخلاصها من الهاوية التي تردت فيها.
و«بعنخي» هذا هو الذي زعم بعض المؤرخين الأجانب أنه إثيوبي، وأنه أسس أسرة إثيوبية، وأن إثيوبيا حكمت البلاد في عهده وعهد أسرته.
والصحيح أنه من النوبة، والنوبة جزء لا يتجزأ من مصر، وكانت ثقافتها مصرية، وديانتها مصرية من عهد الفراعنة الأقدمين، هذا إلى أن أصل أسرته من كهنة «طيبة» الذين هاجروا إلى الجنوب.
وكانت «نباتا» حصنا من حصون مصر الجنوبية في زمن «أمنحوتب الثاني»، وكان لكهنة آمون الكلمة النافذة فيها، وسبق أن أسسوا بها أسرة حاكمة.
حارب بعنخي جيش الأمير «تفنخت» حاكم بلدة سايس (صا الحجر الحالية)، بمركز كفر الزيات الآن الذي ادعى أنه الأحق بالملك، وذهب بنفسه إلى طيبة ليقود جيشه، وسار منها شمالا حوالي سنة 721ق.م، واستولى على صعيد مصر، ودانت له مدنه مدينة تلو الأخرى.
وتابع السير حتى بلغ منف، فاستعصت عليه أولا، ثم حاصرها حتى استسلمت.
وجاءه أمراء الدلتا واعترفوا به ملكا على مصر، وسار منها شمالا حتى بلغ أثريب (بنها)، فجاءه بقية الأمراء واعترفوا له بالملك.
وإذ رأى الأمير تفنخت الذي كان يطمع في الملك أن أمراء البلاد قد اعترفوا ببعنخي ملكا استسلم له هو أيضا، ودانت مصر كلها شمالها وجنوبها لبعنخي مؤسس الأسرة الخامسة والعشرين.
وساس بعنخي البلاد سياسة حكيمة، وظل على العرش واحدا وعشرين عاما.
وفي عهده بدأ عصر النهضة والإصلاح الذي ينسبه بعض المؤرخين إلى «أبسماتيك» الأول، وهو في الواقع قد بدأ في عهد الأسرة الخامسة والعشرين أي من عمل بعنخي وخلفائه.
فقد نهضوا بالبلاد نهضة شاملة، وأعادوا لها بعض مجدها القديم. (7-2) خلفاء بعنخي
وبعد وفاة بعنخي خلفه في الملك على التعاقب أخوه ثم ابنه ثم ابن آخر له، وهو «طهارقه
Taharka »، الذي كان له شأن كبير في المقاومة الوطنية ضد الزحف الآشوري كما سيرد في الفصل التالي، وكان أعظم ملوك هذه الأسرة وأمجدهم أعمالا، وحكم البلاد نحو خمسة وعشرين عاما.
الفصل العاشر
تحرير مصر من الاحتلال الآشوري
كانت الدولة الآشورية من أقوى دول ما بين النهرين (دجلة والفرات)، وعاصمتها «نينوى».
وقد اتجهت أطماعها الاستعمارية إلى غربي آسيا، في القرن التاسع قبل الميلاد.
ولما جلس «سرجون» الثاني على عرش هذه الدولة حوالي سنة 722ق.م تفاقمت أطماعها، وكانت مصر قد أمدت الأهلين في فلسطين وسورية ليقاوموا الغزو الآشوري.
فنقم منها «سرجون» هذا الموقف، وزحف على فلسطين ومنها إلى مصر، فبلغ «رفح» ووصل إلى الحدود المصرية، والتقى بقوات مصرية تعاون الفلسطينيين، فردته على أعقابه ورجع عن محاولة غزو مصر.
وبعد موته جلس ابنه «سنحريب
Senahrib » على عرش آشور، فقرر أن يغزو فلسطين، ووقفت مصر تؤازرها، وأرسلت إلى الحدود جيشا بقيادة «طهارقه».
وجاء سنحريب يهاجم مصر، فتفشى الطاعون في جيشه فارتد عنها، ولم تعاوده فكرة مهاجمتها، وعاد إلى بلاده ومات مقتولا في الطريق بيد أبنائه سنة 681ق.م.
فتولى بعده ابنه «أسر حدون»، وتولى طهارقه في العام نفسه عرش مصر، فأعد العدة لمقاتلة الآشوريين إذا حدثتهم أنفسهم بغزو مصر.
وانتقل من طيبة إلى صان الحجر (تانيس)؛ ليكون على مقربة من حدود مصر الشرقية، وليستعد لصد الهجوم الآشوري إذا وقع، وأخذ يثابر على تحريض الفلسطينيين على الثورة على آشور.
فتقدم «أسر حدون» نحو مصر عن طريق سيناء، وساعده بدو الصحراء الذين أمدوه بالإبل تحمل المؤن والماء لجنده، وأرشدوه إلى مسالك الطريق حتى بلغ وادي الطميلات، وسار في زحفه.
وقاومه طهارقه مقاومة باسلة، ولكن قوات «أسر حدون» غلبته على أمره، واستمر في هجومه حتى بلغ «منف» واستولى عليها.
وارتد طهارقه جنوبا حوالي سنة 667ق.م.
ثم لم يلبث أن عاد إلى الشمال، وهزم الحامية الآشورية واسترد منف.
وعاد «أسر حدون » إلى مصر يريد احتلالها، ولكنه مات في الطريق فخلفه على عرش آشور ابنه «آشور بانيبال»
Achour Banypal ؛ فأعد جيشا آخر أغار على مصر، وكتب له الفوز، وهزم الجيش المصري بعد حروب عنيفة، واستولى على منف.
فارتد طهارقه ثانية إلى الجنوب، واستولى آشور بانيبال على طيبة، وخربها تخريبا وحشيا.
وكان الآشوريون مضرب الأمثال في القسوة والفظاعة في معاملة الشعوب التي تغلبوا عليها.
وتعاون أمراء الدلتا على محاربة الآشوريين.
وكان منهم أمير يدعى «نيخاو» امتاز بأنه من أكثرهم همة في مقاومتهم، ولكن الآشوريين نجحوا في حملتهم الثانية ودخلوا طيبة وخربوها.
وارتد طهارقه إلى نباتا بالنوبة، وأبى أن يستسلم للآشوريين، ومات بها مثقلا بأعباء الكفاح والمقاومة.
شكل 10-1: طهارقه بطل المقاومة ضد الغزو الآشوري.
لم ييئس الشعب من الخلاص من الاحتلال الآشوري، وما زال الأمراء يقودونه في المعركة، ومنهم الأمير «نيخاو» ويعملون جاهدين على التحرر من هذا الاحتلال البغيض.
وقد اعترفوا لزميل لهم وهو «أبسماتيك» بن نيخاو، كما اعترف له الشعب بالملك، وتحالفوا جميعا على طرد الآشوريين من البلاد.
وإذ عادت الوحدة إلى الصفوف واتحدت كلمة المواطنين، فقد هزموا الحاميات الآشورية، وتحررت البلاد من الاحتلال الأجنبي على يد بطل من أبنائها وهو أبسماتيك الأول. (1) الأسرة السادسة والعشرون (1-1) أبسماتيك الأول
هو ابن الأمير «نيخاو»، وقد أسس الأسرة السادسة والعشرين حوالي سنة 663ق.م، وجعل «سايس»
1
حاضرتها.
وهو محرر مصر من الاحتلال الآشوري، وقد أصبحت البلاد مستقلة في عهده.
فهو قريب الشبه من هذه الناحية بأحمس الأول الذي حرر البلاد من حكم الهكسوس واستقلت البلاد في عهده، وكذلك فعل أبسماتيك الأول، وإنه ليشرفه أن يشبه من هذه الناحية أحمس الأول.
وكان على جانب كبير من الذكاء والحصافة، وقد أصلح من شئون البلاد ونظم جيشها وأسطولها، وأعاد إليها الأمن والوحدة والرخاء.
ويسمي المؤرخون عهده عهد النهضة.
2
شكل 10-2: أبسماتيك الأول، محرر مصر من الآشوريين.
وقد استرد جزءا من فلسطين من الآشوريين، وتوفي سنة 609ق.م، وحكم نحو 54 عاما، وترك البلاد في رخاء لم تر مثله منذ وفاة رمسيس الثالث.
على أن خطأه الأكبر أنه أكثر من استخدام الإغريق (اليونانيين) في الجيش المصري وفي الحكومة، وكان اليونانيون قد بدءوا يفدون على مصر منذ القرن السابع قبل الميلاد.
فأدى استخدام الأجانب إلى إضعاف الروح القومية في نفوس المصريين، ولم يفكر في العواقب الوخيمة التي تترتب على هذه السياسة الحمقاء.
وأسس اليونانيون في عهده مدينة لهم، سموها نقراتيس (نقراش)
3
على فرع النيل الكانوبي حوالي منتصف القرن السابع قبل الميلاد. (أ) فضل الحضارة المصرية على حضارة اليونان
وفي عهد أبسماتيك الأول نشأت العلاقات التجارية والثقافية والعلمية بين مصر وبلاد اليونان وجزر بحر إيجه، وأخذ علماء الإغريق وكتابها ينظرون إلى مصر على أنها مهد الحضارة والعلم، فنقلوا إلى بلادهم كل أنواع العلوم المصرية من رياضة وفلك وهندسة وقوانين وديانة، ويقتبسون ما يلائم تفكيرهم.
ومن دلائل ذلك أن «سولون» المشرع الإغريقي العظيم أخذ بعض تشريعاته عن القوانين المصرية.
يقول برستد في هذا الصدد: «ولا يخفى أن العالم الغربي مدين بكثير من علومه وآدابه إلى أهالي وادي النيل، كيف لا وهم زودوا أوروبا الجنوبية بالمدنية والمعارف، فأخذت هذه تنتشر شمالا متبعة سير النيل إلى الأقاليم الواقعة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط.»
وقال أيضا: «وقد اجتمعت في مصر السيادة الحربية والمدنية من أقدم العصور إلى ظهور مدنيتنا وحضارتنا الحديثتين، ولقد كان من أهم واجباتنا المقدسة ونحن من سلالة سكان أوروبا الأقدمين أن نرفع الستار ونزيل الحواجز التي تحجب عنا حوادث العصور السابقة؛ تلك العصور التي تسلم فيها أجدادنا وديعة هذا التمدن الحديث.»
وقال في هذا الصدد: «ويرجع أصل المدنية الحديثة إلى الأمم التي نشأت على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشرقية وإلى البلاد المجاورة لتلك الجهات، وذلك منذ نحو ستة آلاف سنة تقريبا، وكانت بلاد العراق مركزا ثانيا لمدنية قديمة، لكنها لم تشترك في تكوين حضارتنا الحديثة لعدم اتصالها بسكان شواطئ البحر الأبيض المتوسط، ويعزى ذلك إلى عدم اتصال هذا البحر بنهر الفرات، مع أنهما كانا متصلين قديما قبل ظهور هذه الحضارة؛ لذلك اعتبر المؤرخون أن حضارتنا الحالية نشأت على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، من المحيط الأطلسي إلى الأراضي الصحراوية شمالي إفريقية، وإلى الخليج الذي كان متصلا بالبحر الأحمر، ثم إلى الشمال في القارة الآسيوية، ويخترق هذا الإقليم الشاسع واديان عظيمان متجهان شمالا وجنوبا، يعرف أولهما بوادي دجلة والفرات وهو في القارة الآسيوية، أما الثاني فبإفريقية ويقال له وادي النيل، وهذان الواديان هما منشأ المدنية القديمة، فصار لذلك الجبهتين اللتين يبحث فيها عن تاريخ الإنسان القديم حتى ظهور الحضارة الأوروبية الحديثة، وقد كانا أيضا المهدين الوحيدين لحضارتين مختلفتين عمتا تدريجيا البلاد المجاورة، حتى التقتا معا بآسيا الصغرى، ثم انتشرتا إلى جنوب أوروبا.»
4
ويقول الدكتور أحمد فخري في هذا المعنى: «إن اليونانيين أنفسهم يعترفون بفضل حضارات الشرق عليهم، ويفتخر الكثيرون من رجالهم الذين وضعوا أسس العلوم اليونانية أنهم درسوا سنوات عدة في مصر، وتلقوا من كهنتها الكثير مما حملوه معهم إلى بلادهم، لا في الطب أو في القانون أو في الرياضيات فقط، بل في كثير من النواحي الأخرى كالنحت والموسيقى ... إن المائة سنة الأخيرة قد أمدتنا بوثائق لا حصر لها عن مدى تقدم الشرق في حضارته، ومدى أثر مصر على غيرها من الحضارات ومن بينها حضارة اليونان. لقد ثبت الآن أن افتخار اليونانيين بأنهم تعلموا ما تعلموه من مصر لم يكن مجرد ادعاء أو محاولة إضفاء شيء من الفخر على أنفسهم، لما كان معروفا عن بلاد النيل بأنها كانت بلاد الحكماء القدماء، بل كان حقيقة مؤكدة؛ لأنه بالرغم من أن الحضارة المصرية لم تكن في وقت اتصال اليونانيين بها مصر القوية المتوثبة التي كانت من قبل، إلا أن شعلة العلوم لم تكن قد خبت وانطفأت، ولكنها ظلت مضيئة على الأقل بين كهنة المعابد وغيرهم من الطبقات، وبخاصة من الموظفين، ولم تلبث مصر بعد ذلك حتى دخلت في دور جديد من أدوار تاريخها، وهو دور النهضة التي ظهرت منذ الأسرة الخامسة والعشرين واستمرت طيلة أيام الأسرة السادسة والعشرين، ويطول بنا الحديث لو حللنا أقوال كبار فلاسفة اليونان وعلمائها وإشادتهم بمصر، واعترافهم بأنهم تعلموا من المصريين ما تعلموه وما علموه بعد ذلك لتلاميذهم، ويكفي أن نذكر ما كتبه أفلاطون الذي قضى ثلاثة عشر عاما في مصر، لندرك قيمة ما كان يحس به اليونانيون القدماء من دين للمصريين.»
5 (1-2) خلفاء أبسماتيك الأول (أ) نيخاو الثاني
خلف أبسماتيك الأول ابنه «نيخاو» الثاني، وحذا حذو أبيه في دعم أسباب النهضة وزاد عليها أن عني بالأسطول، فأنشأ أسطولا تجاريا رفع علم مصر فوق ظهر البحار، وكان هذا الأسطول سيد بحار العالم في التجارة وأكبر أسطول تجاري في البحر الأبيض المتوسط.
وأنشأ أيضا أسطولا حربيا، وقد سعى في استرداد أملاك مصر الآسيوية التي كانت لها في عهد تحوتمس الثالث.
وكانت آشور قد تولاها الضعف منذ أن زاحمتها «بابل» على السيادة والسيطرة وما زالت بها حتى استولت عليها.
معركة أخرى في مجدو (سنة 608ق.م)
زحف نيخاو على فلسطين واستولى على غزة وعسقلان، وكانت فلسطين قد تحررت من آشور، وآل الأمر في يهوذا إلى ملك يسمى «بوشيا»، فظن أنه يستطيع أن يصد المصريين كما صد الآشوريين من قبل، فدارت بين نيخاو وبوشيا حوالي سنة 608ق.م معركة في سهل «مجدو» الذي وقعت فيه أول معركة حربية منذ تسعمائة سنة بين تحوتمس الثالث وأمير قادش، وانتصر فيها تحوتمس انتصارا عظيما كما سلف القول (انظر الخريطة شكل
6-2 ).
وانتهت المعركة هذه المرة بهزيمة بوشيا، وأصيب بجراح توفي على أثرها في أورشليم (القدس).
وتمكن نيخاو من استرجاع فلسطين وسورية.
الطواف حول القارة الإفريقية
وعهد نيخاو إلى بعض الملاحين اكتشاف سواحل إفريقية، فقضوا في هذه المهمة نحو ثلاث سنوات في رحلتهم حول شاطئ إفريقية، وعادوا إلى مصر من بوغاز جبل طارق.
يقول موريه
Moret : «كان لا بد من انتظار أحد عشر قرنا حتى يتسنى للبرتغاليين بقيادة فاسكودي جاما؛ ليبدءوا من جهة مضادة الدوران حول القارة الإفريقية الذي بدأ به نيخاو، والذي عاد بالفوائد العظيمة على علم الجغرافيا والتجارة العالمية.»
6
قناة نيخاو
ومن أهم أعماله العمرانية إعادة شق القناة المائية التي تصل النيل بالبحر الأحمر، والتي تخرج من فرع النيل البيلوزي القديم وتسير في وادي الطميلات، ثم تنثني جنوبا فتخترق البحيرات المرة ثم تصب في البحر الأحمر، ويقول برستد: «إن مهندسي نيخاو نصحوه بعدم الاستمرار في حفر هذه القناة؛ لظنهم أن سطح مياه البحر الأحمر أعلى من سطح الدلتا، فيخشى على مصر من الغرق إذا تم حفر القناة.»
7
وتوفي نيخاو سنة 593ق.م بعد أن حكم البلاد ستة عشر عاما. (ب) أبسماتيك الثاني
فخلفه ابنه أبسماتيك الثاني وسار على سياسة أبيه، ونفذ معاهدة أبيه مع بابل، وقضى في الحكم نحو ست سنوات. (ج) أبريس
Apris
وبعد وفاة أبسماتيك الثاني تولى الملك ابنه «أبريس» سنة 588ق.م، وقد أراد أن يسترد نفوذ مصر في آسيا، فجرد حملة على بابل في فلسطين ليطرد البابليين منها، وانتهت بالفشل. (د) أمازيس
Amazis
وحدثت في عهد أبريس ثورة من ضباط الجيش ترجع إلى ممالأته لليونانيين، فنقموا منه هذه النزعة وثاروا عليه.
فأنفذ إليهم جيشا بقيادة «أمازيس» أحد قواد جيشه، وهو من عامة الشعب، وكان يشعر بشعور الشعب، فانضم إلى الثوار وبايعوه ملكا على البلاد، ويبدأ حكمه سنة 568ق.م، وقد مات أبريس في معركة مع الثوار.
وحكم أمازيس نحو 44 سنة، وتوفي سنة 525ق.م.
وفي غضون هذه الأحداث تغير ميزان القوى في غربي آسيا، فقد ورثت فارس دولة آشور بعد أن استولت عليها واحتلت عاصمتها نينوى.
وتولى العرش في فارس ملك جديد اسمه «قورش».
واستولى على بابل سنة 539ق.م، ثم على سورية وفلسطين، وظل على العرش إلى أن مات سنة 530ق.م.
وبعد وفاة «قورش» تولى ابنه «قمبيز» عرش فارس سنة 529ق.م. (ه) أبسماتيك الثالث
تولى الملك بعد وفاة أبيه أمازيس ، وهو الذي حدث في عهده الغزو الفارسي سنة525ق.م، ولم يطل حكمه أكثر من ستة أشهر.
الفصل الحادي عشر
الغزو الفارسي وثورات الشعب عليه (سنة 525ق.م)
نكبت البلاد سنة 525ق.م بالغزو الفارسي، وكان يقوده قمبيز بن قورش.
وقع الغزو الفارسي في أوائل عهد أبسماتيك الثالث، وكان قمبيز يعد له العدة من قبل، فأخضع دويلات آسيا الصغرى وبعض الجزر اليونانية، وجمع في آسيا جيشا جرارا لمهاجمة مصر، وقد أفلح هذا الجيش في حملته واحتل البلاد. (1) مقدمات الغزو الفارسي
بعد أن سيطرت مصر على العالم المتمدن من أوائل القرن السادس عشر، ونشرت علومها وحضارتها في مختلف البلدان، أخذت عوامل الضعف توهن من كيانها نتيجة للانقسامات الداخلية من جهة، ولانغماسها في الترف من جهة أخرى.
وانضم إلى ذلك استعانة مصر بالجنود المرتزقة من الإغريق وغيرهم، فضعفت الروح القومية في الجيش.
ولم تستطع مصر منذ عهد أبسماتيك الأول أن تستعيد قوتها بعد الانقسامات التي أضعفتها من قبل. (1-1) الخيانات الثلاث
وساعد الفرس على غزو مصر خيانات ثلاث تألبت عليها، وكان لها الأثر الأليم في ضعف المقاومة. (أ) خيانة اليهود
وأولى هذه الخيانات اتفاق اليهود مع قمبيز على أن يتخذ من بلادهم قاعدة للانقضاض على مصر مقابل أن صرح لهم ببناء معبد أورشليم، هذا إلى أنه اكتسب بهذا الاتفاق ولاء الجنود اليهود المرتزقة الذين كانوا في الجيش المصري.
1
فاليهود إذن قد مالئوا الفرس وعاونوهم على غزو مصر في القرن السادس قبل الميلاد، وجعلوا من فلسطين قاعدة للانقضاض عليها. (ب) خيانة فانيس
كان «فانيس» هذا إغريقيا من هليكارتاس، وكان رئيسا لفرقة من الجنود المرتزقة في الجيش المصري منذ عهد أمازيس، فخان عهده لمصر، وفر إلى معسكر الأعداء، وأطلع قمبيز على أسرار الخطط الحربية التي أعدها المصريون لمقاومة الحملة الفارسية.
وبدأت هذه الخيانة قبل وفاة أمازيس، وكان لها ولا ريب أثرها البالغ في إضعاف الجبهة المصرية. (ج) خيانة البدو في سيناء
وكان قمبيز يجهل الطريق الذي يجب أن يسلكه في سيناء، فأطلعه «فانيس» الخائن على مسالك الصحراء، وسهل له الاتصال برؤساء البدو القاطنين بسيناء، فوفروا له ولجيشه الماء والمئونة عبر الصحراء حتى وصل إلى أبواب مصر، فكانت خيانة البدو من الأسباب التي سهلت لقمبيز غزو البلاد.
وقبيل ابتداء الغزو مات «أمازيس» في أواخر سنة 526ق.م، وتولى العرش بعده ابنه «أبسماتيك الثالث»، وقد علم قمبيز بوفاة عدوه الجبار عند وصوله إلى بيلوز، فعد ذلك فألا حسنا له، وتشاءم المصريون من وفاة أمازيس.
وكان اعتلاء أبسماتيك الثالث العرش في أشد الظروف خطرا؛ إذ كان «أمازيس» ولا ريب أقدر منه على صد العدوان الفارسي، وكانت له من خبرته وكفايته في القيادة ونفوذه على مواطنيه ما يجعل الأمل كبيرا في صد الزحف الفارسي، ومرت البلاد بعد موته بفترة اضطراب في الأفكار ساعدت الفرس على الغزو. (1-2) سير الغزو
حشد قمبيز جنوده في فلسطين، وأرسى أسطوله في عكا.
وزحف الجيش الفارسي من غزة والتقى بالجيش المصري في بيلوز (الفرما) سنة 525ق.م، يعاونه أسطوله من البحر.
ودارت معركة في بيلوز هزم فيها الجيش المصري بقيادة أبسماتيك الثالث بعد مقاومة يسيرة؛ إذ كان الجيش الفارسي أكثر منه عددا وأشد قوة.
وهنا زعم بعض القصص الخرافية أن قمبيز استعان على شل حركة المقاومة في بيلوز، فأمر بأن توضع كلاب وقطط وحيوانات أخرى مقدسة على رأس القوة المهاجمة، فامتنع المصريون عن استعمال أسلحتهم خوفا على هذه الحيوانات.
وهي رواية ظاهرة التلفيق، ولو كان لها ظل من الحقيقة فلم لم يستعملها أعداء مصر على تعاقب القرون؟
ولقد لقي الفرس مقاومة أخرى في «عين شمس».
وارتد أبسماتيك الثالث إلى منف ليقاوم الغزاة، فتعقبه قمبيز، وسقطت «منف» أمام هجوم الجيش الفارسي، ووقع أبسماتيك الثالث أسيرا في يد قمبيز.
شكل 11-1: الملك الشهيد، أبسماتيك الثالث، قتله قمبيز إذ لم يستسلم للغزو الفارسي. (1-3) مقتل أبسماتيك الثالث
بعد أن وقع الملك الشاب أبسماتيك الثالث أسيرا في يد الفرس عومل بقسوة ووحشية.
وكان هذا الملك الشاب سيئ الحظ حقا، فإنه لم يكد يعتلي العرش حتى فوجئ بالغزو الفارسي، ولم يكن لديه الوقت الكافي ليعد العدة لصده.
ولما دخل قمبيز منف تعمد إذلال المصريين، فأجلس أبسماتيك وكبار المصريين الذين أسرهم معه عند مدخل المدينة للزراية بهم، وألبس ابنته وبنات الكبراء ملابس الجواري والإماء وأمرهن أن يحملن الجرار لإحضار الماء ويسرن أمامه، فشق هذا المنظر على أبسماتيك ولكنه تجلد وسكت ونظر إلى الأرض وأطرق.
ثم أمر قمبيز بأن يمر أمام أبسماتيك صديق له في ثوب فقر وتسول، فتأثر لمنظره وبكى ، فكان في بكائه على صديقه في محنته، بعد جلده حين رأى ابنته في لباس الأرقاء، أبلغ مثل على الوفاء والخلق الكريم. (1-4) أحمد شوقي يسجل هذا الحادث في قصيدة له سنة 1894م
وقد سجل شاعر العروبة الخالد أحمد شوقي هذا الحادث ضمن قصيدة طويلة له عن «كبار الحوادث في وادي النيل»، نظمها وقدمها إلى المؤتمر المشرقي الدولي الذي انعقد في سويسرا عام 1894م، قال عن الحادث وملابساته:
لا رعاك التاريخ يا يوم «قمبي
ز» ولا طنطنت بك الأنباء
دارت الدائرات فيك ونالت
هذه الأمة اليد العسراء
فمبصر مما جنيت لمصر
أي داء ما إن إليه دواء
نكد خالد وبؤس مقيم
وشقاء يجد منه شقاء
يوم «منفيس» والبلاد لكسرى
والملوك المطاعة الأعداء
يأمر السيف في الرقاب وينهى
ولمصر على القذى إغضاء
جيء بالمالك العزيز ذليلا
لم تزلزل فؤاده البأساء
يبصر الآل إذ يراح بهم في
موقف الذل عنوة ويجاء
بنت فرعون في السلاسل تمشي
أزعج الدهر عريها والحفاء
فكأن لم ينهض بهودجها الده
ر ولا سار خلفها الأمراء •••
وأبوها العظيم ينظر لما
رديت مثلما تردى الإماء
أعطيت جرة وقيل إليك الن
هر قومي كما تقوم النساء
فمشت تظهر الإباء وتحمي الد
مع أن تسترقه الضراء
والأعادي شواخص وأبوها
بيد الخطب صخرة صماء
فأرادوا لينظروا دمع فرعو
ن وفرعون دمعه العنقاء
فأروه الصديق في ثوب فقر
يسأل الجمع والسؤال بلاء
فبكى رحمة وما كان من يب
كي ولكنما أراد الوفاء
هكذا الملك والملوك وإن جا
ر زمان وروعت بلواء •••
لا تسلني ما دولة الفرس ساءت
دولة الفرس في البلاد وساءوا
أمة همها الخرائب تبلي
ها وحق الخرائب الإعلاء
وارتوى سيفها فعاجلها الله
بسيف ما إن له إرواء
ولم يبق قمبيز على أبسماتيك وقتله؛ إذ لم ير منه خضوعا للغزو الفارسي، فلم يطل حكمه أكثر من ستة أشهر.
وبمقتله انتهت الأسرة السادسة والعشرون.
واغتصب قمبيز الملك في مصر، وأسس أسرة أطلق عليه المؤرخون اسم الأسرة السابعة والعشرين، وكانت تمثل الاحتلال البغيض فلا يصح إدراجها ضمن الأسرات المصرية. (1-5) هزيمة قمبيز في النوبة
أعد قمبيز جيشين خرجا من طيبة، أحدهما قاده بنفسه لاحتلال النوبة، ولكنه أصيب بهزيمة منكرة على أيدي حكام نباتا الذين ردوه على أعقابه. (1-6) هزيمة قمبيز في الصحراء الغربية
أما الجيش الآخر فكان مصيره أسوأ من مصير الجيش الأول؛ إذ سار من طيبة، فوصل إلى الواحات الخارجة، وهناك استراح من مشاق السفر وأخذ ما يلزمه من المئونة، وسار يقصد واحة «سيوة» ليستولي عليها ويهدم معبد آمون، فهبت على الجند عاصفة عاتية من الرياح أثارت عليهم الرمال، فهلكوا في الصحراء ولم ينج منهم أحد، ولم يذهب أحد منهم إلى سيوة، ولا عاد أحد منهم إلى الواحات الخارجة.
