وأعود إلى أيام الطفولة والصبا بل الشباب أيضا، فأجد أني - من حيث التعلم المدرسي أو الجامعي - عشت في صحراء لم أنتفع بشيء منها. وإنما كان انتفاعي بما كسبت من تربيتي الذاتية: من جامعة الكتب في اللغتين الإنجليزية والفرنسية، ومن سياحاتي في أوروبا، وأخيرا - ولهذا أكبر قسط في تربيتي - من اختباراتي الشخصية. وقد تكون الفترة التي عشتها وأنا على وجدان يقظ بالحوادث فذة من حيث إنها فترة الانتقال من مجتمع الأمس إلى مجتمع الغد. ومن تحول الإنتاج من النظام القروي الزراعي إلى النظام المدني الصناعي، ومن الغيبيات إلى الماديات. والحق أني لا أكاد أعرف عصرا تجمعت فيه عوامل اقتصادية واجتماعية انقلابية مثل عصرنا هذا؛ فإن الفترة التي تقع بين 1900 و1950 هي تاريخ بشري يزيد في مغزاه ونتائجه للمستقبل على القرون التي تقع بين 500 و1500. أجل! لقد عشنا بسرعة في هذه الفترة بل هرولنا نحو المستقبل. وهناك من تخلفوا لأنهم لم يطيقوا هذه السرعة أو الهرولة، فلهثوا وعرقوا ثم قعدوا وبعد أن قعدوا واطمأنوا أخذوا يحفظون عن «ظهر قلب» قواعد الفعل الماضي في حين بقينا نحن في الهرولة نحو المستقبل. وليس شك في أننا نعثر، ولكن العثار مع السعي خير من السلامة مع القعود والركود.
والتربية الحقيقية - وهي ثمرة العمل لكل إنسان - هي في النهاية اختباراته طوال حياته. وليست هذه الاختبارات هي ما يقع لنا بل هي الرجوع والاستجابات لما وقع لنا. ونحن نختلف كثيرا في هذا؛ فإن هناك من يستجيبون بالصدود والاعتزال، وهناك من يستجيبون بالإقدام والمكابدة. وهؤلاء هم الذين ينتفعون بالاختبارات. أما المعتزل الذي يؤثر السلامة بالصدود والاعتزال والإحجام والانكفاف فهو ميت حتى لو طال عمره إلى المائة؛ لأن الحياة لا تقاس بالطول وحده إذ إن لها عرضا وعمقا أيضا، ولا يكون لها العرض والعمق إلا بأن ننغمس فيها ولا نقف على ساحلها متفرجين بل نقتحم عبابها ولو تعرضنا بذلك للموت المبكر.
وفي كل حياة من المصادفات ما يعد حسنا أو سيئا، وبعضها يقود إلى النمو والخصب، وبعضها يؤدي إلى البوار والدمار. ومصر نفسها مصادفة سيئة لكل مصري من حيث إنها مأساة جغرافية. إذ هي تقع في ملتقى القارات الثلاث الكبرى، كما أنها تقع في طريق الملاحة بين آسيا وأوروبا. ثم هي فوق ذلك تخلو من الجبال التي تيسر الدفاع؛ ولذلك وقعت في أسر الغزو المتكرر. وكان آخر غزاتها هؤلاء الإنجليز الذين أحالوها إلى عزبة للقطن ومنعوا عنها الصناعة والتعليم، وأيدوا الرجعية وضربوا أبناءها المخلصين الثائرين على الاستبداد، وعمموا فيها الفاقة والجهل والمرض.
ونحن المصريين جميعا سواء في هذه الكارثة، كارثة هذه المصادفة التاريخية بغزو الإنجليز لوطننا وبقائهم فيه أكثر من ستين سنة، يفرضون علينا القيود ويقيمون السدود ويحالفون الرجعيين لقمع الروح المصري. وكثير مما عانيته في حياتي من المصادفات السيئة التي عطلت نشاطي وبعثرت قواي يرجع إلى هذه المحالفة القائمة بين الرجعيين المصريين والمستعمرين الإنجليز فيما اتفقوا عليه من قيود للحرية كانت تضطرني إلى أن أدرج بدلا من أن أطير. بل كانت تضطرني أحيانا كثيرة إلى أن أقعد بدلا من أن أدرج. وهناك من الكتاب في مصر من استسلموا لهذه القيود وارتضوها، بل صاروا يخيفون الجمهور من الحرية وينعون ما فيها من استباحات تؤدي إلى أخطار. ولكني لم أدخل قط في معسكرهم إذ لا أطيق العمل في هذا الجو الخانق للضمير والذهن.
