كان يشافه العرب ويكاتبهم أفرادا وجماعات، وكانوا على ما تعلم من اختلاف اللون واللغات وتباعد المواطن واللهجات، وكان يخاطب كل قوم بلغتهم وعلى أسلوب تفاهمهم وإن كان ما يكلمهم به غير معروف تمام المعرفة عند قومه وأهله، بل قد تجهله قبائل معد كلها، فقد روي أن عليا كرم الله وجهه قال للنبي
صلى الله عليه وسلم
وقد سمعه يكلم وفد بني نهد بلحنهم: «يا رسول الله، نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره»، فقال له: «أدبني ربي فأحسن تأديبي.» ومن يرجع إلى أسفار قبائل العرب غير العدنانية يأخذه العجب مما أوتيه الرسول الكريم من البسطة في البلاغة وسعة الاطلاع على مختلف لغات الجمهرة من قبائل مضر، فلا نحكم على هذه الألفاظ بالغرابة المطلقة بل علينا أن نبحث عن مواردها ونقف على ما تكتنفها في زمان ومكان، وبذلك نصل إلى أنها قيلت في موضعها ووقعت في موقعها بحيث لو حل محلها غيرها مما نسميه مألوفا الآن لوسم بسمة الإغراب والإندار.
ثم إن كثيرا من الكلام النبوي نقل إلينا بالمعنى دون الألفاظ، والنقلة أكثر من أن يحصوا عدا وهم مختلفو الأنساب قبيلة وبلدا منهم القرشي والكناني والبكري والتغلبي، ومنهم الهمداني والكندي والقضاعي والزبيدي، ومنهم المكي والمدني والحضرمي ... إلخ.
فإذا نقل أحدهم الحديث بالمعنى كان اللفظ له وعلى أسلوب كلام قومه وأهل بلده، ومن هنا ينكشف لنا السر في ورود بعض الأحاديث على نمط لم يكن مألوفا في لغة أهل الحجاز وإن كان الخطاب معهم، وما ذلك إلا لأن اللفظ لبعض الرواة وهم غير حجازيي القبيلة أو البلد، وهذا هو السر أيضا في أن المتقدمين من النحاة لم يجعلوا الحديث أساسا في الاستشهاد لتقرير قواعد النحو واستخراج مسائله. وأول من وسع دائرة الاستشهاد به وعول عليه في إثبات القواعد وتقرير المسائل إمام المتأخرين من النحويين محمد بن عبد الله بن مالك الأندلسي المتوفى سنة 622ه، والحق معه لأن المتقدمين الأولين من نقلة الحديث معظمهم ممن كلامه حجة في العربية، فإذا أبدلوا بعض ألفاظ الحديث بألفاظ من عندهم فليس معنى ذلك أنهم خرجوا به عن العربية المعربة إلى غيرها.
ولنرجع إلى ما نحن بصدده من الكلام في تاريخ علم غريب الحديث فنقول: أول من جمع في هذا العلم شيئا أبو عبيدة معمر بن المثنى، جمع فيه كتابا صغيرا ذا أوراق معدودات لأنه مبتدئ ولأن في الناس إذ ذاك بقية وغصن اللغة لم يزل وريقا، فلم تكن الحاجة ماسة إلى الكثير مما يعده المتأخرون غريبا لأنه لم يكن إذ ذاك بالغريب.
ثم جاء النضر بن شميل المازني فجمع في ذلك كتابا أكبر حجما من كتاب أبي عبيدة وأوسع فيه الشرح والإيضاح، ولكنه لم يخرج عن أن يعد من المختصرات.
وألف الأصمعي كتابا أربى فيه على كتاب أبي عبيدة من حيث المادة والتبسط في البيان والتوضيح، ثم إن كثيرا من أئمة اللغة جمعوا طوائف من الأحاديث وتكلموا على لغتها ومعناها، وهم في الغالب يتواردون على الحديث الواحد فيشرحه كل على مبلغه من العلم ولم يكد أحدهم ينفرد عن غيره بالشيء المهم.
وغبر الناس على هذا إلى أن جاء أبو عبيد القاسم بن سلام فألف كتابه المشهور في هذا الموضوع، وجمع فيه من الأحاديث والآثار ما لم يجتمع في كتاب من قبله، وقد روي عنه أنه كان يقول: «جمعت كتابي هذا في أربعين سنة فهو خلاصة عمري.» وقد انتشر هذا الكتاب وذاع صيته لذلك العهد واعتمد الناس عليه في موضوعه.
فلما كان عصر عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ورأى ما عليه الناس من الاعتماد على كتاب أبي عبيدة، ووجد أن هذا الكتاب لم يأت على معظم الأحاديث وأكثر الآثار تحتاج إلى الإيضاح والتبيين؛ عمد إلى تأليف كتاب جمع فيه ما أغفله أبو عبيدة في كتابه ونحا فيه ما نحاه من طريقة التفسير والشرح. وكان إبراهيم بن إسحاق الحربي معاصرا لابن قتيبة، فألف كتابا واسعا جمع فيه الشيء الكثير من الأحاديث والآثار وبسط القول وأطال الشرح، ولكن الناس زهدوا في هذا الكتاب لأن المؤلف أطاله بذكر الأحاديث بطرق أسانيدها وذكر متونها من أولها إلى آخرها، ولم يكن في بعضها إلا الكلمة والكلمتان مما يحتاج إلى الشرح والتفسير.
ناپیژندل شوی مخ