ونصب قمبيز نفسه ملكا على مصر (فرعونا). (1-7) انتحار قمبيز
لم يبق قمبيز طويلا بعد إخفاقه في فتح النوبة وسيوة وعاد أدراجه إلى فارس، فمات في الطريق سنة 522ق.م، وقيل إنه مات منتحرا إذ كانت تصيبه نوبات عصبية.
وقد عزي انتحاره إلى إخفاقه في حملته على النوبة، وحملته الأخرى على واحة سيوة.
وخلفه ابنه «دارا» الأول.
وقد أراد «دارا» أن يستميل إليه المصريين ويخفف عنهم وطأة الهوان الذي لاقوه من الغزو، فرفع عنهم بعض القيود، وجاء إلى مصر زائرا سنة 518ق.م، وأمر بتغيير سياسة أبيه قمبيز وقرر إصلاحات جزئية.
ولكن المصريين ظلوا على سخطهم على الاحتلال الأجنبي، وأخذوا يعدون العدة للتحرر منه.
هذا، ولا يغض الغزو الفارسي من مكانة المصريين ومبلغ حيويتهم.
فإن فارس كانت الدولة المتفوقة حربيا في ذلك العصر، وكانت ولا ريب أقوى من مصر وقتئذ، كما لم يطعن في حيوية الشعوب الأوروبية أن خضعت وقتا ما للإمبراطورية الرومانية؛ إذ كانت أقوى دولة في العالم.
والإمبراطورية الرومانية ذاتها على ما بلغته من قوة وسطوة قد استهدفت في القرن الخامس بعد الميلاد لغزوات أقوام من الهمج انقضوا عليها فدمروها ودكوا معالمها ومزقوا أوصالها، ومن بقاياها نشأت القوميات الأوربية. (2) ثورات الشعب على الاحتلال الفارسي
لم يقبل الشعب المصري الاحتلال الفارسي وظل يكافحه، وتتابعت ثوراته بين حين وآخر. (2-1) الثورة الأولى ضد الفرس (سنة 486ق.م)
إن أول ثورة شبت ضد الاستعمار الفارسي كانت سنة 486ق.م، في عهد الملك دارا الأول، فقد كان مشغولا بإعداد المعدات للزحف بقواته البرية والبحرية على بلاد الإغريق (اليونان).
وعرفت هذه الحروب بالحروب الميدية، وكان الملك دارا معتزما غزو اليونان، واشتبك وإياهم في حرب طويلة المدى، بدأت بمعركة «ماراتون» بالقرب من أثينا هزم فيها الفرس سنة 490ق.م.
وبعد هزيمة الفرس في معركة «ماراتون» اعتزم دارا استئناف الغزو من جديد بجيش جرار، ولكنه مات قبل أن ينفذ وعيده.
وفي خلال استعداده لاستئناف القتال سحب جزءا من قوات الاحتلال في مصر، ليستخدمها في المعركة القادمة. على أنه في عهد دارا قامت في البلاد حركة وطنية للتحرر من الاستعمار الأجنبي، فثار المصريون واشتبكوا بقوات الاحتلال المنبثة في أرجاء الوادي، فكسروها.
ولما توفي دارا الأول سنة 485ق.م خلفه على عرش فارس ابنه «أجزر كسيس».
وزحف على مصر ليقمع الثورة فتصدى له أبناؤها، ولكن القوة غلبتهم على أمرهم وأخمدت ثورتهم، وبذلك انتهت الثورة الأولى بالإخفاق.
وكان اليهود في إلفنتين (جزيرة أسوان)، وغيرها من المدن المصرية أعوانا للفرس ضد المصريين في كفاحهم.
وارتد الفرس عن بلاد الإغريق بعد هزيمتهم في معركة مضيق ترموبيل، وفي معركة سلاميس البحرية وكلتاهما سنة 480ق.م.
وقتل أجزر كسيس سنة 464ق.م بيد قائد حرسه.
وكان هذا العاهل مشهورا بالخلاعة والإثم.
وخلفه «أرتاجزر كسيس». (2-2) الثورة الثانية
وثار المصريون للمرة الثانية ضد الاستعمار الفارسي سنة 460ق.م بقيادة الزعيم «إيناروس
Inaros » أحد أفراد أسرة أبسماتيك، وقد لبى المواطنون دعوته وشاركوه في ثورته.
وبعد أن انتصروا على جيش الفرس ظفر بهم «أرتاجزر كسيس» وأعدم إيناروس سنة 456ق.م، وأخفقت الثورة الثانية.
وعادت مصر ترزح تحت نير الفرس من جديد. (2-3) الثورة الثالثة: جلاء الفرس للمرة الأولى (سنة 404ق.م)
ومات «أرتاجزر كسيس» سنة 424ق.م، فخلفه على العرش «دارا الثاني».
وثارت مصر في وجه الفرس بقيادة البطل أمير تاوس (آمون حر) سنة 410ق.م، واستمرت الثورة عدة سنوات.
انتصرت هذه الثورة، وحررت البلاد من احتلال الفرس سنة 404ق.م.
وبويع أمير تاوس (آمون حر) محرر البلاد من الاحتلال الفارسي ملكا على مصر المستقلة سنة 404ق.م مؤسسا الأسرة الثامنة والعشرين الذي كان ملكها الوحيد، وحكم البلاد نحو ست سنوات.
ونعمت مصر باستقلالها نيفا وستين عاما، توارث العرش في خلالها الأسرات الثامنة والعشرون والتاسعة والعشرون والثلاثون، وكلها مصرية.
شكل 11-2: نقطانب الثاني، آخر ملوك الفراعنة في مصر. (2-4) نقطانب الأول ونقطانب الثاني
وممن تولوا الحكم في هذه الفترة (فترة الاستقلال) نقطانب الأول، وقد تولى سنة 380ق.م، وقضى في الحكم نحو ثمانية عشر عاما، وهو سمنودي المنبت.
ونجح في صد هجوم عنيف للفرس على مصر.
وقد وصلت مصر في عهد نقطانب الأول إلى مكانة ممتازة من الرقي والمتعة، وتقدمت فيها العمارة والفنون الجميلة.
وتراجعت مكانة الدولة الفارسية بعد الهزيمة التي حاقت بها في مصر، وانشق عنها بعض ولاياتها.
وقد ترك نقطانب الأول عمائر وآثارا دلت على ثبات مركزه واستقرار نفوذه.
ففي معبد الكرنك أقام بوابة كبرى ارتفاعها تسعة عشر مترا، وقد أتم هذا البناء نقطانب الثاني، وأقام مباني أخرى كثيرة في الوجه القبلي والوجه البحري.
وخلفه نقطانب الثاني، وقد حكم أيضا نحو ثمانية عشر عاما.
وهو آخر فرعون وطني حكم مصر. (3) عودة الفرس إلى مصر، ثم مجيء الإسكندر الأكبر (سنة 341ق.م)
وفي سنة 341ق.م جرد الفرس حملة جديدة على مصر، وكان يتولى الحكم فيها نقطانب الثاني، وهاجمت مصر برا وبحرا فهزمت الجيش المصري، واحتلت البلاد ثانية بعد أن كان الفرس قد جلوا عنها، وبعد أن استردت مصر استقلالها منذ أكثر من ستين عاما، ولم يذعن نقطانب الثاني للاحتلال الفارسي الجديد، وارتد سنة 341ق.م إلى النوبة تفاديا مع الوقوع أسيرا في يد الفرس، ولم يعرف ماذا كان مصيره.
وأسس الفرس أسرة جديدة غاصبة.
لم تذعن مصر للاحتلال الفارسي الجديد، بل تجددت فيها الانتفاضات القومية.
إلى أن جاء الإسكندر الأكبر سنة 233ق.م يحارب الفرس، ويصادق المصريين.
ملحق للفصول السابقة
الأسرات الملكية في مصر القديمة (1) الدولة القديمة (1-1) الأسرة الأولى (3200-3000ق.م)
1
الملك مينا.
عحا.
جر.
واجيت.
وديمو.
عزيب.
سمرخت.
قاع. (1-2) الأسرة الثانية (3000-2780ق.م)
حتب سخموي.
رع نب.
نتريمو.
سخم بب.
يريب سن.
خع سخم.
خع سخموي. (1-3) الأسرة الثالثة (2780-2680ق.م)
زوسر.
سخم خات.
حابا.
نفر كا.
حوني. (1-4) الأسرة الرابعة، بناة الأهرام (2680-2560ق.م)
سنفرو.
خوفو.
ددف رع.
خفرع.
منكاورع.
شيسكاف. (1-5) الأسرة الخامسة (2560-2420ق.م)
أوسر كاف.
ساحو رع.
نفرار كارع.
شيسكا رع.
نفر رع.
نو سررع.
منكو حور.
دد كارع (أسيسي).
أوناس. (1-6) الأسرة السادسة (2420-2280ق.م)
تيتي.
أوسر كارع.
بيبي الأول.
مرن رع.
بيبي الثاني.
مرن رع الثاني.
الملكة نيتو كريس. (1-7) الأسرة السابعة (2280ق.م)
سبعون ملكا حكموا سبعين يوما كما ذكر المؤرخ المصري مانيتون. (1-8) الأسرة الثامنة (2280-2242ق.م)
نفر كارع الأصغر.
نفر كارع.
جد كارع ... إلخ إلخ. (1-9) الأسرة التاسعة (2242-2133ق.م)
أختوي الأول.
نفر كارع.
أختوي الثاني.
ستوت.
أختوي الثالث. ... (1-10) الأسرة العاشرة (2133-2052ق.م)
مري حتحور.
نفر كارع.
أختوي الرابع.
مري كارع.
أختوي الخامس. (2) الدولة الوسطى (2-1) الأسرة الحادية عشرة كانت تنازع الأسرة العاشرة (2134-1991ق.م)
إنتف الأول.
إنتف الثاني.
إنتف الثالث.
منتوحتب الأول.
منتوحتب الثاني.
منتوحتب الثالث.
منتوحتب الرابع.
منتوحتب الخامس. (2-2) الأسرة الثانية عشرة: أسرة أمنمحات (1991-1778ق.م)
أمنمحات الأول.
سنوسرت الأول.
أمنمحات الثاني.
سنوسرت الثاني.
سنوسرت الثالث.
أمنمحات الثالث.
أمنمحات الرابع.
الملكة سبك نفرو. (2-3) الأسرة الثالثة عشرة (1778-1625ق.م)
نحو ستين ملكا ضعفت في عهدهم الجبهة الداخلية. (2-4) الأسرة الرابعة عشرة (1778-1654ق.م)
بدأت في الوقت الذي بدأت فيه الأسرة الثالثة عشرة، وزادت عليها. (2-5) الأسرة الخامسة عشرة والسادسة عشرة
من الهكسوس، وتمثلان الاحتلال الأجنبي، ولا يصح اعتبارهما ضمن الأسرات المصرية. (2-6) الأسرة السابعة عشرة (1660-1570ق.م)
استقل بالحكم فرع من ملوك طيبة في أواخر عهد الهكسوس، وبدأت حرب التحرير في عهد سقنن رع. ... ... ...
سقنن رع.
كامس. (3) الدولة الحديثة (3-1) الأسرة الثامنة عشرة (1570-1304ق.م)
أحمس الأول.
أمنحوتب الأول.
تحوتمس الأول.
تحوتمس الثاني.
الملكة حتشبسوت.
تحوتمس الثالث، أو الأكبر.
أمنحوتب الثاني.
تحوتمس الرابع.
أمنحوتب الثالث.
إخناتون (أمنحوتب الرابع).
سمنخ كارع.
توت عنخ آمون.
آي.
حور محب. (3-2) الأسرة التاسعة عشرة (1304-1195ق.م)
رمسيس الأول.
سيتي الأول.
رمسيس الثاني، أو الأكبر.
منفتاح.
آمون مس.
منفتاح الثاني.
سيتي الثاني.
الملكة تاوسرت . (3-3) الأسرة العشرون (1195-1080ق.م)
ست نخت.
رمسيس الثالث.
رمسيس الرابع.
رمسيس الخامس.
رمسيس السادس.
رمسيس السابع.
رمسيس الثامن.
رمسيس التاسع.
رمسيس العاشر.
رمسيس الحادي عشر. (3-4) الأسرة الحادية والعشرون (1080-950ق.م)
سمندس.
حريحور.
بسونس.
أمنابت.
سيامون.
بسونس الثاني.
بسونس الثالث. (3-5) الأسرة الثانية والعشرون (950-730ق.م)
شيشنق الأول.
أوسركون الأول.
تاكيلوت الأول.
أوسركون الثاني.
شيشنق الثاني.
تاكيلوت الثاني.
شيشنق الثالث.
بامي.
شيشنق الرابع. (3-6) الأسرة الثالثة والعشرون (817-730ق.م)
بادوبست.
أوسركون الثالث.
تاكيلوت الثالث.
آمون رود.
أوسركون الرابع. (3-7) الأسرة الرابعة والعشرون (730-715ق.م)
تفنخت.
بوخوريس. (3-8) الأسرة الخامسة والعشرون (715-663ق.م)
بعنخي.
شبكا.
شبتاكا.
طهارقه. (3-9) الأسرة السادسة والعشرون (663-525ق.م)
أبسماتيك الأول.
نيخاو الثاني.
أبسماتيك الثاني.
أيريس.
أمازيس.
أبسماتيك الثالث. (3-10) الأسرة السابعة والعشرون (525-404ق.م)
تحذف لأنها تمثل الاحتلال الفارسي، ولا يصح إدراجها ضمن الأسرات المصرية. (3-11) الأسرة الثامنة والعشرون (404-398ق.م)
أمير تاوس (آمون حر) اعتلى العرش على أثر ثورة على الفرس. (3-12) الأسرة التاسعة والعشرون (398-378ق.م)
نفريتس.
أوكوريس.
بساموتيس.
نفريتس الثاني. (3-13) الأسرة الثلاثون (378-341ق.م)
نقطانب الأول.
تاخوس.
نقطانب الثاني.
الفصل الثاني عشر
الإسكندر الأكبر في مصر وجلاء الفرس عنها (سنة 332ق.م)
تمهيد
بلغ الصراع بين الفرس والإغريق (اليونانيين) مرحلة حاسمة، حين تولى الإسكندر عرش مقدونيا وعمره عشرون سنة، ودارا الثالث عرش فارس.
وكانت الدولة الفارسية قد اتسع ملكها، فشمل آسيا الغربية، وامتد من الهند إلى البحر المتوسط، وكانت لها قوة بحرية ضخمة على شواطئ ذلك البحر ولها السيادة عليها، وكانت سورية وفلسطين ضمن أملاكها.
فاعتزم الإسكندر قهر هذا العدو الجبار، وأعد لذلك جيشا عبر به بوغاز الدردنيل، وكان يسمى هلسبونت
Hellespont .
واشتبك بجيش الفرس عند نهر «جرانيق»
Granique
الذي يصب في بحر مرمرة، فظفر بهم ظفرا عظيما سنة 334ق.م.
وزحف بعد هذه الواقعة بحذاء الشاطئ الغربي لآسيا الصغرى، ثم في قلب الأناضول.
حتى التقى بالفرس سنة 333ق.م في «إيسوس»
Issus
الواقعة على الخليج المعروف الآن بخليج الإسكندرية، فانتصر عليهم انتصارا ساحقا، وفر دارا الثالث منهزما إلى «بابل».
لم يشأ الإسكندر أن يتعقب دارا بعد واقعة إيسوس.
وآثر أن يزحف أولا على البلاد الواقعة على شواطئ البحر المتوسط لكي يخضعها ويبسط سلطانه عليها، ولا يتخذ منها الأسطول الفارسي قواعد له تعوق زحفه.
وكانت هذه الخطة المحكمة دليلا على بعد نظره، ونفاذ بصيرته في الحروب.
فزحف الإسكندر على ثغور البحر المتوسط في فينيقية وسورية وفلسطين فاحتلها وخضعت له، كما خضعت دمشق وبيت المقدس.
ثم احتل الثغور دون مقاومة، فيما عدا «صور» التي قاومت مقاومة شديدة فحاصرها وفتحها عنوة، وكذلك قاومت غزة فحاصرها وأخضعها.
ثم وصل إلى مشارف مصر على رأس جيشه البالغ نحو أربعين ألف مقاتل، يعاونه أسطوله الذي كان يسير على مقربة من الشاطئ.
وبلغ بيلوز (الفرما)، وكانت وقتئذ أول حدود مصر. (1) دخوله مصر (سنة 332ق.م)
وكان هزائم الفرس أمام زحفه قد أفقدتهم القوة على صده، فدخل مصر في خريف سنة 332ق.م.
ووصل دون قتال إلى «منف» عاصمة مصر وقتئذ.
ولم يجد الوالي الفارسي الذي كان يحكم مصر مفرا من التسليم؛ إذ رأى أن مقاومة الإسكندر لا تجدي.
وقد ابتهج المصريون لهزيمة الفرس، ورأوا في الإسكندر بادئ الأمر منقذا لهم من الاحتلال الفارسي، ولم يكونوا لينسوا أن الفرس قد انتزعوا عرش مصر من آخر ملوك الفراعنة وأقاموا حكما أجنبيا بغيضا امتهن كرامة بلادهم، مما حفزهم إلى الثورة عليه ثلاث مرات.
احترم الإسكندر ديانة المصريين، وعاداتهم وتقاليدهم.
ولم يكتف بذلك، بل توج نفسه تتويجا فرعونيا في معبد «بتاح» بمدينة «منف»، وقلد الفراعنة الأقدمين فيما كانوا يفعلون عند اعتلائهم عرش مصر.
وإذ كان المصريون يرمزون بالكبش المقدس إلى الإله آمون، فقد أمر الإسكندر أن تبرز في صوره قرنا «آمون» من قمة رأسه.
ولعل هذا التصوير هو الذي جعل بعض مؤرخي العرب يسمونه الإسكندر ذي القرنين. (2) الاستقلال الداخلي لمصر
واجتذب إليه قلوب المصريين من الناحية السياسية؛ بأن قرر لمصر الاستقلال الداخلي (الحكم الذاتي).
واختار حاكمين لمصر، أحدهما مصري، والثاني أناضولي أو فارسي، ومنح كليهما السلطة الكاملة في إدارة منطقته.
على أن الحاكم الأخير لم يلبث أن استقال، أما الحاكم المصري فلم تزد سلطته على سلطة وزير داخلية.
وعهد بالشئون المالية إلى حاكم «يوناني».
وعين الإسكندر قوادا على الحامية من المقدونيين.
وعامل المصريين بوجه عام معاملة كريمة ولم يعاملهم معاملة المنهزمين؛ لأنه إنما انتصر على الفرس، واحترم المصريين لعراقتهم وحضارتهم وماضيهم المجيد.
ولم تستبن النيات النهائية للإسكندر أثناء مقامه في مصر، ولم يتسع الوقت ليدرك المصريون حقيقة مقاصده.
وإنما رأوه يحطم دولة الفرس الذين ساموا المصريين الخسف والاضطهاد أثناء احتلالهم الممقوت للبلاد.
فلا غرو أن فرحوا لمجيء الإسكندر، كما فرح الفرنسيون لاحتلال الأمريكان وحلفائهم فرنسا سنة 1945م في الحرب العالمية الثانية؛ إذ كان في هذا الاحتلال المؤقت سحق لأعدائهم (الألمان) وتحرير لفرنسا من نيرهم. (3) تأسيس الإسكندرية (سنة 332ق.م)
يعتبر تأسيس الإسكندرية أخلد عمل للإسكندر في مصر.
فقد رأى أن يؤسس مدينة جديدة للشمال الغربي للدلتا يجعلها عاصمة للبلاد، وتكون أقرب إلى مقدونيا، وأخذ يرود الشواطئ الشمالية ليختار الموقع الجدير بهذه الغاية، وكان يصاحبه في اختياره مهندسه المدعو دينوقراطس
Dienocrates .
وكان يبحث عن موقع على شاطئ البحر المتوسط بعيد عن مصب الفرع الكانوبي
1
ليكون بمنأى عن رواسب الطمي التي يلقي بها النيل في البحر، وقد تعيق الملاحة.
وأعجبه الشاطئ الممتد من البحر شمالا إلى بحيرة مريوط جنوبا.
فاختار قرية كانت تدعى «راقودة» على شاطئ البحر المتوسط، وكانت لا تزيد على ميناء صغير للصيادين، تجاورها جزيرة مقفرة كان الصيادون يأوون إليها أيضا تدعى جزيرة «فاروس» (رأس التين الآن).
شكل 12-1: فروع النيل القديمة السبعة بالدلتا: (1) الفرع البيلوري. (2) الفرع التانيسي. (3) الفرع المنديسي. (4) الفرع الفاتميتي (فرع دمياط). (5) الفرع السبنيتي. (6) الفرع البولبيتي (فرع رشيد). (7) الفرع الكانوبي. ويبدأ الفرع الكانوبي من رأس الدلتا ويسير إلى قرية زاوية البحر (بمركز كوم حمادة الآن) ويتجه إلى الشمال الغربي حتى يصب في خليج «أبو قير»، وكانت «أبو قير» تسمى «كانوب».
وكان ملوك مصر الأقدمون قد أقاموا في هذه القرية نقطة عسكرية؛ لصد من تحدثه نفسه من الأجانب عن دخول البلاد أو التسلل إليها.
فأسس فيها سنة 332ق.م العاصمة الجديدة وسماها باسمه (الإسكندرية)، ثم أمر بإنشاء جسر بين موقع راقودة والجزيرة المذكورة؛ ليكون للمدينة الجديدة ميناءان: الميناء الشرقي والميناء الغربي، يتصلان بواسطة ممرين في طرفي الجسر الموصل لجزيرة فاروس بالشاطئ. (4) زيارة الإسكندر لواحة سيوة
وبعد أن وضع تخطيط مدينة الإسكندرية، اتجه إلى المكان المعروف الآن بمرسى مطروح.
ومن هناك قصد واحة «سيوة» حيث كان بها معبد آمون، ووصل إليها بعد مسيرة اثني عشر يوما.
وزار المعبد، ورحب كبير الكهنة بمقدمه ومنحه لقب (ابن آمون).
وقد أراد الإسكندر بهذه الزيارة أن يثبت للرأي العام العالمي نسبه للآلهة، وتأييد إله سيوة لمشروعاته المقبلة، وقد كان هذا الإله يتمتع بين الإغريق بمكانة سامية.
وذهب بعد الزيارة إلى «منف».
ولم يكن معروفا على وجه التحقيق مقاصد الإسكندر من فتوحاته، ولا من مجيئه إلى مصر كما سلف القول، ولكن تاريخه يدل على أنه لم يقصد قهر الفرس فحسب، بل كان يتطلع إلى أن يكون سيد العالم، وكان يطمع في أن يؤلف بين الشرق والغرب، ويجعل منهما مجموعة يكون هو رئيسها الأعلى.
لقد كانت سياسته أقرب إلى الإنسانية.
ومن الدلائل على مقاصده في التقريب بين الشرق والغرب أنه تزوج أثناء فتوحاته الآسيوية من فارسية تدعى «روكسانا» ابنة والي باكتريا
Backtria (بلخ)، ورغب إلى بعض قواده أن يتزوجوا مثله بسيدات شرقيات.
وبعد أن قضى في مصر نحو ستة أشهر غادرها في ربيع سنة 331ق.م؛ ليتم فتوحاته.
فاخترق فلسطين فسورية مرة أخرى، وسار منها إلى بلاد الرافدين (دجلة والفرات)، وتعقب «دارا الثالث»، فهزمه في واقعة «أربل»
Arbéles
في أكتوبر سنة 331ق.م، وفر دارا مقهورا.
ودك الإسكندر مملكة فارس، واستولى عليها وأسس على أنقاضها إمبراطورية وصلت إلى شواطئ السند، وامتدت من مقدونيا إلى الهند.
ولما عاد إلى «بابل» مرض بالحمى ومات سنة 323ق.م، قبل أن يتم الثالثة والثلاثين من العمر.
لم تتبين مقاصد الإسكندر نحو مصر كما أسلفنا، على أنه وهو في آسيا قد أصدر أمره بإقصاء الحاكمين اللذين عينهما وهو في مصر، وأبدل بهما حاكما مقدونيا واحدا.
2
الفصل الثالث عشر
البطالمة في مصر وثورات الشعب عليهم (323-30ق.م)
بعد وفاة الإسكندر في «بابل»، اجتمع بها قواد جيشه للبحث في مصير الإمبراطورية بعد وفاة عاهلها العظيم، وخاصة لأن الإسكندر لم يترك وصية، ولا رشح أحدا خلفا له، ولا نظم طريقة للحكم من بعده، ولم يكن له وريث في الملك.
حقا إن زوجته الفارسية «روكسانا» كانت حاملا حين وفاته.
ولكنها كانت سيدة «شرقية»، وكان فريق من المقدونيين ينكرون على طفلها حق اعتلاء عرشه، ويطالبون بالمناداة بأخ الإسكندر غير الشقيق «أرهيدايوس» ملكا، واستقر الرأي أخيرا على المناداة بأرهيدايوس ملكا عليهم تحت الوصاية مع الاحتفاظ بحق جنين روكسانا في الملك إذ كان ذكرا باعتباره شريكا في الملك تحت الوصاية.
وبعد الفراغ من مشكلة ولاية العرش قسمت ولايات إمبراطورية الإسكندر بين قواده؛ ليحكموها باسم التاج المقدوني.
فكانت مصر من نصيب بطليموس
بن لاجوس
Lagos
وهو من أشهر قواد الإسكندر، وقد اختارها لنفسه.
وقسمت باقي البلاد الأخرى بين قواد الإسكندر.
وحضر بطليموس إلى مصر في خريف سنة 323ق.م.
1
باعتباره واليا عليها، وحكم البلاد حكما مطلقا.
وأفضت أطماع قواد الإسكندر إلى حروب شعواء قطعت أوصال الإمبراطورية، وقامت على أنقاضها ثلاث ممالك مستقلة كانت أعظمها وأقواها دولة البطالمة في مصر.
ففي سنة 305ق.م. نادى بطليموس بنفسه ملكا على مصر.
وجعل الملك وراثيا في ذريته، ومن هنا جاءت تسميتهم بالبطالمة لأنهم جميعا تسموا باسمه.
فالبطالمة إذن هم أسرة أجنبية قضت المصادفات التعسة أن يؤسسوا لهم ملكا في مصر، إحدى الدول التي فتحها الإسكندر الأكبر.
وقد اتخذوا الإسكندرية عاصمة لهم، ولا غرو فهي المدينة التي أسسها الإسكندر، وكانت بموقعها على البحر المتوسط أقرب إلى بلادهم (مقدونيا)، وأبعد عن احتمال الانقضاض عليهم من المصريين فيما لو اتخذوا عاصمتهم في «منف».
فهم من هذه الناحية قد قلدوا الهكسوس (الرعاة) إذ اتخذوا «أواريس» القريبة من حدود مصر الشرقية عاصمة لهم كما أسلفنا [الفصل الرابع: ثورة الشعب على الهكسوس وإجلاؤهم عن مصر سنة 1570 قبل الميلاد].
وبطليموس الأول هو مؤسس دولة البطالمة في مصر.
وقد كان ولا ريب محاربا قويا حنكته التجارب، وسياسيا حصيفا واسع الأفق بعيد المطامع، وحسبك أنه من قواد الإسكندر وزميله في فتوحاته العظيمة.
وقد أمكنه أن يؤسس لنفسه ولنسله دولة ظلت تحكم مصر نحو ثلاثة قرون من سنة 323ق.م، إلى أن انهارت في واقعة «أكتيوم» البحرية سنة 31ق.م، ثم انتهى حكم البطالمة واستولى الرومان بعدهم على مصر سنة 30ق.م. (1) نقل جثمان الإسكندر إلى مصر
وكان أول عمل هام قام به بطليموس الأول؛ ليوطد مركزه أن نقل رفات الإسكندر إلى مصر.
ثم نقل رفاته في جنازة كبرى سارت عبر البلاد التي فتحها حتى وصل إلى مصر، ودفن جثمانه مؤقتا في «منف»، ثم نقل منها إلى الإسكندرية بعد أن أتم بطليموس تشييد ضريح فخم للإسكندر في ساحة «السوما»،
2 (انظر موقعها على الخريطة شكل
13-1 ).
وأسبغ بذلك على نفسه مجدا يؤهله لخلافة الفاتح العظيم، ويجعله أقرب الناس إليه.
وهذا الضريح قد عفت عليه القرون، وخفي حتى الآن (1962م) عن أعين العلماء والأثريين، ولا يعرف ماذا كان مصيره.