أما مصادفاتي الحسنة التي أخصبت حياتي فكثيرة، أذكرها بالشكر للأقدار التي هيأتها لي. وأولها وأكبرها قيمة أني لم أعرف قط الحاجة المالية الملحة. وكذلك لم أعرف الترف المخدر،فأنا أتمتع بذلك القلق الذي يبعث على الاهتمام اليقظ المنبه، ولكنه قلق لا يؤدي إلى الهم المرهق المجمد. ثم صادفتني مصادفة حسنة أخرى هي أني عرفت اللغتين الفرنسية والإنجليزية في سن مبكرة. وقد وصلتا بيني وبين الثقافة العالمية العصرية. ولذلك ارتفعت اهتماماتي من المشكلات «القروية» الصغيرة التي تحفل بها صحفنا من جرائد ومجلات إلى مشكلات عالمية بشرية منبسطة الآفاق.
ثم هناك مصادفة أخرى مؤلمة للعالم منبهة لرجال الذهن. فإني عشت عمري فيما بين 1887 و1947 في عصر انقلابي انفجاري رائع من حيث الاكتشافات والاختراعات والثورات؛ لأنه عصر المعارك التاريخية والصراع الخطير بين مجتمع آفل وبين مجتمع بازغ. كأن حوادث ألف سنة قد تجمعت في بؤرة زمنية، كما يتجمع ضوء الشمس من العدسة. فصرنا نرى الانقلاب تلو الانقلاب، والعالم يعاني الآلام من هذه الانقلابات التي تنبه المثقفين إلى الدرس وتحرك ذكاءهم وتبسط لهم رؤيا زاهية للمستقبل لا يراها غيرهم في السعادة القادمة من خلال المخاض الحاضر وآلامه.
وعندما أعرض لحياتي الماضية أجدني ممتازا امتيازا واضحا جدا بصفة طفلية هي الاستطلاع. وهذا الاستطلاع يحطم القيود التي وضعها العرف أو كثيرا منها، فيتسع ميدان الاختبارات ويزيد بذلك الوجدان. وهذا الاتجاه نفسه - أي الانتفاع بالاختبارات - يغير القيم والأوزان بحيث إن ما يعده غيري نكبة قد أعده أنا نعمة؛ لأن له قيمة لا يراها هو في التربية والتنوير والنمو. فقد وقعت بي كوارث وأحزان أحمضت حياتي فترة. ثم اكتسبت من الكوارث نورا وحكمة، كما اكتسبت من الأحزان حنانا ورقة، لا أحب أن أفقدهما. أجل! لقد تضورت من الألم حين مات ابن أختي وهو في السنة الأخيرة بكلية الطب، وبقيت في نفسي لوعة تمزقني كلما ذكرته. ولكن هذه اللوعة قد استحالت بالزمن إلى حنان رخيم لا أحب أن أفقده. وكذا الشأن في جميع الأحزان الماضية تطفئ كيمياء الزمن نارها وتحيلها إلى ذكريات رفيقة تؤنس ماضينا. ولذلك أكنز هذه الذكريات وأستثيرها بعد عشرين أو ثلاثين سنة للذة لا للألم، مع أن وطأتها حين وقوعها كانت بمثابة الصدمة التي تذهل وتجمد.
وأظنني أمتاز أيضا بعقل حر مفتوح يحسن الضيافة للآراء الجديدة. وليس لي فضل في هذا، وإنما هو الفضل للغتين الإنجليزية والفرنسية اللتين أتاحتا لي الاتصال الدائم بالثقافة الأوروبية العصرية. وهي تمتاز بالحرية المستفيضة كما يمتاز المجتمع الأوروبي بحرية واسعة لا يعرفها المجتمع المصري. ومن هنا أصبحت ثقافتي ارتيادية أتحسس الجديد في الآراء وأعرضه على مجتمعنا كي أوقظه إلى الحياة العصرية. ومن هنا كان ما يبدو من أني يساري متطرف، مع أني لو كنت في مدينة أوروبية لكنت أعد عاديا ليس بي أي تطرف. وليس شك أن بعض اتجاهي هذا يعود إلى أني مسيحي لا أحس أني مقيد بتقاليد الأكثرية في مصر.
