أما أسدروبال الذي صمم على مقاومة الرومانيين إلى النهاية، فإنه خام في آخر الأمر، وأشرف على النهك لطول الجهاد ومال إلى التسليم، وقد اتهم بأقبح أنواع الخداع والمكر في سبيل استحياء نفسه، وذلك بعد أن وضع زوجته وأولاده في مأزق يستحيل عليهم منه النجاة من الهلاك، ولكن المباغتات التي ترافق مثل هذه المعارك الشديدة، والسرعة المدهشة التي بها تتغير الحوادث متعاقبة في مثل هذه الظروف، وما ينشأ عن ذلك من الاضطرابات العقلية؛ كل هذه الأمور الهائلة تجرد الشخص المدعو إلى العمل فيها من كل تعقل وتؤدة وروية، وتبرره من كل مسئولية أدبية عما يقدم عليه كما لو كان مجنونا.
وكيفما كان الحال فإن أسدروبال بعد أن حصر زوجته وأولاده مع جماعة من المتهورين الذين لا يخشون المنية، والذين لا يعبئون بالتسليم توسلا به إلى الخلاص، ذهب نفسه وسلم ذاته، قد يكون فعل ذلك على أمل أن يتاح له بعدئذ إنقاذهم جميعا، وحذا الجنود القرطجنيون حذو أسدروبال ففتحوا بوابات الحصن وأدخلوا الفاتح، وكان من أمر الجماعة الفارين من جيش الرومانيين والذين جعلت معهم زوجة أسدروبال وأولاده، أنهم عندما وجدوا الخطر متدانيا منهم، فضلوا الموت بأيديهم على أن يمنحوا أعداءهم المسرة بقتلهم، فأشعلوا النيران في تلك البناية.
فلما اندلعت ألسنة اللهيب وتصاعد الدخان في جوانب البناء، تراكض المحصورون هناك في كل الجهات، وهم لا يدرون إلى أين يفرون، وقد خنقهم الدخان المتلبد ولسعتهم ألسنة النيران، وكان البعض منهم قد وصلوا إلى السطح في فرارهم، وكانت زوجة أسدروبال وأولاده في جملتهم، فنظرت من ذلك العلو الشاهق وهي محاطة بالدخان واللهيب من كل جانب، وأبصرت زوجها واقفا قريبا من القائد الروماني في الدار، وربما كان أسدروبال عندئذ مفكرا في حالة زوجته وأولاده، وكيف يتمكن من إنقاذهم، وهم في ذلك المكان الشاهق تحتاطهم النيران الآكلة، فوجود زوجها ووالد أولادها في مكان بعيد عن الخطر جعل الزوجة والأم كالمجنونة من شدة الغضب، فصاحت بأعلى صوتها من حيث هي واقفة وحولها أولادها، وقالت مخاطبة زوجها: «هكذا قضيت بهلاكنا يا دنيء، يا خائن لكي تخلص نفسك، إني غير قادرة على الوصول إليك شخصيا؛ لأنتقم منك ولهذا أقتلك في شخصية أولادك.» قالت هذا وطعنت أولادها بخنجر كان معها، ودهورتهم من هناك إلى أسفل، فسقطوا في وسط اللهيب، ورمت هي بنفسها فوقهم لتشاركهم في هلاكهم المخيف، ولما استولى الرومانيون على المدينة اتخذوا أفعل التدابير لجعل تدميرها تاما من كل وجه، وكان الأهلون قد فروا منها وتفرقوا بددا في البلاد المجاورة لها، وهكذا أصبحت كل تلك المقاطعة تحت سيطرة الرومانيين.
وقد حاول الناس بعدئذ إعادة بناء قرطجنة؛ إلا أنهم لم يخرجوا فكرتهم إلى دائرة العمل، فصار مكانها على ممر الأيام أشبه بمتنزه على نوع ما وكان بين خرباتها أكواخ معدودة لأناس أحبوا السكنى في وسط تذكارات المجد الزائل والعظمة الهاوية إلى الحضيض، ولكنها على تمادي الأيام اندثرت بالكلية فهجرها سكان الأكواخ، ونما العشب فوقها وغطتها سوافي الرمال، بحيث أصبحت معرفة مكانها الآن من الأمور المتعذرة؛ إذ لا توجد علامة أو نصب يدل على موقعها.
ومعلوم أن الحرب والتجارة هما المبدآن العظيمان المتضادان اللذان يجاهدان في سبيل إحراز السيطرة على الجنس البشري، ووظيفة أحدهما البنيان كما أن وظيفة الآخر الهدم، فالتجارة تعمل على ابتناء المدن وحراثة الحقول وإتقان الزراعة، فتتولد عنها الخيرات والرفاهية وكل بركات العمل والسلام والطمأنينة، فهي تحمل التنظيم والترتيب إلى كل مكان وتحتفظ بالأملاك والأرواح، وتجرد الأوبئة من عواملها القتالة، وتقطع دابر المجاعات.
والحرب من الجهة الأخرى تدمر وتخرب أنظمة الحياة الاجتماعية وتفسدها، وتهدم المدن وتعطل المزارع وتصير بالناس إلى حالة الفاقة والعوز والبطالة والكسل الوبيل، والعلاج الوحيد الذي تعرفه لمداواة ما تنزله ببني الإنسان من الشرور هو أن تقصر زمن تعاسة ضحاياها بإفلات الأوبئة والمجاعات عليهم؛ لتقصف منهم الأعمار.
وعلى هذا تكون الحرب العدو الأكبر للجنس البشري، والتجارة الصديق الأكبر له، فهما مبدآن متضادان يتعاركان على الدوام للسيطرة على كل أنظمة الناس، ولما ظهر هنيبال على المسرح وجد بلاده عاملة بسلام وهناء على استبدال ما يوفر الرفاهية والغبطة للجنس البشري، فآلى على نفسه أن يحول كل ذلك النشاط وتلك العوامل إلى المجرى الجديد المؤدي إلى الاعتداء والحروب والفتوحات، فنجح في هذا المسعى أيما نجاح.
وإن لنا في الواقع من شخصيته وسيرة حياته ما يثبت لنا دون أقل ارتياب سمات وسجايا البطل الحربي العظيم، فهو قد انتصر في معارك عديدة هائلة، ودمر بلدانا كثيرة وعرقل مجرى التجارة وأوقفها في آخر الأمر بالكلية، وهي التي كانت سبب إسعاد العدد الكبير من الناس، ومصدر هناء الألوف من البيوت في سائر البلدان، وأوجد بدلا منها في كل مكان أشد أنواع الحاجة والمتربة والرعب والهول المستمر الذي كان يجر وراءه الأوبئة والمجاعات.
وعمل على إبقاء بلاد أعدائه في أردأ حالات القلق والبلبال الدائم والألم والرعب والاحتساب أعواما طوالا، وأفلت على بلاده في النهاية تيار الخراب الذي دكها دكا، وصيرها أطلالا بالية وعمرانها يبابا ينعق فوقه بوم الخراب إلى هذا اليوم.
وجملة القول أن هنيبال كان أعظم أبطال الحروب التي عرفها العالم في كل تاريخه.
ناپیژندل شوی مخ