نفسه هو، دوّن "محاولات" Essais أي: مقالات في شتى الموضوعات، ونشرها فيما بين سنتي ١٥٨٠ و١٥٨٨ وهو يكثر فيها من الحديث عن نفسه -وهذه إحدى خصائص المحدثين- فيذكر أخباره وعاداته وأذواقه ودراساته، ويقول: "أدرس نفسي أكثر من أي شيء آخر، وهذا عندي ما بعد الطبيعة والطبيعة".
ب- نقل من اللاتينية إلى الفرنسية كتابًا في "اللاهوت الطبيعي" لأحد أساتذة جامعة تولوز في الثلث الأول من القرن الخامس عشر، يدعى ريمون دي سبوند، توخى فيه التدليل على العقائد بقوة العقل فحسب، بما لا يخرج عن مذهب القديس توما الأكويني. فأثار نقدًا من جانب الملحدين، فأخذ القلم وكتب مقالًا في "الدفاع عن ريمون دي سبوند" عرض فيه مذهب الشك، يقول لهم: تزعمون أن سبوند لم يثبت ما قصد إلى إثباته، أجل ليست أدلته حاسمة ولكن هاتوا أنتم دليلًا حاسمًا له أو عليه، برهنوا أنتم على آرائكم؛ لا تتهموه بالعجز بل اتهموا بالعجز العقل الإنساني نفسه. ألا إن الإنسان متكبر مغرور بالطبع، إنه أكبر المتكبرين، مع أنه أضعف المخلوقات. يتعالى على الحيوان، ويلقب نفسه ملك الخليقة، وليست المسافة بينه وبين الحيوان على ما يظن. إنه لا يمتاز بالحس، فإن الحيوان يحس؛ ولا بالعقل، فإن الحيوان يستدل على قدر حاجاته استدلالًا معقدًا صائبًا؛ ولا بالاجتماع، فإن من الحيوان ما يجتمع ويتعاون؛ ولا بالكلام، فإن الحيوان يتفاهم. وما من فضيلة من الفضائل التي يفخر بها الإنسان، وما من رذيلة، إلا ولها مقابل في الحيوان: الحلم والعدالة والإحسان والحب والصداقة والغيرة والمكر والادخار والشجاعة والأمانة وعرفان الجميل. وهنا يروي مونتني، عن ذكاء الحيوان في أفعاله ومصنوعاته، حكايات لطيفة ملفقة، أخذ معظمها من أفلوطرخس، ولم يكن يصدقها من غير شك. ثم يقول: إنما يمتاز الإنسان بأنه حيوان مرن غير محدود، بينما سائر الحيوان محدود في نطاق طبيعته، مقصور على حاجاته البدنية.
ج- هل يقال: إن هناك شيئًا جوهريًّا يرفعنا فوق الحيوان، هو العلم؟ ولكن ما هذا العلم؟ إذا استثنينا المعارف النازلة بالوحي، لم نجد أنفسنا نعرف شيئًا. ماذا نعرف عن الله؟ لكل فيلسوف جواب، والأجوبة بعضها أغرب من بعض. حين نقول: إن العصور الماضية والمستقبلة ما هي إلا بمثابة اللحظة بالإضافة إلى الله
1 / 28