تراجم مصریه و غربیه

محمد حسین هیکل d. 1375 AH
70

تراجم مصریه و غربیه

تراجم مصرية وغربية

ژانرونه

هذا بعض ما تأثر به شكسبير في شعره، وهو قليل من كثير يستحق العناية به وبحثه، والآن أخشى أن أكون أطلت في حديث لم أكن أقصد إلى الإطالة فيه، وإن يكن القول في شكسبير قصيرا وإن طال، فلنجتزئ بما تقدم، وبأن شكسبير بعد أن أقام في ستراتفورد مكتفيا من العيش بطمأنينته ونعمته، ظل حتى سنة 1616 ثم مرض فكتب وصيته بما يملك إلى ابنته سوزان غير تارك لزوجه إلا قليلا، وفي هذه السنة مات ودفن من غير كبير احتفال، إلى أن اضطر العالم بعد أجيال ليقيم له من المجد ما يبقى على الأجيال حتى آخر الزمان.

برسي بيش شلي

(1) نشأته الأولى

ظهر السادس عشر من شهر أغسطس سنة 1822، في صحو جو جميل، كان لورد بيرون والشاعر لي هنت والبحار ترلوني وقوفا فوق رمال الشاطئ الإيطالي على مقربة من ليفورنو يحيط بهم عدد من أهل تلك المنطقة، ويقف إلى جانبهم جماعة من الضباط والعساكر الإيطاليين، وكلهم محدق ببصره إلى نار تضطرم قد بوركت بالنبيذ صب عليها وبالملح ألقي فيها ويفوح منها ريح اللحم الإنساني، وكلهم واجم مخلوع القلب ذاهب في تيهاء الهلع والذهول، وظل هذا المنظر المروع أمامهم ثلاث ساعات تباعا يهز نفوسهم هزا فلا يزدادون إزاءه إلا وجوما وذهولا، وتندى عين بعضهم بالدمع ثم تذرفه لا تستطيع حبسه ، ويبلغ الهلع والروع في أثناء ذلك من لورد بيرون مبلغهما فيلقي بملابسه على الرمل وبنفسه في الموج يسبح خلاله حتى يصل إلى زورقه «البوليفار»، ويحدق ترلوني بالعظام تحترق وباللحم تذيبه النار، ثم يرى القلب مع ذلك كبيرا كبيرا، فما يزال منه قلب كامل لم يذب ولم يحترق، فيجذب هذه البقية المقدسة بيده، وتبدأ النار بعد ذلك تخبو رويدا رويدا تاركة وراءها حفنة من تراب هي كل ما بقي من رفات قيثارة الشعر الإنجليزي شلي، ويحمل ترلوني الحفنة إلى الأرملة البائسة ماري شلي لتتولى ويتولى هو ولي هنت معها حملها إلى مقابر البروتستانت في روما كي تستقر هناك في أرض غريبة عن ثرى الوطن، ولكن لتسعد مع ذلك باستقرارها إلى جانب رفات عزيزة محبوبة هي رفات وليم شلي ابن الشاعر البكر من زوجه ماري، ويقع هذا المنظر المروع وتنقل تلك الرفات القدسية إلى روما، ولم يكن شلي قد بلغ إلى يوم وفاته في الثامن من أغسطس تمام الثلاثين من عمره، وإن كان قد خلف من شعره على الحياة ما لا يزال فخر الشعر الإنجليزي عذوبة وموسيقى يأخذان بالنفس ويملكان على المرء حسه ولبه، ويبعثان إلى كل ما ينشدانه ويترنمان به الحياة والخلد، سواء أكان ما ينشدانه ويترنمان به إنسانا أم طيرا أم حيوانا أم جمادا أم مجرد خيال لا وجود في الحياة له، ذلك بأن الحياة كانت تسري في كل ما لامس نفس شلي لتبقى قائمة به قرونا ودهورا بعد موت باعثها، وكذلك كانت فجيعة الشعر في هذا الشاب الذي خلف الحياة مذ كان على أعتاب الحياة مما يزيد ذكراه قوة وجلالا، وإن كانت هذه الذكرى في غير حاجة إلى مزيد من قوة أو جلال، فلقد كتب لكل بيت من شعر برسي بيش شلي منذ ترنم هو به الخلود وكتب له الجلال.

