تاريخ علم الادب: عند الافرنج او العرب او فکتور هوکو

روحي خالدي d. 1331 AH
176

تاريخ علم الادب: عند الافرنج او العرب او فکتور هوکو

تاريخ علم الأدب: عند الإفرنج والعرب وفكتور هوكو

ژانرونه

ولا يخفى أن ضباط العساكر الفرنساوية يزينون قلنسواتهم بالرياش الحمراء، وهي على هيئة جبل النار في حالة اشتعاله، وتصاعد الدخان واللهيب من جوفه، ومن عادة الإسبانيين إذا طربوا برؤية وجه حسن أو سماع نغم أو حضور مناطحة الثيران والبقر رموا بقبعاتهم إلى الأرض، ونخروا نخرة أو تأوهوا، وقد شاهدت هذه العادة في شباب بعض المدن الشرقية والسورية، ولعلهم أخذوها عن الإسبانيين بواسطة اليهود الذين لم يزالوا في بلاد الشرق يتكلمون اللغة الإسبانية رغما عن كل ما أجراه الإسبانيون فيهم من النفي والإجلاء والتعذيب في محاكم الانكيزيسيون، فهذه الأبيات على حد قول الشاعر العربي في حمص الأندلس وهي إشبيلية:

غدا النهر عقدك والطود تا

جك والشمس أعلاه ياقوته

وتقدم ذكر الأبيات فيما سبق.

فهذا مثال لأساليب فيكتور هوكو وتشبيهاته، وكان له ولع بالأمور العظيمة والمقامات العالية والمناظر الواسعة، والمعاني الدقيقة، فعرف لج البحر الذي لا يرى ساحله، وبعد الفضاء الذي لا تدرك نهايته، وقلد أصوات الأشياء ووصف الجمادات وصفا يخال منه للقارئ أنها حية تنطق؛ ولذا قالوا: بأن فيكتور هوكو أنطق الجماد ونفخ فيه بأساليبه الشعرية روح الحياة. وله ابتكارات بديعة وتشابيه ظريفة وتعبيرات لطيفة، ونجد لما ورد في كلامه من التشبيه والتخيل والبديع أمثالا كثيرة في الشعر العربي والأندلسي تكلم عليها الباقلاني في إعجاز القرآن، والجرجاني في أسرار البلاغة المطبوع في جريدة المنار، ومن سلك مسلكهما من علماء اللغة والبلاغة، ولكن فيكتور هوكو يفوق بسعة الاطلاع والإحاطة بالمسائل. وأكثر شعراء العرب انحصرت أقوالهم في الدائرة التي هم فيها، فلم يخرجوا منها ولا تعدوا الأساليب التي وضعها شعراء الجاهلية، والذين خرجوا عن تلك الأساليب، واتسعت مداركهم قليلون مثل المتنبي والمعري الذي تكلم على كثير من المسائل الاجتماعية والسياسية، ونادى بالحرية والمساواة بين أفراد البشر وبين ماهية الحق والعدل، وشرح كثيرا من المسائل الفلسفية، وأظهر شعوره وإحساسه بالوسط الذي ألقينا فيه، فكان سجنا لنا لا خلاص منه إلا بالموت. فهو متحير في هذه العقيدة التي ضلت الأدباء في حلها.

