وعبثا حاول شلي أن يعيد إليزابث إلى حظيرته العليا وأن يردها كي تفسر النفس على صور من السمو لا يطيقها إلا الموهوبون الذين أرسلتهم الأقدار للرقي بالإنسانية درجات جديدة في سبيل الكمال، وجعلت من جهادهم في سبيل رسالتهم لذة عيشهم وسعادة حياتهم، لقد ذاقت الفتاة ما تقدمه الجمعية من صنوف المتاع وما تقتضي ثمنه إذعان بنيها للنطاق الذي ترى فيه الحفيظ على كيانها، لقد ذاقت هذا المتاع المادي القريب إلى متناول اليد، وها هي ذي ترى في الأمومة صورا أخرى من المتاع لا سبيل لها إلى نيلها إلا بالاندماج في قطيع الجماعة وتقديس أوهامه وترهاته، أفتنأى بجانبها عن هذا المتاع لتقف من الجماعة موقف أخيها وتنظر إليها العيون شزرا وليسمي القانون متابعتها عواطف قلبها عهرا؟ كلا، ولئن كان شلي أخا صادق الأخوة، فأول واجبه أن يبحث لأخته عن زوج نبيل غني جميل تستكمل به كل ما في مادة الحياة من متاع وتؤدي به للأمومة واجبها.
ويئس شلي من أخته كما يئس من قبل من ابنة عمه، فلم تبق له لذة في مقامه بين أهله، وجاءته دعوة من هوج كي يذهب إليه في يورك، وأخرى من فتاتي وستبروك وثالثة من خاله الكبتن بلفولد، ولكنه تردد في قبولها جميعا ثم فضل عليها دعوة أحد أقاربه إلى بلاد الغال على شاطئ البحر آملا أن يجد من جمال طبيعة تلك البلاد ومن تلاطم الموج والصغر ما يسكن ثورة نفسه وما يبعث إلى قلبه السلوان عن مصابه في ذهن أخته، وفي مقره الجديد نصب نفسه رسولا يدعو إلى الحرية والحق والتسامح في رسائل كانت تستنفد أكثر وقته يكتبها إلى هاريت وستبروك وإلى مس هتشنر وإلى هوج وإلى غير هؤلاء ممن يأنس فيهم ميلا إلى الرقي نحو الكمال، ولم يطل به المقام في عزلته الجميلة حتى تسلم رسالة من هاريت تذكر له فيها أن أباها يريد أن يعود بها إلى المدرسة التي فصلت منها، ويطلب إليها أن تنكر تعاليم شلي كي ترضى ناظرة المدرسة عن رجوعها، وأنها اعتزمت أن تنتحر كي لا تلبي ما يريدونها عليه، فرد شلي عليها يسكن من روعها وبعث إلى أبيها يلومه لما يحاول من إكراه الفتاة عليه، وغضب أبوها لتصرف هذا الشاب الذي كان راضيا من قبل عنه مغضيا عن تعاليمه حين كان يحسب أنه سيتزوج ابنته، ثم إذا به كغيره من أبناء النبلاء يغرون الجميلات من بنات الطبقات الأخرى ثم ينأون عنهن ازدراء لمنبتهن، ولم تطاوع هاريت أباها على أن يكون ذلك شأن شلي، فكتبت إليه من جديد تشكو، وذكرت له أنها متأثرة بخطابه، عدلت عن فكرة الانتحار، ولكنها تريد الفرار معه، فترك الغال حين تسلم رسالتها وذهب إلى لندن كي يحاول إقناع أبيها بأن لا حق له في إكراه ابنته على غير ما تريد آملا أن تبقى الفتاة في رعاية مستر وستبروك مع بقائها مؤمنة بالحياة الجديدة التي اختار هو لها سبيلها، فلما رأته الفتاة تعلقت به وألحت عليه كي يفرا معا ليقيما حيث يشاء، وحاول هو أن يردها عن رأيها فكان جوابها: لكني أحبك ولا صبر لي على بعدك.
هنا وجم شلي، وزاده وجوما اللهجة الصادقة القوية الملتهبة التي اعترفت الفتاة فيها بحبها إياه، لكنه هو لم يحبب منها عذوبة صوتها ولا جمال تكوينها وإنما أحب منها سمو ذهنها وجمال روحها! على أنه اهتز مع هذا لاعترافها، وشعر معه بسموها على ابنة عمه وعلى أخته، إنها تحبه وتريد الفرار معه مزدرية أوهام الجماعة وعقائدها مستعدة للاشتراك معه في نضالها لهدايتها وإصلاحها، فلم يستطع في تداول نفسه بين اهتزازها إعجابا بهذا الاعتراف وشعورها بأن ليس يشغلها هذا الحب الذي تريد الفتاة أن يبادلها مثله، إلا أن يملس على شعرها وأن يسكن من روعها وأن يعدها بصدق إخلاصه لها وأنه سيكون إلى جوارها عند أول نداء يصله منها، وكفى الفتاة أن تسمع منه هذه الكلمة ليزول عن وجهها شحوب جاءته به أيمان أقسمها أبوها بأن شلي ضلل بها وأنه لا يحبها، وليعود إلى لونها تورده وإلى وجودها شبابه وفرحه.