ولم يكن لورد بيرون لينسى ساعة فراره أمام المنظر المروع ما كان عليه زميله وصديقه من خلق عظيم ونفس بلغت من السمو أرقى سماواته، فهذا الشاعر الشاب، الذي ولد في الرابع من أغسطس سنة 1792 وتوفي في الثامن من أغسطس سنة 1822، قد حلق به جمال الخلق في سماء الشعر إلى ما لم يرتفع إليه معاصر له، وإلى ما لم يسبقه إليه أحد في رأي كثيرين، وما لم يسبقه إليه غير شكسبير في رأي آخرين، وكان ارتفاعه هذا ليس قائما على خياله الملتهب وشاعريته الفياضة وكفى، بل كان قائما، فوق ذلك وقبل ذلك، على قوة في النفس قل أن يكون لها نظير، قوة بدأت مظاهرها منذ الطفولة وتجلت في أثناء الصبا وازدادت وضوحا في صدر الشباب الذي كان - وهو صدر شباب الشاعر - خاتمة حياته، وكانت أجلى مظاهر هذه القوة واضحة في إيمان الرجل برأيه وصراحته فيه وإعلانه إياه وسلوكه سبيل الحياة على موجبه، وإن أدى لذلك ثمنا فاحشا أن عده الناس مجنونا، وأن نفرت منه الجمعية الإنجليزية أشد النفور حتى اضطرته ليهجرها منذ أول شبابه، وليعيش السنوات الخمس الأخيرة من حياته تحت سماء إيطاليا الدائمة الصفو والابتسام، والتي تظل من صور الجمال وبدائع الفن ما يزيد في إلهام الشاعر، هذه الشجاعة وهذا الإيمان اللذان اعتبرا جنونا هما أساس شاعرية شلي وهما مصدر إلهامه، لكنهما لم يكونا كذلك عند لورد بيرون الأبيقوري المستسلم لسلطان الزهرة الناهل من ورد بناتها جميعا، الحائز لذلك غاية الإعجاب من أهل عصره وأكبر تقديرهم إياه؛ لذلك كان طبيعيا أن يرى فضائل زميله وأن يقدرها، وكان طبيعيا أن يفر من منظر النار تحرق مثوى هذه الفضائل وتذره رمادا.

وكثيرون ممن عرفوا شلي كانت تأخذهم الدهشة لفضائله، ومن كانت تزيد دهشتهم لشجاعته وصراحته، ذلك أن صورته وتكوينه لم يكونا ينمان عن هذه الفضائل فيه، وإن كانا ينبئان بشاعريته وقوة خياله، فقد كانت في نظرته وفي تقاطيع وجهه وفي جمال شعر رأسه أنوثة عذبة تحدث عن رقة ولين لا عن صلابة وشدة، وكان يضوع منه شذا المحبة والعطف بما لا يلتئم مع القوة على النضال والقسوة فيه، وكان جسمه الطويل النحيل كأنه قصبة هذه القيثارة التي شدت بأجمل الأنغام وتغنت بأحلى الأهازيج، كذلك لم يكن مولده ولا كانت مكانة أهله في الجمعية مما يزيل دهشة من بلغت الدهشة منهم بشجاعة شلي وصراحته في إعلان إيمانه حتى حكموا عليه بالجنون، فقد ولد في أسرة نبيلة جمعت إلى النبل المال، وكانت بطبيعة هذين العاملين محافظة، لتظل من طريق محافظتها ناعمة بمالها ونبلها، كان جده السير بيش شلي بارونا وكان غنيا، وكان لا يفتأ يدأب لزيادة ثروته، وكان أبوه تيموذي شلي قاضيا وعضوا في البرلمان، وكان قصرهم بفيلد بليس على مقربة من هورشام أحد أعمال سسكس محاطا بحدائق وأحراش تدعو إلى المتاع بها والطمأنينة لها، وكان جده السير بيش قد جعله بالوصية وارثه مما يدر عليه إيرادا سنويا ستة آلاف جنيه في ذلك الزمان، سبحان من يدري كم ألف تعادلها في زماننا اليوم! وتلك كلها أسباب دعة وبلهنية وليست أسباب نضال صلب وصراع للجمعية وللحياة فيها لا يعرف الهدوء إليه سبيلا، لو أن صاحبها أوتي من هبة الشعر ما أوتيه شلي لكان طبيعيا أن يسلك الطريق التي سلكها بيرون من الإنجليز وعمر بن أبي ربيعة من العرب، لكن شلي ضرب بالمال والجاه والدعة عرض الأفق وترك بيت أبيه وترك أهله جميعا ولم يقتض من وصية جده إلا بمقدار ما يكفيه حاجة العيش، وانطلق في الحياة هائما يجلي بهاء الفضيلة ويؤدي رسالة الجمال، ولم يكن له من أدائها بد، في أنغام قدسية من موسيقى السماء، ويؤديها ذاهلا عما أحاط بحياته من أحزان ومتاعب متجها بكله إلى هذا الوجود المحيط به، مفنيا نفسه فيه كي يفنى الوجود كله في نفسه فترده إلى العالم وحيا سماويا يختلط بالنفوس جميعا، ويتنقل على الأجيال إلى ما شاء الخلد أن تكون للإنسانية أجيال تتعاقب.

