قال: كنت في مبتدأ أمري في خدمة الأمير بيجير أسفهسلار خراسان، فأشخصني إليه من موضع كنت متوليا له تحت التوكيل، وأنا متوجه نحوه خائب الأمل، منكسر القلب، على فرس حرون هزيل، يتعبني سيره وأنا في ضر شديد من ركوبه. فبينا أنا سائر، إذ ظهر من صدر البرية تركماني على فرس يجري جري الماء رهوان، فتمنيت مما كنت فيه من ألم القلب أن أكون راكبا مثل ذلك الفرس، فتقرب التركماني مني واختلط بالموكلين بي وكلمهم ثم التفت إلى وقال: هل لك أن تقايض فرسك بفرسي؟ فحسبت أنه يهزأ بي، وقلت له يجوز مما أنا فيه من هذه المحنة أن لا تستهزئ بي، فنزل في الحال عن فرسه وأعطانيه وأخذ فرسي. واليوم منذ ثلاثين سنة أتمنى لقاء ذلك التركماني وأسأل عنه ولا أجده.
قال: وكانت علامة نظام الملك «الحمد لله على نعمه». وكان مؤيدا موفقا من جملة البشر، مخصوصا من الله بالنصر والفتح والظفر. والدهماء ساكنة في أيامه، وأهل الدين والعلم والفضائل راتعون في أنعامه.
قال: وفي أيامه نشأ للناس أولاد نجباء، وتوفر على تهذيب الأبناء الآباء، ليحضروهم في مجلسه ويحظوا بتقريبه، فإنه، كان يرشح كل أحد لمنصب يصلح له، بمقدار ما يرى فيه من الرشد والفضل، ومن وجد في بلدة قد تميز وتبحر في العلم، بنى له مدرسة ووقف عليها وقفا، وجعل فيها دار كتب. قال: وكأنما عناه أبو الضياء الحمصي بقوله:
وما خلقت كفاك إلا لأربع وما في عباد الله مثلك ثاني
لتجريد هندي وإسداء نائل وتقبيل أفواه وأخذ عنان
قال: وظهر من تدبيره في سياسة الممالك ما قاله سليمان بن عبد الملك: عجبت لهؤلاء الأعاجم ملكوا ألف سنة فلم يحتاجوا إلينا ساعة. وملكنا مائة سنة لم نستغن عنهم ساعة. قال: وفي عصره نشأ طبقات الكتاب الجياد. وفرعوا المناصب، وولوا المراتب. ولم يزل بابه مجمع الفضلاء، وملجأ العلماء، وكان نافذا بصيرا، ينقب عن أحوال كل منهم، ويسأل عن تصرفاته وخبرته ومعرفته، فمن تفرس فيه صلاحية الولاية ولاه، ومن رآه مستحقا لرفع قدره رفعه وأعلاه. ومن رأى الانتفاع بعلمه أغناه، ورتب له ما يكفيه من جدواه، حتى ينقطع إلى إفادة العلم ونشره، وتدريس الفضل وذكره وربما سيره إلى إقليم خال من العلم ليحلي به عاطله، ويحيي به حقه ويميت باطله.
مخ ۲۱۹