وأول من لم من هذه المباحث شعثها، وجمع شتاتها، ولاءم بين شواردها، ورص من قواعدها، وقرب من فوائدها، وأخرج للناس منها علما بالمعنى الصحيح المراد من العلم؛ هو الإمام عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471ه، فإنه كتب فيها كتابين جليلين أسمى أحدهما «أسرار البلاغة» والثاني «دلائل الإعجاز»، بحث في الأول عن الوجوه التي تكسب القول شرفا وتكسوه جلالا، من حيث اشتماله على استعارة مستحسنة، أو كناية لطيفة، أو تمثيل بليغ، أو تشبيه طريف ... إلخ، فالأول ينتظم مباحث علم البيان بالمعنى المعروف اليوم، والثاني ينتظم مباحث على المعاني كذلك، ولم يشر الشيخ إلى هذه التسمية لأنه لم يكن يرى أن هناك علمين متمايزين؛ أحدهما يسمى علم البيان والآخر علم المعاني، وكل ما كان يراه أن هناك علما واحدا غاية الخائض في غماره أن يستثير الأسرار التي ترفع من قدر الكلام وتمنحه رتبة الشرف وتحله ذروة البلاغة، ويتتبع تلك الخواص والمزايا التي يتمتع بها القول البليغ فيبرزها للأنظار سافرة من غير ما حجاب ...
وأول من شطر هذه المباحث شطرين فسمى مباحث النظم «علم المعاني» ومباحث المجاز والتشبيه والكناية «علم البيان»، أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر السكاكي المتوفى سنة 626ه، وهو الذي تناول هذا العلم من بعد الجرجاني فهذب مسائله، ورتب أبوابه، وأودعه كتابه الموسوم ب «مفتاح العلوم».
ولا يذهبن بك ما ذكره العلامة ابن خلدون في مقدمته إلى أن السكاكي أول من وضع هذا العلم، لأن عبارة ابن خلدون لا تفيد هذا المعنى وإنما تفيد أن السكاكي أول من هذب هذا العلم ومخض زبدته، وبوبه التبويب الذي شاع بين العلماء والمتعلمين من بعده.
وقد أودع الإمام أبو القاسم الزمخشري المتوفى سنة 538ه كتابه «الكشاف عن أسرار التنزيل» من أفانين البيان ما بهر العقول وخلب الألباب، ولكن لما كانت تلك المباحث منبثة في مطاوي التفسير غير مقصودة لذاتها وإنما المقصود بها الكشف عن أسرار بلاغة الكتاب العزيز، لم يشتهر الزمخشري بين علماء البيان اشتهار الشيخين الجرجاني والسكاكي.
وبعد أن أخرج للناس كتاب «مفتاح العلوم» وقد تميزت فيه المباحث التي يعرف بها كيفية مطابقة الكلام لمقتضى الحال - وهي مباحث النظم في مصطلح عبد القاهر - عن مباحث المجاز والكناية والتشبيه، وأطلق على المباحث الأولى اسم «علم المعاني» وعلى الثانية «علم البيان»؛ أقبل الناس على هذا الكتاب يتدارسونه ويتنافسون في اقتنائه والانتفاع به.
وقد ألف ابن مالك الطائي - صاحب الألفية - من بعد السكاكي كتابا أسماه «المصباح في علوم البلاغة» لم يحظ بشيء من الشهرة التي حظي بها «المفتاح»، وقد طبع.
ثم جاء الإمام محمد بن عبد الرحمن القزويني المعروف بالخطيب، المتوفى سنة 739ه، فلخص القسم الثالث من المفتاح وهو قسم المعاني والبيان والبديع وسماه «تلخيص المفتاح»، ضمنه ما في هذا القسم من القواعد، وجعله مشتملا على ما يحتاج إليه من الأمثلة والشواهد، وبذل جهده في تحقيقه وتهذيبه ورتبه ترتيبا أقرب تناولا من أصله، ولهذا أقبل الناس عليه إقبالا عظيما، ونال من الشهرة ما لم ينله كتاب غيره في بابه، فتناولته أقلام كبار العلماء بالشروح والحواشي والتعاليق حتى أصبح ما كتب عليه يعد بالعشرات، وأشهرها شرح سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني المتوفى سنة 791ه الذي أسماه «المطول»، وهو أشهر من نار على علم وإليه المنتهى عند المشتغلين بالعربية من علماء الدين ولا سيما الأعاجم منهم، وقد اختصره بكتاب مشهور أيضا اليوم بين المحصلين. ومن شروح التلخيص المشهورة «عروس الأفراح» للشيخ بهاء الدين السبكي، و«الأطول» للشيخ عصام الدين.
وقد طبعت لهذا العهد مجموعة في خمسة مجلدات كبار تحتوي على طائفة من شروح التلخيص وعلى كتاب الإيضاح للخطيب القزويني أيضا، وهو مرتب على ترتيب التلخيص ولكنه أوسع منه فهو كالشرح له. وقد كان يعاصر الخطيب القزويني السيد يحيى بن حمزة العلوي أحد أمراء المؤمنين اليمانيين توفي سنة 749ه، فألف في هذا الشأن كتابا جليلا أسماه «الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز»، رتبه على ثلاثة فنون: جعل الفن الأول للمقدمات، ورسم الثاني للمباحث المتعلقة بعلوم المعاني والبيان والبديع، وأفرد الثالث لبيان فصاحة القرآن وأسرار الإعجاز، وقال: «إن الباعث على تأليف هذا الكتاب هو أن جماعة من الإخوان شرعوا علي في قراءة كتاب الكشاف تفسير الشيخ العالم المحقق أستاذ المفسرين محمود بن عمر الزمخشري ... فسألني بعضهم أن أملي فيه كتابا ... إلخ.»
وقال إنه لم يطالع من الدواوين المختلفة في هذا الشأن إلا كتبا يسيرة، وإنه لم يقف على كتابي الجرجاني «دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة»، مع شدة شغفه بحبهما وإعجابه بهما ... إلخ.
ولكن هذا الكتاب لم ينل من الشهرة ما ناله المفتاح وتلخيصه، وما كتب عليهما من الشروح، والحواشي، والتعاليق.
ناپیژندل شوی مخ