عرفتها في 1914 وكانت حوالي العشرين من عمرها، حلوة الوجه مدللة اللغة والإيماءة، تتثنى كثيرا في خفة وظرف. وكان الدكتور شبلي شميل يحبها ويعاملها كما لو كانت طفلة بحيث كانت تقعد على ساقيه. وكان يؤلف عنها أبياتا ظريفة من الشعر للمداعبة وما هو أكثر من المداعبة.
وكنت أصدر في ذلك الوقت مجلة أسبوعية باسم المستقبل. وكنت أنا وشبلي شميل على نية معينة مبيتة في إصدارها من حيث مكافحة الخرافات الشرقية. ونشرت في أحد أعدادها حديثا مع مي أطريتها فيه إطراء عظيما. وكان القارئ لكلماتي يلمح أكثر مما يرى من الإعجاب الأدبي، ولكني مع ذلك حرصت على أن يكون إعجابي بها أدبيا فقط؛ ولذلك لم أتعمق مي في تلك السنين. وكانت أحاديثي لها اجتماعية أكثر مما كانت سيكلوجية.
وبقيت بعد ذلك أزورها فيجري حديثنا على المستوى الأدبي الرفيع. وكانت مي على ثقافة واسعة في الأدب الفرنسي وعلى اطلاع للأدب الإنجليزي. وكانت تتحدث باللغة الفرنسية في طلاقة وترطن باللغة الإنجليزية في دلال.
وكانت إلى هذه الثقافة النادرة موسيقية على دراية بكبار الموسيقيين. وكان إحساسها الفني دقيقا. وكانت لذلك تختار الفكرة والكلمة بما يطابق أو يجاري الروح الفني. ولم تكن لذلك أيضا تبالي العلوم. ولم أكن أجد بين الكتب التي حفلت مكتبتها بها كتابا واحدا في العلم.
وكان هذا نقصا واضحا في ثقافتها؛ ولذلك كانت حين تؤلف كتابا أو مقالا تكتب بقلبها، بعاطفتها، دون العقل والمنطق. وانعكس فنها على حياتها فعاشت بالعاطفة. بالساعة «التي أنت فيها». دون التفكير في المستقبل. وخاصة هذا المستقبل البعيد حين يذوي الشباب وتحتاج كل فتاة إلى حكمة العقل إذ ما ذهبت عنها حلاوة الوجه. وأهملت الزواج والأمومة إذ كانت لاهية بشبابها تتلألأ أمام أضيافها الكثيرين كل مساء وكل هؤلاء الأضياف من الباشوات الأثرياء أو من الأدباء الأثرياء أو من الأدباء المعدمين. وكلهم كان معجبا وإن اختلفوا في مواضع الإعجاب ...
وكانت مخطئة. وكان خطؤها خطأ الحياة. وكثير من الناس يفهم النجاح على أنه نجاح الحرفة أو الثراء أو الجاه، ولا يفهمه على أنه نجاح الحياة كلها، نجاح الصحة التي نعيش بها إلى يوم الوفاة، ونجاح الفلسفة التي توجهنا في هذه الدنيا، ونجاح الحرفة التي نحصل منها العيش الإنساني، بل كذلك نجاحنا في البناء العائلي والبناء الاجتماعي.
لم تفهم مي ذلك؛ ولذلك ما هو إن تجاوزت الخامسة والأربعين وبدأت خطوط الحلقة الخامسة ترتسم على وجهها، وما هو إن أحست بأن جمهور المعجبين قد شرع يتناقض حتى ركبها الهم والقلق، بل الخوف والرعب من ذهاب جمالها وذبول حلاوتها. والتفتت كثيرا في هذه الفترة من عمرها إلى التأليف والصحافة، وأجادت، ولكنها كانت تعاني صراعا داخليا هو محاولتها الجمع بين أن تكون امرأة جميلة وأديبة عظيمة.
وكانت هذه المحاولة فاشلة منذ البداية وكان يجب عليها أن تتنازل عن عرش الشباب والجمال وترضى قانعة بعرش الأدب والفن. ولكن شق عليها بعد ثلاثين سنة قضتها وقلبها يضحك من نظرات المعجبين بها وكلمات الإطراء التي كانت تنبعث إليها وهي عاطرة لاهثة بعواطف المحبين، شق عليها ألا ترى هذه النظرات ولا تسمع هذه الكلمات.
وبلغت التاسعة والأربعين، وهي سن اليأس عند المرأة التي لم تعرف أن لها ميزة أخرى في الدنيا غير جمالها. وهي سن الحكمة والنضج عند المرأة التي صاغت شخصيتها واختبرت وعرفت. وكان يمكن مي أن تثابر على الآداب والفنون تدرس وتكتب وتؤلف. وكان يمكنها أن تقنع بالتبريز في هذا الميدان بعد إذ رأت أن الميدان الأول قد تزلزل من تحت قدميها.
ولكنها لم تفعل. وابتأست كثيرا وصارعت المحال .
ناپیژندل شوی مخ