والمشكل الأول الذي بدا له في شأن ذلك القرار هو مسألة اقتسام السلطة، وكيفية تحديدها لكل منهما، فقال مينوسيوس لفابيوس: «إننا لا نستطيع كلانا تولي القيادة، بل يمكننا تبادلها بالتعاقب فيتولاها كل منا يوما أو أسبوعا أو شهرا، أو المدة التي تفضلها أنت.» فأجاب فابيوس وقال: «لا، لا، إننا لا نقتسم الوقت بل نقتسم الرجال، فالجيش مؤلف من أربع كتائب تأخذ أنت اثنتين منها، وأنا أتولى قيادة الكتيبتين الباقيتين، فلعلي بذلك أتوفق إلى إنقاذ نصف الجيش من الأخطار التي أخشى أن تندفع أنت والجيش الذي بقيادتك في غمراتها.»
فاتفق الاثنان على هذا، وقسم الجيش نصفين، وراح كل قسم بقائده إلى معسكر منفرد، وكانت النتيجة من أعجب وأغرب الحوادث الحربية وأندرها وقوعا في تواريخ الشعوب؛ فقد شعر هنيبال الذي كان وقف على كل ما جرى بأن مينوسيوس قد أصبح تحت رحمته؛ إذ عرف أن هذا القائد تائق إلى خوض معركة وأنه من السهل على هنيبال أن يجره إليها تحت الظروف الملائمة له، والتي يجعلها غير ملائمة لمينوسيوس، وهكذا أخذ يتحين الفرص حتى سنحت ووجد مكانا يصلح لكمين على مقربة من معسكر مينوسيوس، فأقام في ذلك المكان خمسة آلاف رجل تسترهم هنالك الصخور والأشجار عن الأنظار.
وقامت بين هذا المكان وبين معسكر مينوسيوس رابية عظيمة، فلما أعد هنيبال الكمين أرسل نفرا من جنده ليستولي على أعالي الرابية متوقعا من مينوسيوس إرسال قوة أعظم منها لتطاردها، فصح ما توقعه هنيبال من هذا القبيل، وعندها أرسل هنيبال مددا لرجاله فقابله مينوسيوس بمثل ذلك وأرسل مددا لجنوده مدفوعا إلى ذلك بالغيظ والكبرياء، وبهذه الطريقة استدرج هنيبال عدوه إلى إرسال كل جيشه، وعندها أصدر أمره إلى رجاله بالانسحاب من أمام جيش مينوسيوس، فلحقهم جيش مينوسيوس حتى نزل الرابية من الجانب الثاني؛ بحيث أصبح أمام الكمين ومحاطا به من كل ناحية، فهب الخمسة آلاف رجل الكامنون دفعة واحدة وأعملوا السيف في رقاب الرومانيين الذين اختل نظامهم ووقعوا في ارتباك عظيم، فطلبوا النجاة من كل ناحية فارين من أمام أعدائهم الذين سدوا عليهم مسالك الخلاص، ولولا تدخل فابيوس وإغاثته إياهم لما بقي منهم أحد، فقد اتصلت به أخبار المعركة وهو في معسكره، فجرد الرجال وسار بجموعه ووصل ساحة القتال في وقته، وتصرف تصرف القائد المدرب فبدل الحالة بالكلية، ونجا مينوسيوس ونصف جيشه من الهلاك المحتم.
وتراجع القرطجنيون بدورهم واستاء هنيبال كثيرا وتولته الحفيظة والغيظ؛ لأنهم حرموه فريسته، ويقول التاريخ: إن مينوسيوس قد تصرف بعقل ورزانة بعد هذا؛ إذ اعترف بأخطائه وانصاع منذ تلك الوقعة لإرشاد فابيوس وعمل بآرائه. ولما وصل إلى حيث كان معسكرا جمع قسمه من الجيش وقال لهم: «أيها الجنود، لقد كنت أسمع على الدوام أن أوفر الناس حكمة هم أولئك الذين أحرزوا الحكمة والفطنة بذاتهم، ويتلوهم في ذلك أولئك الذين يدركون ذلك فيهم، ويميلون إلى الاسترشاد بحكمة الآخرين وفراستهم، أما الذين لا يعرفون كيف يسترشدون ولا يميلون إلى العمل بما يشير عليهم أهل الفطنة، فأولئك هم الحمقى ونحن لسنا من هذه الطبقة الأخيرة، وما دمنا لم نبرهن عن أنفسنا أننا من المرتبة الأولى التي ذكرتها فلنكن من الثانية، والآن فلنسر إلى معسكر فابيوس ونضم معسكرنا إلى معسكره، كما كنا قبلا فنحن مدينون له ولجيشه بالمنة الأبدية ؛ لما أبداه من نبالة الروح بإسراعه لنجدتنا وإنقاذنا من الهلاك المحتم، في حين أنه كان قادرا على غض الطرف عنا وتركنا لقمة سائغة للعدو.»
فسارت الكتيبتان إلى معسكر فابيوس، وهناك تم الاتفاق بين قسمي الجيش الروماني وتوحدا، فأحرز فابيوس منتهى الكرامة والإجلال العمومي، على أن مدة سيطرته انتهت بعد ذلك بقليل، وكان الخوف من هنيبال قد تلاشى إلا قليلا، فلم يعد ثم من حاجة إلى تجديد السيطرة المطلقة، فعاد الشعب إلى انتخاب القناصل كالأول.
وقد أحرزت سجايا فابيوس أعظم إعجاب وتقدير من الجنس البشري بأسره، فهو قد برهن في كل ما أقدم عليه عن روح نبيلة وشرف صميم، وكان آخر أعماله من أعظم الأدلة على ذلك، وهو أنه كان قد اتفق مع هنيبال على أن يدفع إليه مبلغا معلوما من المال كفدية لعدد من الأسرى الذين وقعوا في أسر هنيبال، فأطلقهم هنيبال بناء على وعد فابيوس بأداء المال، وكان فابيوس على يقين من أن الرومانيين يوافقون على المعاهدة ويدفعون المال في الحال، إلا أنهم استنكروا ذلك وترددوا في العمل بما تعهد به فابيوس، أو أنهم تظاهروا بعدم رضاهم عن ذلك؛ لأن فابيوس لم يشاورهم في الأمر قبل عقد المعاهدة.
فلما رأى فابيوس منهم ذلك باع حقله؛ لكي يتوفر له المال اللازم فيصون شرفه وشرف بلاده من وصمة كسر العهود، وهو بعمله هذا الدال على روح العدل والأنفة التي عرفت عنه قد صان شرفه وبر بوعده، على أننا نشك فيما إذا كان ذلك العمل قد صان شرف الشعب الروماني.
الفصل التاسع
معركة كانيه
كانت معركة كانيه آخر المعارك الكبرى التي خاض هنيبال غمراتها في إيطاليا، وشغل هذا العراك فسحة غير يسيرة من التاريخ، ليس فقط لطول مدته وهوله والتفاني الذي بدا من الجانبين في وقعاته؛ بل لما رافقه من الحوادث المتناهية في اللذة والباعثة على الإعجاب، إلا أن اللذة فيما نظن متأتية على الغالب من براعة المؤرخ في تنظيم تلك الرواية الحربية، وكيفية سردها أكثر منها عن الحوادث الحربية بالذات.
ناپیژندل شوی مخ