شكل 13-1
على أنه من الثابت أن يد التخريب قد امتدت إلى القبر في عهد البطالمة أنفسهم، فقد ذكر «بيفان»
Bevan
أن بطليموس العاشر قد سطا على تابوت الإسكندر، وكان مصنوعا من الذهب الخالص، واستبدل بالذهب زجاجا، وكانت دعواه في هذا العمل المنكر أنه في حاجة إلى الذهب لسد نفقات جنوده، فاستاء الإسكندريون لهذا العمل المزري.
3
وقد أله بطليموس الأول بعد وفاته ووضعت سنة تأليه ملوك مصر، وعند وفاته اتبع ابنه رغبة أبيه فألهه باسم «سوتر» أي المنقذ، ثم لم يلبث أن أله نفسه وزوجته في حياتهما باسم الإلهين أدلفوس أي الإلهين الأخوين، ومنذ ذلك الحين أصبح كل بطليموس يرتقي العرش يؤله نفسه وزوجته في حياتهما ويحتفظان بألوهيتهما (الباطلة) بعد مماتهما.
وأتم بطليموس الأول إنشاء مدينة الإسكندرية كما خططها الإسكندر، وتم تشييدها في عهده وفي عهد خلفه بطليموس الثاني.
وصارت من أعظم مدن العالم موقعا ومكانة، وكانت (ولا تزال) تتملك إعجاب أهلها والسائحين والقاصدين إليها بمناظرها البديعة، وطول شواطئها على البحر المتوسط، واتساع رقعتها، واستقامة شوارعها المتقاطعة في زوايا قائمة، وما فيها من المعاهد والنوادي والملاعب والمنشآت .
وأنشأ جيشا وأسطولا عزز بهما القوة الحربية التي تركها الإسكندر في مصر، واتخذ منهما سندا أو وسيلة لإخضاع مصر لأطماعه الاستعمارية، وتحقيق أغراضه في البلدان المجاورة. (2) منارة الإسكندرية
وأقام على صخرة شرقي جزيرة فاروس (المنارة) التي اشتهرت بمنارة الإسكندرية العظيمة (مكانها الآن قلعة قايتباي)، وهي التي اعتبرت إحدى عجائب الدنيا السبع القديمة.
وقد أكملها ابنه بطليموس الثاني.
شكل 13-2: منارة الإسكندرية القديمة. أقامها بطليموس الأول وأكملها ابنه بطليموس الثاني.
وازدهرت التجارة الخارجية في عهد البطالمة الأول، وصارت الإسكندرية ملتقى القادمين من القارات الثلاث.
وبنى مدرسة الإسكندرية الجامعة (دار الحكمة)، وكانت تعرف عندهم بالموزيون (موئل ربات الشعر والفن).
وقد جمع فيها العلوم المعروفة في ذلك العصر من رياضيات وفلسفة وطب وآداب وطبيعة وجغرافية وفلك، وجلب إليها طائفة من علماء الإغريق (اليونانيين).
وكانت الدراسة فيها باليونانية.
وأنشأ بهذه الجامعة المكتبة الشهيرة التي عرفت بمكتبة الإسكندرية، وأتم ابنه بطليموس الثاني إعدادها وتنظيمها.
وأنشأ مدينة سماها بطلمية
، حيث تقوم اليوم بلدة «المنشية» بمحافظة سوهاج، واتجه نشاطه إلى تعميرها لتنافس طيبة عاصمة العالم المتمدن في مصر الفرعونية.
ولم يكن بطليموس على أخلاق قويمة؛ فقد كانت له محظيات كثيرات.
4
ومن عشيقاته «برنيكي»
Berenike
التي كانت متزوجة من قبل، وأحبها وتزوجها هو على زوجة أخرى له، وهي يوريديكي
Eurydike .
وأنجبت له بطليموس الثاني.
فبرنيكي هي الجدة العليا لأسرة البطالمة.
5
وقيل إن بطليموس الثاني ليس ابنا شرعيا لبطليموس الأول.
وتوفي بطليموس الأول عام 283ق.م.
وخلفه على الملك بطالمة عديدون، تعاقبوا على عرش مصر.
ولم يعرف عنهم في الجملة سوى أنهم أهل خلاعة ومجون، وفساد في الأخلاق والسير.
فبطليموس الثاني «فيلادلف»
كان منغمسا في الملذات، وكان له عشيقات عديدات من جميع الطبقات، وكن يثرن الدهشة في العالم بإغراقهن في البذخ والشهوات.
6
وكان إلى جانب ذلك مستبدا طاغيا، وكان لزواجه بأخته «أرسينوي»
Arsinoè (وكان زواج الأخ بأخته ممنوعا في شريعة الإغريق) أثر كبير في سياسته؛ إذ كانت لها السيطرة التامة عليه، وكانت امرأة لا تتورع عن ارتكاب الجرائم، ومنها القتل والاغتيال لكي تنفرد بالسلطة وتستأثر بها.
7
وبطليموس هذا هو الذي عهد إلى المؤرخ المصري «مانيتون» أن يضع كتابا باللغة اليونانية عن تاريخ مصر القديمة ففعل، ولكن الكتاب أحرق ضمن مكتبة الإسكندرية سنة 48ق.م، ولم يبق منه إلا شذرات نقلها بعض المؤرخين.
وبطليموس الثالث «إيفرجيت»
Euvergete
هو ابن بطليموس الثاني، وقد تولى العرش سنة 246ق.م.
وبعد وفاة بطليموس الثالث آل العرش إلى ابنه بطليموس الرابع، وكان شابا عابثا في الثانية والعشرين من عمره، شغفا بالمجون.
وقد اصطفى من أجله رفاقا من حثالة الإسكندرية، أطلق الإسكندريون عليهم اسم «إخوان الأنس».
وكان عبدا طيعا لعشيقته المفضلة أجاتوكليا
Agateoclea
التي قلبت الدولة كلها رأسا على عقب، ولم تقنع هي وأسرتها بالسيطرة على الملك، بل تغلغل نفوذها في الدولة إلى حد طغى على نفوذه.
8
ويقول «هارولد بل» عن بطليموس الرابع: إنه كان غرا فاجرا متهتكا، وكان ذليلا مستضعفا.
9
وتعاقب البطالمة على العرش، وكانت غالبيتهم أهل مجون واستهتار بالأخلاق والفضائل الشخصية والسياسية، وكانت قصورهم مباءة لأحط أنواع الفساد والرذائل.
وظلوا كذلك حتى انقرض حكمهم بانتحار كليوبترة آخر ملوكهم سنة 30ق.م. (3) سياسة البطالمة في مصر
حكم البطالمة على الرغم من إرادة أهلها، ولم تكن لهم صلة بها، اللهم إلا في أن بطليموس الأول كان كما أسلفنا أحد زملاء الإسكندر في الحروب، هذا إلى أنهم اتخذوا سمات الفراعنة ليتمتعوا بما كان للفراعنة من سيطرة مطلقة على البلاد.
ولقد سار البطالمة في الملك الذي آل إليهم سيرة تختلف عن سيرة الفراعنة، وسيرة الإسكندر وسياسته، فلم يحترموا حتى الاستقلال الداخلي الذي أقره الإسكندر في مصر. (3-1) التفرقة العنصرية
وإن ما شهده المصريون منهم قد دل على مقاصدهم من البقاء فيها كانت ولا ريب مقاصد استعمارية بغيضة، وكانوا يتبعون في مصر سياسة التفرقة العنصرية.
فقد أخذت هجرة المقدونيين واليونانيين إلى مصر تتفاقم في عهدهم؛ إذ رأوهم يؤلفون دولة يونانية ويجتذبون بني جلدتهم إلى مصر، ويرغبونهم في البقاء فيها بمختلف الوسائل والامتيازات.
وبدأت هجرة هؤلاء المستعمرين إلى مصر في عهد بطليموس الأول، واستمرت في عهد خلفائه من بعده.
أراد البطالمة أن يجعلوا من مصر دولة مقدونية لا مصرية، وأن يتخذوها مستعمرة لهم فيكونون أهم ملوكها وحكامها المستعمرين.
ولم تكن لهم يد على مصر حتى يئول إليهم حكمها بإرادة أهلها، ولا علاقة لهم بها من قبل ولا لهم أسرة معروفة فيها، فإن تسميتهم بالبطالمة راجع إلى أن أول ملك منهم كان اسمه بطليموس بن لاجوس.
وحتى لو كانت مصر قد أفادت من الإسكندر إذ حررها من حكم الفرس، فلم تكن لترضى أن يكون هو ملكا عليها بدلا من الفرس.
فمن باب أولى لم يكن لبطليموس هذا أي يد عليها، بل كان اعتلاؤه عرشها اغتصابا منه.
وقد اتسم حكمه وحكم خلفائه من بعده بطابع الغصب والقهر، وخاصة لأنهم نظروا إلى مصر كأنها مستعمرة مقدونية، ولم ينسوا يوما صفتهم اليونانية.
واستمرت اللغة اليونانية لغتهم وقد جعلوها اللغة الرسمية للدولة، وكانوا يجهلون اللغة المصرية ولم يحاولوا قط أن يتعلموها، ولم يتعلمها (العامية منها) سوى «كليوبترة» آخر البطالمة.
ولم يعترفوا باللغة المصرية في مخاطباتهم، أو في مراسلات الحكومة.
وعلى الرغم من طول المدة التي حكموها فيها مصر والتي بلغت ثلاثة قرون، فإنهم لم يتركوا لغتهم ولم يتعاملوا بغيرها، وظلوا مقدونيين يونانيين طوال هذه القرون.
واستأثر الإغريق بالمناصب الرفيعة في الدواوين وفي القصر الملكي، ولم يكن نصيب المصريين سوى الوظائف الصغيرة فحسب.
واستعلى البطالمة على المصريين عامة، واتخذوا من اليهود عملاء لهم وأولياء، وأغدقوا عليهم المزايا ليضمنوا بقاءهم إلى جانبهم، وليفسدوا بهم القومية المصرية.
وظل البطالمة يونانيين في تفكيرهم وشعورهم ولغتهم وفي كل مظاهر حياتهم.
فالمصريون في عهد البطالمة قد فقدوا استقلالهم، وأسيء إليهم في حياتهم الاقتصادية والشخصية.
وعاملهم المقدونيون واليونانيون من أول عهد بطليموس الأول معاملة شعب مغلوب على أمره، بينما عاملوا بني جنسهم معاملة السادة، فكان هذا ولا ريب ضروب الاستعمار.
واعتمد البطالمة على المقدونيين واليونانيين في حكم البلاد، وفي تنظيم قوة الدفاع عنها، وحكموا البلاد باعتبارهم أجانب عنها، وفتحوا لليونانيين والمقدونيين أبواب الوادي، ودعوهم للإقامة فيه وأجزلوا لهم العطايا والمنح والمزايا، كل ذلك على حساب الوطنيين.
وبلغ تعصب البطالمة لجنسهم وكراهيتهم للمصريين أن حظر بطليموس الثاني (فيلادلف) على المصريين الوافدين على الإسكندرية أن يطيلوا إقامتهم فيها.
10
ولما زال هذا الحظر تألفت من المصريين بالإسكندرية طبقة من الصناع والعمال وبعض الجنود، وكانوا يعتبرون عنصرا أجنبيا عن المدينة، ولم يندمجوا في هيئة المواطنين.
11
وأنشأ البطالمة جيشا معظمه من المقدونيين واليونانيين، ولم يجندوا فيه المصريين؛ خوفا من أن تستثيرهم الروح الحربية وتحفزهم إلى المطالبة بحقوقهم واستقلالهم، وكانت لهم فيه الأعمال الثانوية فقط كالنقل والتموين، وكان البطالمة يستقدمون الجيوش المرتزقة من مقدونيا واليونان ويغرونهم بالإقطاعيات الزراعية يمنحونهم إياها؛ ترغيبا لهم في البقاء في مصر.
واستنزفوا ثروة البلاد في سبيل إشباع أطماعهم وأطماع بني جلدتهم.
وقصروا أعمال السخرة في المنافع العامة على المصريين دون المقدونيين واليونانيين، مع أن مزايا هذه السخرة قد استأثر بها هؤلاء الأجانب المستعمرون.
وزادت أعباء الضرائب على عاتق الأهليين بسبب إسراف البطالمة في نفقاتهم وأهوائهم، وكثرة الحملات البرية والبحرية التي شنوها على جيرانهم، دون أن يعود منها أي فائدة لمصر، واستمروا في سياسة اضطهاد المصريين .
لجأ المصريون في مقاومة هذا الاضطهاد منذ الساعة الأولى إلى المقاومة السلبية، أي الإضراب عن العمل، واشترك في هذا الإضراب الفلاح في المزارع، والعامل في المصانع وفي المناجم والمحاجر، وكانت الحكومة تقابل هذا الإضراب بالقمع والاضطهاد.
فلجئوا إلى سياسة جديدة في المقاومة، وهي هجر المزارع والمصانع، والاختفاء في الصحارى والمعابد.
وضعت أسس السياسة الاستعمارية في عهد بطليموس الأول، وسار على نهجه خلفاؤه، وصارت أداة الحكم أجنبية، وعومل المصريون بالزراية والاضطهاد.
ولم يندمج المصريون في المقدونيين واليونانيين، ولم يستطع البطالمة أن يدمجوهم في جنسهم.
ولئن جنح بعض المصريين إلى مصانعة البطالمة؛ لكي يأمنوا على أنفسهم وينالوا عطف الغاصبين، فإن جمهرة الشعب قد بقيت بمنأى عن مصانعة الغرباء المستعمرين.
وسن البطالمة من النظم والقوانين ما جعل المصريين وخاصة الفلاحين مضطهدين مسلوبة حقوقهم، مثقلين بالضرائب والالتزامات، وظهر البطالمة على حقيقتهم، وهي أنهم غزاة غاصبون ومستعمرون مستبدون.
يقول «بيير جوجيه»: إن البطالمة احتكروا موارد البلاد الاقتصادية، وانحصرت القوة الاقتصادية في يد الملك على حساب الكبراء والكهنة وعلى أساس استعباد الطبقة العامة من الأهليين.
12
كان الملك البطلمي يعتبر نفسه مالكا لجميع الأراضي، وكان النظام الاقتصادي المتبع هو الاستبداد الاقتصادي.
13
وكان الاحتكار الملكي، علاوة على الأراضي، يشمل المناجم والمحاجر والملح والنطرون والجعة والشبة والزيت ومصايد الأسماك ودبغ الجلود والورق والبخور والروائح والحمامات، والمصارف (والبنوك) ومنسوجات التيل والصوف والقنب، وبالنسبة للمصري لم تكن له أية حرية اقتصادية.
وكان الملك البطلمي يعتبر مصر ضيعة له، ووزير ماليته مدير الضيعة.
وحرص البطالمة على أن يصيغوا هذه الفكرة في عبارات واضحة، وأن يبثوا فيها القوة نتيجة اتفاق، زعموا أنه عقد بين آلهة مصر ومؤسس أسرة البطالمة؛ فإن نقشا هيروغليفيا على جدران معبد «إدفو» يروي كيف أن الأراضي المنزرعة في كل أنحاء مصر من إلفتين (أسوان) حتى البحر، قد أهداها الإله حوروس إلى ابنه الملك حوروس الحي (بطليموس)، ومعها وثائق الملكية وسجل وصفي للممتلكات وعقود الاستيلاء عليها، وقد خطها جميعا بيده الإله توت المسجل السماوي.
14
واحتكر المقدونيون واليونانيون المناصب الممتازة في الريف والحضر، ولا غرو فالأسرة المالكة الأجنبية في بلاد يحكمها جهاز من الموظفين لا تشعر بالاستقرار والطمأنينة، إلا إذا استندت إلى مجموعة من الموظفين الأجانب.
15
يقول «هارولد بل»
Harold I. Bell
في هذا الصدد: «إن المصريين الذين رحبوا بالأمس بمقدم الإسكندر واعتبروه مخلصا لهم، كان لهم بعض العذر فيما خامرهم من شعور، بأنهم في عهد البطالمة إنما كانوا يعاملون في الواقع على أساس أنهم شعب ذليل مقهور، وكان شعورهم بتلك المذلة والمنزلة الدنيا قد تأكد لديهم بما كانوا عليه من عدم المساواة من الناحيتين: الاجتماعية والاقتصادية، وكان بعض الكهنة من ذوي المراتب السامية، ونفر قليل من أفراد المصريين الذين تولوا وظائف هامة في السلك الإداري، يؤلفون نوعا من الأرستقراطية الوطنية، ولكن الغالبية العظمى من المصريين كانوا ينتمون إلى طبقة منزلتها في المجتمع أدنى من منزلة المستوطنين من اليونانيين في مصر. فكان من المصريين من اتخذوا الحرف والصناعات مهنة لهم، ومنهم من استأجر الأراضي الملكية، ولو أن بعضهم تسلم حصصا من الأراضي، أو استحوذ على قدر من الأرض الخاصة، فإن حصصهم وأنصبتهم كانت في العادة أقل من مثيلاتها لدى اليونانيين، وفي الحق أنهم كانوا بوجه عام فئة المستأجرين والمستخدمين فهم الأداة المنفذة والطبقة الكادحة والعاملة باليد، وتقابلها من الناحية الأخرى طبقة بيدها السلطة الإدارية ولها الهيمنة والنفوذ، ولا ريب أن المصريين كانوا يشعرون بما هم عليه من منزلة دنيا، وكثيرون منهم كانوا يقابلون ما يعدونه من قبيل احتكار اليونانيين لشأنهم بالعدوان والنفور.»
إلى أن قال: «وكان أمرا طبيعيا أن يقابلوا أفعال أولئك اليونانيين بشيء من الأنفة القومية والاحتقار لأساليب وأقدار أولئك المستوطنين المحدثين المتحذلقين، ولدينا دليل قاطع مشتمل على بعض قطع من الأدب المتأجج بروح الوطنية والمنطوي على بعض النبوءات، يشير إلى وجود حزب وطني ناهض كانت تداعبه الأحلام ويتطلع إلى اليوم الذي ينتظر فيه طرد الملك الأجنبي البغيض من البلاد.»
إلى أن قال: «ومن بين الحروب الداخلية التي نشبت في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد. واستنزفت قوى الملكية، اندلعت بضع ثورات وحركات قومية كان الوازع لها حب الوطن، ومنذ عهد مبكر يرجع إلى القرن الثالث ترامت إلى سمعنا أنباء عن قيام إضرابات وطنية.»
وقال أيضا: «وكان الملك يؤلف بين جميع هذه العناصر المتباينة رباطا من التبعية المشتركة والخضوع لإرادته، فهو وحده المصدر الذي يستمد منه القضاء والعدالة ويرجع إليه في جميع مظاهر السلطة الإدارية، وكانت مصر ضيعة الملك وكبار الموظفين الإداريين فيما بمثابته أتباعه ورجال دواره.»
16
وفي هذا المعنى يقول بيير جوجيه: «سيرى القارئ أن خلفاء أول البطالمة ينفذون سياسة هيلينية واسعة النطاق تقضي بتنحية العنصر الوطني عن المناصب الرفيعة، وإقصائه إلى المكان الذليل، بل وتغتصب أملاكه المتوارثة لصالح المهاجرين وذرياتهم، وهذا النظام قد أدى إلى رد فعل عنيف وإلى انقلابات أضعفت أسرة البطالمة.»
17
وقال جوجيه في موضع آخر: «إن البطالمة قد أقطعوا الأراضي من شاءوا من رجالهم وجنودهم، وفي اتباع هذه الوسيلة اضطهاد للمصريين الذي رأوا على طول البلاد أراضي خصبة تنتقل ملكيتها إلى الأجانب، بل ويجبر المصريون على إخلاء جزء من مساكنهم ليحتلها أولئك الغرباء، ولقد بدأت هذه السياسة من عهد بطليموس الأول الذي أعطى لجنوده أراضي واسعة.»
18
وحتى أعمال العمران التي قام بها البطالمة كشق الترع وإقامة الجسور واستصلاح الأراضي، قد أكره فيها المصريون على العمل وقاموا بها على وجه السخرة، ولم يستفد المصريون من استصلاح الأراضي الزراعية فقد أقطعها البطالمة لبني جلدتهم.»
19
وقال جوجيه في موضع آخر: «إن مصر قد أصابها الفقر بسبب الأزمات الاقتصادية في عهد البطالمة.»
20
وقد ترتب على سياسة الاضطهاد الاقتصادي التي اتبعها البطالمة نقص سكان الريف، ونقص مساحة الأراضي المنزرعة.
قال الدكتور إبراهيم نصحي في هذا الصدد: «وقد نتج عن نقص سكان الريف وأد الأطفال الذين كانت الفاقة تدفع الأهالي إليه، وعن نشاط الإسكندرية الصناعي والتجاري الذي كان يجلب العمال إلى العاصمة، وعن الحروب والثورات الدموية التي كان يفنى فيها الكثيرون.»
21 (4) الثورات على البطالمة
لم تستنم الأمة المصرية لحكم البطالمة، ولا فنيت شخصيتها في الاستعمار المقدوني الإغريقي، واحتفظت بطابعها وتقاليدها وديانتها ولغتها القديمة.
وكان الحكم البطلمي يستند إلى القوة، فإن الحامية البرية والبحرية التي تركها الإسكندر في مصر قبل أن يغادرها، قد اتخذ منها بطليموس الأول نواة قوة عسكرية أكبر منها وأعظم، استخدم فيها المرتزقة والمتطوعين من أبناء مقدونيا وبلاد الإغريق وآسيا.
وكان المصريون محرومين من جيش وطني من عهد الاحتلال الفارسي، فلما زال الاحتلال حل محله الاحتلال المقدوني الإغريقي، واستمر المصريون محرومين من جيشهم الوطني.
وحرص البطالمة في أوائل عهدهم على حرمان المصريين شرف الاشتراك في حروبهم، وقصروا قواتهم المقاتلة على العناصر المقدونية والإغريقية.
وحتى الذين استخدموهم من المصريين كانوا يعهدون إليهم بالشئون الثانوية في الجيش، كالنقل والتموين وما إلى ذلك.
فلا غرابة في أن يكره المصريون حكم البطالمة الذي تكشف عن استعمار ممقوت.
على أن المصريين مع صبرهم ومصابرتهم، لم يدعوا فرصة تمر إلا واغتنموها للثورة على المستعمر البغيض.
وبرهنت الحوادث على قوة الحيوية الكامنة في هذا الشعب، وصموده أمام العقبات ، وثورته على الاستعمار المرة تلو المرة حتى يتحرر منه.
يقول الدكتور إبراهيم نصحي في هذا الصدد: «لقد ضاق المصريون ذرعا بالنظام الاقتصادي الجديد منذ عهد فيلادلفوس، فإن وثائق زينون تحدثنا عن وقوع اضطرابات بين المزارعين، كانت تنتهي بإضرابهم عن العمل وفرارهم إلى المعابد للاحتماء بالآلهة، ولم تقل عن ذلك شأنا الاضطرابات التي كانت تنشأ بين المشتغلين بالصناعة والتجارة في كنف النظام الجديد، ولم يفض ذلك إلى الإضراب عن العمل فحسب، بل كذلك إلى تهريب السلع وبيعها دون تصريح.
وقد أدت أيضا مختلف أنواع الخدمة الجبرية إلى إضرابات واضطرابات هائلة، ولشد ما كانت تقابلها بعقوبات صارمة، وقد وجد العيون مرتعا خصبا في هذه الحالة، التي لا يمكن تفسيرها بالنقائص الطبيعية في كل نظام جديد لم يألفه الذين كانوا يطبق عليهم. إن السبب أبعد مدى من ذلك لأن النظام لم يكن صارما فحسب، بل كان تطبيقه في قبضة أجانب اعتبروا أنفسهم أرفع قدرا وأعظم شأنا من المصريين، ولم يتكلموا اللغة المصرية، بل أرغموا على الأقل بعض المصريين على تعلم لغتهم الأجنبية، وكانوا لا يعبدون آلهة بل آلهتهم الأجنبية التي أحضروها معهم، ولا يحيون الحياة التي كان المصريون يألفونها بل حياتهم الخاصة، وكانوا يرغمون أهالي البلاد على بذل أقصى الجهد في استغلال المرافق الاقتصادية، ولم يتحمل المصريون كل ذلك في سبيل آلهتهم أو ملوكهم الوطنيين الذين يعتنقون نفس المعتقدات الدينية ويتكلمون نفس اللغة ويحيون نفس الحياة، وإنما في سبيل خدمة قاهر أجنبي ومن يحيط به من الأجانب الذين منحهم أفضل المناصب وخير الفرص لإثراء أنفسهم، فظفر الأجانب بالثروة حين حلت الفاقة بالمصريين، وإذا احتاج مصري إلى اقتراض نقود أو بذور فإنه كان يقترضها عادة من أحد هؤلاء الأجانب، وإذا أراد استئجار قطعة أرض فإنه كان يستأجرها عادة منهم. فلا عجب إذن أدرك المصريون أنهم قد أصبحوا غرباء في بلادهم، أداة يجب أن تكون طيعة في خدمة الأجانب، ووسط هذه الظروف كان من اليسير أن يندلع ليهب الثورة لأي سبب، فقد امتلأت النفوس غضبا وحقدا، وتوفر جيش الثورة من ملايين الزراع والصناع والعمال الذين لم ينقصهم القادة؛ فإن رجال الدين وقد كبلهم البطالمة بالقيود التي كسرت شوكتهم، كانوا يحنون إلى استعادة ما كانوا ينعمون به في الماضي من الكرامة والعزة والنفوذ والثراء، ولم يؤد مضي الزمن إلا إلى ازدياد الهوة من الفريقين، وساعد على ذلك أيضا صرامة العقاب الذي كان يكال للناقمين على سوء الحال؛ ولذلك فإن الاضطرابات التي بدأنا نشهدها في عهد فلادلفوس لم تنقطع في عهد خلفائه، بل ازدادت عنفا وشدة.
وإذا كانت أشد ثورات المصريين لم تقع إلا بعد انتصارهم في موقعة «رفح»، فإن ذلك يرجع دون شك إلى أنه كان ينقص المصريين الحافز الذي يعيد إليهم ثقتهم بأنفسهم، ويذكي روح الوطنية الكامن في صدورهم، فيخلصوا بلادهم من نير الأجنبي كما تخلص أجدادهم من الهكسوس.»
22 (4-1) أول ثورة على البطالمة في عهد بطليموس الثالث (إيفرجيت
Evergete ؛ الخير)
إن أول ثورة قام بها المصريون ضد البطالمة كانت في عهد بطليموس الثالث (إيفرجيت).
وترجع أسبابها إلى ازدياد روح التذمر والسخط على الحكم البطلمي، ذلك السخط الذي بدأ في عهد بطليموس الأول، ولم يصل إلى حد الثورة، ولكن كانت له مظاهر خطيرة كالتوقف عن العمل بين الزراع والصناع والعمال المصريين؛ بسبب كثرة الضرائب التي كانت الحكومة تفرضها عليهم.
وقد اشتد هذا السخط في عهد بطليموس الثالث؛ لازدياد ما فرضه على الشعب من الضرائب والإتاوات بسبب حربه التي شنها على «سلوقس»
Seleucus
23
ملك سورية، فازداد عسف الحكومة وضغطها على المواطنين، وتفاقمت وسائل القسوة في تحصيل الضرائب.
وفرض إيجارات مجحفة على الفلاحين الذين كانوا يزرعون أرض الملك، حتى اضطر هؤلاء إلى الهجرة من أماكن إقامتهم وعملهم، مما أدى إلى إقفار القرى من ساكنيها.
24
وزاد في تيار السخط انخفاض منسوب فيضان النيل، وحلول القحط في البلاد، واشتداد الضيق بالأهليين، فحنقوا على الملك الذي كان يشتط في القسوة عليهم ويجمع منهم الأموال لينفقها في حروب لا طائل تحتها، كما حنقوا على رجال الحكومة لما عانوه من مساوئهم.
نشبت الثورة بين الأهلين حوالي سنة 246ق.م في الوقت الذي كان الملك بطليموس الثالث يحارب في سورية.
فلما بلغته أنباء الثورة أسرع في العودة لإخمادها بقوة الجيش.
ولم تتعد هذه الثورة أنحاء الدلتا.
وقد أفلح بطليموس الثالث في إخمادها بالقوة المسلحة.
غير أنها تركت في نفوس المصريين جراحا أليمة حفزتهم إلى التربص بالبطالمة الظالمين، ومعاودة الكرة للثورة عليهم. (4-2) معركة رفح سنة 217ق.م، والثورة الثانية في عهد بطليموس الرابع (فيلوباتور ؛ أي المحب لأبيه)
كانت سياسة البطالمة الثلاثة الأول إقصاء العنصر المصري عن الجيش، وجعله مقصورا على المقدونيين واليونانيين.