ولو سئلت ما هو «بيت القصيد» أو «إيماءة حياتي» كما تبدو من مؤلفاتي وسيرتي واتجاهي، لقلت إنها الحرية. فإني أحب عرابي وفولتير لدفاعهما عن الحرية كل في ميدانه. وقد ألفت كتابين عن حرية الفكر. وأحب كتاب «الجمهورية» لأفلاطون و«الإنسان والسبرمان» لبرنارد شو؛ لأنهما يتجردان من التقاليد في بحث «التأصيل» البشري. وأحب إبسن في «بيت عروس» لأنه يبسط آفاقا جديدة للحرية في شخصية المرأة.
وأنا الآن في الستين أعد نفسي صائرا ولست كائنا كما يقول أندريه جيد. ولذلك أعنى بأن أتعلم كلمة جديدة أو أشرع في دراسة علم جديد أتغير أو أتطور به. وفي هذه الأيام مثلا أجد أني مزحوم بدراسات كثيرة، منها هذه السيمية أي علم اللغة من حيث صحة التعبير وملاءمته. كما أن اهتماماتي بالسيكلوجية والتطور والاجتماع تجعلني أشكو قلة الفراغ. وفي العالم الآن ثقافة جديدة قد تجرثمت في بداية هذا القرن وهي الآن تتبلور وتتجوهر، هي ثقافة عالمية غير وطنية أحس أني من أبنائها ودعاتها. وقد أثبتت لنا القنبلة الذرية ضرورة الاتجاه العلمي وخطورته معا؛ لأن الحضارة القائمة - حضارة السادة على هذا الكوكب - هي حضارة العلوم المادية، والأخطار القائمة هي أخطار العلوم المادية. ولذلك فإن الأمة التي تهمل العلوم إنما تهمل حياتها. وقد حاولت في مصر طيلة حياتي الماضية أن أعمم التوجيه العلمي بمؤلفات شعبية مختلفة. وكثيرا ما نبتت الخصومات بيني وبين بعض الكتاب على هذا الأساس؛ أي إني كنت أنتقص قيمة مؤلفاتهم لأنها لم تكن تتجه الاتجاه العلمي أو على الأقل كانت تتجاهل الأسس العلمية وتستسلم لمزاعم غيبية تافهة. ولذلك تعد مؤلفاتي من أدوات التطور الذهني في مصر، وليست كذلك مؤلفات كثير من الكتاب الذين عاصروني. ففي الوقت الذي كنت أؤلف فيه عن «العقل الباطن» أو «نظرية التطور وأصل الإنسان» أو «البلاغة العصرية واللغة العربية» أو «حرية الفكر» ثم «حرية العقل» أو «غاندي والحركة الهندية» أو نحو ذلك مما يوجه ويغير، كان غيري يؤلفون عن الخلفاء الراشدين أو الأمويين أو العباسيين! أجل، كنت أنشد الآفاق وأرتاد المجاهل في الوقت الذي كانوا هم فيه يشرحون لقرائهم قواعد الفعل الماضي. مع أن هذه القواعد معروفة ومشروحة في مئات الكتب القديمة ولا تحتاج إلى زيادة في الشرح والإيضاح. فإن جميع الذين كتبوا مثلا في ترجمة عمر بن الخطاب لم يكتبوا عنه بأوفى مما كتب ابن أبي الحديد منذ نحو ألف سنة. وجميع الذين يخرجون لنا من وقت لآخر تراجم عن أبي نواس أو المهدي أو المأمون لم يزيدوا كلمة عما كتبه مؤلف الأغاني أو غيره من المؤلفين القدماء. ولكن الجمهور الذي يتعطش إلى الثقافة العصرية كي يفهم الحضارة العصرية لا يجد غير هذه الموضوعات القديمة، فيبقى - أي هذا الجمهور - قديما غير عصري.
ناپیژندل شوی مخ