وعجيب أن يحدث ذلك كله بأعين توفيق فلا يراه ولا يقدر مداه، بل يندفع في التيار العجيب الذي اندفع فيه مخالفا بذلك كل ما أظهره من الميول أول جلوسه على عرش أبيه، فهذا الميل الشديد لتحقيق آمال الأمة وهذا الاعتماد على معاونتها قد انقلب فجأة عقب وصول الفرمان إلى إعادة حكومة الفرد، ثم إلى إسناد الوزارة لنصير قوي من أنصار النظام المطلق، وهذا الحرص على معارضة عودة ولسن ودبلنيير وعلى أن تكون الوزارة مصرية وطنية، وهذه الدعوة لانتظار أوربا نجاح السياسة الوطنية الجديدة قد انقلب فجأة إلى قبول هذين الشخصين وغيرهما من الأشخاص، وإلى ترك التدخل الأجنبي يتوغل في إدارة البلاد، وهذه السياسة المالية التي فشلت على يد ولسن قد انقلبت فجأة سياسة الحكومة المصرية ليصدر على موجبها قانون التصفية، وهذه الانقلابات كلها قبلها توفيق راضي النفس مطمئنا.
على أن لهذا العجيب في نظرنا تفسيره الواضح: فتوفيق الضعيف قد رأى ما حل بأبيه حين عارض إنجلترا وفرنسا فيجب ألا يعارضهما، وإنجلترا وفرنسا تريدان هذا النظام فيجب أن يريده ليتمخض ذلك كله عن انفجار أو عن ثورة أو عما يمكن أن يتمخض عنه، فليس توفيق الضعيف هو الذي يطالب بالتفكير في هذا، ويكفيه أن يعتمد في بقائه في عرشه على سند الدولتين اللتين استخلصتا له من تركيا فرمان توليته.
وكان يسيرا أن يرى توفيق نذر الانفجار آتية من ناحية رجال الجيش، ذلك بأنه فضلا عن تسريح ألوف من الجند ومئات من الضباط في آخر عهد إسماعيل وبالرغم من تسريح عشرة آلاف جندي أول ولايته، فإن تنفيذ قانون التصفية أسفر عن عجز الميزانية اللازمة لنفقات الدولة في سنة 1881 عجزا بلغ مقداره 1610000 جنيه، بينما كان متوافرا في صندوق الدين بعد دفع الفوائد مبلغ 813000 جنيه أنفقت في استهلاك السندات بدلا من أن يسدد منها ذلك العجز، وقد ترتب على هذا أن بقي كثيرون من الموظفين - ومن بينهم رجال الجيش - لا يتقاضون مرتباتهم، أضف إلى هذا أن رفقي باشا ناظر الحربية أصدر لائحة مقتضاها عدم ترقية المصريين إلى الدرجات التي يستحقونها، بيمنا يرقى الجراكسة إلى أكثر مما يستحقون، ولما كان للضباط المصريين جماعة سرية بين أعضائها أحمد عرابي وعلي فهمي وعبد العال حلمي وكانوا قد قدموا لرياض باشا طلبات بالإصلاح منذ شهر مايو سنة 1881 لم تنظر الحكومة فيها، فقد قرر هؤلاء دفع ألايات الجيش للاحتجاج على تصرفات رفقي باشا وعلى المطالبة بعزله، ورفعت بالفعل عريضة للخديو متضمنة هذا الاحتجاج.
وكان محمود باشا سامي البارودي وزير الأوقاف في وزارة رياض على اتصال بهؤلاء الضباط؛ لذلك تيسر لهم أن علموا بعد احتجاج الجيش أن الحكومة تريد محاكمة الثلاثة الذين ذكرنا أسماءهم، وأنها أمرتهم بالذهاب إلى قشلاقات قصر النيل في أول فبراير سنة 1881 لتقبض بعد ذلك عليهم، فما كادوا يذهبون وما كاد يقبض عليهم ويجردون من رتبهم ويسجنون حتى كانت ألاياتهم قد حضرت وأنقذتهم من سجنهم بقوة السلاح.
وسار الضباط الثلاثة على رأس ألاياتهم من قصر النيل إلى عابدين وهناك وقف عرابي بين الجند خطيبا فشكرهم على إخلاصهم له وإنقاذهم إياه، ثم تقدم إلى الخديو يطلب العفو عنه وعن زملائه، وخلع عثمان رفقي من نظارة الحربية، وأردف عبارته هذه بقوله: «إنهم لا يبرحون إلا بنيل بغيتهم.» ولما كان توفيق قد رأى كل الأوامر التي أصدرها إلى ضباط الجند لا تنفذ، ورأى نفسه في مأزق لا يعرف سبيلا إلى النجاة منه سارع إلى إجابة طلب العصاة وأقال عثمان رفقي من الحربية وعين مكانه صديق الضباط المنتقضين محمود سامي البارودي.
