وهناك أشياء آسف لها كثيرا، منها أني عطلت عن الكتابة إلا تحت أعين المراقبة نحو خمسة عشر عاما في الحربين الكبريين؛ إذ حتم علينا الإنجليز ألا ننشر حرفا في جريدة أو مجلة أو كتاب إلا بعد أن يقرأه رقيب. وقد قرئت لي كتب في الأدب والعلم وحذف الرقيب منها ما شاء ... وهذا التعطيل قد جمد فكري مدة طويلة؛ لأن قطع التفاعل بين المؤلف وبين الجمهور يجعل الثقافة محدودة. لأن الثقافة اجتماعية لا نهتم بها إلا في مجتمع حي يوافقنا أو يعارضنا، ولكنه في كلتا الحالين حي ينبهنا. وقد قطع الاستعمار البريطاني بيننا وبين الجمهور هذه السنين الطويلة، فقطع عنا بذلك التنبيه الذي كان يحركنا إلى التفكير والدراسة الخصبة، كما قطع عن الجمهور التنوير الذي كان يحتاج إليه.
وشيء آخر آسف له هو أن الحكومة المصرية - بإيعاز المستعمرين الإنجليز أيضا - قد سنت قانونا تستطيع أن تحرم به أي مصري خارج القطر من رعويته المصرية، ويكفي لذلك قرار من مجلس الوزراء بلا محاكمة أو دفاع. وقد منعني هذا القانون من أن أترك مصر منذ عشرين سنة، مع أن مثلي يحتاج أن يزور أوروبا مرة كل عام أو كل بضعة أعوام حيث يتجدد بالإيحاء أو التغيير الذهني والترفيه النفسي.
ولكن المتسلطين الذين يعيشون في مصر بالامتيازات القديمة - هذه الامتيازات التي هي فضيحة مصر الآن في جميع المحافل المتمدنة - يخشون رجلا مثلي يسارع إلى شرح الآراء الجديدة والإصلاحات العصرية. فما هو أن أضع قدمي في باريس حتى أجد قرارا بحرماني من الرعوية المصرية؛ وعندئذ يجب أن أتسكع سائر عمري إلى أن أموت خارج وطني بعيدا عن أولادي. ولهذا آثرت البقاء في القاهرة على التسكع - بلا وطن - في مدن أوروبا. وظني أن هذا القانون سيبقى إلى أن أموت. ولن أرى أوروبا التي تشع أنوارها على هذا الكوكب.
وأخيرا أعود إلى السؤال الذي لا يفتأ يتكرر: هل ربيت نفسي؟
وهذا السؤال يعيد إلى ذهني وصف ه. ج. ولز للوزير البريطاني الكبير جلادستون بأنه لا يعد متعلما أو حاصلا على تربية، وذلك لأنه «كان يجهل الأثنولوجية - أي علم وصف السلالات البشرية وخصائصها - وأن رؤيته للتاريخ كانت ناقصة؛ لأنه لم يكن يدري الصورة الحقيقية للجيولوجية - أي علم طبقات القشرة الأرضية وتاريخ الأحياء - كما كان يجهل الأفكار الابتدائية عن البيولوجية - أي علم الحياة - وكذلك كان يجهل العلوم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العصرية والآداب والفكر الحديث.»
وإذا قست نفسي بهذا المقياس الذي عينه ولز كي يبرهن على جهل جلادستون فإني أجد أني حاصل على هذه التربية التي قصدها؛ لأني أدري كل هذه الأشياء التي ذكرها وأكثر منها مما يجري على طرازها. والحقيقة أن الذين يستطيعون أن يسموا أنفسهم ممتازين بتربية صحيحة في أيامنا قد لا يبلغون واحدا في الألف، والبرهان على هذا أن الذين يفهمون مثلا النظرية النسبية لأينشتين أو الطاقة الذرية قليلون جدا. وهذه القلة ترجع إلى أن وسائل التربية معدومة أو نادرة في بقاع كثيرة. وذلك الذي يصل - على الرغم من كل ذلك - إلى تربية تكاملية حاوية بحيث تتسع عنده المعارف وتتكامل وتتناسق، هذا الرجل، يحتاج إلى أن يفني العمر كي يحقق هذه الغاية. وطلب العيش يحول دون ذلك عند 999 في الألف من الناس.