ثم إن أهل النقد الأدبي من بلغاء الإفرنج يقولون: نعم إن فيكتور هوكو أنطق الجماد وتوصل بأساليبه الشعرية إلى وصف المناظر الطبيعية، وتصوير العصور الخالية والهيئة الاجتماعية بأحسن تصوير وأبدع وصف، فهذا لا ينكر، ولكنه لم يتوصل إلى معرفة باطن القلب الإنساني ولا لإيجاد أوصاف حياة تامة ولا حياة طبيعية للأشخاص الذين اختلقهم، وأعاشهم على مرسح التمثيل؛ ولذا لم يكن أوحد الأدباء في تأليف روايات الدرام، فهو وإن أنطق الجماد لكنه أخرس البليغ، مثال ذلك أن أبدع ما في رواية إيرناني التمثيلية هو الفصل المنظوم على لسان الدون قارلو الذي انتخب إمبراطور لإسبانيا، وتلقب بشارلكين، فهذا الفصل هو بيت القصيد من هذه الرواية كما أن فصل القبلة أو النافذة هو بيت القصيد من رواية «سيرانو دو برجيراق»، التي اشتهر بتأليفها شاعر العصر أدمون روستان، وقد انتخب بالأمس عضوا في الأكاديمية الفرنساوية، وموضوع هذا الفصل أن المعشوقة وقفت في النافذة (البالكون) وعاشقها واقف تحت النافذة يغازلها، ويطلب منها قبلة وهو يتلعثم في كلامه ولم يدر كيف يكلمها بلسان الأدب، فالشاعر سيرانو دو برجيراق خاطبها عنه، وأفصح في تعبيره عن حقيقة اللثم والتقبيل حتى لانت بكلامه وانجذبت إليه، وهناك تظهر قوة البيان وإن من البيان لسحرا، فكلام شارلكين في رواية إيرناني هو من كلام الملوك، فينبغي أن يكون من ملوك الكلام، فلما حان زمن انتخاب الإمبراطور وترشح الدون قارلو لهذا المسند العظيم، وحصلت المؤامرة على قتله بدسائس فرانسوا الأول ملك فرنسا المتطلب أيضا لهذا المسند، واتفق المؤتمرون على الاجتماع في الغار الذي فيه قبر شارلمان بمدينة اكس لاشابل من ألمانيا، اكتشف الدون قارلو؛ أي شارلكين، على مؤامرتهم وسبقهم إلى ذلك الغار، وكان الهيام بمحبوبته آخذا كل مأخذ ومستوليا على جميع حواسه، فكان يتلهب شوقا وغراما إليها وقد قربت ساعة الوصال، ومعشوقة الملوك كما لا يخفى هي المملكة ولا يحبون أحدا سواها، ويضحون كل عزيز عليهم في سبيلها، إذ لا أعز منها عليهم لا دين ولا ولد ولا زوجة ولا أب، فكم قتل الوالد ابنه والابن أباه للتوصل للملك، كما أن معشوقة الراهب العابد هي الكنيسة، وزوج الراهبة العابدة، وحبيب قلبها هو السيد المسيح - عليه السلام - وكذا يقال في الهائمين بحب الله والمفتونين بجمال نبيه المصطفى - عليه السلام - ونظموا في ذلك القصائد والدواوين البديعة، ففيكتور هوكو شخص في روايته إيرناني جميع ذلك ، وعندما يرتفع الستار عن هذا الفصل من الرواية يرى الحاضرون الغار الذي فيه قبر شارلمان، وينزل إليه تحت الأرض بدرج متصل إلى بهو كبير عليه قبة، وفيه مخدع جعل فيه قبر شارلمان، ويظهر على المرسح شارلكين بلباسه الملوكي متمنطق بسيفه تلوح على وجهه علائم الاهتمام، فيزور القبر ويتكلم وحده بما يدور في خلده ويخطر في باله، وينظر إلى التاريخ نظرة عامة وإلى الذي ناله شارلمان بلبسه تاج قياصرة الرومان فتتوق نفسه وترتفع حواسه، ويرغي ويزبد كالبحر العجاج المتلاطم بالأمواج، فالحاضرون تشخيص الرواية لا يرون فيها عيبا ولا نقصانا، وأما أهل النقد الأدبي وهم أرباب الذوق في الكلام الذين اعتادوا التفريق فيه بين الغث والسمين كما اعتاد أرباب الذوق في الخمور التفريق بين خمر وأخرى لكثرة ذوقهم وطوافهم على معاصر الخمر وعلى الأقبية المخزون فيها أيضا بوظيفتهم وصنعتهم التجارية يقولون: نعم إن شارلكين في هذه الرواية هو بيت القصيد وهو من ملوك الكلام، ولا ننكر فصاحته وبلاغته وإنما عيبه عندنا هو عدم وجود الروح فيه، فهذه النفس الناطقة التي أرانا إياها الشاعر على مرسح اللعب والتشخيص هي نفس المؤلف؛ أي نفس فيكتور هوكو وليست نفس المشبه به وهو شارلكين، فالحماسة التي أظهرها المؤلف في شعره ليست بطبيعية، ولا هي حقيقية بل عندية؛ أي من عند الشاعر، ولم تبن على الحجج والبراهين الأدبية التي اشترطها أصحاب الطريقة الحقيقية، وسماها إميل زولا «دوكيمان»، فأصحاب هذه الطريقة الجديدة يلومون فيكتور هوكو على تعظيمه الأمور، ويشبهون قريحته بمرآة مكبرة تكبر الشيء المعكوس فيها وتجسمه تجسيما خارجا عن الحقيقة وعن العرف والعادة، ومن عادة فيكتور هوكو إرخاؤه العنان للقوة الواهمة والخيالية؛ ولذا نجد في مؤلفاته مثل كازيمودو، ومثل الرجل الضاحك من الأشخاص الموهومة التي لا توجد إلا في كتاب ألف ليلة وليلة، وما كان على نسقه.

