أما بعد ذلك فقد رسخ في أذهان المفكرين أن الوفد لم يعد الهيئة الثورية التي كانت تكافح استعمار الإنجليز واستبداد السراي كما كانت حاله أيام سعد بل بعد سعد إلى سنة 1950. وكان الوفد - حين يتولى الحكم - يبقى مناضلا لا يساوم ولا يخضع. ولكنه - لهذا السبب نفسه - لم يكن يبقى في الحكم أكثر من سنة أو سنة وشهورا، ثم يطرد، وتأتي في مكانه وزارة يتولى رياستها أحمد زيور أو إسماعيل صدقي أو محمد حسين هيكل أو إبراهيم عبد الهادي أو غيرهم.
وزارة تسلم بكل طلبات السراي وتمجد اسم فاروق وآباءه وجدوده ومآثره وفضائله. حتى لقد قال الشيخ علي عبد الرازق - وكان وقتئذ وزيرا للأوقاف - إن الله يجدد دينه مرة كل مائة سنة، وإن فاروق هو الموكل بتجديد الدين هذه المرة ...
ولم يكن التملق مقصورا على الوزراء؛ فإن أديبا «كبيرا» وصفه في مقال بأنه فيلسوف، كما أن أديبا كبيرا وأستاذا محترما آخر وقف في الجامعة، ومئات الطلبة أمامه يستمعون، وفاروق ينصت لكلماته، وقف يقول له: «وإن سلوكك الشخصي يا مولاي ليصلح أن يكون قدوة لشعبك وللناس.» ولا تنسى كلمة «الشخصي».
وكان المؤلفون يذكرونه في مقدمات كتبهم على أنه «المصلح العظيم».
هكذا أفسد الوزراء والأساتذة فاروق؛ ففسد.
وفي 1950 انتهى الوفد إلى حال من اليأس حملته على أن يقبل ويمارس منطقا جديدا أملاه عليه إقطاعي كبير. خلاصته أن الوفديين لا يبقون في الحكم إلا سنة أو سنة وشهورا؛ لأنهم يعارضون طلبات السراي. أما الأحزاب الأخرى فتبقى أربع وخمس سنوات لأنها تبلي طلبات السراي ولا تعارض. وأنه خير للوفد أنه يلبي هو الآخر طلبات السراي ويكف عن خطة المعارضة التي ورثها من أيام سعد زغلول؛ وذلك كي يبقى في الحكم خمس سنوات.
وأذكر أني قصدت إلى منزل مصطفى النحاس قبيل تأليف الوزارة الوفدية الأخيرة. وكان هناك جمع محتشد يزيد على المائة. فألقى الزعيم - الذي كنا نحترمه - خطبة أطنب فيها في الثناء على فاروق وقال إن حكومة الوفد ستكون صارمة في القضاء على كل حركة يقصد منها إلى المساس بجلالة الملك.
وعم الحاضرين وجوم، ولكن الزعيم لم يكترث لهذا الوجوم. فمضى يشرح ويؤكد المعاني للمحالفة الجديدة بين الوفد والسراي.
وانفض الشعب عن الوفد في أسف ويأس.
وجعل فاروق يرقص ويرفس كما يشاء. وانتهى باختيار أحد حظاياه فجعله وزيرا. وكان هذا الحظي يقعد في ملهى الأوبرج ويصفعه فاروق على قفاه مداعبة ولهوا. وبكت مصر لا لخيبة فاروق وحده بل لخيبة رجالها وزعمائها أيضا.
ناپیژندل شوی مخ