ولما توفي بطليموس الثالث خلفه سنة 221ق.م ابنه بطليموس الرابع (فيلوباتور)؛ ذلك الشاب العابث الذي سبق الحديث عنه واستفاضت أنباء سيرته [الفصل الثالث عشر: البطالمة في مصر وثورات الشعب عليهم (323-30 ق.م) - منارة الإسكندرية].
فانتهز أنطيوخس
Antinochus
ملك سورية هذه الفرصة، وأعد جيشا لمهاجمة مصر.
وأدرك بطليموس الرابع أن قواته المقدونية واليونانية، ليست كفيلة بصد هذا الهجوم.
فاضطر إلى إدخال المصريين في قواته المسلحة كجنود محاربين ليزداد بهم منعة، فجند منهم نحو عشرين ألف مقاتل، سلحهم بأسلحة مقدونية ودربهم وفقا لفنون الحرب المعروفة في ذلك العصر.
وفي عام 217ق.م بلغ الملك أنطيوخس بجيشه مشارف «رفح» والتقى بجيش بطليموس الرابع.
وبعد أن انتصر أنطيوخس على الجناح الأيسر الذي يقوده الملك الشاب وفشلت الجنود المقدونية في صد الجيش السلوقي، انبرى لهم المصريون الذين امتازوا بشجاعتهم وحسن بلائهم في القتال فهزموا السلوقيين.
وانتهت معركة رفح بنصر مؤزر، ناله الجيش البطلمي بفضل الفرقة المصرية.
فالنصر الذي أحرزه المصريون في معركة رفح قد ملأ نفوسهم حماسة وثقة.
وبدأ البطالمة لأول مرة يعاملونهم لوقت محدود معاملة الأنداد بعد أن كانوا ينظرون إليهم كأنهم مقهورون.
يقول هارولد بل في هذا الصدد: «ومن ذلك الحين أخذت الثورات تنشب من وقت لآخر، وتقع غالبا في الإقليم الطيبي، ولكن ليس هذا على سبيل الحصر بحال ما، فهذا الإقليم كان دائما الموطن الذي نبتت فيه القومية المصرية.»
25
ويقول الدكتور إبراهيم نصحي: «إن الثورة التي وقعت في عهد بطليموس الرابع لم تختلف كثيرا في طبيعتها عن الثورة التي وقعت في عهد بطليموس الثالث، والثورات التي وقعت في عهد البطالمة المتأخرين. لكن ثورة عهد بطليموس الرابع كانت أخطر من سابقتها لأن الجنود المصريين كانوا عندئذ أفضل تدريبا وتسليحا، ورأوا في ميدان القتال أثناء موقعة «رفح» أنهم لا يقلون كفاءة ومقدرة عن الإغريق والمقدونيين، وعندما عاد الجنود المصريون من انتصارهم في موقعة «رفح» إلى قراهم، وأخذوا يباشرون حياتهم العادية، ازداد إحساسهم بالألم من مركزهم الوضيع بالنسبة للأجانب، وحنقوا أكثر مما كانوا يحنقون في الماضي على الأعباء المتزايدة التي كان النظام الاقتصادي يفرضها عليهم. فلا عجب إذن أن انتهز رجال الدين المخلصون كل هذه الظروف واستنصروا وطنية المصريين ومشاعرهم الدينية، فهبوا ثائرين على طغاتهم وكل من لاذ بهم، أو انتصر لهم، أو تخلف عن ركب الوطنية، ولا يبعد أن أحد العوامل الهامة التي ألهبت مشاعر المصريين وخاصة في مصر العليا، ودفعتهم إلى الثورة ضد البطالمة، كان بقاء التقاليد الفرعونية في وادي النيل جنوبي مصر؛ لأنه إذا كان الغزاة المقدونيون والإغريق قد أخضعوا بمصر نفسها فإنهم لم يخضعوا كل دولة الفراعنة القدماء، أو بعبارة أخرى كل منطقة الحضارة المصرية، ولا شك في أنه عندما كان المصريون الوطنيون يرون تقاليدهم القديمة تسود ذلك الإقليم الواقع على الحدود الجنوبية، كانت صدورهم تتأجج وطنية، وكانت تبدو لهم بارقة أمل في إحياء ماضيهم المجيد واسترجاع حريتهم العزيزة، فيدفعهم كل ذلك إلى البذل والفداء.»
26
كانت واقعة رفح نقطة تحول كبير في موقف المصريين تجاه غاصبيهم وبداية الثورات الوطنية التي زلزلت عرش البطالمة، فثار المصريون في الوجه البحري عام 216ق.م يريدون التحرر من البطالمة، وامتدت الثورة إلى مصر الوسطى ثم إلى مصر العليا.
وقد أسفرت هذه الثورة عن استقلال إقليم طيبة عن حكم البطالمة نحو عشرين عاما (من سنة 206 إلى سنة 186ق.م).
وقد أضعفت هذه الجهود سلطان البطالمة عامة، وانتهى بهم الضعف إلى الارتماء في أحضان «روما» يلتمسون منها المعونة والحماية.
غير أن الحكومة عادت وبسطت سلطانها عليها في عهد بطليموس الخامس سنة 186ق.م، ونجحت في القضاء على هذه الثورة، واستلزم إخمادها جهودا عسكرية كبيرة.
كانت هذه الثورة أخطر ثورة قامت ضد البطالمة، وقد أخمدتها الحكومة وأعدمت زعماءها.
وقد علل الدكتور إبراهيم نصحي إخفاق الثورات عامة على البطالمة بأسباب عدة، منها أن الثوار لم يكونوا في قوة البطالمة الحربية التي امتازت بتفوقها في الأسلحة والعتاد والأموال، ومنها أن المصريين لم يكونوا على اتحاد تام في الهدف والغاية، بل كانوا يصابون أحيانا بداء الانقسام، وأن البطالمة استطاعوا أن يجتذبوا إلى صفهم بعض العناصر ليضربوا بها الثورة.
27
ومهما قيل من المآخذ على هذه الثورات، فحسب المصريين أنهم قاموا بالثورة المرة تلو المرة، ولم يسكتوا على الحكم الأجنبي ولا استناموا له وأنهم بثوراتهم المتكررة ضد البطالمة قد زلزلوا دولتهم، حتى انتهت إلى الانحلال والزوال. (4-3) الثورة الثالثة في عهد بطليموس الخامس (إبيفان
Epiphane ؛ الظاهر)
اعتلى بطليموس الخامس عرش مصر سنة 202ق.م، وهو حدث صغير السن، فتولى الوصاية عليه وصي فاسد وهو «أجاتوكليس»
Agathocles
أخو الغانية اللعوب «أجاتوكليا» عشيقة بطليموس الرابع التي تقدم الحديث عنها [الفصل الثالث عشر: البطالمة في مصروثورات الشعب عليهم (323-30 ق.م) - سياسة البطالمة في مصر - التفرقة العنصرية]، وقد امتلأ البلاط الملكي بالإسكندرية بالمنكرات والمؤامرات.
واشتد السخط على سيرة الوصي، واندلعت الثورة على القصر في الإسكندرية.
ونتج عنها قتل الوصي أجاتوكليس وأخته أجاتوكليا وأمهما، وعين وصي آخر، فلم تنقطع الثورة.
وعمت الثورة الوجه البحري والوجه القبلي، وكانت أبيدوس (العرابة المدفونة) معقل الثورة في الصعيد.
فجردت عليها الحكومة البطلمية جيشا لحصارها، ولكن أهلها استبسلوا في الدفاع عنها، فردوا هذا الجيش عنها.
واستمرت الثورة في الوجه القبلي حتى عام 184-183ق.م، وهو العام الذي قضي فيه على الثورة في الدلتا، عندما استولت قوات بطليموس الخامس على سايس.
28
وبلغ من وحشية هذا الملك أنه عندما سلم زعماء الثورة، بعد أن أمنهم على حياتهم أعدمهم بطريقة وحشية.
29
يقول بيير جوجيه في هذا الصدد: «جاء إشراك المصريين في القتال ضد أنطيوخوس نتيجة اضطرار بطليموس الرابع إلى الاستعانة بهم، ولكن هذه الاستعانة جاءت وبالا عليه؛ لأن الوطنيين وقد استثارهم انتصار «رفح» لم يعد في الإمكان أن يتحملوا الخضوع للبطالمة وأخذوا يعملون على أن يكون لهم رئيس منهم.
والثورات التي ملأت عهد بطليموس الرابع (فيلوباتور)، وبطليموس الخامس (إبيفا)، قد أخمدها بطليموس التاسع تحت أسوار مدينة طيبة.»
30 (4-4) الثورة الرابعة في عهد بطليموس السادس (فيلومتور
؛ المحب لأمه) وحماية روما للبطالمة
بعد وفاة بطليموس الخامس سنة 180ق.م اعتلى العرش ابنه بطليموس السادس، وكان هذا أيضا صغير السن لم يتجاوز السابعة من عمره، ووضعت الوصاية عليه.
واشتبكت مصر والسلوقيون في حرب جديدة.
وانتصر الملك السلوقي «أنطيوخس الرابع» ملك سورية على الملك البطلمي في بيلوز (الفرما)، وزحف حتى وصل إلى منف، واحتال على بطليموس السادس حتى قبض عليه، فنادى الإسكندريون بأخيه الصغير ملكا، وهو الذي عرف فيما بعد باسم بطليموس الثامن، وبعد ذلك استأنف أنطيوخس الرابع زحفه حتى ضرب الحصار على الإسكندرية، وقطع اتصالاتها برا بمصر.
فاستصرخ الملك البطلمي بروما لحمايته، لكن روما لم تستطع التدخل وقتئذ لأنها كانت على وشك دخول الحرب المقدونية الثالثة، ولم ينقذ مصر في ذلك الوقت إلا وقوع اضطرابات في الدولة السلوقية اضطرت أنطيوخوس إلى مغادرة مصر؛ تاركا وراءه فيها ملكين: بطليموس الصغير في الإسكندرية، وبطليموس السادس في منف، معللا الأمل في أن الخلاف بين الأخوين سيمهد له في المستقبل سبيل الاستيلاء على مصر، ولكن كليوبترة الثانية أخت الملكين استطاعت أن توفق بينهما وحكم ثلاثتهم سويا، وبعد عامين عاود أنطيوخوس غزو مصر، وعندئذ تدخلت الجمهورية الرومانية، وقد برزت قوتها في الميدان، وأخذت تعمل لحفظ التوازن بين دول الشرق، ورأت أن أنطيوخوس وقد استمر في زحفه حتى ضرب الحصار في الإسكندرية لم يعد من مصلحتها تركه وشأنه، وكانت روما قد خرجت منتصرة من حربها مع مقدونيا سنة 168ق.م، فرأت أن تملي إرادتها على أنطيوخس بطريقة بالغة منتهى القسوة والإذلال.
إذ جاء السفير الروماني وسلمه رسالة حوت قرار مجلس الشيوخ الروماني في هذا الصدد، فاطلع أنطيوخوس على الرسالة، وأعلن أنه سيتدبر الأمر مع رفاقه .
فلم يكن من السفير الروماني إلا أن خط بعصاه دائرة على الرمال حول أنطيوخوس، وأعلن أن الأمر يقتضي أن يبدي الملك الجواب قبل مبارحته تلك الدائرة.
فأذعن أنطيوخوس وأنفه راغم وكظم غيظه، واضطر للنزول على إرادة روما، فقررت إظهارا لقوتها أن تطلب منه الوقوف في زحفه؛ حتى لا يقوى بفوزه على البطالمة، وانسحب من مصر.
ومن يومئذ صارت دولة البطالمة تحت الحماية الفعلية للجمهورية الرومانية، واستغلت روما النزاع الذي دب بين أفراد أسرة البطالمة لدعم نفوذها في مصر.
وكانت أولى حلقات هذه المرحلة النزاع بين بطليموس السادس، وأخيه الصغير وشريكه في الملك.
وقد ألهبت هذه الأحداث المشاعر الوطنية ضد القصر الملكي، ووجدت هذه المشاعر صداها في موظف كبير في القصر يدعى ديونيسيوس بتروسرابيس، وكان مصريا من أفراد الحاشية الملكية فتزعم ثورة جديدة على البطالمة سنة 165ق.م.
وسارع ديونيسيوس هذا إلى الاحتشاد في «الحدرة»، وقاتلت جموع الثوار قوات الملك بطليموس السادس، ولكنها ظهرت عليهم وظفرت بهم.
وانتقلت الثورة إلى الوجه القبلي ، فانتصر عليهم قوات الملك في أخميم.
وعندما اشتد النزاع بين الأخوين، تدخلت روما، لا لتصلح ذات البين بينهما، ولا لدعم عرش البطالمة، بل لتزيده ضعفا على ضعف بتقسيم الدولة بين الأخوين، فباركت روما عقد اتفاق بينهما سنة 163ق.م، تقرر بمقتضاه أن تكون مصر وقبرس من نصيب الأخ الأكبر، وبرقة من نصيب الأخ الأصغر.
وهكذا ظفرت روما بتفكيك عرى الدولة البطلمية، وصارت الحكم في المنازعات الداخلية فيها. (4-5) الثورة الخامسة في عهد بطليموس الثامن
بعد وفاة بطليموس السادس ومقتل طفله بطليموس السابع آل العرش إلى أخيه بطليموس الثامن، وكانت سيرته من الفساد والقسوة قد أججت نار العداوة ضده، فاشتعلت الثورة في طول البلاد وعرضها، وكانت مزيجا من النزاع العائلي والثورة الوطنية، وبعد جهد أخمدها الملك بالقوة والوحشية، ثم أصدر قرارات عفو سنة 117ق.م تدعو إلى تهدئة الحال. (4-6) الثورة السادسة في عهد بطليموس التاسع والعاشر
ازدادت الأحوال اضطرابا بعد وفاة بطليموس الثامن؛ إذ تجدد النزاع العائلي بين خلفائه، وكان قد أوصى بأن تخلفه زوجته كليوبترة الثالثة.
31
على أن تشرك معها من تختار من ولديها بطليموس التاسع (الأكبر)، والعاشر (إسكندر).
وكانت كليوبترة تؤثر ابنها بطليموس الإسكندر، وشاعت الدسائس والمؤامرات في القصر، وأكرهها الشعب على اختيار الابن الأكبر شركا لها فقبلت ذلك مرغمة.
ولم يمض عامان حتى تجددت الثورة، وخاصة في مصر الوسطى وفي الصعيد.
وجرد الملك بطليموس التاسع على الثوار جيشا حاصرهم في طيبة (معقل الثورة)، وظفر بهم وخرب المدينة سنة 95ق.م تخريبا وحشيا.
وفي هذا الصدد يقول هارولد بل: «كانت مصر طوال فترات طويلة من القرنين الثاني والأول قبل الميلاد تتردى في هاوية من الحرب الأهلية وتئن من غصصها وويلاتها، ويبدو أن الإقليم الطيبي كان من وقت لآخر مستقلا بالفعل عن مقر الحكومة بالإسكندرية، وفي سنة 85ق.م استماتت طيبة في الثورة والعصيان، مما أدى بها إلى نهاية أليمة بتخريبها والقضاء عليها فعلا، وكانت عاصمة البلاد العتيدة في عصور مجد مصر وعظمتها، تلك هي حال «طيبة، ذات الأبواب المائة» كما سماها هوميروس؛ لأن ما بقي منها منذ ذلك الوقت لا يعدو بضع قرى متناثرة وسط الآثار المخلفة عن سالف عصرها الزاهر.»
32 (5) بطليموس الثاني عشر (الزمار)
ولم تنقطع الثورات ضد الحكم البطلمي، وزاد من أوارها تدخل الدولة الرومانية؛ لحماية من تراه خاضعا لنفوذها من الملوك البطالمة.
إلى أن اعتلى العرش بطليموس الثاني عشر (أوليتس = الزمار)، وقد أطلق عليه الشعب هذا اللقب تعبيرا عن أبرز صفاته إذ كان يجيد العزف على الموسيقى.
وقد جاهر بولائه لروما، والتمس منها العضد والعون لتثبيت مركزه المتداعي.
وذهب إلى روما فعلا سنة 58ق.م، وأطال مكثه هناك عدة سنوات، وعاد إلى مصر سنة 55ق.م، بعد أن اشترى ذمم رجال السياسة في روما ليؤيدوه في مركزه، واشتط في معاملة الأهليين، واستنزف أموالهم ليسدد ديونه من المرابين الرومان.
وكتب وصيته بأن يخلفه على العرش أكبر أولاده، وهما كليوبترة الشهيرة (السابعة) مشتركة مع أخيها بطليموس الثالث عشر.
ولما كان هذا الزمار غير مطمئن إلى الشعب المصري في تنفيذ وصيته لكراهيته له، فقد أودع الوصية لدى الجمهورية الرومانية وعهد إلى الشعب الروماني الإشراف على تنفيذها.
وكان ذلك اعترافا منه بحماية روما لمصر.
وتوفي بطليموس الزمار هذا سنة 51ق.م محتقرا من الشعب ومن الرومان معا. (6) كليوبترة
Cleopatra
ترك بطليموس الزمار بنتين، هما: كليوبترة
Cleopatra
وأرسينوي
Arsinoé ، وولدين وهما: بطليموس (الثالث عشر) وبطليموس (الرابع عشر).
وكانت وصيته كما أسلفنا أن تخلفه على العرش كليوبترة وأكبر ولديه (بطليموس الثالث عشر)، على أن يتزوج أخته الكبرى (كليوبترة)، ويشتركا معا في الحكم.
كانت كليوبترة تبلغ الثامنة عشرة من عمرها، وأرسينوي في السادسة عشرة، وبطليموس الثالث عشر في الثالثة عشرة، والرابع عشر صغير السن.
33
وقد تطلعت كليوبترة منذ الساعة الأولى إلى الانفراد بالحكم، ومن هنا نشأ النزاع بينها وبين أختها، وكان رجال القصر من ناحيتهم يريدون الاستئثار بالسلطة، فأوغروا صدر أخيها وضموا إليه جمهرة الإسكندريين.
وفي بداية الأمر لقي بطليموس الثالث عشر عطف الأهلين الذين نقموا من كليوبترة سعيها لاغتصاب الملك من أخيها، فثاروا عليها وخرجت من الإسكندرية، لا لتستسلم للأمر الواقع، بل لتدبر الدسائس لتنتزع الملك لنفسها.
وجندت من استطاعت تجنيده من البدو المتاخمين للحدود الشرقية وكانت تعرف لغتهم، واعتزمت دخول مصر ثانية على رأس جيشها.
وكان أنصار الملك الصغير قد جمعوا أيضا؛ ليصدوا كليوبترة في زحفها.
وفي صيف سنة 48ق.م كان الجيشان وجها لوجه على مقربة من بيلوز (الفرما). (6-1) مصرع بومبي
وفي غضون ذلك جاء مصر القائد الروماني الشهير بومبي الذي كان وقتا ما قنصلا عاما في روما، وكان خصما ليوليوس قيصر ومزاحما له على السلطة.
وكان مجيئه لمصر لاجئا بعد هزيمته أمام يوليوس قيصر، وظن أنه سيجد فيها العون، إذ كان صديقا لبطليموس الزمار، وعاونه في روما على العودة للحكم.
ولكن بومبي لم يكد يدنو بقاربه من الشاطئ بالقرب من بيلوز، حتى اغتاله صف ضابط روماني في خدمة الجيش البطلمي فمات قتيلا سنة 48ق.م. (6-2) يوليوس قيصر وكليوبترة
وجاء يوليوس قيصر إلى الإسكندرية سنة 48ق.م يتعقب خصمه بومبي، ومعه قوة من أربعة آلاف مقاتل، وعلم بنبأ مصرع بومبي فأظهر الحزن على خاتمته .
وكان أنصار بطليموس الثالث عشر (ابن الزمار) يظنون أن قيصر سيعود من حيث أتى، بعد مصرع خصمه، ولكنه لم يبرح الإسكندرية بل بقي فيها كأنه الحاكم بأمره.
واتخذ قصر البطالمة مسكنا له، وكان ذلك بمثابة اعتبار مصر ولاية رومانية.
وأمر كليوبترة وأخاها بتسريح جيشهما والحضور إلى الإسكندرية؛ للفصل في النزاع القائم بينهما وفقا لوصية أبيهما الزمار.
وكانت كليوبترة وقتئذ في أقصى حدود مصر، فخشيت إن هي وصلت إلى الإسكندرية أن يقتلها رجال البلاط من أنصار أخيها.
فجاءت خفية بطريق البحر يصحبها كاتم أسرارها، ووصلت في زورق إلى القصر الملكي، وأدخلها كاتم أسرارها إلى القصر ملفوفة في سجادة.
فلما رآها يوليوس قيصر في هذا الوضع، بهت لهذه المفاجأة.
ومن هذه اللحظة وقع الدكتاتور الروماني العظيم في غرامها.
وقبلت أن يحكم يوليوس قيصر بينها وبين أخيها، واستعملت مع قيصر سلاح الفتنة والإغراء لتجذبه إلى صفها.
فاستدعى أخاها للتوفيق بينه وبين أخته، ولكن الملك الصبي لم يكد يرى أخته حتى استولت عليه عاصفة من الهياج والغضب، وراح يجري في الشوارع ليستصرخ الجمهور.
وقد أعاده جنود قيصر إلى القصر.
وكادت تحدث فتنة بين الجماهير لولا أن هدأ قيصر روعها، وتلا على الجموع وصية بطليموس الزمار التي تقضي باشتراك الأخوين معا في الحكم وبأن ترعى روما تنفيذ هذه الوصية، وأوضح بذلك حقه في التدخل في هذا النزاع.
وهدأت خواطر الناس ظاهرا، وتم الوفاق بين كليوبترة وأخيها وفقا لرغبة قيصر، وتنفيذا لوصية أبيهما الزمار. (6-3) الحرب في الإسكندرية (سنة 47-48ق.م)
على أن «أخيلاس» قائد الجيش البطلمي، وكان من أنصار الأخ المزاحم لكليوبترة، أراد لكي يضعضع قوة قيصر ويوقع الذعر في صفوف جنده أن يحاول إخراجه من مصر، فجاء من بيلوز على رأس جيشه، وفاجأ يوليوس قيصر في الإسكندرية، ولم يكن قيصر مستعدا لهذه المفاجأة؛ إذ لم تكن القوة التي لديه تكفي لصد هذا الهجوم.
على أنه وهو القائد المحنك لم يعدم الوسيلة للدفاع.
فأضرم النار في أسطول البطالمة الراسي في الميناء الشرقي، وتعالى لهيب هذا الحريق وامتد إلى الحي المجاور للميناء، وفيه المكتبة الشهيرة المعروفة بمكتبة الإسكندرية فدمرها.
قال جوجيه في هذا الصدد: «وكذلك احترقت المكتبة الكبرى وما تشمله من كتب، قيل إنها بلغت 400000 كتاب.»
34
ولما وصل إلى يوليوس قيصر المدد تغلب على الجيش البطلمي، وهزمه في حرب دارت رحاها برا وبحرا في الإسكندرية، وغرق كثير من أفراد الجيش البطلمي أثناء تقهقرهم، وكان بطليموس الثالث عشر أحد هؤلاء الغرقى (سنة 47ق.م).
وانفردت كليوبترة بالحكم مستندة إلى سلطة يوليوس قيصر، على أنها تزوجت بأخيها الأصغر (بطليموس الرابع عشر) وكان صبيا دون الثامنة عشرة من عمره، وقيل إن يوليوس قيصر رغب إليها هذا الزواج لكي يحترم (ظاهرا) وصية أبيها الزمار؛ إذ أوصى بأن تشترك مع أخ لها في الحكم وأن تتزوجه.
على أن يوليوس قيصر قد أطال مكثه في الإسكندرية بدون مقتض، وبين أنه شغف حبا بكليوبترة وأراد قضاء أطول مدة ممكنة إلى جوارها، وبقي إلى جانبها قرابة ثلاثة أشهر أخرى قام معها في خلالها برحلة نيلية إلى أقاصي الصعيد (سنة 47ق.م)، ورزقت منه بمولود أسمته «قيصرون» أي قيصر الصغير تيمنا باسم أبيه الطبيعي.
وقد تبعت كليوبترة يوليوس قيصر إلى روما بصحبتها ابنها الرضيع قيصرون وزوجها الصغير بطليموس الرابع عشر، وأعد لها يوليوس قيصر قصرا في روما عاشت فيه زهاء سنتين، وشهدت موكب النصر الذي أقيم في روما ليوليوس قيصر، ومشت فيه أختها الصغرى (أرسينوي) مكبلة بالسلاسل والأغلال ضمن الأشخاص الكبار الذين حاربوا قيصر وأسرهم وساروا في ركابه.
وكان لكليوبترة ولا ريب دخل في مصير أختها؛ إذ كانت تغار منها وتكرهها وتعمل على إزاحتها من طريقها.
ولم تقنع كليوبترة بسجن أختها الصغرى أرسينوي، بل حرضت أنطونيوس فيما بعد على قتلها رغم أنها كانت لاجئة إلى معبد أفسيوس فقتلت.
على أن استدعاء قيصر لكليوبترة واستضافته إياها في قصر له، جعله موضع التندر لدى الرومان والزراية بهذا المسلك غير القويم من الدكتاتور العظيم. (6-4) مصرع يوليوس قيصر
وظلت كليوبترة تعيش في روما عيشة البذخ والترف، إلى أن لقي يوليوس قيصر مصرعه سنة 44ق.م.
ويرجع مقتله إلى كراهية فريق من الرومان له؛ إذ شاع بينهم أنه يريد أن يحيل الجمهورية إلى ملكية مطلقة، يكون هو على رأسها، فانقض عليه بعض زملائه وفي مقدمتهم «بروتس»، وقتلوه بخناجرهم في مجلس الشيوخ. (6-5) عودة كليوبترة إلى مصر
وبعد أن لقي يوليوس قيصر مصرعه، تحرج مركز كليوبترة، فعادت أدراجها إلى مصر ومعها ابنها «قيصرون» وزوجها بطليموس الرابع عشر.
وقد لقي هذا حتفه عقب عودته من روما، وقيل إن كليوبترة دست له السم فمات في سن مبكرة، وانفردت هي بالحكم.
أثار مصرع يوليوس قيصر النزاع الداخلي في روما، وقد انتهى هذا النزاع بانتصار أنصار قيصر، وتقاسم السلطة اثنان من القواد وهما أوكتافيوس
Octavius
وأنطونيوس
Antonius
فاختص، فاختص أولهما بالولايات الغربية للدولة الرومانية وآل إلى أنطونيوس شئون البلاد الشرقية. (6-6) كليوبترة وأنطونيوس
وكانت كليوبترة قد لزمت موقفا غير واضح بعد مصرع قيصر؛ منتظرة لمن تكون له الغلبة في هذا الصراع الرهيب.
فلما آل الأمر إلى أوكتافيوس وأنطونيوس، أرسل هذا من مدينة «طرسوس» بمقاطعة كليكتا بآسيا الصغرى إلى كليوبترة يستدعيها لكي يحاسبها على موقفها السلبي، وعدم معاونتها لأنصار يوليوس قيصر.
فذهبت إليه سنة 41ق.م في سفينة فاخرة، بدت فيها كأجمل ملكة تحيطها مظاهر الزينة والزخرف وآلات الطرب.
فما أن رآها أنطونيوس حتى وقع في شرك حبها، فصفح عنها وذهب معها إلى الإسكندرية حيث عاش وإياها في لهو وعبث.
وبالرغم من أن الأحداث السياسية قد اضطرته إلى البعد عنها طوال أكثر من ثلاث سنوات قضاها في الحروب، فإنه عاد إليها مغرما بها، واستهان بواجبات منصبه، وكان في غضون ذلك قد تزوج سنة 40ق.م بأوكتافيا أخت أوكتافيوس، ولكنه عاد إلى علاقته بكليوبترة وتزوج بها سنة 37ق.م، واعترف بأن قيصرون هو الوارث الشرعي ليوليوس قيصر.
في حين أن أوكتافيوس كان يعتز بهذه الوراثة.
35
فاشتدت العداوة بينهما، ولم يكن بد من الحرب ليصرع أحدهما الآخر. (6-7) معركة أكتيوم البحرية سنة 31ق.م بين أوكتافيوس وأنطونيوس، وانتحار أنطونيوس ثم انتحار كليوبترة سنة 30ق.م
كانت معركة أكتيوم البحرية فاصلة في صراع الخصمين وفي مصير أنطونيوس، فقد خرج إليه أوكتافيوس والتقى به في أكتيوم
Actium (غربي بلاد اليونان) سنة 31ق.م، ووضعت كليوبترة جميع قواتها تحت تصرف أنطونيوس.