وكتب شلي يقص على هوج ما حدث، فأجابه صديقه ناصحا إياه ألا يفر بالفتاة إلا أن يتزوجها، وإذا كان لا يؤمن بالزواج ويرى فيه نظاما تعسا، فليس من حقه لذلك أن يشقي فتاة تحبه، فلن تصيبه هو من هذا الفرار خسارة ولن يناله منه أذى، أما هي فستكون إن لم تتزوجه منظورا إليها بعين الازدراء حيث سارت، مغضوبا عليها من أبيها، محرومة من عطفه ومعونته، شاعرة لذلك بألم قد يجني في نفسها الطفلة على حبها إياه، فإذا كان شلي لينفذ مبادئه وتعاليمه ولينفصل حين ذلك عنها، فماذا يكون أمرها وأيان يكون مصيرها؟ أفلا يكون بهذا مسلما إياها للتعس والشقاء، وتكون التعاليم التي يريد بها سعادة الإنسانية مؤدية بالفتاة إلى البؤس والسقوط لغير ذنب إلا أنها أحبته؟
وصدمت شلي قوة حجج صاحبه فتراجع أمامها وتردد في وعده الفتاة أن يكون إلى جانبها لأول ما تدعوه إليها ، لكن الفتاة لم تمهله في تردده بل بعثت إليه بعد أسبوع من تركه إياها تدعوه إليها، ولم تطل في نفسه المعركة بين المبدأ والواجب، فذهب إليها مذعنا للواجب معتزما أن يفر بها وأن يتزوجها تاركا بين يدي القدر ما يؤول إليه أمرهما من بعد.
وغادرا عاصمة إنجلترا قاصدين عاصمة إيقوسيا وقضيا في سياحتهما أياما شعر شلي خلالها بحياة جديدة تسري إلى قلبه وعاطفة حلوة تتحرك بين جوانحه، لقد فر عصفوره معه طائرا عن العش الأبوي حبا له وغراما به، فلم يك حديثها معه عن الحب هذا الحديث القديم يسموان فيه إلى التفكير في المعاني التي يريد هو أن يحيط الحب بها، بل أصبح حديث غرامها هي وتدلهها، وأصبح حديثا دلالة الألفاظ فيه دون دلالة النظرات والبسمات والقبلات، ها هي ذي تستيقظ إلى جانبه فإذا عيونها إليه معسولة ندية النظرة كلها الشوق والهوى، وإذا أذرعها تطوق عنقه وأصابعها تعبث بشعره وقدها الصغير يجتمع كل ما فيه من حياة صاعدا إلى قلبها كي يبعث بها إلى فمها فتطبعها على فمه قبلة فيها كل قلبها وكل حياتها وكل حبها، وها هي ذي النهار كله تشدو إليه بأغاريد حبها وهواها، ثم ها هي ذي الليل تطوق ثغرها ابتسامة السعادة ويهفو إلى أذنه تردادها لاسمه حين أحلامها بهنائها ونعيمها؛ لذلك لم يكادا يصلان إلى إدنبرة ويختاران فيها مسكنا حتى أتم زواجه منها وملكه إياها، وكذلك قضيا أياما نسي فيها شلي نفسه ورسالته واستسلم فيها بكله إلى المتاع بحب هاريت حبا بعث إلى كل ما يحيط بهما من بحر وشجر وجبل وزهر شذى جعلها تضوع بريح الحب هي الأخرى وتزداد على جمالها جمالا وسحرا.