الواقع أن الذين يقودون العالم منذ أيام جلادستون إلى الآن كانوا - ولا يزالون - في عداد الجهلة. فقد روى ولز مثلا عن جلادستون أيضا أن السر جون لبوك رافقه في زيارة لداروين. فكان طوال وقته يتحدث عن المشكلة البلغارية كأنها كل شيء في وجدانه، أي إنه لم يكن يدري القيمة البشرية الكبرى لنظرية التطور التي أخرج داروين إنجيلها للعالم. ولكن أليس هذا حال الساسة إلى الآن، هل وزراء بريطانيا أو فرنسا أو الولايات المتحدة أو مصر في 1947 أفضل من حال جلادستون في 1870؟
إن العالم منكوب بتقاليد في التربية والتعليم. وفي المدارس والجامعات رواسب ثقافية تبلد الذهن بل تحول دون التفكير. كأن هناك محظورات لا يجوز التفكير فيها. اعتبر مثلا هذا الفقر المصنوع في العالم. فإن الإنتاج الزراعي ثم الإنتاج الصناعي يكفيان - مع التنظيم - كي يعيش كل فرد على هذا الكوكب وهو موفر الطعام والكساء والمسكن، آمن على نفسه وجسمه من المرض والجريمة، متعلم أقصى تعليم، مستمتع بالفراغ الذي يمكنه من زيادة معارفه. ولكن الساسة الذين يتولون شئون هذا العالم لا يزالون في مستوى جلادستون يهتمون بمشكلة بلغاريا أكثر مما يهتمون بنظرية التطور. والعجب أنك عندما تبحث في مشكلة بلغاريا تجد أنها نبتت من الجهل أيضا، وأن الذين يحاولون حلها جهلاء يثرثرون وهم يعتقدون أنهم يفكرون.
وقد سبق أن قلت إني لا آسف كثيرا على أني لم أتخصص؛ لأن الاختصاصيين - كما أرى في أخلاقهم - لا يتوسعون أو يتعمقون في الدراسات التي لا تمس العلم أو الفن الذي اختصوا فيه. وأعتقد أحيانا أن الزهو هو الذي يمنعهم من هذا التوسع أو التعمق، وأنهم يحسون استكفاء ذاتيا لا يحتاجون معه إلى زيادة. وأقول في نفسي عندئذ إني لست كذلك وإني لو كنت قد تخصصت في علم تجريبي لما زهيت. ولكن هذا الفرض ليس سيكلوجيا لأنه يتجاهل العواطف الاجتماعية. ولكني لا أشك أني بعيد عن الزهو في غير تعمد أو تكلف، وأن بعدي عن الزهر هو الذي يجعلني أتابع الثقافة بروح الطالب، وهو الذي يجعل أسلوبي خاليا من التفصح. وكثير من الكتاب يتفصح في خيلاء وزهو؛ لأنه يسلك في حياته وأخلاقه سلوك الخيلاء والزهو. ولهذا السلوك أثره في نفسه لأنه يحمله على الاستكفاء فلا يدرس ولا يتزيد من المعارف. ولذلك أستطيع أن أجزم بأن التفصح في الكاتب برهان على كراهة التزيد أو التطور في الدراسة. وليس هذا لأن التفصح يشغل وقته بل لأنه يكسبه زهوا فيقنع بالخيلاء والتبختر. وفي ذهني الآن كاتب من هؤلاء المتبخترين يكتب من وقت لآخر عن الأخلاق. قعدت إليه ذات مرة أحدثه عن الأخلاق وأنها هي والاجتماع ثمرة الوضع الاقتصادي. فلم ألق منه غير الضحك. فانتقلت من البيئة إلى الوراثة وذكرت له كاتبا هو كرافت أبنج عن «السيكوباثية الجنسية» فلم أستنبط منه غير الدهشة. أجل! إن تفصحه المتحذلق قد حال بينه وبين تربية نفسه؛ إذ هو قانع بهذه الخيلاء اللفظية وسيموت بها جاهلا لشئون هذا الكوكب الذي عاش عليه.
ولذلك أعتقد أن أعظم الوسائل للتربية هو الاتجاه. أي كيف نتجه في هذه الدنيا وبماذا نهتم؟ نهتم باقتناء الفصاحة أم باقتناء المعارف؟ بمشكلة بلغاريا أم بنظرية التطور؟ نهتم بأن نكون وجهاء نسير في خيلاء وزهو أم عقلاء نفكر في سداد وفهم؟
ناپیژندل شوی مخ