لو أن توفيقا كانت له سياسة معينة يومئذ لما وقع حادث قصر النيل، لكنه كان مضطرب الرأي والسياسة جميعا لأنه كان يشعر - كما قدمنا - بأن سنده الأخير ليس تركيا وليس الأمة المصرية ما دام حليم باشا وارث العرش على النظام القديم مقيما في الأستانة يدس لإلغاء وراثة الابن ويعاونه أنصار من الساسة والأميرات، وما دام هو لا يريد أن يعتمد على الأمة أو ينيلها شيئا من الحقوق التي تشعرها بكيانها، على أن حادث قصر النيل لم يكف توفيقا درسا في وجوب تحديد سياسة يسير عليها لكيلا يكون دائما معرضا للتصادم مع القوى المختلفة المحيطة به، فمع شعوره بأن أباه اضطر للاستعانة بالأمة ولو استعانة صورية ممثلة في مجلس شورى النواب، فقد ظل حفيظا على مبدأ الحكومة المطلقة ثم إنه إلى جانب هذا كان قد بدأ يتخوف رياضا لقوته وشدة سلطانه على الرغم من مشاركة رياض إياه في تأييد النظام المطلق؛ لذلك بدأت الوزارة تضعف شيئا فشيئا على حين بدأ المتمردون من رجال الجيش يزدادون قوة على أثر انتصار يوم قصر النيل، وينضم إليهم كثيرون من غير العسكريين ويجاهرون جميعا بضرورة تشكيل مجلس النواب، وكان سامي البارودي من أصحاب هذا الرأي ومن أقوى المحركين لعرابي ومن معه، بل كان هو روح الحركة ومحورها.
وبرغم ضعف الوزارة وشعور الخديو بمعارضة عنصر قوي في البلاد لها فإنه أراد أن يقاوم هذه المعارضة بالشدة؛ لذلك عمد إلى عزل سامي البارودي من وزارة الحربية وإلى تعيين صهره داود باشا يكن مكانه، وأراد داود باشا قمع الحركة، فأمر بمنع اجتماع الضباط وبث عليهم الأرصاد والعيون، ولما عاد الخديو من الإسكندرية أمر الوزير الجديد بإجراء تنقلات بين الألايات شعر معها عرابي وأصحابه بأن المراد تشتيتهم للتنكيل بهم بعد ذلك، فرفضوا تنفيذ الأمر وأبلغوا الخديو بأن الجيش سيحضر بتمامه إلى عابدين لإبداء اقتراحات تتعلق بنظام الحكم في البلاد وبشئون الجيش وتحسين حاله.
ترى ماذا يفعل توفيق بإزاء هذه الحركة وهي حركة تمرد عسكري صريح؟! أتراه يترك الأمر لوزارته فيصرح أن عليها حفظ النظام والأمن؟ أتراه يدعو إليه كبار رجال الدولة وأعيانها في مجلس عام لينظر في الأمر؟ أتراه يأمر بتجريد المتمردين من رتبهم وألقابهم لكيلا يكون لوزارته ولا لغيرها من رجال البلاد عليه فضل ويقف صلبا ينتظر النتائج كائنة ما تكون؟ كلا، فهذه كلها حلول تحتاج إلى عزيمة وإلى قوة جنان وإلى شعور بالمسئولية واستعداد لمجابهة الخطر وجها لوجه، وتوفيق الضعيف لا يملك شيئا من هذا؛ لذلك عمد إلى وسيلة عجيبة لا يعمد إليها سياسي، أخذ وزراءه وتوجه بهم إلى حيث تعسكر الألايات المتمردة يحقق معهم ويستعطفهم، ثم ذهب بنفسه إلى القلعة حيث ألاي عرابي ليرجوه ألا يفعل ما اعتزم فعله، لكنه وجد عرابي قد سبقه إلى عابدين فعاد هو الآخر أدراجه إليها.
وهناك في 9 سبتمبر سنة 1881 قام عرابي على رأس الجيش ممتطيا جواده مستلا سيفه ووقف توفيق في شرفة عابدين يحيط به وزراؤه وقناصل الدول.
وبأمر توفيق أغمد عرابي سيفه وتقدم بمطالبه، وهي إسقاط الوزارة وتشكيل مجلس النواب وزيادة عدد الجيش والتصديق على قانون العسكرية الجديد وعزل شيخ الإسلام، وربما كان التصديق على قانون العسكرية أهم مطالب الجند، وربما اكتفوا به لو أن الخديو أجابهم فورا إليه وأمرهم بالانصراف لكي تنظر حكومته فيما عدا ذلك من المطالب، لكن الخديو اضطرب لساعته ورفض الطلبات جميعا مواجها خطر النداء بعزله وإعلان الجمهورية في مصر على نحو ما كان يدور برأس عرابي وأصحابه، لكن وزراءه وقناصل الدول أشاروا على الخديو بالعود إلى داخل السراي خشية أن تعجل مواجهة ما بين الرجلين الحوادث، وصار مستر كولفن القائم بعمل المراقب الإنجليزي وقنصلا إنجلترا والنمسا رسلا بين الخديو وعرابي، وتصلب عرابي التصلب كله وأشار بعض الحاضرين على الخديو - ومن بينهم مستر كلفن - أن يتشبث بالرفض مؤكدين أن لن يصل رجال الجيش إلى أكثر من المظاهرة التي قاموا بها، لكن الخديو أوصله ضعفه وعدم احتياطه إلى التسليم فسقطت وزارة رياض لساعتها ووعد الخديو بتنفيذ باقي المطالب بالتدريج، ودعا إليه شريف باشا كي يشكل الوزارة الجديدة، ورفض شريف بسبب ما أمامه من المصاعب وأخصها تمرد الجيش وعدم طاعته الأوامر، فلما أظهر عرابي استعداده ورجاله للامتثال وللطاعة، ولما جاء عمد البلاد فكفلوا عرابي فيما قاله، ثم لما استشار شريف حكومة تركيا وحكومات إنجلترا وفرنسا وكفل معاونتهم جميعا، بعد كل هذا شكل الوزارة وأمر الضباط الثلاثة بأن يتفرقوا في أنحاء مختلفة من القطر، وبعث بعرابي إلى رأس الوادي وباشر الحكم في حزم وأناة كانت البلاد يومئذ بحاجة أشد الحاجة إليهما.
ناپیژندل شوی مخ