ولنفرض أنها أعلى من جبال البيرنيه، فهي غير بالغة عنان السماء في السمو، وبما أنها ليست في شيء من ذلك فتسلقها غير مستحيل، بل إن الناس يجتازونها كل يوم وهي في الواقع مأهولة بالناس الذين يحرثون بطاحها، والسياح يجتازونها ذهابا وإيابا في كل حين، والذي يقوى عليه الفرد يقوى عليه الجيش؛ إذ ما الجيش إلا عدد غفير مؤلف من أفراد، فضلا عن أن الجندي الذي لا يحمل معه إلا عدة حربه لا يجد صعوبة في تسلق الجبال، مهما كانت شاهقة هذا إذا كان ذا شجاعة ونشاط.»
وبعد الانتهاء من الكلام شعر هنيبال بأن رجاله قد تشجعوا بما ألقاه عليهم، وهكذا أمرهم بالانصراف إلى خيامهم ليرتاحوا ويتأهبوا للسير في اليوم التالي، فانصاعوا له ولم يبدوا أقل مقاومة بعد ذلك، على أن هنيبال لم يقصد جهة جبال الألب رأسا على أثر ذلك، فهو لم يكن يعرف شيئا عن تدابير سيبيو الذي كان تحته كما يذكر القارئ عند القسم الأسفل من نهر الرون مع جيشه الروماني، ولم يرد هنيبال أن ينفق وقته وقوته ضياعا بمعاركة سيبيو في بلاد الغال، بل فضل متابعة الزحف، واجتياز جبال الألب إلى إيطاليا بالأسرع الممكن.
وهكذا فإنه لخوفه من مسير سيبيو في وسط البلد ليعترضه إذا هو حاول الزحف في طريق مستقيمة، صمم النية على الجنوح شمالا صاعدا على ضفاف نهر الرون، ثم إلى أن يتوغل مسافة معلومة في الداخلية، بقصد أن يصل جبال الألب في آخر الأمر بدوره. وفي الواقع إن الخطة التي دبرها سيبيو هي أن يلتقي هنيبال ويهاجمه على عجل، وعلى هذا فإنه حالما عادت فرسانه أو الذين نجوا منهم من عراكهم مع القرطجنيين على مقربة من معسكرهم جمع قواته، وسار يريده صعدا على ضفاف النهر.
ووصل إلى المكان الذي عبر هنيبال عنده النهر بجيشه، فوجد تلك البقعة في حالة الخراب والتشويش قد ديس فيها العشب والبقول على استدارة ميل واحد، وآثار القرطجنيين مبعثرة في كل مكان، ولا سيما آثار النيران التي أوقدوها في معسكرهم هنالك، ووجد أغصان الأشجار ملقاة على الأرض هنا وهناك وجذوعها مقطوعة، فعلم أنها استخدمت في عبور النهر ورأى بقايا الأرماث والأطواف والقوارب، وما لا يحصى من الأسلحة التي تركت أو أضاعها أصحابها، وعددا كبيرا من جثث الغرقى أو القتلى وبعضهم من رجاله. كل هذه الآثار رآها، ولكن الجيش قد غادر المكان إلى جهة غير معروفة .
على أنه لقي هنالك جماعات من أبناء تلك الناحية، وغيرهم من الذين قصدوا ذلك المكان للتفرج على ما تركه الجيش القرطجني في تلك النقطة التي قدر لها أن تصير مذكورة في تاريخ العالم على توالي الأجيال، فمن هؤلاء عرف القائد الروماني سيبيو إلى أين ذهب هنيبال، وفي أي وقت برح المكان، وقرر في فكره أن اللحاق به لا يأتي بفائدة، فحار فيما يقدم عليه وهو قد عهد إليه في الدفاع عن إسبانيا بالقرعة، ولكن بما أن العدو الكبير الذي تعين عليه البطش به قد ترك إسبانيا بالكلية، فلم يبق له أمل بالوقوف في وجهه وصده عما يبغيه إلا بالرجوع إلى إيطاليا، وملاقاته حالما يهبط من جبال الألب إلى وادي «بو» الكبير، ومع هذا فإنه ما دام أمر إسبانيا قد وكل إلى عهدته لا يرى من الحكمة التخلي عنها بتاتا، وبناء على هذا الزعم وجه قسما من جيشه إلى إسبانيا لكي يبطش بالجيوش التي أبقاها هنيبال، وسار هو مع القسم الأكبر من جيشه إلى شاطئ البحر، وأقلع من هناك عائدا إلى إيطاليا.