وكان لجماله ولرقته أثر بالغ في حياته وفي تفكيره وفي شعره، جعله هذا الجمال المزدان بخواتم شعره وعيونه العميقة الزرقة ولونه الناصع النظيف ويديه ورجليه الجميلة التكوين، وما اتصل بذلك من حسن تحسده عليه كل فتاة في مثل سن الطفولة التي كان فيها يوم ذهب به أبواه إلى مدرسة (سيون هوس) في برنتفورد، بالغا في رقته وظرفه وحلو طبعه، ونبأت هذه الصفات إلى جانب جماله عن نفس حية حساسة تأنف القسوة وتتنزه عنها، وترى في عدم النظام وسوء الاتساق ما يؤذيها ويثيرها.

على أن هذه الصفات جعلت منه في المدرسة سخرية زملائه وموضع عبثهم ولهوهم، مما بعث إلى نفسه غضاضة ومضضا، فلما انتقل به أهله إلى مدرسة «أيتون» حيث يتعلم أبناء النبلاء وذوي المكانة لم يزدد لنظامها إلا بغضا ولمعاملة زملائه التلاميذ فيها إلا مقتا، فقد كان وما يزال من نظام التربية في هذه المدرسة أن يخدم الصغار فيها من هم أكبر منهم سنا وأقدم في المدرسة عهدا، وكان الصغير الخادم عرضة لكل أنواع الأذى والإهانة من كبيره، كان يمسح له أحذيته ويأتمر بأمره في كل حاجة يحلو له أن يأمره بها، ثم كان هذا النظام يقتضي مع ذلك ألا يصبر أحد على إهانة زميل له إياه وأن يدفع القوة بالقوة والعدوان بالعدوان، ولذلك كانوا جميعا يتقنون لعبة (البوكس) ليدفعوا عن أنفسهم وليردوا اعتداء المعتدي عليهم.

لكن هذا كله لم يرق الصبي شلي فلم يذعن له، لم يرض أن يكون خادما ولم يرض أن يجعل حق القوة أساس خلقه، ليكن هو نظام المدرسة الذي تابعته وتتابعه منذ أجيال، فهو لا يؤمن بصلاحه ولا باتفاقه مع الخلق الفاضل والكرامة الإنسانية، فلا يمكن أن يرضى عنه وأن يخضع له، لا يمكن أن يكون خادما ولا أن يخالط أولئك الذين يقضون سحابة نهارهم في ملاكمة ومصارعة تقوى بها عضلاتهم وأبدانهم على حساب عقولهم وأرواحهم؛ لذلك اعتزلهم ولجأ إلى وحدة لم تزدهم له إلا احتقارا، ولم تنجه من سخريتهم وأذاهم ولطمهم ولكمهم.

لكن رقته لم تؤد به إلى ضعف إبائه وأنفته ولم تجعل منه ذلك الطفل المستذل الذي يخضع لسلطان الأقوى ويأتمر بأمره، بل كان يقارضهم سخرية بسخرية واحتقارا باحتقار، وكان يدفع عدوان أيديهم عليه بعدوان مثله، وإن يك عدوانا متفقا مع هذه الأنوثة في تكوينه، عدوان عض بالأسنان وهبش بالأظافر بدل اللكم بقبضة اليد مما كان يتورم له وجهه أحيانا، وهو لذلك لم يكن يباديهم العدوان ولا يتحكك بهم، بل كان يتركهم في ألعابهم ورياضتهم العنيفة ليأخذ هو كتبا محببة إليه مما وضع كتاب الثورة في فرنسا وأنصارهم في إنجلترا ومما وضع جماعة اليونان الأقدمين، ثم ينطلق بها بين الأحراش والغياض حتى يصل إلى حافة النهر حيث يجلس فينسى نفسه في المتاع بما في كتبه وبمشهد هذه الطبيعة الساحرة حوله وبتأمله إياها والتفكير فيها، ولعل أشد ما تأثر به من قراءاته كتاب وليم جدوين (العدل السياسي).

ناپیژندل شوی مخ