ثم آن لشلي أن يعود إلى تأملاته وتفكيره، فإذا هاريت في شغل عنها بحبها له وعبادتها إياه، فإن هي شاركت فيها كانت صدى له يرد إليه تأملاته هو في صوت عذب وحديث حلو؛ لذلك ود شلي - مع اطمئنانه لعزلتهما وسعادته بحبهما - لو أن صديقه هوج كان معهما، وكأنما كانت الأقدار في هذا طوع رجائه، فلم تك إلا أسابيع بعد عودته إلى التأمل والتفكير حتى جاء هوج في إجازة له يقضيها عند صديقه، وقد بهرته روعة جمال هاريت إلى حد كاد معه يمل حديث شلي وبحوثه ونظرياته، وسر شلي بأن أتاحت له ضيافة هوج خروج هاريت معه للنزهة وتركه هو لقراءته وتأملاته، فلما آن لهوج أن يعود إلى يورك اقترح عليهما أن يذهبا وإياه لها، وسافر ثلاثتهم فلم يجد شلي في يورك جمالا يغذي روحه الدائمة الظمأ للجمال، وزاده هما أن لم يصله من أبيه المال الذي اتفق على أن يبعث له به فسافر إلى ككفلد ليرى خاله الكبتن بلفولد وترك زوجه في حماية صديقه إلى أن يبعث إليها بأختها، ولم يملك هوج نفسه من أن يذكر لهاريت أنه يحبها، فصدته الفتاة عنها وقاومت هجوم هواه يوما واحدا أن حضرت أختها في اليوم الثاني فحالت بينهما، ولما جاء شلي وأخبرته بخبر هوج لم يزد على أن لام صديقه على سوء صنيعه، ثم غادر المنزل مسافرا ومعه زوجه وأختها اللتان رأتا في صنيع هوج ما لا يمكن معه احتمال مرآه، وعاد هوج من مكتب المحامي الذي يشتغل في رعايته فألفى المنزل خلاء وإن لم يخبره بالسفر أحد.
واختار شلي الذهاب إلى منطقة البحيرات إذ كان يقطنها الشاعران الكبيران سوذي وكولردج، وكان شلي قد بدأ يقرض الشعر، فهو يطمع في مثل عظمتهما ويرجو أن يكون من شعراء منطقتهما، ولما كان دوق نورفلك يقيم كذلك في هذه المنطقة، وعلم بمجيء شلي إليها، فقد كتب يدعوه وزوجته إلى قصره، وهناك عرف صديقا لسوذي ذهب به إلى بيت الشاعر الذي كان يحل من نفس شلي أسمى مكانة وأرفعها، لكن شلي لم يلبث أن تولته الدهشة حين ألفى زوجة سوذي أبعد ما تكون عن إلهام الشعر وإن كانت ربة دار مضربا للمثل، ولما دار بينه وبين سوذي الحديث بهت مما سمع، فسوذي، هذا الشاعر الفحل، يقول إنه متدين وإنه مسيحي! وهو يحب المال ويطمع في كسبه! وهو يعيش كما يعيش الناس ويفكر تفكيرهم! أليس هذا عجبا ؟! ثم ماذا؟ ثم عثر في مجلة على مقال لسوذي يصف فيه ملك إنجلترا بأنه خير ملك جلس على عرش، وعلم أن سوذي يقصد من هذا إلى أن يخلع عليه الملك ألقابه، إذا فهو رجل يسخر ضميره لمطامعه ولا يرجو من الحياة إلا ما يطفئ ظمأه لنعيم المادة، إذا هو لا يستحق احتراما ولا تقديرا، ليكن له من ملكة الشعر ماله، فلن توحي ملكة أيا تكون باحترام صاحبها إذا نزل بأخلاقه وبعمله في الحياة إلى المستوى الوضيع الذي لا يطمع الناس منه إلا في كاذب الجاه وفي اكتناز المال.
أما سوذي فعجب لأمر شلي وصلابته في رأيه وإن لم ير في ثورته بالدين إلا مرحلة من مراحل التفكير يمر بها الشباب الذكي جميعا ثم يعودون إلى نوع من الإيمان له روعته وجلاله، بل لقد كان شديد الاقتناع بأن سيكون ذلك شأن شلي؛ لأن نفسه نفس شاعر، ونفس الشاعر لا تطيق الإلحاد وما يصور الإلحاد من عدم، ولأن نفس الشاعر تخلق فلا تستطيع أن تنكر الخلق، ولأنها جميلة فلا معدى لها عن الإيمان بالجمال، ومن يدري أي مصير كان قد أعده القدر لإيمان شلي لو أن منيته لم تعاجله فامتد به العمر حتى رأى من عبث الأقدار بالناس والحياة أكثر مما رأى!!
وكان من حظ شلي ألا يفجعه القدر حتى يسرع إلى أن يعوض عليه فجيعته، فكما عوضه عن هاريت جروف بهاريت وستبروك، كذلك عوضه عن سوذي بمن يؤمن به ألف مرة أكثر من إيمانه بسوذي، فقد عرف إذ ذاك أن وليم جدوين حي يرزق وأنه يقيم بلندن، وأنه يستطيع أن يراه؛ لذلك سارع فكتب إلى مؤلف (العدل السياسي) رسالة كلها الإعجاب به والرجاء في الاستماع له، على أن شلي كان يومئذ في شغل بمشروع كبير لم يدع له الفرصة كي يسرع إلى لندن للحاق بأستاذه الروحي العظيم، ذلك أن الكاثوليك من أهل أرلندا كانوا يعاملون معاملة شاذة، سببها أنهم على غير البروتستانية دين المملكة ودين الغالبية، فكانوا محرومين من مناصب الدولة غير معترف لهم بكثير من الحقوق المدنية المقررة للإنسان.
ناپیژندل شوی مخ