وتوقع سيبيو أن يجد جنودا رومانية في وادي «بو» يتقوى بها على ملاقاة هنيبال حال هبوطه من الجبال، هذا إذا تسنى له اجتيازها سالما، وكان هنيبال في الوقت ذاته جادا في قطع الجبال وهو يقترب شيئا فشيئا من قممها المتوجة بالثلوج التي رآها جنوده من قبل ملاصقة للأفق وهابوها كثيرا. وكانت تلك القمم البيضاء من أجمل ما وقعت عليه العيون عندما أرسلت عليها الشمس المتدانية من الغروب باهر أشعتها، فلما اقترب منها الجيش خفيت عن أبصاره لما اعترض بينه وبينها من الهضبات التي هي أقل منها علوا، ولكنها أقرب إليه.
فلما تدانى الجنود من تلك المنحدرات الهائلة، وما تشرف عليه من الأعماق التي ترتعد لهولها فرائص الناظر إليها من ذلك العلو الشاهق والدروب المغطاة بالجليد، عادت إليهم مخاوفهم وتولاهم الرعب والاحتساب، ولكن الرجوع من هنا كان متعذرا عليهم فلم يعد أمامهم إلا التقدم، فتقدموا مرغمين ذاهبين صعدا على الدوام ، إلى أن صارت الطرق التي يسيرون فيها كجدران الهاوية يصعب المشي فيها، يرون تحتهم أعماقا لا نهاية لها وفوقهم قمما وجلاميد من الجليد تكاد تنقض عليهم وتسحقهم، وركام الثلوج تواجههم وتحيط بهم من كل صوب.
أخيرا وصلوا إلى معبر ضيق، وكانوا مضطرين إلى المسير فيه، وأبصروا فوقه رجالا يحرسونه قائمين فوق شواهق الصخور ومتأهبين لرجمهم بالأحجار، وبكل ما تصل إليه أيديهم ليحولوا دون مرورهم. عندئذ وقف الجيش إذ أمر هنيبال رجاله أن يعسكروا حيث هم، إلى أن يفكر فيما الذي يجب عليه القيام به، وعلم بعدئذ أن أولئك الجبليين لا يبقون في تلك الأماكن الشاهقة في غضون الليل، وذلك بالنظر إلى البرد الشديد وتعرضهم لأذاه. وعلما منهم بأنه يتعذر كثيرا على أي جيش المرور من هنالك بغير أن يهتدي بنور النهار؛ نظرا لضيق المعبر ولما يشرف عليه من المنحدرات الهائلة التي يتوقف السقوط في أعماقها على زلة قدم.
ولما كان الجبليون لا يرون من لزوم لحراسة ذلك المعبر الضيق في الليل - لأن خطره المخيف كاف لحراسته - فقد اعتادوا تركه عند المساء طلبا لمأوى يستريحون فيه في بعض أهزعة الليل؛ ليعودوا إلى عملهم الشاق عند الصباح، فلما علم هنيبال هذا قر رأيه على مسابقتهم إلى تسلق الصخر الذي اتخذوه مخفرا في اليوم التالي، ولكي ينفي كل شك عندهم في أمر حركاته وما عزم عليه، أخذ يتظاهر بأنه يدبر الوسائل ليخيم حيث هو الليل بطوله.
ولكي يزيدهم اطمئنانا ضرب خياما أخرى، وأمر بإيقاد النيران عند المساء، وقام بحركات أراد بها إيهام أولئك الجبليين أنه يتأهب للمرور في ذلك المعبر في اليوم التالي، ونقل لساعته فيلقا كبيرا من جيشه إلى نقطة قريبة من مدخل المعبر، وأقامه هناك في موقف حصين؛ وذلك لكي يكونوا على أهبة التقدم عندما يأزف الوقت في اليوم التالي، فلما رأى الجبليون هذه الحركات والاستعدادات التي قام بها جيش هنيبال، توقعوا منها حدوث عراك في الغد، وعلى هذا انصرفوا لكي يرتاحوا مدة ذلك الليل في الأماكن التي اتخذوها مقرا .
ناپیژندل شوی مخ