ومما انتقد فيه على فيكتور هوكو من جهة الأخلاق تبدل رأيه السياسي، وتقلبه من ذات اليمين إلى ذات الشمال من حزب الملكية إلى حزب الجمهورية، ورأينا فيما تقدم جوابه على هذا الاعتراض بقوله: إن مدحنا الرجل بالثبات على رأى واحد في السياسة مدة طويلة ليس بمدح مستحسن، وإنما هو كمدحنا الماء الراكد وتفضيلنا إياه على الماء الجاري. والجواب الصحيح على هذا الاعتراض أن فيكتور هوكو مع ظهور معجزاته في المعاني ما هو إلا بشر غير معصوم تميل نفسه إلى شهواتها التي منها التقرب من الملوك وأولي الأمر، ولكنا نجده محافظا على الاعتدال في أمر الشهوات النفسية صبورا متجلدا عند الحاجة، وبينما نرى أمثاله وأقرانه من أدباء باريس لا يقنع أحدهم بعشر نسوة نجده اقتصر هو على اثنتين؛ أم أولاده والممثلة البارعة جوليت.

ومن غريب أمر هذا الشاعر أنه خالف القاعدة المطردة في عظماء الرجال، فكان في شبابه من حزب الملكيين المحافظين على بقاء الحال على ما كانت عليه، فانقلب من ذلك رويدا رويدا حتى صار في شيخوخته من حزب المفرطين في محبة الحرية المائلين للانقلاب، والارتقاء شديد العداوة للاستبداد وللمستبدين، وهذا خلاف المطرد في أخلاق الرجال، فإنهم كلما تقدموا في السن عدلوا عن حب التجدد والانقلاب والحرية، ومالوا للبقاء على حالتهم الراهنة.

ومن الأخلاق التي نهى عنها في شعره وأتى بمثلها في عمله أمر تربية الأطفال فإنه حرر كتبا، ونظم أشعارا كثيرة في حقهم، ولكنه لم يحسن ذلك بعمله وفعله، ومع علمه بأن عصى التأديب من الجنة لم يستعملها في تربية أولاده ولا أحفاده، وأطلق العنان لشهواتهم فإحدى بنتيه عرضت نفسها للخطر، فماتت هي وزوجها غرقا، والثانية تزوجت على غير رضاه وسافرت للهند فنكبت وأصيبت بعقلها، وحفيدته لم تطق معاشرة زوجها ولا قدرت أن تصبر على حكمه ففارقته وحكم بينهما بالطلاق، وابنه أفرط في اللذات فمات فجأة عند صاحبة له في بوردو، ولم يزل الناس يشيرون بالبنان إلى البيت الذي مات فيه.

ومما يشابه ذلك ما انتقد فيه على إمام الأدب عند العثمانيين وهو نامق كمال بك، وكان كثيرا ما يلهج بالإصلاحات والحرية، فلما عين متصرفا لجزيرة رودس انتقد عليه رقباؤه بأنه لم يجر فيها من الإصلاحات سوى رفع الكلاب من أزقتها وشوارعها، ومثل ذلك ما ينقل عن ضيا باشا وهو من مشاهير الأدباء العثمانيين، وكان رئيس الكتاب في المابين الهمايوني على عهد ساكن الجنان السلطان عبد العزيز، ثم نال رتبة الوزارة وعين واليا لإحدى الولايات، وله نظم كثير ودواوين شعر من ذلك نظمه قصة المولد الشريف و«ترجيع بند» في التصوف ومحاسن الأخلاق، وكان لأشعاره رواج في الزوايا والتكايا وفي المدارس والجوامع، واتفق أن أحد طلبة العلم الصلحاء في مدينة بروسه كان كثير الإنشاد لها والترنم بها، فعاهد نفسه إذا ذهب إلى الأستانة ليزورن هذا الشاعر الفاضل لا لطلب مأمورية أو إحسان منه، وإنما لمجرد التبرك بلثم يده والاسترشاد بنصائحه والاقتباس من فضائله، فلما جاء الأستانة زار الشاعر الوزير في بيته حتى إذا قارب غروب الشمس، ودخل وقت الكراهة فرأى ما لا يحب رؤيته العلماء المتعففون عن لذات الدنيا ونعيمها، فندم على سعيه وخرج وهو يقول: الشعراء يقولون ما لا يفعلون.

ناپیژندل شوی مخ