وقد وقعت بينه وبين أوكتافيوس معركة بحرية في أكتوبر سنة 31ق.م، دارت فيها الدائرة على أنطونيوس.
وفر بعدها مع كليوبترة إلى مصر، فتبعهما أوكتافيوس ووصل إلى بيلوز (الفرما)، واحتلها ثم واصل زحفه على الإسكندرية.
وخرج أنطونيوس لملاقاته، فانتصر عليه أوكتافيوس في المكان الذي أطلق عليه الرومان اسم «نيكوبوليس» أي مدينة النصر بضاحية الرمل؛ وتقع تقريبا في الجهة المعروفة الآن ببولكلي «إيزيس» وما حولها.
36
وانسحب أنطونيوس إلى الإسكندرية، واستبد به اليأس، فانتحر سنة 30ق.م بأن بقر بطنه بخنجره فصرعه الخنجر.
ثم انتحرت كليوبترة من بعده حتى لا يقودها أوكتافيوس إلى روما ويعرضها في موكب انتصاره، وكان انتحارها بلدغة حية أحضرتها خصيصا؛ لتكون بها نهايتها فكان فيها الموت الزؤام. (6-8) كليوبترة آخر البطالمة
إن كليوبترة هي آخر ملوك البطالمة، وقد كانت سيدة مقدونية يونانية، ولم تكن فيها قطرة دم مصرية.
تولت العرش وعمرها لا يزيد على ثمانية عشر عاما، وقد شغلت الفترة الأخيرة من حياة الدولة البطلمية، بما انتهى بانتحارها وسقوط هذه الدولة.
وكان انتحارها خاتمة محتومة لحياتها وحياة الدولة البطلمية.
فقد وضعت لنفسها قاعدة ظنت أنها تستطيع أن تثبت بها عرشها المتداعي، وهي أن تأسر كبار الرجال بغرامياتها فيذعنون لإغرائها وأهوائها.
ولم تكن الغراميات في أي عصر من العصور وسيلة للدبلوماسية الناجحة التي تنهض بالدول والشعوب.
ومن ثم انتهى دور كليوبترة بالإخفاق والانتحار.
لقد فتنت وقتا ما يوليوس قيصر وهو في أوج سلطانه، وانتهى الأمر إلى أن لقي مصرعه على يد بروتس وشركائه.
وحين آل أمر الدولة الرومانية إلى أنطونيوس وأوكتافيوس، أرادت أن تأسر كليهما واحدا بعد آخر؛ لتضمن نفسها على العرش.
ولقد أفلحت في السيطرة على أنطونيوس فوقع في شراك حبها ونسي واجبات منصبه، وتزوج بأوكتافيا أخت أوكتافيوس، ولم يمنعه هذا الزواج من أن يعود إلى غرام كليوبترة.
ويقول بعض المؤرخين: إن كليوبترة لم تكن أجمل من أوكتافيا ، ولم تكن تفضلها إلا بأنها سيدة لعوب، تأسر الرجال بعبثها وجاذبيتها وعذوبة حديثها.
ولم تكن ترى في الحب ارتباطا شريفا بين قلبين متحابين يجمع بينهما الإخلاص والوفاء المتبادلان، بل كانت ترى فيه مصيدة للرجال تأسرهم به واحدا بعد آخر، غير ناظرة إلا إلى مصالحها وأهوائها، ومثل هذا النوع من المجون هو أبعد ما يكون عن الحب الشريف، وأقرب الظواهر إلى الفساد والتدهور والسقوط الأدبي والمعنوي.
ولعلها من أجل ذلك كانت شؤما على من أحبتهم، أو تظاهرت بالحب لهم.
فقد قيل إنها أحبت ابن بومبي خصم يوليوس قيصر، وأمدته بنجدة بحرية ولكن بومبي آل مصيره إلى القتل؛ إذ لقي مصرعه على شاطئ بيلوز سنة 48ق.م، وأحبها يوليوس قيصر فلقي مصرعه في روما؛ إذ طعنه بروتوس وشركاؤه طعنات قاتلات في الوقت الذي كانت كليوبترة تعيش معه عيشة الهوى والغرام على ضفاف نهر التيبر.
ولما لقي يوليوس قيصر مصرعه بادرت هي بالرحيل عن روما، وعادت أدراجها إلى مصر.
ولما أحبها أنطونيوس أعماه الحب عن واجباته نحو دولته وتردى في هوة الانحدار والسقوط حتى فقد مكانته، ومني بالهزيمة في واقعة أكتيوم سنة 31ق.م، وانسحبت كليوبترة من المعركة حتى لا تقاسم أنطونيوس مرارة الهزيمة وعادت إلى مصر، وعاد إليها هو أيضا ثم لم يلبث أن انتحر بتأثير اليأس والإخفاق والهزيمة.
فتملكها اليأس وعرفت المصير الذي كان ينتظرها لو بقيت على قيد الحياة، فإنها ولا ريب كانت ستساق أسيرة ذليلة مكبلة بالقيود والأغلال تجتاز شوارع روما في موكب النصر لأوكتافيوس الظافر.
وتذكرت أنها ستلقى المصير الذي لقيته أختها «أرسينوي»؛ حيث سارت مكبلة بالأغلال في موكب النصر الذي أقيم ليوليوس قيصر، فآثرت الموت على هذا المصير، وانتحرت سنة 30ق.م.
وانتهى بانتحارها حكم البطالمة في مصر.
الفصل الرابع عشر
مقاومة مصر للاستعمار الروماني وعصر الشهداء
صارت مصر ولاية تابعة للدولة الرومانية بعد انتصار أوكتافيوس على أنطونيوس في واقعة أكتيوم سنة 31ق.م، وانتحار أنطونيوس وكليوبترة سنة 30ق.م، ودخول أوكتافيوس الإسكندرية ظافرا (أول أغسطس سنة 30ق.م).
واعتمدت الدولة الرومانية على قوتها الحربية لتثبيت مركزها في مصر، فأبقت بها حامية من نحو ثلاثين ألف مقاتل كانت كافية لإخماد الثورة فيها.
يقول «هارولد بل» في هذا الصدد: «كانت إفريقية ومصر الموردين الرئيسيين للغلال إلى الإمبراطورية الرومانية؛ أما إفريقية ولاية تابعة لمجلس الشيوخ، هدأت أحوالها منذ أمد طويل ولم تصبح في حاجة إلى قوة حربية، وأما مصر فنظرا لقرب عهدها بالغزو الروماني، ولشهرتها بالشغب والاضطرابات، كانت في حاجة إلى حامية قوية، فأبقى أوكتافيوس فيها ما لا يقل عن ثلاث فرق مضافا إلى ذلك القدر المقرر لتلك الفرق من القوات المساعدة.»
1
لم يكن استيلاء الرومان على مصر أمرا مستغربا.
فإن دول أوروبا جميعا قد دانت الدولة الرومانية، واستقرت سيطرتها على جميع الشعوب التي تحيط بحوض البحر المتوسط، ولم يبق خارجا عن سيطرتها سوى بعض الدول في آسيا والقبائل المتبربرة شمالي الدانوب.
وانفرد أوكتافيوس بادئ الأمر بالسياسة العليا في الدولة الرومانية، ولقب «أغسطس - العظيم» وصار الرئيس الأعلى للدولة، فصارت له سمات الإمبراطور، وانتهى بذلك عهد الجمهورية الرومانية، وبدأ عهد الإمبراطورية في روما والبلاد التي تبعتها.
وتولى ولاة من قبل روما شئون الحكم في مصر.
وظلت الإسكندرية عاصمة البلاد كما كانت في عهد البطالمة ومقرا للوالي الروماني، واستمرت اللغة اليونانية لغة الدولة الرسمية.
وبلغت أملاك الدولة الرومانية ذروتها في عهد الإمبراطور تراجان
Trajan ، فكانت تمتد من نهر دجلة شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، ومن إنجلترا إلى الصحراء الكبرى جنوبا.
ولم يكن حكم الرومان خيرا من حكم البطالمة فلقد جعلوا مصر مستعمرة رومانية، وعاملت روما الشعب المصري كأنه شعب مقهور على أمره.
وميز الرومان اليونانيين واليهود على المصريين؛ لعلمهم أنهم لا يكترثون إلا لمصالحهم الشخصية، ولا ينظرون إلى مصر إلا من الزاوية الاستعمارية، وبعد وفاة أغسطس تولى الحكم بعده الإمبراطور نيبربوس.
وفي عهده حظر الرومان على المصريين حمل السلاح، ومن يحمله كان يحكم عليه بالإعدام؛ وذلك خوفا من ثورتهم،
2
على أن سكان الإسكندرية أظهروا حنقهم على اليهود عملاء الاستعمار الروماني.
واهتم الرومان بمصر واستبقائها في حوزتهم؛ لأنها كانت أعظم مورد للقمح إلى روما. (1) مظالم الحكم الروماني
كانت مظالم الحكم الروماني لا تقل عن مظالم البطالمة، كلاهما كان يعتبر مصر مستعمرة له، وكلاهما كان يرهق الشعب ويبتز منه أكثر ما يمكنه من الضرائب.
ولم يكن للعدل ظل من الوجود في هذا العهد.
وكان الرومان واليونانيون واليهود هم المميزين في عهد الاستعمار الروماني، أما الشعب المصري فكان يعاني الاضطهاد والضيق والحرمان.
وساءت الحالة الاقتصادية في البلاد.
وفي ذلك يقول «هارولد بل»: «وقصة مصر الرومانية على أي حال سجل أليم للاستغلال المنطوي على قصر النظر، والذي كان مصيره المحتوم أن يؤدي بالبلاد إلى خراب اقتصادي واجتماعي، وقد أشرت من قبل إلى ما تنطوي عليه النظرية الباطلة التي تقضي باعتبار معاملة أمة من الأمم على أساس أنها مجرد ضيعة تستغل لصالح حكامها وسادتها»، إلى أن قال: «وكان جزء كبير من القمح الذي يقدمه الفلاحون الملكيون على سبيل الإيجار أو يدفعه ملاك الأراضي كضريبة، وكذلك الضرائب النقدية العديدة، كل هذا يشحن إلى روما لينتفع به الشعب الروماني مع ما في هذا من خسارة جسيمة فادحة بالنسبة لمصر.»
3
إلى أن قال: «وتمسك الرومان بأهداب الفكرة الأساسية، وهي أن مصر بقرة حلوب تدر لبنها لصالح روما وما يعود عليها بالخير، ولا ريب أن تلك البقرة كانت غنية بلبنها، ولكن روما حرصت على الإفراط في استنزاف ذلك اللبن إلى آخر قطرة بانتظام»، ثم قال: «وحتى قبل القرن الأول الميلادي بدت البوادر المنذرة بالسوء، فالفيلسوف اليهودي فيلون
عندما كان يؤلف كتبه في عهد كاليجولا
Caligula
وكلوديوس
Claudius
قدم صورة فظيعة للأحوال السائدة في عصره، فتحدث عن جباة الضرائب الذين لم يكونوا يتورعون عن الاستيلاء على مومياء العاجز عن سداد الضرائب المستحقة عليه؛ كي يكرهوا ذوي قرباه على دفع المتأخرات، كما أشار إلى الزوجات والأطفال وغيرهم من الأقرباء الذين زج بهم في غياهب السجون ولاقوا أصناف التعذيب؛ كي يعترفوا بمكان الهارب المطلوب. كما تحدث عن قرى برمتها بل ومدن هجرها سكانها، وفي تاريخ مبكر يرجع إلى عام 20 بعد الميلاد، بدأنا نسمع عن التجاء دافعي الضرائب إلى الفرار والاعتصام بأحد المعابد، وفي بردية كتبت في تاريخ يتراوح بين عام 55 و60م أبلغ الجباة الموكلون بتحصيل ضريبة الخراج الرأسي من ست قرى بالإقليم الأرسينويني (الفيوم)، في تقرير ضمنوه أن «السكان في القرى سالفة الذكر، بعد أن كانوا كثيرين تضاءل عددهم إذ ذاك، وانكمشوا حتى أصبحوا قلة من بضعة أفراد؛ لأن البعض آثر الفرار بعد أن ضاقت سبل الرزق في وجوههم، والبعض الآخر أدركهم الموت دون أن يتركوا ذرية من بعدهم».» إلى أن قال: «ويبدو أن الإجراءات التي أخذها تيبريوس بوليوس الإسكندر قد أثمرت وآتت أكلها؛ لأنه ليس من قبيل الصدف في أغلب الظن أن ما بقي من سجلات يرجع تاريخها إلى النصف الثاني من القرن الأول اشتملت على بيانات أقل من سالفاتها عن وجود اضطراب خطير، ولكن بدعة في النظام الإداري كان قد سبق إدخالها في مصر وقدر لها أن تكون ذات أثر وخيم. فالبيروقراطية البطلمية كانت بصفة خاصة محترفة، تعتمد على التطوع في الحصول على الموظفين والأيدي العاملة فيها، وجباية الضرائب تجري عليها عن طريق طرحها في مزاد يشترك فيه الملتزمون الذين كانوا يتقدمون بعطاءاتهم بمحض حريتهم، والمستأجرون الملكيون على الرغم مما كان يفرض على حريتهم في التنقل من قيود، كانوا يتقدمون بطلباتهم بمحض الاختيار لإبرام عقود الإيجار لهم، وفي أوقات الأزمات والملمات، كانت الحكومة تعمد إلى إدراج أسماء الأشخاص الذي تتوسم فيهم الأهلية والصلاحية ضمن موظفيها، حتى ولو كان هذا ضد إرادتهم، كما كانت الحكومة تعمد إلى إكراه الملتزمين في جباية الضرائب على الاضطلاع بعقودهم، وإلى إكراه الفلاحين على قبول عقود الإيجار.»
ثم قال: «وبتطبيق هذا النظام بشدة لا هوادة فيها أدى الأمر إلى القضاء أولا على الفلاحين الموسرين، ثم على الطبقة الوسطى ذات الغنى واليسار، على أن الإكراه والإجبار لم يقتصروا على هذا النطاق، فإن الشروط المعروضة على الفلاحين المستأجرين لأراضي الدومين لم تكن سخية، كما أن الترضيات والإعفاءات التي كانت تبذل في أوقات الضنك الاقتصادي والضيق المستحكم كانت مرموقة بالبغض والحقد، إلى حد أنه أصبح من المستحيل في بعض الأحيان العثور على من يتقدم للمزايدة في العطاءات طوعا واختيارا، وفي مثل هذه الأحوال كانت الدولة تلجأ إلى الإكراه والإجبار بإحدى وسيلتين: إما بضم ما يؤجر من الأرض في نطاق قرية ما إلى قرية أخرى؛ حيث يقع عبء زراعتها على كاهل القرويين بتوزيعها عليهم عن طريق القرعة، وإما باللجوء إلى وسيلة يطلق عليها «العبء الإضافي»، وبمقتضاها كانت أنصبة من أرض الدومين تقتطع وتلحق بأرض الملكية الخاصة؛ حيث يضطر ملاكها أن يزرعوها مع أملاكهم الخاصة، وبهذه الطريقة كاد أن يئول الأمر في النهاية بأرض الدومين إلى أن يعتريها الزوال في العصر البيزنطي، بأن تبتلعها الأرض الخاصة التي أصبحت مرتبطة بها، وفي حالة تطبيق الطريقة الأولى المنطوية على التوزيع كانت الجماعة كلها مسئولة عن زراعة الأرض، وبالتالي عن دفع الضرائب (وهذا هو بيت القصيد)، أما في حالة تطبيق الطريقة الثانية فكل فرد مسئول عما التزم به، ولكن ظهرت المسئولية الجماعية باطراد - على حد قول فيلون - بمضي الزمن واتخذت طابعا عاما، فإذا توارى واحد من دافعي الضريبة المستحقة عليه تجبى من زملائه من أعضاء الجماعة، وإذا عجز مستأجر عن دفع ما عليه أو هرب مالك للأرض فإن واجب فلاحة هذه الأرض كان يقع على الآخرين، وفضلا عن ذلك فإن أولئك الذين كان من واجبهم ترشيح شاغلي الوظائف - سواء أكانت مما يدخل في نطاق الوظائف التي يؤجر عليها شاغلوها أم الوظائف الشرفية - اعتبروا ضامنين، بل إنهم كانوا أنفسهم مسئولين عما قد ينشأ من عجز بسبب المرشحين من قبلهم، ولا بد أن الفرد أخذ يشعر شيئا فشيئا على توالي السنين بوقوعه داخل شبكة ضاقت منافذها وأحكمت حلقاتها حتى لم تعد تسمح لأحد بالفرار منها.»
4
وظلت مصر ترزح حكم الرومان سبعة قرون بدأت من سنة 30ق.م، وانتهت بالفتح العربي عام 640-642 ميلادية على يد عمرو بن العاص. (2) الثورات على الرومان (2-1) الثورة في منطقة طيبة
لم تكد تمضي بضعة أشهر على الغزو الروماني، حتى نشبت الثورة في الوجه القبلي .
وكانت «طيبة» معقلها، كما كانت معقل الثورات في عهد البطالمة، ونكل الثائرون بجباة الضرائب من الرومان.
فجردت الحكومة حملة على طيبة بقيادة جالوس الحاكم الروماني، وكان أول حاكم على الإسكندرية.
فأخمد الثورة ونكل برجالها، واستولى على خمس مدن منها قفط والأقصر وأسوان، وتقدم إلى ما وراء الشلال الأول. (2-2) الثورة في الشمال الشرقي من الدلتا
وشبت الثورة في الشمال الشرقي من الدلتا بتل المسخوطة، فأخمدتها القوة. (2-3) الثورة في النوبة
وكان أهل النوبة قد عاونوا ثوار طيبة في كفاحهم ضد المستعمرين الجدد (الرومان).
فلما نجح الحاكم الروماني في إخماد ثورة طيبة، زحف جنوبا لإخماد الثورة في النوبة فيما وراء شلال أسوان، ولكنه لم يوفق في إخمادها، وترك لأهل النوبة استقلالا ذاتيا، واعتزموا بالسيادة الرومانية اسما لا فعلا.
ثم قام النوبيون في نحو سنة 24ق.م بثورة جامحة، وهاجموا الحاميات الرومانية في صعيد مصر، فاستعد الرومان لإخماد هذه الثورة وأخمدوها واستولوا على نباتا عاصمة النوبة ونهبوها.
وبعد عامين من إخماد هذه الثورة قامت الملكة «كانداكي» وزحفت على الرومان عند قلعة إبريم، وإذ تعادلت القوتان عقد صلح بين الرومان والنوبيين، كان من أهم شروطه إعفاء النوبة من دفع الجزية للرومان، واستمر السلم لفترة طويلة.
وأقام الرومان الحصون والمعاقل في بعض بلاد النوبة كالدكة وكلابشة وقرطاسة وإبريم.
ولا تزال آثار هذه الحصون باقية إلى اليوم. (3) عداء المصريين للرومان واليهود
رأى المصريون من ممالأة الرومان لليهود في الإسكندرية ما زادهم سخطا على الاحتلال الروماني، وثارت الإسكندرية على اليهود عملاء هذا الاحتلال كما كانوا عملاء الاحتلال البطلمي من قبل.
وفي عهد الإمبراطور تراجان جدد بناء حصن بابلون؛ ليكون المقر الرئيسي للحامية الرومانية.
ولا تزال آثار هذا الحصن قائمة إلى اليوم بمصر القديمة، وهو الحصن الذي قاوم العرب سنة 641م، حين فتحهم لمصر. (4) ظهور المسيحية في مصر
إن الاضطهاد الذي وقع على المصريين من الحكم الروماني، كان من أسباب انتشار المسيحية في مصر.
فقد قام القديس مرقس
Saint Marc
أحد حواريي السيد المسيح إلى الإسكندرية، وبشر بالمسيحية السمحة فاعتنقها الكثيرون.
وكان اعتقاد المصريين القدماء في البعث بعد الموت، ومعاناتهم لظلم الرومان مما سهل لهم اعتناق المسيحية؛ إذ رأوها تبشر بحياة أفضل من الوثنية. (5) اضطهاد الرومان للمسيحيين في مصر
حين ظهرت المسيحية في مصر كانت روما لا تزال على الوثنية وكذلك أباطرتها، فحاربوا المسيحيين واضطهدوهم في أنحاء الإمبراطورية الرومانية، واضطهدوا الأقباط في مصر.
وحين تولى الإمبراطور دقلديانوس
Diocletien
عرش روما سنة 284 ميلادية شن على المسيحيين (الأقباط) اضطهادا دام نحو عشرين عاما قاست فيها مصر الشدائد والأهوال، واستشهد خلالها الألوف من المصريين المسيحيين (الأقباط).
ودقلديانوس هذا هو المقام له العمود المعروف بعمود السواري، أو ما يسمى خطأ عمود بومبيي، وهو قائم إلى اليوم بالإسكندرية.
اشتهر عهد دقلديانوس باضطهاد المسيحيين (الأقباط) منذ أواخر القرن الثالث بعد الميلاد، على نحو فاق كل ما أصابهم من قبل.
وسمي عهده «عصر الشهداء»؛ لكثرة من استشهد فيه من المصريين المعتنقين للمسيحية.
وقد جعل الأقباط بداية التقويم القبطي سنة 284م، وهي السنة التي بدأ فيها حكم دقلديانوس، وسمي عهده بحق عصر الشهداء.
وتخليدا لذكرى أولئك الشهداء، جعلوا التقويم يبدأ بالسنة التي بدأ فيها هذا الاضطهاد الشديد.
وقد كان تمسك المصريين المسيحيين (الأقباط) بعقيدتهم من ضروب المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الروماني.
قال المؤرخ المقريزي عن اضطهاد دقلديانوس للأقباط ما يلي: «إنه أوقع بالنصارى فاستباح دماءهم، وغلق كنائسهم ومنع من دين النصارى، وحمل الناس على عبادة الأصنام، وبالغ في الإسراف في قتل النصارى.» إلى أن قال: «وكانت واقعته بالنصارى هي الشدة العاشرة وهي أشنع شدائدهم وأطولها؛ لأنها دامت عليهم مدة عشر سنين لا يفتر يوما واحدا؛ يحرق كنائسهم ويعذب رجالهم ويطلب من استتر منهم أو هرب ليقتل، يريد بذلك قطع أثر النصارى وإبطال دين النصرانية من الأرض؛ فلهذا اتخذوا ابتداء دقلديانوس تاريخا.»
5
هذا، وقد كان لاضطهاد الرومان للمصريين أثره في ارتياحهم للفتح العربي سنة 640-642م، إذ رأوا من عدل العرب وتسامحهم الديني، ما جعلهم يتقبلون هذا الفتح كمنقذ لهم من اضطهاد الرومان. (6) اعتناق الإمبراطور قسطنطين للمسيحية
وفي عام 324 ميلادية أعلن الإمبراطور قسطنطين اعتناقه للمسيحية، وهو الذي اتخذ بيزنطة (القسطنطينية) عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية. (7) عودة الفرس لاحتلال مصر، ثم إجلاؤهم عنها
وفي سنة 614م، قبل الفتح العربي لمصر بسنوات، هاجم الفرس الرومان في سورية وفلسطين، واستولوا على دمشق وبيت المقدس سنة 615م.
ثم هاجموها في مصر، وحاصروا الإسكندرية إلى أن فتحوها سنة 617م وأخضعوا مصر سنة 618، وبلغوا في فتوحهم أسوان، وبقي الفرس نحو عشر سنوات محتلين البلاد.
6
ثم لم يلبث هرقل إمبراطور الرومان أن أعاد الكرة، فحارب الفرس وأجلاهم عن مواقعهم في آسيا الصغرى، وعن سورية وبيت المقدس، ثم عن مصر سنة 627م.
وفي ذلك نزلت الآية الكريمة:
غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين .
7
وقد ظهرت دعوة محمد
صلى الله عليه وسلم
إذ نزل عليه الوحي سنة 609 ميلادية، وهاجر من مكة إلى المدينة سنة 622 (أول سنة للتاريخ الهجري)، في الوقت الذي كان الرومان يحاربون فيه الفرس. (8) استمرار الاضطهاد الديني في مصر بعد اعتناق الرومان للمسيحية
بالرغم من اعتناق أباطرة الرومان للمسيحية، فقد استمر الاضطهاد للمذاهب المسيحية في مصر عدا مذهب الحكومة.
لقد تمسك المسيحيون المصريون (الأقباط) بمذهبهم المناهض لمذهب الأباطرة، فكان من شأن ذلك أن أسبغ على الحركة المسيحية في مصر طابعا قوميا، وأصبح رجال الكنيسة زعماء المصريين في الحركة الروحية والوطنية معا.
وجاء مسلك أباطرة الرومان مظهرا من مظاهر التعصب الديني، وجاء دليلا على أن اعتناقهم المسيحية لم يكن له أثر في حملهم على التسامح الديني، حتى مع شركائهم في أصل العقيدة.
وكان التعصب المذهبي شديدا في عهد هرقل، آخر أباطرة الرومان الذين حكموا مصر.
فقد سعى هرقل جهده في توحيد المذاهب المسيحية، وعقد لذلك مجمعا في خلقيدونية،
8
حضره بطارقة الشام والقسطنطينية وأقروا مذهبا مسيحيا موحدا، وأمر هرقل كل المواطنين في الشام ومصر أن يتبعوا المذهب الموحد، فكان من ذلك اضطهاد المسيحيين الأحرار، وكانت الكنيسة الشرقية من أجل ذلك موضع سخطهم ونقمتهم.
ومن مظاهر الاضطهاد أن عين هرقل سنة 631 قيرس (المقوقس)
9
بطرقا للإسكندرية ونائبا عنه بمصر، وطلب إليه أن يحمل أهل مصر على اعتناق المذهب المسيحي الموحد، فأبى الأقباط عليه ذلك.
وكان بنيامين
10
كبير أساقفة الأقباط في مصر يتولى بطرقة الإسكندرية فعارض المذهب الجديد، فاضطهده قيرس واضطره إلى الهجرة من الإسكندرية تفاديا من اضطهاد، وظل مختفيا في أديرة الصعيد، ولم يظهر إلا بعد الفتح العربي لمصر.
الفصل الخامس عشر
الفتح العربي لمصر (سنة 640-642م)
فتح العرب مصر في القرن السابع الميلادي (الأول للهجرة)، وكان هذا الفتح دورا من أدوار الوحدة العربية.
ولقد قلنا تفسيرا لهذه الظاهرة التاريخية: «وإذ كانت الرسالات الروحية من أركان الحضارة البشرية، فإن الشرق العربي هو أيضا موطن هذه الرسالات.
فإبراهيم الخليل (أبو الأنبياء) قد نشأ عربيا في جنوب العراق منذ نحو ألفي سنة قبل الميلاد، ودعا إلى التوحيد، ورحل إلى فلسطين فمصر ثم إلى الحجاز، وبنى الكعبة في مكة مع ابنه إسماعيل.
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم .
1
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم .
2
وفي جبل سيناء كلم الله موسى تكليما.
وفي فلسطين نشأ السيد المسيح الذي أصابه من اضطهاد الرومان والإسرائيليين ما أصابه، وعلى يده ظهرت المسيحية السمحة، الداعية إلى الإخاء والسلام لا إلى البغي والعدوان.
وفي ظلال البيت الحرام نشأ محمد
صلى الله عليه وسلم ، ونزل عليه الوحي سنة 609م، ودعا إلى رسالة الإسلام، رسالة التوحيد والإيمان، فتصدى له قومه وحاربوه، وهاجر إلى المدينة في السنة الأولى للهجرة (622م)، وبهجرته يبدأ التاريخ الهجري.
وفي السنة الثامنة للهجرة (630م)، سار لفتح مكة بعد أن نقض أهلها عهد الحديبية، فتم له فتحها، وكان لهذا الفتح أثره وفضله في توحيد كلمة العرب.
وقد انتشر الإسلام أول ما انتشر بين سكان الجزيرة العربية، ولما توفي الرسول (محمد
صلى الله عليه وسلم ) في السنة الحادية عشرة من الهجرة (632م)، خلفه أبو بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين، فوحد كلمة العرب في شبه الجزيرة واستخلص هذه الوحدة من أيدي المنتقضين عليها من المرتدين، واتجه إلى توحيد كلمة العرب عامة، فأنفذ إلى العراق سنة 12ه/634م جيشا عهد بقيادته إلى قائد من خيرة قواده، وهو خالد بن الوليد، فاستخلص العراق من أيدي الفرس في حرب خاطفة جعلت اسمه في مصاف عظماء القواد في التاريخ، وأنفذ جيوشا أخرى إلى بلاد الشام، وكانت تحت حكم الروم البيزنطيين (الرومان)، وأمر خالد بن الوليد أن يسير إلى الشام ليقود هذه الجيوش، فانتقل من العراق إلى الشام وقاد الجيوش العربية، وهزم الروم البيزنطيين في واقعة «أجنادين» بين بيت المقدس وغزة (سنة 634م/13ه).
