أما الموسيقى فجائز أن تكون قد أصبحت علما أو فلسفة في العصر الحاضر، ولكنها لم تكن كذلك في زمان العرب، بل كانت مجرد فن لا غير، وهذا ليس ببعيد؛ فإن كثيرا من العلوم الحديثة لم تكن منذ زمان قصير إلا نظريات أو مجرد فكرات ناحية الغيب فيها تربي على ناحية الشهادة.
ولست أعرف من أية طريق تبادر إلى ذهن الناقد أني أعيب على العرب أو على الإسلاميين نقل النساطرة واليهود ووثنيي حران لمذاهب الفلسفة من قبلهم، أليس هذا ما يرويه التاريخ؟ فلماذا يحمل كلامي على محمل النيل من العرب أو الإسلاميين إذا أنا قررت ما يرويه التاريخ؟ وكذلك هو يقول - أصلحه الله - «وما الذي احتاج إليه الإسلام قرنا ونصفا قبل الفلسفة» كأنه يعتقد خطأ أن الفلسفة اليونانية لم تذع بين العرب إلا في العصر العباسي، وما أحيله على شيء يصلح به خطأه إلا أن يقرأ تاريخ انفصال اليعاقبة والنساطرة عن الكنيسة الرومانية، وشيئا وجيزا من اتصالهم بالشرق، وعلى الأخص بالعراق وسورية ومصر وفارس قبل ظهور الإسلام، ليعرف إن كان العرب قد عرفوا الفلسفة من العالم السرياني وهم بعد نصارى ويهود ووثنيين، أم إنهم لم يعرفوها إلا في العصر العباسي.
أما ذكر اللاهوت فالحق أني لم أقصد به سوى ما يعني من كلمة
Theology
ولا أظن أن الناقد ينكر أن المسلمين قد امتازوا بكثرة المذاهب الثيولوجية، وما ذلك عنه ببعيد، على أن في رده لكثيرا من البعد عما أقصد من اصطلاح اللاهوت، فإنه تساءل: كم مجمع اجتمع في الإسلام لتحرير مذهب أو بحث نظرية؟ كأنه يعتقد أن فكرات اللاهوت لا تقوم إلا حيث تكون مجامع كمجمع نيقية أو إفسوس أو خلقيدونية، وأظن أنه كاف أن يتذكر أن مسألة خلق القرآن وقدمه قد استنفدت من جهود المسلمين بقدر ما استنفدت طبيعة المسيح من الجهد عند النصارى، وأي كبير فرق بين مجمع إفسوس وبين مجالس المأمون التي كان يعقدها للبحث في مسألة القرآن، وهل هو مخلوق أم قديم؟ وأي كبير فرق بين طرد النساطرة من الكنيسة وبين جلد الإمام أحمد بن حنبل وسجنه وإهانته إزاء استمساكه برأيه في قدم القرآن؟ وبعد فليظهر لنا ما هو الاعتزال، وما هي القدرية، وما هي الجبرية، وما هي المرجئة، ومن هم الأشاعرة، ومن هم السنيون؟ وما هي بقية الفئات المعروفة؟ إن لم تكن فئات قامت لتقرير مذهب أو بحث نظرية.
وما أريد أن أذهب معه في البحث لأكثر من هذا، ولكن ذلك لا يحول دون أن أسأله: متى وفي أي عصر أزالت مدنية الإسلام عن الأمم الإسلامية فوارق العصبية؟ نترك كل شيء آخر لنسأله: هل أزالت مدنية الإسلام فوارق العصبية بين قبائل العرب في الأندلس، وهي لم تطأ إسبانيا إلا وهي على خلاف، ولم تفارقها إلا وهي أشد خلافا في سبيل السيادة والملك انتصارا للعصبية مما وطأتها؟ فإذا كانت الفوارق العصبية لم تزل من بين العرب أنفسهم وهم بعد في غمرة من حروب الفرنجة، فكيف بنا نعتقد أن فوارق العصبية قد زالت من بين الشعوب الإسلامية كما يدعي الناقد؟
ذلك ما رأيت أن أبعث به إلى ناقدي على صفحات المقتطف لعله لا يرمينا بعده بالتعصب للجديد لأنه جديد، ولا بالنيل من القديم لأنه قديم، ولكن هو الحق نسعى في سبيل الوصول إليه في هوادة وتريث، لا في ثورة واعتساف، والسلام.
العرب والبحث العلمي: رد
7
ورد على الخاطر مقالة في أسلوب الفكر في مصر، أنحى بها الفاضل أسماعيل بك مظهر على أسلوب العرب فيما كتبوه، وسماه أسلوبا غيبيا على الإطلاق، وعلى العكس من ذلك فقد بت في أن اليونان الأقدمين هم أرباب الأسلوب اليقيني وناشرو لوائه لبعض أقوال لهم في الاستقصاء والتجربة وتحكيم العقل.
ناپیژندل شوی مخ