تاریخ فلسفه اسلام
تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
ژانرونه
محمد لطفي جمعة
مقدمة وتمهيد
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله وبعد ...
ترجع فكرة تأليف هذا الكتاب إلى نحو عشرين عاما مضت، منذ كنت أتلقى العلم في مدرسة ليون الجامعة، وفي تلك المدينة الجميلة المطمئنة، دونت أوائل تلك الفصول، وقد صحبتني الأماني و«الكراسات» في سائر أسفاري بين ليون وجنيف ولندن وفيرنزة (فلورنسا)، ومرت علينا معا فترة الحرب العصيبة وأنا في صحبة هؤلاء الفلاسفة الاثنى عشر، ننهض تارة ونرجو رؤية النور والضياء، وطورا نرقد في مثار النقع نسمع صدى صوت المدافع في الفضاء، إلى أن شاءت الأقدار أن يلبس هؤلاء الحكماء المتقدمون ثياب الظهور في عالم الوجود المادي، فلم أشأ أن أطيل حبسهم، فأسلمت بيدي تلك الأوراق، التي أصبحت في نظري «معتقة صفراء» دقيقة الجسم، ضخمة البخار، وهكذا برز إلى عالم البعث والنشور اثنا عشر فيلسوفا من المشارقة والمغاربة، وقد تدثر كل بالقباء أو المرقعة أو المسوح أو الدراعة أو الجبة التي تليق به لدى مثوله بين أيدي قراء هذا الزمان.
فإلى الأمام أيها السادة الحكماء! ولا تعتبوا على هذا الضعيف، الذي ألجأكم إلى الخروج من كهف الماضي السحيق، ودعاكم إلى الظهور بعد الخفاء في عالم الهدوء والسكون إلى عالم الجلبة والضوضاء، فإن معظم أهل هذا الزمان لم يشرفوا بمعرفتكم، وسوف تقع أسماؤكم وألقابكم وكناكم من أسماعهم وقع الشيء الجديد الغريب، وسوف يجادلون في حقيقة وجودكم، وفي قيمة أفكاركم، وينكرون عليكم آراءكم التي بيضتم سواد ليالي أعماركم في تصورها وتحويرها، وتهذيبها وتحريرها، وسوف يمر البعض بكم متعجبا من هؤلاء الفلاسفة المتقدمين الذين عاشوا وتأملوا وفسروا الكون، وعللوا الحوادث قبل كانت، ونيتشه، وشوبنهور، وسبنسر، وستوارت ميل، وأوجست كونت، ورينان، ولن يخطر ببال هؤلاء القراء المتعجبين أنه لولاكم، أيها الفلاسفة الأعزة! من الكندي إلى ابن رشد، لم يكن لفيلسوف أوروبي حديث أن يظهر في عالم الوجود، وإنكم أنتم الذين حفظتم تلك الشعلة المقدسة التي خلفها سقراط وأفلاطون وأرسطو، في مغاور الماضي السحيق، وزدتموها نارا حتى أسلمتموها مضيئة وهاجة إلى فلاسفة أوروبا المحدثين، وكنتم لتلك الشعلة الإلهية كراما حافظين.
على أن أقداركم لم تخف على علماء أوروبا وكتابها ومؤرخيها؛ فقد عني مئات من مؤلفي تلك القارة السعيدة بالبحث عن آثاركم، وتدوين أخباركم، ونشر أفكاركم التي هي من أغلى وأثمن الحلقات في سلسلة التفكير الإنساني، فحرصوا على مخطوطاتكم وبالغوا في رفع قيمتها، وفي السعي لاقتنائها، ولم يضنوا بالمال والعمر والعلم في سبيل إحياء ذكركم، فاستفادوا من وراء بحثهم وتنقيبهم وربحت تجارتهم! ولكن الذي أنكركم أو، على القليل، شك في وجودكم العقلي، وحط من أقداركم هم أحفادكم وأخلافكم، وورثة حكمتكم وأخلق الناس بالمحافظة على ذكراكم وتمجيد أعمالكم، وهم الذين يقرءون ويكتبون ويفكرون بتلك اللغة العربية التي دونتم بها كتبكم الخالدة في بغداد ودمشق ومصر والمغرب، والأندلس، ويسأل هؤلاء الورثة الذين لا يستحقون تلك التركة الثمينة:
هل لنا حقا أجداد في الفكر والعقل؟
وهل لهؤلاء الأجداد قيمة في ميدان العلم الحديث؟ وأين كتبهم؟
وما مكانتهم بين ظهراني الفلاسفة الذين نقرأ تراجمهم ونرى صورهم، ونعثر بشذور من أقوالهم في الكتب والمجلات والصحف؟
ولأجل الإجابة على هذه الأسئلة الثلاثة ألفت هذا الكتاب؛ للتدليل على فضل هؤلاء المتقدمين، ولتعيين مكانتهم على حقيقتها بين فلاسفة العالم، ليعلم المرتاب والمتردد والمقلد أن تلك المدنية العظيمة التي ظهرت في الوجود منذ أربعة عشر قرنا، لم تكن مدنية حرب وطعن ومادة، بل كانت مدنية عقل وعلم وفكر عميق، وأن تلك المدنية التي نشأت في قلب الصحراء ونشرت أجنحتها إلى أقاصي الصين شرقا وأقاصي أوروبا وأفريقيا غربا، لم تكن مدنية السيف والمدفع بل كانت مدنية القلم والقرطاس والكتاب، وأن عقيدة هؤلاء الفلاسفة لم تمنعهم من الدرس والبحث والتنقيب عن الحقيقة.
ناپیژندل شوی مخ