وفي أعقاب هذه الواقعة زحف الجيش البيزنطي على مواقع الجيش العربي، فالتحم الجيشان في واقعة «اليرموك» شرقي نهر الأردن، وانتصر الجيش العربي بقيادة خالد بن الوليد انتصارا مبينا (أول سبتمبر سنة 643م)، وبهذه المعركة الحاسمة قضي على دولة البيزنطيين في الشام.
ولما توفي أبو بكر الصديق قبيل واقعة «اليرموك»، تولى الخلافة من بعده عمر بن الخطاب، وفي عهده تم فتح العراق على يد قائد عربي محنك هو سعد بن أبي وقاص، الذي هزم الفرس في معركة «القادسية» بالعراق.
وكانت معركة القادسية فاصلة لصالح العرب في العراق، كما كانت واقعة اليرموك في الشام.
وأنفذ عمرو بن العاص إلى مصر وكانت تحكم البيزنطيين أيضا، فاستخلصها من أيدي البيزنطيين سنة 640-642م، وفتح برقة سنة 643م، واستقبلت الشعوب دخول العرب هذه البلاد لا كغزاة فاتحين، بل كمنقذين لهم من اضطهاد الفرس والروم البيزنطيين، وخاصة لأن هذه الشعوب بحكم موقعها أقرب إلى العرب نسبيا وأصولا وروابط اقتصادية وثقافية وروحية، بل كان معظمهم عربا من قبل، فلا غرو أن انضموا إلى الوحدة العربية راضين مختارين، وصاروا جزءا من الدولة العربية، وقد زاد في تعلقهم بها ما رأوه من عدل الخلفاء الراشدين وولاتهم ومساواتهم بين الناس ورفقهم بالأهلين.»
3 (1) ماذا كانت عليه حال مصر قبل الفتح العربي
لكي نتفهم كنه الفتح العربي، يحسن بنا أن نتعرف حالة مصر قبل هذا الفتح، فإنها ولا شك تطالعنا بحقيقته وغايته، وأنه كان إنقاذا لها من الاضطهاد الديني وفساد الحكم الروماني.
فالرومان كانوا يعتبرون مصر مستعمرة لهم يستغلون خيراتها ويغتصبون أموالها، وكان نوابهم فيها يعاملون الأهلين معاملة جائرة لا عدل فيها ولا إنصاف، وحكام البلاد من رواد الاستعمار يرهقون الأهليين بالضرائب الفادحة لكي يملئوا خزائن الأباطرة الرومان ويشبعوا أهواءهم، والاضطهاد الديني الذي يعصف بحرية العقيدة ويزيد النفوس سخطا ومرارة، فنواب الرومان يعملون على إجبار الأهليين على اعتناق المذهب الرسمي المسيحي للدولة، ولا يقبلون منهم أن يمارسوا عقيدتهم في حرية واختيار، وكان من آثار هذا الاضطهاد أن حورب الأسقف «بنيامين» بطريق الإسكندرية؛ لأنه رفض الإذعان لهذا الاضطهاد، واضطره قيرس (المقوقس نائب هرقل) كما سلف القول، إلى الهجرة من الإسكندرية والاختفاء بأديرة الصعيد عدة سنوات، ولم يظهر إلا بعد الفتح العربي الذي أطلق الحرية الدينية من عقالها.
يقول دييهل
Diehl
في كتاب «مصر المسيحية والبيزنطية» يصف هذه الحالة:
4 «في أوائل القرن السادس للميلاد كانت الحالة في مصر خطيرة، ففداحة الضرائب التي فرضها الرومان قد أفقرت البلاد، وأوجدت سخطا شديدا بين الأهلين، واقترنت الأزمة الاقتصادية بأزمة اجتماعية، وكانت الرشوة وفساد الحكام تزيد من هذا السخط، وقد سعى الإمبراطور جوستينيان
Justinien
في القسطنطينية لإصلاح هذه الحال، ودمغ الإدارة في مصر بالفساد.»
وقال عن الحالة فيها: «إن الفوضى قد تفاقمت لدرجة أنه لم يكن معروفا في القسطنطينية ما يجري هناك، وقد انتشر الفقر في مصر وازداد السخط على الحكم البيزنطي، فصارت البلاد في حالة انتقاض على هذا الحكم تشبه الثورة.»
وفي أواخر عهد الحكم البيزنطي كانت الضرائب الباهظة ترهق الشعب، وكانت الطبقات الفقيرة من الفلاحين تسام الخسف من هذه المعاملة، وموظفو الحكومة يظلمونهم ويتساهلون مع الأغنياء.
وفي هذا الصدد يقول «ألفريد بتلر»
Alfred Butler
في كتابه «الفتح العربي لمصر»: «وفي الحق لم يكن في بلاد الدولة الرومانية ما هو أشقى حالا من مصر؛ فقد سعى «جستنيان» جهده ليجبر الأقباط الذين ليسوا على مذهب الدولة «الأرثذكسي» فيدخلهم في ذلك المذهب، ولكن امرأته (تيودورا) عملت من جانبها فأفسدت بعض سعيه؛ إذ كانت تعطف على مذهب هؤلاء الأقباط عطفا ظاهرا، على أن ذلك العطف ما عتم أن قضى عليه الإمبراطور جستنيان وعفى أثره، ومن ثم عاد الكفاح الشديد الذي ثار قديما بين طائفتي «الملكانيين»
5
والمونوفيسيين (اليعاقبة وهم عامة أهل مصر) وصار أشد سعيرا، ولم يكن عند أقباط مصر هم أكبر منه يملأ قلوبهم ويملك عليهم آمالهم، فلم يكن عجبا أن يسمع صليل السلاح بين حين وآخر في مدينة الإسكندرية نفسها (العاصمة)، ولم يكن عجبا أن تضطرب الأحوال في مصر السفلى فتصبح ميدانا للشغب، تثور بها فتن بين الطوائف توشك أن تكون حربا أهلية، ولم يكن عجبا أن يكون هذا في بلاد أصبح الحكام فيها لا هم لهم إلا أن يجمعوا المال لخزائن الملك البيزنطي وحاشيته، وأن تكون لمذهبهم الديني اليد العليا بين أهل البلاد، فصار الحكم على أيديهم أداة لا تؤدي إلا إلى الظلم ونشر الشقاء، فالحق هو أن بلاد مصر إذ ذاك كانت جميعها تضطرم بنار الثورة ورغبة الخروج، لا يحجبها إلا غطاء شفاف من الرماد.»
6
وقال بتلر في موضع آخر: «أرسل الإمبراطور هرقل إلى نيقتاس يثبته في حكم الإسكندرية، وإن شئت قلت إنه جعله نائبا عن الملك في مصر، فكان هم «نيقتاس» أن يعيد للحكم المدني الروماني نظامه، وأن يعيد للجيش الروماني كيانه، وكان هذان أداتي الدولة الرومانية تحتفظ بها بملك مصر، وكان الحكم المدني والجيش كلاهما في يد السادة الحاكمين، ليس فيهما أحد من أقباط مصر أهل البلاد.»
7
وقال أيضا: «إن حكومة مصر في عهد الرومان لم يكن لها إلا غرض واحد، وهو أن تبتز الأموال من الرعية لتكون غنيمة للحاكمين، ولم يساورها أن تجعل قصد الحكم توفير الرفاهية للرعية وترقية حالة الناس والعلم بهم في الحياة، أو تهذيب نفوسهم، أو إصلاح أرزاقهم، فكان الحكم على ذلك حكم الغرباء لا يعتمد إلا على القوة، ولا يحس بشيء من العطف على الشعب المحكوم.»
8
وكان في يد الحكام عاصمة البلاد الإغريقية «الإسكندرية»، كما كان في يدهم العاصمة المصرية القديمة «منف»، وحصنها العظيم «حصن بابلون» الروماني على الشاطئ الشرقي من النيل، وكذلك كانوا يملكون مدائن عدة حصينة يلي بعضها بعضا بين أسوان في الجنوب والفرما في الشمال، وكان جند الحكومة وجباة ضرائبها ينتشرون بين تلك المدائن يظهرون هيبة السلطان ويجمعون الأموال، على حين كان تجار الروم واليهود يحلون حيث شاءوا تحميهم جنود الربط ينافسون الأقباط في التجارة منافسة شديدة.
9
فالحالة في مصر كانت تمهيدا للفتح العربي وتفسيرا له. (2) المقوقس
وقد عين هرقل سنة 631م الأسقف قيرس (المقوقس)، وهو روماني من أصل يوناني نائبا عنه في مصر، وبطرقا ملكيا للإسكندرية عاصمة البلاد وقتئذ.
وجاء المقوقس الإسكندرية في تلك السنة، واضطهد الأقباط لإجبارهم على اتباع مذهب الحكومة الديني، وكان من مظاهر هذا الاضطهاد هجرة البطرق بنيامين من الإسكندرية قبل فتح العرب لمصر بسنين، كما سلف القول.
يقول ألفريد في هذا الصدد: «لا يذكر في ذلك العصر كله في أثناء الاضطهاد إلا شيء واحد، وهو أن الرومان كانوا يخيرون الناس بين قبول مذهب خلقيدونية بنصه وبين الجلد أو الموت، ولم يكن في عقول مؤرخي الأقباط إلا هذا الاعتقاد يدونونه في دواوينهم، فيلوح من ذلك أن قيرس أحس بإخفاقه في سعيه من مبدأ الأمر، وكان يود أن يحمل الأقباط على المذهب الذي تقرر مهما تكلف في سبيل ذلك، فلم يعبأ بعد بما أدخله الإمبراطور على هذا المذهب من التهذيب، بل كان يعرض على الناس أحد أمرين لا تعقيد فيهما، وهما قبول الدخول في الجماعة أو الاضطهاد.
وكانت البلاد كلها عند ذلك تحت يد قيرس (المقوقس) يصرفها كيف شاء، وكان جيش الرومان مرة أخرى يملك مصر، فكانت طرق الإسكندرية البراقة تتجاوب جوانبها بأصداء الكتائب البيزنطية إذ تسير فيها، وعادت جنود الروم إلى الأسوار العظيمة أسوار المدينة وآطامها ووضعت عليها آلات حربها، وبعثت المسالح إلى مدينة الفرما (بيلوز)، وهي ثغر الطريق الآتية من فلسطين إلى مصر، وإلى بلاد مصر السفلى مثل أثريب ونقيوس، وكذلك إلى الحصن العظيم حصن «بابلون» بقرب منف، ومن ثم عاد سلطان الروم فانتشر على بلاد الفيوم ووادي النيل، حتى بلغ الحدود من الجنوب عند أسوان في أسفل الجنادل، وكانت كل تلك الجنود والكتائب عند أمر «قيرس» ماثلة لإنفاذ أمره إذا ما دعاها، ولم يتحرك الأقباط بطبيعة الحال عندما عاد جند الروم إلى البلاد، ولكنهم وجدوا بعد قليل أن حكم الفرس إن لم يكن مما يحب ويرغب فيه فإن حكم الروم الجديد لم يكن حدثا يحمدونه ويفرحون من أجله، فقد وجدوا فيه أنواع العقاب وصنوف العذاب، فكأنهم وقد خرجوا من حكم الفرس إلى حكم الروم، قد رفع عنهم التعذيب بالسياط ليحل بهم تعذيب آخر من لسع العقارب؛ إذ بينما كان غزاة الفرس بعد أن استقر بهم الأمر في البلاد لا يحولون على الأقل بين الأقباط وبين التدين بما يشاءون من الدين، جاء قيرس (المقوقس) فعول على أن يحرمهم تلك الميزة الكبرى وينزعها من أيديهم.» (3) الاضطهاد الأعظم
وابتدأ الاضطهاد الأعظم عند ذلك، ويتفق المؤرخون جميعا على أنه بقي مدة عشر سنوات، أي إنه بقي كل مدة ولاية قيرس رياسة الدين، فإن أكبر الظن أن مجمع الإسكندرية كان في شهر أكتوبر من سنة 631م، وقد بدأ عهد الاضطهاد بعد ذلك بشهر واحد أو بشهرين، ولا يشك أحد في فظاعة ذلك الاضطهاد وشناعته، فقد جاء في كتاب «ساويرس»: «لقد كانت هذه السنين هي المدة التي حكم فيها هرقل والمقوقس بلاد مصر، وقد فتن في أثنائها كثير من الناس؛ لما نالهم من عسف الاضطهاد والظلم، ومن شدة العذاب الذي كان يوقعه هرقل بهم لكي يحولهم على رغمهم عن مذهبهم إلى مذهب «خلقيدونية»، فكان يعذب بعضهم ويعد البعض أحسن الجزاء، ويمكر بالبعض ويخدعهم، وقد جاء في ترجمة حياة البطريق القبطي «إسحق»، وكانت كتابتها سنة 695م، أنه في شبابه لقي قسا اسمه يوسف كان ممن شهروا بين يدي «قيرس» وجلد جلدا كثيرا؛ لأنه شهد شهادة الحق، وكذلك كان أخو «بنيامين» ممن عذبوا ثم قتل غرقا، وكان تعذيبه بأن أوقدت المشاعل وسلطت نارها على جسمه، فأخذ يحترق «حتى سال دهنه من جانبيه إلى الأرض» ولكنه لم يتزعزع عن إيمانه فخلعت أسنانه، ثم وضع في كيس مملوء من الرمل وحمل في البحر حتى صار على قيد سبع غلوات من الشاطئ، ثم عرضوا عليه الحياة إذا هو آمن بما أقره مجلس «خلقيدونية»، فعلوا ذلك ثلاثا وهو يرفض في كل مدة، فرموا به في البحر فمات غرقا.»
10 (4) التفكير في فتح مصر
كان التفكير في الفتح العربي لمصر أثناء الفتح العربي في فلسطين.
فحين كانت «بيت المقدس» على وشك التسليم للعرب، طلب أهلها بلسان البطريق «صقرانيوس» أن يصالحهم عمر بن الخطاب على ما صالح عليه دمشق، والمدن الأخرى التي تم للعرب فتحها، وأن يأتي الخليفة بنفسه ليكتب لهم عهد الصلح، فرضي عمر بن الخطاب بهذا الشرط تقديرا لمكانة بيت المقدس، وكتب إلى قواد جديد أن يوافوه بالجابية.
11
وهناك في السنة 17 هجرية (639 ميلادية)، جاءه وفد من أهل بيت المقدس فصالحهم وأمنهم.
ثم ذهب إلى بيت المقدس فاستقبله أهل المدينة المقدسة بالبشر والارتياح، وصلى في مكان قريب من الصخرة المقدسة، وهو المكان الذي أقيم فيه المسجد الأقصى فيما بعد.
وفي «الجابية» عرض عمرو بن العاص على عمر بن الخطاب فكرة فتح مصر، وكان من قبل يعرضها عليه، فتردد عمر في قبول الفكرة؛ إذ خشي عواقب تشتيت قوة العرب في حين كانت جيوشهم تقاتل الرومان والفرس.
فلم يزل عمرو بن العاص يحسن إليه فتح مصر حتى اقتنع بالفكرة، على أنه استمهله حتى يعود إلى المدينة ويكتب إليه. (5) عمرو بن العاص
كان عمرو بن العاص من خيرة قواد العرب، ومن أكثرهم خبرة وحكمة ومقدرة في الحرب والسياسة. كان راجح العقل، نافذ البصيرة، بعيد الهمة، ومن أشجع العرب وأبعدهم نظرا، ومن أبلغهم عبارة وأفصحهم لسانا، وكان أحد قواد الفتح العربي في سورية وفلسطين.
وقد مارس التجارة في صباه، فساعدته هذه المهنة على الاتصال بمختلف الأجناس والشعوب، وكان لها أثرها في اتساع أفقه وازدياد خبرته بالشئون السياسية والاجتماعية.
ومن البلاد التي زارها من قبل التجارة الشام ومصر والحبشة واليمن، وزار الإسكندرية حين مجيئه إلى مصر.
ولعله قد شاهد وهو في مصر مبلغ ظلم الرومان للمصريين، واضطهادهم في عقائدهم الدينية، وإكراههم على اتباع مذهب الحكومة الرسمي (الملكاني)، وعرف سخط المصريين على هذا الظلم، وما يؤدي إليه من ضعف مقاومة الرومان لما يجيء فاتحا لمصر، منقذا لها من ظلم الرومان.
عهد عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص قيادة الجيش لفتح مصر، وكان في الخامسة والأربعين من عمره.
ولم يكن هذا الجيش يزيد في بداية الأمر على أربعة آلاف مقاتل من الفرسان.
فسار عمرو بهذا الجيش في جوف الليل من فلسطين قاصدا مصر، ولم يشعر به أحد. (6) تردد عمر بن الخطاب
على أن عمر بن الخطاب قد تردد بعد عودته إلى المدينة؛ إذ كان جماعة من ذوي الرأي والمكانة، وفي مقدمتهم عثمان بن عفان، يرون غزو مصر مخاطرة لا تؤمن عواقبها.
فبعث عمر من المدينة كتابا إلى عمرو بن العاص يقول فيه: «فإن أدركك كتابي آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخلها أو شيئا من أرضها فانصرف، وإن كنت دخلت قبل أن يأتيك كتابي فامض لوجهك واستعن بالله واستنصره.»
12
ودفع بالكتاب إلى رسوله يحمله إلى عمرو بن العاص.
أدرك عمرو الكتاب وهو بعد في «رفح» التي لم تكن وقتئذ معدودة من أرض مصر، فخشي إن هو أخذ الكتاب وفتحه أن يجد فيه الانصراف، كما عهد إليه عمر.
فلم يأخذ الكتاب من الرسول، ودافعه وسار في طريقه، حتى نزل قرية فيما بين رفح والعريش.
فسأل عنها، فقيل له: إنها من مصر.
فدعا بالكتاب وقرأه، وقال لمن معه: ألستم تعلمون أن هذه القرية من مصر؟ قالوا: بلى. قال: فإن أمير المؤمنين عهد إلي وأمرني إن لحقني كتابه ولم أدخل أرض مصر أن أرجع، ولم يلحقني كتابه حتى دخلنا أرض مصر، فسيروا وامضوا على بركة الله وعونه. (7) وقائع الفتح العربي
استولى عمرو بن العاص على رفح في طريقه إلى مصر. (7-1) فتح العريش دون قتال (12 ديسمبر سنة 639م)
ثم بلغ العريش، ولم يكن بها قوة من الرومان للدفاع عنها، ففتحها دون عناء، وكان ذلك في 12 ديسمبر سنة 639م/10 ذي الحجة سنة 18ه، يوم عيد الأضحى. (7-2) فتح الفرما (بيلوز) (2 يناير سنة 640م)
وبلغ الفرما (بيلوز)
13
في يناير سنة 640م، وكانت بلدة محصنة، وفيها قوة من الرومان دافعت عنها، فهزمها العرب وفتحوا البلدة بعد أن حاصروها نحو شهر، وكان استيلاؤهم عليها في أول المحرم سنة 19ه/2 يناير سنة 640م.
14 (7-3) واقعة بلبيس (سنة 640م)
واستمر العرب في زحفهم «لا يدافعون إلا بالأمر الخفيف» كتعبير ابن عبد الحكم،
15
حتى بلغوا بلبيس، وكانت بها حامية كبيرة من الرومان يقودهم أريطيون
Ariteon ،
16
فقاوموا العرب مقاومة شديدة، وظلت ممتنعة نحو شهر، وحدثت فيها واقعة كان النصر فيها حليف العرب وهزم فيها الرومان، وكان ذلك سنة 640م/19ه.
شكل 15-1: خريطة الفتح العربي لمصر (سنة 640-642م). (7-4) معركة أم دنين
ثم هبطوا قرية أم دنين على شاطئ النيل،
17
وكانت بلدة محصنة وتقع في الشمال من حصن بابلون، وهو الحصن المنيع للرومان، ويجاورها مرفأ على النيل فيه سفن كثيرة.
فقاوم الرومان العرب في أم دنين قدر ما استطاعوا، ولكن العرب هزموهم واستولوا على أم دنين بعد مقتلة كبيرة.
وتراجع الرومان إلى حصن بابلون يمتنعون به، وكان موقعه شرقي النيل وتصل إليه السفن.
وأدرك عمرو بن العاص من مقاومة الرومان في أم دنين أن فتح حصن بابلون ليس أمرا يسيرا، ولا يكفيه الجيش الذي تحت قيادته، فأرسل إلى عمر بن الخطاب يستعجل المدد،
18
قبل فتح أم دنين. (7-5) فتح الفيوم
وفي انتظار المدد، أرسل يفتح بعض قرى إقليم الفيوم (مايو سنة 640م).
ولما تم لعمرو بن العاص فتح هذه القرى عمد إلى حصار حصن بابلون، فرآه ممتنعا عليه لكثرة تحصيناته وعلو أسواره ووفرة من فيه من جنود الرومان. (7-6) وصول المدد إلى العرب
وفي شهر يونيو سنة 640م، وصل أول مدد أرسله عمر بن الخطاب، وعدته أربعة آلاف مقاتل.
ولما أبطأ فتح حصن بابلون كتب إلى عمر يستمده، فأمده بأربعة آلاف آخرين وكتب إليه عمر بن الخطاب يقول: «إني قد أمددتك بأربعة آلاف رجل على كل ألف منهم رجل مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد.»
19
فصار عدة جيش العرب اثني عشر ألفا، وقال له عمر في كتابه: «اعلم أن معك اثني عشر ألفا ، ولن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة.»
وكان الزبير بن العوام هو الأمير على هذا المدد، وهو ابن عمة الرسول عليه الصلاة والسلام وصاحبه، وأحد رجال الشورى الستة. (7-7) واقعة عين شمس (يوليو سنة 640م)
بعد أن تلقى عمرو بن العاص المدد، اتخذ عين شمس وقتا ما مركزا لقيادته، وشرع يستعد لمعركة عين شمس، وكان جيش الرومان بقيادة تيودور القائد العام.
فعول تيودور على أن يسير بعشرين ألفا من جنوده؛ ليزحزح بهم جند العرب عن عين شمس.
فارتاح عمرو لهذه الحركة؛ إذ رأى فيها فرصة سانحة ليشتبك بالرومان في العراء، بخلاف ما إذا كانوا ممتنعين في حصن بابلون.
فزحف تيودور على عين شمس، فوضع عمرو كمينا في موضع خفي من الجبل الأحمر (شرقي العباسية الآن)، وآخر على النيل قريبا من أم دنين، ولاقى تيودور بالفريق الأكبر من الجيش، ونشب القتال (يوليو سنة 640م)، في منتصف المسافة بين الجيشين تقريبا (في حي العباسية الآن)، وأيقن الفريقان أن على النجاح في هذا الميدان يتوقف مصير مصر.
فحمى وطيس القتال، ولما بلغ أشده خرجت قوة من العرب من الجبل، وانقضت كالصاعقة على الرومان، فاختل نظامهم وتراجعوا إلى الغرب نحو أم دنين، فقابلتهم قوة أخرى من العرب، وأصبحوا بذلك محصورين بين جيوش العرب الثلاثة التي سحقتهم سحقا، فلم يبق منهم سوى جزء يسير سار بعضهم إلى النيل، وذهب البعض الآخر إلى حصن بابلون. (7-8) حصار حصن بابلون واقتحامه (سنة 640-641م)
كان هذا الحصن قديما، بناه الفرس بعد غزو مصر وسموه باسم عاصمة دولتهم (بابلون)، ثم جدده «تراجان» إمبراطور الرومان، فأقام أسواره الضخمة وزاد في بنائه.
وموقعه شرقي النيل (بمصر القديمة، قصر الشمع الآن)، وكان من أمنع حصون الرومان، وفيه جيش قوي منهم.
شكل 15-2: حصن بابلون. الذي حاصره العرب سبعة أشهر، وفتحوه في أبريل سنة 641م.
بدأ عمرو بن العاص في حصار حصن بابلون منذ سبتمبر سنة 640م، في زمن فيضان النيل وأخذ يضيق عليه الخناق، وكان قيرس (المقوقس) نائب هرقل بداخل الحصن مع الحامية الرومانية، وقائد الحصن يسميه مؤرخو العرب «الأعيرج »،
20
ولعله تحريف عن اسم «جورج»، وعدد الحامية الرومانية من خمسة آلاف إلى ستة آلاف مقاتل، ولديه معدات القتال متوافرة.
وكان تيودور
Theodore
القائد العام للرومان داخل الحصن أيضا، يتولى القيادة العليا للدفاع عنه. (7-9) المفاوضات بين عمرو بن العاص والمقوقس
كان قيرس (المقوقس) برغم أنه من الرومان، يميل إلى الصلح مع العرب؛ لشعوره بضعف مركز قومه (الرومان)، وما رآه من توالي هزائمهم أمام العرب في الشام وفلسطين، فخرج ليلة من الحصن وذهب إلى جزيرة الروضة.
وأرسل إلى عمرو وفدا برئاسة أسقف بابلون؛ لمقابلته واستطلاع رأيه في الصلح.
فقابل الرسل عمرا وقالوا له: «إنكم قوم قد ولجتم بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم (الرومان) وجهزوا إليكم ومعهم من العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا. فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم، فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم هذا القتال، قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لطلبتكم ورجائكم.»
21
فلم يبعث عمرو بجواب ما أتوا به، وحبس الرسل عنده يومين حتى يروا حال العرب؛ إذ أبيح لهم أن يسيروا في المعسكر العربي ويروا ما فيه.
ثم بعث عمرو برده مع الرسل وقال فيه: «ليس بيني وبينكم إلا إحدى خصال ثلاث: إما إن دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا، وكان لكم مالنا وإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما إن جاهدناكم بالصبر والقتال، حتى يحكم الله بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين.»
22
ففرح المقوقس (قيرس) لعودة الرسل سالمين، وسألهم عما شاهدوه في العرب فقالوا: «رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، وإنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد فيهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويخشعون في صلاتهم.»
23
وقد رأى قيرس (المقوقس) خطورة الموقف إذا استؤنف القتال، فإن العرب وهذه حالهم من الإيمان والشجاعة لا سبيل إلى ردهم عن قصدهم.
فمالت نفسه إلى الصلح، ورأى العرب تحصرهم حينذاك مياه النيل قبل أن يهبط الفيضان، ثم إذا هبط يتحسن موقفهم ويستطيعون السير أينما شاءوا.
فأرسل إلى عمرو أن يبعث إليه جماعة من ذوي الرأي؛ ليتفاوض معهم على ما عساه أن يكون صلحا.
فبعث عمرو بعشرة رجال أحدهم «عبادة بن الصامت»، وكان أسود شديد السواد، وأمره أن يكون المتكلم في الوفد، وألا يجيب الرومان إلى شيء دعوه إليه إلا إحدى هذه الخصال الثلاث.
فركب العرب السفن إلى جزيرة الروضة، فلما دخل عبادة بن الصامت على قيرس (المقوقس) هابه لسواده وفرط طوله، وقال: «نحوا عني هذا الأسود وقدموا غيره يكلمني.»
فقال العرب جميعا: «إن هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير وأمرنا أن لا نخالف رأيه وقوله.»
فدهش المقوقس من هذا الجواب؛ لأن الرومان قد اعتادوا على التفرقة العنصرية، ودهش من أن العرب لا يفرقون بين الأسود والأبيض.
فتكلم عبادة وقال: «إن فيمن خلفت من أصحاب ألف رجل أسود كلهم أشد سوادا مني، وإني بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعا، وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في الدنيا ولا طلب للاستكثار منها؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسد بها جوعه لليله ونهاره، وشملة يلتحفها؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، وإنما النعيم والرخاء في الآخرة.»
فقال المقوقس لعبادة بن الصامت: «أيها الرجل الصالح، قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمري ما بلغتم ما بلغتم إلا بما ذكرت، وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده ، قوم معروفون بالنجدة والشدة، ما يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإنا لنعلم أنكم لن تقووا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوة لكم به.»
24
فقال عبادة: «يا هذا لا تغرن نفسك ولا أصحابك؛ أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم وأنا لا نقوى عليهم، فلعمري ما هذا بالذي تخوفنا به ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، وإن كان ما قلتم حقا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالكم وأشد لحرصنا عليهم؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا أقدمنا عليه إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته، وما من شيء أقر لأعيننا ولا أحب لنا من ذلك، وإنا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين: إما أن تعظم لنا غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله عز وجل قال لنا في كتابه:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين .
25
وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحا ومساء أن يرزقه الشهادة، وألا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، وليس لأحدنا هم فيما خلفه، وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده، وإنما همنا ما أمامنا؛ فانظر الذي تريده فبينه لنا، فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث خصال، فاختر أيتها شئت ولا تطمع نفسك بالباطل. بذلك أمرني الأمير وبها أمره أمير المؤمنين وهو عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من قبل إلينا.»
فلما وصل الحوار إلى هذا الحد، أراد قيرس (المقوقس) أن يستنزل عبادة بن الصامت عن شيء، أو يجعله يقبل شيئا مما عرضه عليه، فلم يقدر على شيء، بل وقع قوله على آذان صماء لما يقول، وقال عبادة يرد عليه بعد أن نفد صبره، ورفع يديه إلى السماء: «لا ورب هذه السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء ما لكم عندنا من خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم.» (7-10) الهدنة
فاجتمع المقوقس بأصحابه فاختلفوا رأيا، وكان رأي المقوقس الإذعان وقبول الجزية، وكان الجند يرون المقاومة، وعلى رأسهم جورج (الأعيرج).
ثم طلب الرومان أن يهادنهم العرب شهرا ليردوا فيه رأيهم، فأجابهم عمرو جوابا قاطعا؛ إذ قال لهم إنه لن يمهلهم أكثر من ثلاثة أيام. (7-11) استئناف القتال
فما انتهت أيام الهدنة الثلاثة حتى أخذ الرومان في الحصن يستعدون للحرب، وخرجوا إلى العرب فوق أسوار الحصن، فأخذوا جند العرب على غرة، غير أن العرب قابلوا الحرب بالحرب، ووقع قتال شديد بين الرومان والعرب، ارتد الرومان على أثره إلى الحصن.
فعاود المقوقس الحديث عن الصلح، ورأى أن يعيد الاتصال بعمرو بن العاص في شأنه، فعرض عليه أن يختار الجزية، على أن يبعث المقوقس برأيه إلى الإمبراطور هرقل بالقسطنطينية (استانبول)، وأن يبقى الجنود من الطرفين في مواقعهم حتى يرد الرد من هرقل.
وكانت هذه هدنة قد يطول أمدها.
فسار المقوقس بطريق النيل إلى الإسكندرية، ومن هناك بعث برأيه إلى هرقل.
فرفض هرقل الصلح وأرسل يستدعي المقوقس، ولعل ذلك كان في منتصف نوفمبر سنة 640م.
سار المقوقس إلى القسطنطينية (استانبول)، وأصر على رأيه في وجوب الصلح مع العرب، فغضب عليه هرقل، ونفاه من مصر طريدا.
وجاء الرد إلى مصر قرب نهاية سنة 640م، وانتهت الهدنة، وعاد القتال بين العرب والرومان، وهبطت مياه الفيضان وغاض الماء الذي كان يملأ الخندق المحيط بالحصن، فضعف مركز الرومان واستمر القتال بينهم وبين العرب. (7-12) وفاة هرقل (فبراير سنة 641م)
وكان حماة الحصن ينتظرون أن يصلهم المدد من القسطنطينية، فلم يجدوا أثرا له.
ورأوا أن القدر قد خيب آمالهم؛ إذ بلغهم أثناء الحصار نبأ وفاة هرقل إمبراطور الرومان، فخارت لذلك نفوسهم.
وكان وفاة هرقل في فبراير سنة 641م/20ه؛ أي قبل فتح حصن بابلون بشهرين. (7-13) فتح الحصن عنوة (أبريل سنة 641م)
وبقي الحصن بعد ذلك شهرا لا يسلم، فلما أبطأ الفتح، تقدم الزبير بن العوام ووهب الله نفسه، واعتزم أن يقتحم الحصن اقتحاما.
فجاء إلى الحصن تحت جنح الليل ومعه جماعة من خيرة رجاله الفدائيين، وكان الخندق قد جف ماؤه وطم جزء منه، فاتفق معهم على أنه سيضع سلما على السور ويصعد عليه إلى أعلى الحصن، وواعدهم أن يتبعوه إذا سمعوا تكبيره.
ولما وصل البطل العربي إلى أعلى السور، أخذ يكبر وسيفه في يده.
وتحامل الرومان عليه من داخل الحصن، غير أن السهام أمطرتهم من العرب من الخارج.
واستطاع أصحاب الزبير أن يصلوا فوق السلم إلى الحصن ويطئوا أسواره بأقدامهم، وتحامل الناس على السلم، فنهاهم عمرو بن العاص خوفا من أن ينكسر.
26
فعندئذ أدرك المقوقس أن العرب قد اقتحموا الحصن، ولم يعد من سبيل إلى ردهم عنه، فعرض على عمرو أن يسلم الحصن على أن يؤمن من كانوا به من الجند على أنفسهم.
فقبل عمرو هذا العرض على أن يخرج الرومان من الحصن في ثلاثة أيام، ويتركوا ما به من الذخائر وآلات الحرب.
واستولى العرب على الحصن وما فيه، في أبريل سنة 641م/ربيع الثاني سنة 20ه.
فكأنه استمر يقاوم الحصار سبعة أشهر.
فتح سقوط حصن بابلون أمام العرب طريق الإسكندرية، وطريق الوجه القبلي.
فبدءوا بالزحف على الإسكندرية عاصمة البلاد وقتئذ، وسار عمرو بجيشه على الشاطئ الغربي للنيل. (7-14) في طريق الزحف على الإسكندرية
كانت أول مدينة فتحها العرب في زحفهم على الإسكندرية هي ترنوط
27
بالشاطئ الغربي للنيل، وأول ما التقوا بالرومان فيها فهزمهم العرب.
ثم استأنفوا السير إلى نقيوس
28
وكانت حصنا منيعا، ففتحوها (مايو سنة 641م).
ثم عاد عمرو إلى الشاطئ الغربي للنيل، وتابع الزحف إلى الإسكندرية.
وقاومهم الرومان في كوم شريك فهزمهم العرب، وقاوموهم أيضا في «سلطيس» جنوبي دمنهور فهزموهم.
ثم صمد لهم تيودور في الكربون، وكانت آخر سلسلة من الحصون التي بين بابلون والإسكندرية، وجرت بها موقعة كبيرة ارتد عن أثرها الرومان إلى الإسكندرية.
وبعد الاستيلاء على الكربون انفتح الطريق إلى الإسكندرية. (7-15) حصار الإسكندرية وفتحها (641-642م)
بلغ العرب الإسكندرية وكانت قوة الرومان فيها أكبر من قوتهم في حصن بابلون.
هذا إلى ما كانت عليه الإسكندرية من المنعة، وأسوارها من الضخامة، وحصونها وأبراجها من القوة.
وكان يساعدهم فيها أن عددهم كان وفيرا، وكانوا على اتصال بالبحر، بخلاف ما كان عليه حماة حصن بابلون.
وكان بها من الجند نحو خمسين ألفا
29
يقودهم الجنرال تيودور القائد العام.
بدأ حصار الإسكندرية في يونيو سنة 641م، وأخذ عمرو حين قدم الإسكندرية يحمل على أسوارها، فلم ينل منها منالا.
ورمت مجانيق الرومان من فوق الأسوار على جنده بوابل من الحجارة الضخمة، فارتدوا مبتعدين عن مدى رميها وانتظروا حتى يخرج إليهم الرومان من خلف الأسوار، فلم يخرجوا.
ولم يكن الحصار محكما على الإسكندرية كما كان الشأن في حصن بابلون، فإن البحر كان يمدها بالحرية والمئونة.
ولم يكن للعرب سفن تهاجم الإسكندرية من جهة البحر.
واستمر حصار الإسكندرية أربعة عشر شهرا.
وفي سبتمبر سنة 641م عاد المقوقس إلى الإسكندرية، وكان الأمر بنفيه من مصر صار كأن لم يكن بعد وفاة هرقل.
واستمسك برأيه السابق في أن الخير في مصالحة العرب. (أ) تسليم الإسكندرية (نوفمبر سنة 641م)
وفي نوفمبر سنة 641م، عقد الصلح بين عمرو والمقوقس على تسليم المدينة، ومن شروطه عقد هدنة نحو أحد عشر شهرا، تنتهي في شهر سبتمبر سنة 642م، وأن يبقى العرب في مواقعهم مدة هذه الهدنة ولا يسعوا أي سعي لقتال الإسكندرية، وأن يكف الرومان عن القتال، وأن يجلو الجنود الرومان عن الإسكندرية بأسلحتهم ومتاعهم وأموالهم؛
30
وكان جلاء آخر فوج منهم في سبتمبر سنة 642م.
وبفتح الإسكندرية وجلاء الرومان عنها دانت البلاد للفتح العربي، وأذعن الصعيد للعرب دون قتال. (7-16) فتح بعض المدن والقرى
منذ واقعة عين شمس وجه عمرو بن العاص كتائب من الجند لفتح البلاد المجاورة، ففتحت أثريب (بنها) ومنوف.
وفي أثناء الزحف على الإسكندرية، وحصارها فصلت كتائب أخرى، وسارت إلى سخا وفتحتها.
ووجه عمرو بن العاص كتائب أخرى إلى إخنا وبلهيب والبرلس ودمياط وتانيس (صان الحجر) وتونه ودميره وشطا ودقهلة وبنا وبوصير، فأخضعوها ولم تحدث مقاومات في معظم هذه البلاد إلا من الحاميات الرومانية.
وكان على دمياط أمير اسمه «الهاموك»، يقال إنه من أخوال المقوقس، استعد لقتال العرب، فلما جاءه المقداد بن الأسود قاتله وقتل ابنه، فانهزم وعاد إلى دمياط، واستشار قومه فنصحه رجل حكيم بمصالحة العرب، فلم يأخذ بنصيحته.
وسميت بلدة شطا باسم شطا بن الهاموك (وهو ابن آخر للهاموك)، انضم إلى العرب وعاونهم وقتل شهيدا في معركة دارت لفتح تانيس.
واستمرت المقاومة في المنزلة إلى ما بعد فتح الإسكندرية. (7-17) فتح برقة (سنة 643م)
بعد أن استقر مركز عمرو بن العاص في الإسكندرية وجلا الرومان عنها، زحف على برقة سنة 643م/22ه وكانت من بلاد الدولة الرومانية، وكانت تسمى بنطابوليس
ومن مدنها الشهيرة «بني غازي»، وصالح أهلها على الجزية.
وفتح طرابلس في ذات السنة، ثم استأذن الخليفة عمر بن الخطاب أن يستمر في زحفه غربا.
فنهاه عن ذلك، وأمره بالوقف عند هذا الحد. (8) محاولة الرومان استرداد الإسكندرية وفشلهم (سنة 645م)
عاودت الرومان المطامع في استرداد الإسكندرية؛ إذ قد نمى إلى قسطانز إمبراطور الرومان أن قوة العرب قد تضعضعت فيها.
فأنفذ عمارة بحرية كبيرة قصدت الإسكندرية، وكانت سيادة البحر لا تزال ملكا للرومان.
فنزلت الحملة إلى الإسكندرية سنة 645م/25ه يقودها الجنرال منويل.
ولكن عمرو بن العاص هزم الرومان، وفتح المدينة مرة أخرى، وهدم أسوارها. (9) مسألة حريق مكتبة الإسكندرية، ونفيه عن العرب
لاكت ألسنة بعض المؤلفين الإفرنج مسألة حريق مكتبة الإسكندرية؛ إذ زعموا أنها أحرقت في أوائل الفتح العربي، ونسبوا إلى عمر بن الخطاب أنه أمر عمرو بن العاص بإحراقها فأحرقها.
وتلك لعمري تهمة لا تثبت أمام التحقيق العلمي، ولا يلبث أن يبين بطلانها بقليل من البحث المجرد عن الهوى.
أول ما وردت هذه القصة في كتاب لأبي الحسن القفطي عن «تاريخ الحكماء»، ونقلها عنه أبو الفرج بن العبري في كتابه «مختصر تاريخ الدول»، وكلاهما عاش في القرن الثالث عشر للميلاد؛ أي: بعد أن مضى أكثر من خمسة قرون على الفتح العربي لمصر ووقائعه.
فانقضاء هذه القرون الطويلة قبل اختراع هذه القصة يجعلها ولا شك بعيدة عن الثقة، إذ لو كان لها ظل من الحق لورد ذكرها على لسان شاهد عيان من المؤرخين المعاصرين للفتح العربي، أو ممن نقلوا عنهم في أعقاب هذا الفتح مباشرة.
وخلاصة هذه القصة كما أوردها أبو الفرج بن العبري: أنه كان في وقت الفتح العربي رجل اسمه «حنا النحوي» من أهل الإسكندرية ومن قسوس الأقباط، وأخرج من عمله لما نسب إليه من زيغ في عقيدته، وكان عزله على يد مجمع من الأساقفة، وأن هذا الرجل أدرك الفتح العربي للإسكندرية، واتصل بعمرو بن العاص فلقي عنده حظة، فلما آنس الرجل من عمرو هذا الإقبال قال له يوما: «لقد رأيت المدينة كلها وختمت على ما فيها من التحف، ولست أطلب إليك شيئا مما تنتفع به، بل شيئا لا نفع له عندك، وهو عندنا نافع.»
فقال له عمرو: «ماذا تعني بقولك؟» فقال: «أعني بقولي ما في خزائن الروم من كتب الحكمة.» فقال له عمرو: «إن ذلك أمر ليس لي أن أقطع فيه برأي دون إذن الخليفة.»
ثم أرسل كتابا إلى عمر بن الخطاب يسأله رأيه، فأجابه عمر قائلا: «وأما ما ذكرت من أمر الكتب، فإذا كان ما جاء بها يوافق ما جاء في كتاب الله فلا حاجة لنا به، وإذا خالفه فلا أرب لنا فيه، وأحرقها.»
فلما جاء هذا الكتاب إلى عمرو بن العاص، أمر بالكتب فوزعها على حمامات الإسكندرية فأحرقوها في ستة أشهر.
ثم قال المؤلف بعد أن روى هذه القصة: «فاسمع وتعجب!»
ولم يذكر أبو الحسن ولا أبو الفرج المصدر الذي أخذا عنه هذه القصة، مع انقضاء أكثر من خمسة قرون على فتح الإسكندرية.
ويمنع من تصديقها أنها لم ترد إطلاقا في أي كتاب وضع في خلال هذه القرون الخمسة.
ولو أنها وقعت لما فات أصحابها أن يدونوها، وولد حوالي زمن الفتح العربي مثل «حنا النقيوسي»، المؤرخ المصري الذي عاش في النصف الثاني من القرن السابع للميلاد، ووضع كتابه بعد الفتح العربي بنحو خمسين عاما، وسعيد بن البطريق (أوتيخوس) الذي عاش في القرن التاسع وتحدث عن الفتح العربي، وكلاهما مسيحي.
ولم يشر إليه قدماء المؤرخين، كابن عبد الحكم والبلاذري والطبري والكندي واليعقوبي، على أهمية هذا الأمر وخطره.
على أن المؤرخين السابقين على الفتح العربي بعدة قرون، يذكرون أن حريق مكتبة الإسكندرية حدث في سنة 48 قبل الميلاد حين حضر «يوليوس قيصر» في ذلك العام إلى الإسكندرية.
فقد ذكر المؤرخ اليوناني بلوتارك
في كتابه عن «قيصر» أن يوليوس قيصر حين بوغت بمهاجمته في الإسكندرية، وأحرق أسطول البطالمة في الميناء الشرقي المجاور للحي الذي كانت فيه المكتبة، فامتدت النيران إلى ذلك الحي، والتهمت المكتبة بما فيها من الكتب.
وأيده في ذلك سينيك
Senéque
وديو كاسيوس
Dio Cassius .
أي إن المكتبة أحرقت قبل الفتح العربي بستة قرون.
وفي ذلك كله يقول المؤرخ الإنجليزي ألفريد بتلر: «ولعلنا لا نكون مخطئين إذا نحن أجملنا فيما يلي أدلة حجتنا، فإن قصدنا أن نبين حقيقة أمر مكتبة الإسكندرية، ومقدار نصيب إحراق العرب لها من الصحة أو الكذب، وقد بينا فيما سلف الأمور الآتية: (1)
أن قصة إحراق العرب لها لم تظهر إلا بعد نيف وخمسمائة عام من وقت الحادثة التي نذكرها. (2)
أننا فحصنا القصة وحللنا ما جاء فيها، فألفيناه سخافات مستبعدة ينكرها العقل. (3)
أن الرجل الذي تذكر القصة أنه أكبر عامل فيها (حنا النحوي)، مات قبل غزو العرب بزمن طويل. (4)
أن القصة قد تشير إلى واحدة من مكتبتين: الأولى مكتبة المتحف (دار العلم؛ الموزيون)، وهذه ضاعت في الحريق الذي أحدثه يوليوس قيصر، وإن لم تتلف عند ذلك كان ضياعها فيما بعد في وقت لا يقل عن أربعمائة عام قبل الفتح العربي، وأما الثانية وهي مكتبة السرابيوم فإما أن تكون قد نقلت من المعبد عام 391م، وإما أن تكون قد هلكت أو تفرقت كتبها وضاعت، فتكون على أي حال قد اختفت قبل الفتح العربي بقرنين ونصف قرن. (5)
أن كتاب القرنين الخامس والسادس للميلاد، لا يذكرون شيئا عن وجودها، وكذلك كتاب أوائل القرن السابع. (6)
أن هذه المكتبة لو كانت لا تزال باقية، عندما عقد قيرس (المقوقس) صلحه مع العرب على تسليم الإسكندرية، لكان من المؤكد أن تنقل هذه الكتب، وقد أبيح ذلك في شرط الصلح الذي يسمح بنقل المتاع والأموال في مدة الهدنة التي بين عقد الصلح ودخول العرب في المدينة، وقدر ذلك أحد عشر شهرا. (7)
لو صح أن هذه المكتبة قد نقلت أو لو كان العرب قد أتلفوها حقيقة لما أغفل ذكر ذلك كاتب من أهل العلم كان قريب العهد من الفتح العربي، مثل «حنا النقيوسي»، ولما مر على ذلك بغير أن يكتب حرفا عنه.
ولا يمكن أن يبقى شك في الأمر بعد ذلك، فإن الأدلة قاطعة وهي تبرر ما ذهب إليه «رينوود» من الشك في قصة أبي الفرج، وما ذهب إليه «جبون» من عدم تصديقها، ولا بد لنا أن نقول إن رواية أبي الفرج لا تعدو أن تكون قصة من أقاصيص الخرافة، ليس لها أساس في التاريخ.»
31
وقال بتلر في هامش ص370: «لم نقصد في هذا الأمر سوى إثبات الحقيقة، ولم نقصد الدفاع عن العرب، وليس الدفاع بضروري، ولو كان ضروريا لما تعذر أن نجد شيئا يليق الاعتذار به عن ذلك، فلا شك أن العرب عنوا فيما بعد بجمع كثير من الكتب القديمة وغيرها مما وقع في أيديهم، وعنوا بحفظها وترجموا منها في كثير من الأحوال، وفي الحق إنهم أقاموا مثلا يجدر بفاتحي هذه الأيام (يريد المستعمرين الأوروبيين) أن يحذوا حذوه، فقد نقل سديو
Sedillot
في كتابه «تاريخ العرب»: أن الفرنسيين عندما فتحوا مدينة «قسطنطينة»، في شمال إفريقية أحرقوا كل الكتب والمخطوطات التي وقعت في أيديهم، كأنهم من صميم الهمج، ووجد الإنجليز عند فتح مدينة «مجدلة» مكتبة كبرى من الكتب الحبشية فحملوها معهم، ولكنهم لم يلبثوا أن تركوا أكثرها في كنيسة على جانب الطريق؛ إذ وجدوا في حملها عناء لم يقووا على احتماله، ولقد كان اختيارهم للكتب التي أبقوا عليها خبطا وسيرا مع الصدفة، ولكن قيمة الكتب التي أنقذت وحفظت تدلنا على فداحة الخسارة التي لحقت العلم بضياع ما ترك منها؛ فقد كانت النسخة الخطية من كتاب «حنا النقيوسي» التي حفظت بالمتحف البريطاني إحدى تلك الكنوز التي أنقذت بهذه الطريقة الاتفاقية.»
هذا، ومن العلماء المحققين الذين نفوا هذه الفرية عن العرب جستاف لبون، وأرنست رنان، وجبون، ورينوود، وسديو، ويقول سديو: إن هذه القصة وضعها كتاب معادون للعرب والإسلام؛ إبان الحروب الصليبية. (10) عمرو بن العاص يتولى شئون مصر
بعد أن تم لعمرو بن العاص فتح الإسكندرية تحول إلى الفسطاط التي أنشئت بعد الفتح، ومن هناك تولى شئون مصر بأمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وكان بدء ولايته سنة 29ه قبل فتح الإسكندرية.
فكان خير وال لشئونها، وعرف بالحكمة والعدل ولين الجانب وإطلاقه الحرية الدينية للمواطنين، والسعي في إقامة أعمال العمران التي عادت على البلاد بالخير، وأحبه أهل مصر لما رأوا فيه احترام حرية العقيدة الدينية وتخفيف وطأة الضرائب، ومن السماحة بعد الغلظة التي كانوا يشهدونها من الولاة الرومان.
وظل يتولى شئون مصر حتى ولي الخلافة عثمان بن عفان سنة 24ه، فعزله سنة 26ه وولى بدله عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
وكان ولاية عمرو بن العاص على مصر نحو خمس سنوات.
ثم وليها في زمن معاوية. (10-1) إعادة البطريق بنيامين
ومن أعماله التي أكسبته حب المواطنين تأمينه البطريق «بنيامين»؛ فقد كتب أمانا له ورده إلى كرسي البطريركي، وأعاد له سلطته بوصفه بطريقا للأقباط بعد أن ظل مبعدا عن منصبه أكثر من عشر سنوات، ودخل بنيامين الإسكندرية دخول الظافر.
ولقي من عمرو الحفاوة والتقدير حتى قال عنه لأصحابه: «إني لم أر يوما في بلد من البلاد التي فتحها الله علينا رجلا مثل هذا بين رجال الدين.»
وعادت لبنيامين زعامته الدينية بين الأقباط.
قال بتلر في هذا الصدد: «وقد كان لعودة بنيامين إلى عرش الإسكندرية وأبنائها رنة طرب في قلوب أهل مصر جميعا، فعاد جل العامة إلى راعيهم القديم والفرح يملؤهم، ونادى البطريق «بنيامين» المطارنة الذين اتبعوا مذهب الدولة (الملكاني) أن ارجعوا إلى سابق عهدكم وملتكم، فعاد بعضهم يذرفون الدمع السخين ندما، ولكن قيل إن واحدا منهم أبى أن يعود حتى لا يلحقه العار خوف أن تعرف عنه الردة الأولى، ولعل الكثيرين كانوا مثله في هذا، ومهما يكن من الأمر فقد نما أمر الأقباط وزاد أتباع ملتهم، وكان هم بنيامين في أول الأمر أن يقدح فكره ليلا ونهارا في أمر رعيته، وإرجاع من ضل منهم في أيام هرقل.»
32
وظل في منصب البطريق، حتى وفاته سنة 662م. (10-2) وصف مصر بقلم عمرو بن العاص
كان عمرو بن العاص من أبلغ كتاب العرب، وقد وصف مصر في كتاب بعث به إلى عمر بن الخطاب إذ طلب الخليفة ذلك منه، قال: «ورد إلي كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه يسألني عن مصر. اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر تربة غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر، يكتنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نيل مبارك الغدوات، ميمون الروحات، تجري فيه الزيادة والنقصان، كجري الشمس والقمر له أوان، تمده عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا عج عجاجه، وتعظمت أمواجه، فاض على جانبيه، فلم يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في خفاف القوارب، وصغار المراكب، فإذا تكامل في زيادته نكص على عقبيه كأول ما بدأ في جريته، وطمى في ذروته، فعند ذلك يخرج القوم ليحرثوا بطون أوديته وروابيه، يبذرون الحب، ويرجون الثمار من الرب، حتى إذا أشرق وأشرف، وسقاه من فوقه الندى، وغذاه من تحته الثرى، فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، وإذا هي زبرجدة خضراء، فتعالى الله الفعال لما يشاء، والذي يصلح هذه البلاد وينميها، ويقر قاطنيها فيها، أن لا يقبل قول خسيسها في رئيسها، ولا يستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفق في المبدأ والمآل.» (10-3) عمرو بن العاص يؤيد تحديد النسل
كان عمرو بن العاص بعيد النظر، واسع الأفق، يعالج المسائل الاجتماعية بحكمة وحصافة؛ فمن خطبة له يوم الجمعة يحث الناس على القصد والاعتدال، ويرغبهم عن كثرة العيال ويؤيد تحديد النسل ، قال: «يا معشر الناس، إياكم وخلالا أربعا، فإنها تدعو إلى النصب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة، وإلى الذلة بعد العزة، إياكم وكثرة العيال، وإخفاض الحال، وتضييع المال، والقيل بعد القال في غير درك ولا نوال.»
33 (10-4) إنشاء الفسطاط عاصمة مصر
أراد عمرو بن العاص أن يسكن الإسكندرية ويتخذها عاصمة البلاد؛ إذ رأى أن بيوتها مشيدة، وأنها الأجدر بأن تظل الصدد: «مساكن قد كفيناها.»
فكتب إلى عمر بن الخطاب ليستأذنه في ذلك، فسأل عمر الرسول: «هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟»، قال: «نعم يا أمير المؤمنين إذا جرى النيل»، فكتب إلى عمرو: «إني لا أحب أن تنزل بالمسلمين منزلا يحول الماء بيني وبينهم في شتاء ولا في صيف.»
ولم يكن للعرب قوة بحرية في ذلك الحين، ولذلك خشي الخليفة عمر بن الخطاب أن يحول البحر بين أجزاء الدولة العربية.
فأنشأ عمرو مدينة الفسطاط
34
في السهل الذي يلي حصن بابلون، بينه وبين جبل المقطم، واتخذها عمرو بن العاص عاصمة البلاد ومقر الحكم.
وتقوم في الضفة المقابلة للنيل، على بعد أميال جنوبا، مدينة «منف» العظيمة عاصمة مصر القديمة.
وكان الشروع في تخطيط الفسطاط سنة 21ه/642م، بعد هزيمة الرومان في الإسكندرية. (أ) تحديد الفسطاط
حدد الأستاذ يوسف أحمد في كتابه «الفسطاط»، بأنها تقع في المنطقة التي حول جامع عمرو، والتي تمتد شرقا إلى سفح جبل المقطم، وشمالا إلى جهة «مسجد أبو السعود»، وغربا حتى النيل، وجنوبا حتى ساحل أثر النبي (وتعرف الآن بمصر القديمة). (10-5) جامع عمرو بن العاص
شرع عمرو بن العاص في بناء المسجد الذي عرف باسمه، منذ عودته من فتح الإسكندرية.
وبدأ في بنائه سنة 21ه/642م بعد تخطيط الفسطاط.
وكان يسمى الجامع العتيق، أو جامع الفتح، أو تاج الجوامع، وهو أقدم جامع أنشئ في مصر ويقع شمالي حصن بابلون (قصر الشمع).
شكل 15-3: جامع عمرو بن العاص بالفسطاط (مصر القديمة) قبل إصلاحه وتوسيعه، أنشأه عمرو بن العاص سنة 21ه/642م.
وكان طوله في بداية عهده خمسين ذراعا وعرضه ثلاثين ذراعا (29 × 17 مترا)، وله ستة أبواب.
وكانت تقام فيه الصلوات وتلقى فيه الدروس الدينية، فصار مع الزمن معهدا علميا ودراسيا لمختلف طبقات الشعب، هذا إلى أنه كان مقرا لمجالس القضاء ومكانا لبيت المال. (10-6) خليج أمير المؤمنين
إن أهم أعمال العمران التي قام بها عمرو بن العاص بعد أن استقر له الأمر في مصر، إنشاء مدينة الفسطاط وجامع عمرو بن العاص، وحفر خليج أمير المؤمنين
35
الذي يصل النيل بالبحر الأحمر، وييسر المواصلات المائية بين مصر وثغور شبه الجزيرة العربية.
وكان هذا الخليج يبتدئ من شمال حصن بابلون، ويمر بمدينة عين شمس ثم يسير في وادي الطميلات حتى بحيرة التمساح، ومن جنوب هذه البحيرة يتابع جريانه خلال البحيرات المرة، حتى يبلغ السويس.
وكان إنشاء هذه القناة سنة 23ه/643م وبلغ طولها نحو ستين ميلا، وكانت تسمى من قبل خليج سنوسرت الثالث، ثم خليج نيخاو ثم خليج تراجان، ثم ردمت على توالي السنين واحتفرها عمرو بن العاص (انظر الخريطة شكل
15-4 ).
شكل 15-4: خليج أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب)، احتفره عمرو بن العاص سنة 23ه/643م.
وسبب حفر خليج أمير المؤمنين ما نقله المقريزي عن ابن عبد الحكم، أن أهل «المدينة» أصابهم جهد شديد في خلافة عمر عام الرمادة.
36
فكتب الخليفة عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص يقول: «أما بعد، فلعمري يا عمرو ما تبالي إذا شبعت أنت ومن معك من أهلك، أن أهلك أنا ومن معي؛ فيا غوثاه ثم يا غوثاه!»
فكتب إليه عمرو بن العاص يقول: «يا لبيك ثم يا لبيك، قد بعثت إليك بعير (قافلة) أولها عندك وآخرها عندي.»
وجاء عمرو إلى حيث قابل عمر بن الخطاب، بعد أن وصلت العير إلى الحجاز، وسع بها الخليفة على الناس، فاقترح عليه الخليفة أن يحفر قناة تصل بين النيل والبحر الأحمر؛ لتيسير نقل المئونة والتجارة إلى الحجاز.
صدع عمرو بالأمر، فأنشأ سنة 643م/23ه القناة التي سميت خليج أمير المؤمنين، وتبدأ من الفسطاط وتسير في نفس التخطيط الذي كان لقناة الفراعنة الأقدمين، أي قناة سنوسرت الثالث التي عرفت بقناة نيخاو ثم ردمت، وجددها الإمبراطور الروماني تراجان، ثم ردمت .
فلم يأت الحول، حتى أتم عمرو بن العاص حفر هذا الخليج. (10-7) وفاة عمرو بن العاص
استمر عمرو بن العاص على ولاية مصر، حتى ولي الخلافة عثمان بن عفان.
فعزله عنها سنة 26ه/646م، وولاها عبد الله بن سعد بن أبي السرح (وهو أخو عثمان في الرضاعة)، وكانت ولاية عمرو بن العاص على مصر نحو خمس سنوات.
ثم تولاها ثانية في خلافة معاوية سنة 38ه/658م، حتى وفاته.
وتوفي في ولايته الثانية في نحو السبعين من عمره.
وكانت وفاته في ديسمبر 663م/43ه في خلافة معاوية، ودفن بسفح المقطم، ولم يعرف قبره على وجه التحقيق.
وقيل: إنه مدفون مع عقبة بن عامر بمسجده القائم إلى اليوم. (11) بماذا قوبل الفتح العربي
إن أول حقيقة يجب أن نضعها نصب أعيننا في هذا البحث أن الحرب في الفتح العربي لم تكن موجهة ضد المصريين، بل ضد الروم (الرومان) المغتصبين لمصر.
والحقيقة الثانية أن العرب لم يسيئوا إلى المصريين قط.
وقد تكون معاملة العرب الحسنة للمصريين راجعة إلى أنهم كانوا في ذاتهم أهل مروءة ونجدة، وخاصة حين هذب الإسلام نفوسهم.
هذا إلى ما اتصف به عمرو بن العاص من حبه للعدل والرفق بالأهليين، وما كان يوصيه به عمر بن الخطاب من حسن معاملتهم، اعتبر ذلك في الكتاب الذي بعث به إليه وقال فيه: «واعلم يا عمرو أن الله يراك ويرى عملك؛ فإنه قال تبارك وتعالى في كتابه:
واجعلنا للمتقين إماما
37
يريد أن يقتدى به، وإن معك أهل ذمة وعهد، وقد أوصى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بهم وأوصى بالقبط فقال: «استوصوا بالقبط خيرا؛ فإن لهم ذمة ورحما»،
38
ورحمهم أن أم إسماعيل منهم، وقد قال
صلى الله عليه وسلم : «من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته؛ فأنا خصمه يوم القيامة»، احذر يا عمرو أن يكون رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لك خصما؛ فإن من خاصمه خصمه، والله يا عمرو لقد ابتليت بولاية هذه الأمة، وآنست من نفسي ضعفا وانتشرت رعيتي ورق عظمي، فأسأل الله أن يقبضني إليه غير مفرط، والله إني لأخشى لو مات جمل بأقصى عملك ضياعا أن أسأل عنه يوم القيامة.»
ولقد رأى المصريون من إنسانية العرب وتسامحهم، ما جعلهم يثقون بهم ويطمئنون إليهم، وجاء توكيدا لقول الرسول
صلى الله عليه وسلم : «إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرا فإنه لهم ذمة ورحما.»
39
والأمثلة على إنسانية العرب عديدة، وقد وجد أهل العراق وفلسطين والشام مثل هذه الإنسانية.
فمن ذلك أنه في أوائل الفتح العربي حين فتح عمرو بن العاص «بلبيس» كانت بها ابنة المقوقس (أرمالوسة)، وقد نقل المقريزي عن الواقدي أن المقوقس زوجها لقسطنطين بن هرقل، فأكرمها عمرو وأرسلها معززة مكرمة ومعها جميع مالها حتى التقت بأبيها.
فسر المقوقس من هذه المروءة، وكان لها ولا ريب أثر كبير في نفسه.
ولما أزمع عمرو الزحف على الإسكندرية بعد فتح حصن بابلون أمر الجند أن ينزعوا خيمته (الفسطاط)، فوجد في أعلاها عش يمامة باضت عليها، فأمر عمرو أن تترك خيمة القائد مكانها، وقال في هذا الصدد: «لقد تحرم هذا اليمام منا بمتحرم، فأقروا هذا الفسطاط في موضعه حتى يفرخ ويطير.»
وعين على الفسطاط (الخيمة) حارسا يمنع تلك اليمامة أن يمسها أحد بأذى.
فإذا كانت الإنسانية قد بلغت هذا الحد، وشملت الطير الذي اتخذ خيمة القائد العام عشا له، فإن هذا المثل جدير بأن يكسب العرب محبة المصريين وتقديرهم.
وبعد أن دانت البلاد للفتح العربي، وجلا الرومان عنها، رأى المصريون عمرو بن العاص يمنع الاضطهاد الديني، ويعلن ألا إكراه في الدين، وأن حرية العقيدة مبدأ مقدس.
فأدرك المصريون الفارق الجوهري بين عهد الرومان وعهد العرب.
كما شاهدوا عمرو بن العاص يخفف عنهم وطأة الضرائب، ويساوي بين الناس في أدائها، لا فرق بين كبير وصغير، وقوي وضعيف، ومسلم وكتابي.
وشاهد المصريون من تسامح العرب الديني، ما ذكرهم بالشدائد التي لاقوها من أباطرة الرومان، سواء منهم من كانوا على الوثنية أو بعد اعتناقهم المسيحية، فقد اضطهدوا المصريين المسيحيين اضطهادا دينيا.
وحتى بعد أن اعتنقوا المسيحية اضطهدوا المصريين؛ لإكراههم على اتباع مذهبهم الرسمي، بل خرب هؤلاء وأولئك كثيرا من الآثار المصرية القديمة.
فلما جاء العرب رعوا حرية العقيدة واحترموها، كما احترموا آثار الفراعنة ولم يمسوها بسوء، ولم يفعلوا مثلما فعل الرومان أو الفرس أو الآشوريون.
فلا غرو أن أقبل المصريون، وقساوستهم على عهد العرب مبتهجين.
وكان من نتائج الحرية الدينية التي أقرها العرب أن انتهى كثير من المصريين على توالي السنين إلى قبول الإسلام، فدخلوا فيه أفواجا.
ولم يكن دخولهم فيه كرها أو عن ضغط واضطهاد، فإن المبدأ الذي اتبعه العرب هو حرية العقيدة.
وفي ذلك يقول مؤرخ أجنبي منصف، وهو ألفريد بتلر في كتابه «فتح العرب لمصر»: «إن بعض الأقباط أخذوا عند ذلك يختارون الإسلام ويفضلون الدخول فيه على دفع الجزية، فقد رأى هؤلاء أن الإسلام يجعل لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ويساويهم بالفاتحين في شرف محلهم ويجعلهم إخوانهم في كل شيء، يسهم لهم في الفيء، ولا يفرض عليهم الجزية، فكان في ذلك باعث قوي لكثير منهم على الدخول في الإسلام، ولا سيما وقد طحن المقوقس عقيدتهم طحنا وحطم يقينهم باضطهاده.»
40
وقال في موضع آخر: «ليس من العدل أن يقول قائل إن كل من أسلم من الأقباط إنما كان يقصد الدنيا وزينتها، فإنه مما لا شك فيه أن كثيرا منهم أسلم لما كان يطمع فيه من مساواة بالمسلمين الفاتحين، حتى يكون له ما لهم، وينجو من دفع الجزية، ولكن هذه المطامع ما كانت لتدفع إلا من كانت عقائدهم غير راسية، وأما الحقيقة المرة فهي أن كثيرين من أهل الرأي والحصافة قد كرهوا المسيحية لما كان فيها من عصيان لصاحبها؛ إذ عصت ما أمر به المسيح من حب ورجاء في الله، ونسيت ذلك في ثوراتها وحروبها التي كانت تنشب بين شيعها وأحزابها، ومنذ بدا ذلك لهؤلاء العقلاء لجئوا إلى الإسلام فاعتصموا بأمنه، واستظلوا بوداعته وطمأنينته وبساطته.»
41
وقال لمناسبة الصلح الذي عقد على تسليم الإسكندرية للعرب: «ولا نزال نسائل النفس عن السبب الذي حمل أهل الإسكندرية على قبول ذلك الصلح، والمبادرة إلى الرضا عن قيرس (المقوقس) بعد أن كانوا قد وثبوا به وأرادوا أن يحصبوه، ولكنهم لم يكونوا صادرين عن نزق في انصرافهم عن دولتهم (دولة الرومان)، وصدوفهم عنها ورضائهم بالإذعان لحكم الإسلام، وليس ثمة إلا رأي واحد فوق ما سبق لنا ذكره نفسر به ما كان منهم؛ ذلك أنهم كانوا قد سئموا من كثرة ما أصابهم من الحدثان، وكرهوا فساد الحكم الذي أثقل كواهلهم مدة أربعين عاما، وقالوا في أنفسهم: لعلنا نجد في حكم المسلمين استقرارا واطمئنانا نأمن فيه على ديننا فلا نكره فيه، وعلى أموالنا فلا نتحمل من الخراج والجزية إلا قدرا نطيقه، ولعل أكثر ما حملهم على الرضا بحكم العرب رفع ما كان يبهظهم من الضرائب، فقد كان الرومان يجبون من مصر أموالا يتعذر علينا أن نعرف مقدارها، ولكنها كانت بلا شك كثيرة الأنواع ثقيلة الوطأة شديدة الأذى، فأحل العرب محلها الجزية وخراج الأرض، ومهما يكن من مقدارها فقد كانت لها فضيلة البساطة، وكانت ثابتة المقدار ومحدودة القصد، وكانت أقل في جملتها مما كان يجبيه الرومان.»
42
هذا، وإن ما شاهده المصريون أو استذكروه من مظالم البطالمة، ثم مظالم الرومان، ومن قبلهم ظلم الفرس والآشوريين، قد أنار بصائرهم وزاد من وعيهم، وجعلهم يعتقدون بحق أن الحكم الأجنبي لا يمكن الاطمئنان إليه؛ فلقد رأوا الإسكندر بادئ الأمر منقذا لهم من ظلم الفرس ثم ما لبث خلفاؤه البطالمة أن اتخذوا مصر مستعمرة لهم، ثم رأوا من ظلم الرومان شرا مما رأوا من البطالمة.
فهذه التجارب التي استمرت عدة قرون جعلتهم يفكرون في أن لا بد لهم من اتجاه جديد في الروابط الدولية، يجعلهم آمنين على حياتهم وعقائدهم ومستقبلهم واستقلالهم.
فاعتزموا، وقد ساءت ظنونهم في المجموعة الأوروبية، أن ينضموا إلى الكتلة العربية الشرقية؛ إذ وجدوا فيها العدل والإنسانية والفضائل القومية، فانضمت مصر إلى المجموعة العربية.
وفي الحق إن المستعمرين من الإغريق والرومان أو الأعاجم من الشرقيين، قد برهنوا على أنهم أقوام قساة القلوب، غلاظ الأكباد، لم تعرف الإنسانية إلى قلوبهم سبيلا، وهذا ما جعل المصريين ينظرون إلى الفتح العربي كمنقذ لهم من ظلم الرومان واليونانيين، ومن قبلهم ظلم الأعاجم من الشرقيين كالفرس والآشوريين.
قد لا يكون هذا الاتجاه نتيجة تمحيص وتحقيق، بل هو إلهام للشعوب في الساعات الفاصلة في تاريخها، وخاصة في ظروف الانتقال، وهو بالنسبة لمصر دليل على ما فطر عليه الشعب المصري من إرهاف للحس، وحسن بصر في الأمور، فالشعب المصري بماضيه في الحياة القومية والحضارة المجيدة، قد أحس أنه أقرب للعرب جوارا وصلات روحية وثقافية، فاتجهت نفسه بفطرته السليمة إلى أن يكون جزءا من الكتلة العربية، بدلا من الكتلة الأوروبية أو الشرقية الأعجمية.
أضف إلى ذلك ما كان من تأثير عامل اللغة في هذا التطور، فإن انتشار اللغة العربية في مصر على تعاقب السنين قد مهد لجعل المصريين عربا؛ لأن اللغة هي ولا ريب من أقوى الروابط بين الأمم والجماعات، بل هي من أركان القوميات.
وزاد في تأثير لغة الضاد أن اللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية) قد تراجعت وتقلصت قبل الفتح العربي بعدة قرون، وحل محلها اللغة الديموتيقية أي اللغة العامية لغة الجمهور، وجاء البطالمة وأحلوا محل اللسانين لغتهم اليونانية، وجعلوها لغة الدولة الرسمية وظلوا كذلك ثلاثة قرون متوالية، وجاء الرومان من بعدهم فأبقوا على اللغة اليونانية، واتخذوها أيضا لغة الحكومة ولغة التعامل في مصر، فلما جاء الفتح العربي وجدت اللغة العربية أن المجال ممهد لانتشارها بين المصريين.
ولقد تم هذا الانتقال في يسر وسهولة؛ إذ كان وليد الفطرة والحس المرهف.
وهذا ما جعل الشعب المصري يتطور من ناحية اللغة والثقافة والتفكير إلى حيث صارت مصر مع الزمن الدولة العربية الكبرى، قاعدة العروبة وعلمها الخفاق، ومصدر الإشعاع العربي للبلدان القريبة والبعيدة.
مصادر التاريخ المصري القديم ومراجع البحث
(1) الآثار المصرية القديمة
إن الآثار المصرية كالأهرام والمعابد والمقابر والمسلات، وما تحويه من الصور والتماثيل والنقوش والكتابات، وما تتضمنه أيضا أوراق البردي، هي أول مصدر لتاريخ مصر القديمة.
هذا، وأنا لم أرجع إلى هذه المصادر الأصلية؛ لأن دراستها واستخلاص الحقائق منها يختص به علماء الآثار المبرزون الذين اكتشفوا محتوياتها على تعاقب السنين.
حقا إنني زرت الآثار المصرية زيارة علمية سنة 1934م، لمناسبة قضية المثال محمود مختار التي ترافعت عنه فيها ضد وزارة الأشغال، فقد ندبت المحكمة المسيو شارل نيراس مدير الفنون الجميلة بوزارة المعارف العمومية وقتئذ، لمعاينة محاجر أسوان، وصحبته في هذه الرحلة، وكان يمثل الحكومة في المعاينة الأستاذ عبد الرحيم غنيم، نائب قلم قضايا الحكومة في ذلك الحين (رئيس محكمة استئناف القاهرة فيما بعد والمحامي الآن)، ومندوبان عن وزارة الأشغال.
وقد زرنا مناطق الآثار في الأقصر والكرنك وطيبة وإدفو وجزيرة أسوان، وشرح لنا المسيو شارل تيراس الآثار القديمة شرحا علميا، ومكثنا في هذه الزيارة عدة أيام.
واستوفينا هذه الآثار بحثا وتمحيصا.
وفي سنة 1963م زرت معابد النوبة وخاصة معبدي «أبو سمبل»، وكنت برفقة نخبة من أعضاء لجنة التاريخ والآثار بمجلس الآداب والفنون، وهم: الدكتور أحمد فخري، والدكتور أحمد عزت عبد الكريم، والأستاذ حسن عبد الوهاب، والدكتور جمال محرز، وكان يصاحبنا أيضا الأديب يوسف الشاروني والأستاذ محمد أحمد علي سكرتير اللجنة، وشاهدنا عظمة الفن والتاريخ في هذه المعابد، وشرح لنا الدكتور أحمد فخري دقائقها وروائعها.
على أني لم أجعل اعتمادي على مشاهداتي، بل رجعت إلى ما كتبه العلماء عنه. (1-1) قوائم الملوك في الآثار القديمة (أ) حجر بالرمو
وهناك الحجر المعروف بحجر «بالرمو»، وقد نسب إلى هذا البلد؛ لأن الجزء الأكبر منه موجود إلى الآن في متحف بالرمو بجزيرة صقلية، وبقيته بمتحف القاهرة، وفيه أسماء الملوك من قبل حكم الأسرات إلى الأسرة الخامسة، وقد نقش هذا الحجر في عهد الأسرة الخامسة. (ب) قائمة الكرنك
ومن الآثار القديمة التي ظلت مصدرا للتاريخ المصري القديم القائمة المعروفة بقائمة الكرنك، نقش عليها أسماء الملوك، وقد أمر بنقشها عاهل مصر العظيم تحوتمس الثالث، وهذه القائمة منقوش عليها أسماء الملوك على جدران حجرة، يطلق عليها حجرة الأجداد. (ج، د) قائمة العرابة المدفونة (أبيدوس) وقائمة سقارة
وهناك قائمة العرابة المدفونة وقائمة سقارة.
ويرجع تاريخ الأولى إلى عهد سيتي الأول من ملوك الأسرة التاسعة، فقد أراد أن يخلد ذكرى أجداده فنقش أسماءهم في إحدى قاعات معبده بالعرابة المدفونة، وبدأ بالملك مينا، وهي محفوظة بمتحف القاهرة.
وترجع الثانية إلى عهد رمسيس الثاني، وهي موجودة بمتحف القاهرة. (ه) بردية تورين
وعدا هذه القوائم المنقوشة على الأحجار توجد وثيقة أخرى يطلق عليها اسم (بردية تورين)، وهي تشمل أسماء الملوك إلى الأسرة التاسعة عشرة.
ومما يؤسف له أن هذه البردية قد مزقت قطعا عدة، ولم يتمكن العلماء من وضع كثير من قطعها في مكانها الأصلي. (2) المتاحف
ومن المصادر الهامة لتاريخ مصر القديمة المتاحف في مصر والخارج، فهي تزخر بآثار مصر القديمة ومظاهر حضارتها. (3) كتابات المؤرخين القدماء الذين كتبوا عن مصر في العهود القديمة أو القريبة منها
ثم تأتي الكتب التي وضعها المؤرخون أو الرحالة القدماء الذين عاصروا مصر القديمة، أو كانوا قريبين من عصرها، فكتاباتهم ومشاهداتهم تعتبر من المصادر الأصلية الثانوية لتاريخ مصر القديمة، نذكر منهم:
هيكاته
Hecatus
الملطي، نسبة إلى ملطية إحدى مدن اليونان بآسيا الصغرى، وقد زار مصر القديمة حوالي سنة 520ق.م، وهو أول من جاء مصر من الرحالة الإغريق، ووضع عنها كتابا قيل إن هيرودوت اقتبس منه.
وهيرودوت المؤرخ الإغريقي المشهور الذي يلقب بأبي التاريخ، فقد زار مصر في القرن الخامس قبل الميلاد حوالي سنة 445ق.م، في عهد الاحتلال الفارسي، ومكث بها نحو أربعة أشهر، ووصل في رحلته بها إلى جزيرة فيلة، ووضع عنها الجزء الثاني من كتابه «التاريخ».
1
وفيما كتبه عنها صورة وجيزة لما كانت عليه مصر في منتصف القرن الخامس ق.م. (3-1) مانيتون المؤرخ المصري الأول
وبعد هيرودوت بأقل من مائتي سنة ظهر مانيتون الذي يعتبر المؤرخ المصري الأول لمصر القديمة، وهو كاهن مصري من سمنود، وقد حقق تاريخ الأسرات الملكية المصرية وسجل حوادثها التاريخية الهامة، وطلب إليه بطليموس الثاني أن يضع تاريخا لمصر باللغة اليونانية، فوضعه حوالي سنة 280ق.م، وذيله بجدول يشمل أسماء ملوك مصر.
ولم يصلنا من هذا الكتاب سوى نتف يسيرة؛ لأنه ضاع في حريق مكتبة الإسكندرية سنة 48ق.م، ونقل عنه بعض المؤرخين فقرات قليلة، مثل المؤرخ يوسف الذي عاش في القرن الأول بعد الميلاد، وأفريكانوس الذي أدرك القرن الثالث.
وقد قسم مانيتون في كتابه الأسرات الملكية المصرية إلى ثلاثين أسرة، وسار المؤرخون على هذا التقسيم؛ إذ اعتبروه في الجملة أساسا صحيحا للتاريخ المصري القديم. (3-2) هيكاته الأبدري، من أبديرا
Abdera
باليونان
وقد جاء مصر في عهد بطليموس الأول، ووضع عنها كتابا فقد معظمه.
وزارها ديودور الصقلي
Diodore de Sicile
حوالي سنة 59ق.م، ووضع عنها جزءا من كتابه في تاريخ العالم.
وجاء بعده المؤرخ الروماني بلوتارك
فزار مصر حوالي سنة 120 ميلادية، وكتب عن عقائد المصريين الدينية.
والعالم الجغرافي الإغريقي سترابون
Storabon
وقد زار مصر في الربع الأول من القرن الأول الميلادي، ووصف المعالم التي شاهدها أثناء زيارته؛ وصفها في جزأين من كتاب له عن جغرافية البلاد التي زارها.
على أنه يجب أن تقابل محتويات كتب المؤرخين والرحالة الأجانب بشيء كبير من التحفظ والحذر؛ لأن ما ورد فيها منقول عن الرواة الذين قابلهم أولئك الرحالة أثناء زياراتهم لمصر، وهؤلاء الرواة لا يوثق بقصصهم، فلا يصح الاعتماد عليها. (4) المراجع الحديثة
نذكر فيما يلي أهم المراجع الحديثة التي رجعنا إليها في تأليف كتابنا، ونقسمها بحسب العصور التي أرخوا لها. (4-1) عن مصر القديمة
أحمد كمال باشا: الحضارة القديمة.
أحمد كمال باشا: العقد الثمين في تاريخ مصر القديمة.
جيمس هنري برستد
Breasted
المؤرخ الأمريكي، والذي كان أستاذا للتاريخ المصري القديم وتاريخ الشرق بجامعة شيكاجو: تاريخ مصر من أقدم العصور إلى الغزو الفارسي
A History of Egypt from the earliest times to the
. تعريب الدكتور حسن كمال. ظهر هذا الكتاب لأول مرة سنة 1905م.
موريه: مصر الفرعونية
Moret “Alexandre”: L’Égypte pharaonique .
موريه: النيل والحضارة المصرية
Le Nil et la Civilisation Égyptienne .
سليم حسن: مصر القديمة في 16 جزءا، والجزء السادس عشر من عهد بطليموس الخامس إلى نهاية عهد بطليموس السابع. وقد ظهر الجزء الأخير سنة 1961م، عام وفاة مؤلفه العالم الكبير. وظهر الجزء الأول سنة 1940م.
سليم حسن: جغرافية مصر القديمة.
أحمد فخري: مصر الفرعونية.
أحمد بدوي: في موكب الشمس في تاريخ مصر الفرعونية (في جزأين).
نجيب ميخائيل إبراهيم: مصر والشرق الأدنى القديم.
جون ويلسن
John Wilson : الحضارة المصرية
The Burden of Egypt ، تعريب الدكتور أحمد فخري.
أدولف أرمان
Erman : مصر والحياة المصرية في العصور القديمة، تعريب الدكتور عبد المنعم أبو بكر ومحرم كمال.
دريتون وفاندييه
Diroton et Vendier : شعوب شرق البحر الأبيض المتوسط، الجزء الثاني، مصر
Les
.
هنري حجوتييه: الوجيز في تاريخ مصر، الجزء الثاني (مصر الفرعونية).
H. F. Gautier: Percis de L’histoire de Égypte pharoanique .
بوزنر: التسلط الفارسي الأول على مصر
Egypte .
ويجول: تاريخ الفراعنة
Weiggall: History of the pharaons .
فلندرس بتري: تاريخ مصر
Flinders Petrie: A History of Egypt .
شامبليون فيجاك: مصر القديمة
L’Egypte ancienne: Champollion Figeac .
شامبليون الشاب: مصر تحت حكم الفراعنة
Chompollion le Jeune: L’Egypte sous Les pharaons .
عبد المنعم أبو بكر: مراكب الشمس.
عبد المنعم أبو بكر: إخناتون.
إدوارد: أهرام مصر
Edwards: The Pyramids of Egypt . تعريب مصطفى أحمد عثمان.
تاريخ العالم، نشره بالإنجليزية السير جون هامرتن. تعريب إدارة الترجمة بوزارة المعارف العمومية. ظهر من التعريب حتى الآن خمسة أجزاء.
وزارة الثقافة والإرشاد القومي: تاريخ الحضارة المصرية، العصر الفرعوني، لنخبة من العلماء.
جاستون ماسبرو: تاريخ المشرق، شعوب الشرق القديم
Maspero: Histoire ancienne des peuples de L’Orient .
إسكندر شارف
Alexander Sharff : تاريخ مصر من فجر التاريخ حتى إنشاء مدينة الإسكندرية، تعريب الدكتور عبد المنعم أبو بكر.
عمر ممدوح مصطفى: أصول تاريخ الفنون. (4-2) عن عهد البطالمة والرومان
إبراهيم نصحي: تاريخ مصر في عصر البطالمة، في جزأين.
بيير جوجيه: مصر البطلمية
.
بوشيه لكلرك: تاريخ اللاجيديين (البطالمة)،
2
في جزأين، وهو من أهم المراجع في تاريخ البطالمة.
Bouche Lecterq: Histoire des Lagides .
بيفان: تاريخ اللاجيديين، في جزأين
Bevan: Histoire des Lagides .
محمد عواد حسين: حركات المقاومة الوطنية في مصر البطلمية.
فيكتور شابو: مصر الرومانية
Victor Chapot: L’Égypte Romaine .
دييهل: مصر المسيحية والبيزنطية
Diehl: L’Égypte Chrétienne et Byzantine .
هارولد بل
H. Bell : الهلينية في مصر، تعريب الأستاذ زكي علي.
ميلن: تاريخ مصر تحت الحكم الروماني
Milne: History of Egypt under Roman rule. .
إدوار جيبون: اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية
Gibbon: Decline and Fall of the Roman Empire . (4-3) عن الفتح العربي لمصر
ابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها.
البلاذري: فتوح البلدان.
الطبري: تاريخ الأمم والملوك، 13 جزءا.
ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 12 جزءا.
المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، أربعة أجزاء.
أبو الفداء: المختصر في أخبار البشر، أربعة أجزاء.
ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، 11 جزءا.
السيوطي: حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة.
القلقشندي: صبح الأعشى في صناعة الإنشا، 4 أجزاء.
جوستاف ليبون: تمدن العرب
Gustave le Bon: La Civilisation des Arabes .
حسن إبراهيم حسن: عمرو بن العاص.
رفيق العظم: أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة، الجزء الثالث.
بتلر: فتح العرب لمصر، تعريب محمد فريد أبو حديد
Butler: The Arab conquest of Egypt .
محمد حسين هيكل: الفاروق عمر.
ستانلي لين بول: تاريخ مصر في العصور الوسطى
A History of Egypt in the Middle A Ages. .
ستانلي لين بول : سيرة القاهرة، ترجمة حسن إبراهيم حسن وآخرين
Story of Cairo .
سديو: تاريخ العرب
Sedillot: His. Générale des Arabes .
ياقوت الحموي: معجم البلدان، 12 جزءا.
علي مبارك: الخطط التوفيقية، في عشرين جزءا.
محمد رمزي: القاموس الجغرافي للبلاد المصرية، من عهد قدماء المصريين إلى سنة 1945م.
ناپیژندل شوی مخ