إهداء
مقدمة
القسم الأول: تراجم مصرية
كليوباترة
الخديو الأول إسماعيل باشا
الخديو توفيق باشا
محمد قدري باشا
بطرس باشا غالي
مصطفى كامل باشا
قاسم بك أمين
إسماعيل باشا صبري
محمود باشا سليمان
عبد الخالق ثروت باشا
القسم الثاني: تراجم غربية
بتهوفن
هبوليت أدولف تين
وليم شكسبير
برسي بيش شلي
إهداء
مقدمة
القسم الأول: تراجم مصرية
كليوباترة
الخديو الأول إسماعيل باشا
الخديو توفيق باشا
محمد قدري باشا
بطرس باشا غالي
مصطفى كامل باشا
قاسم بك أمين
إسماعيل باشا صبري
محمود باشا سليمان
عبد الخالق ثروت باشا
القسم الثاني: تراجم غربية
بتهوفن
هبوليت أدولف تين
وليم شكسبير
برسي بيش شلي
تراجم مصرية وغربية
تراجم مصرية وغربية
تأليف
محمد حسين هيكل
إهداء
إلى صديقي
الدكتور حافظ عفيفي باشا
تقديرا لما كان لصداقته من فضل في إقدامي على كتابة كثير من فصول هذا الكتاب.
هيكل
مقدمة
يحتوي هذا الكتاب على نوعين من التراجم؛ فأما أولهما فيتناول تراجم مصرية لرجال هذا العصر الأخير منذ ولاية الخديو إسماعيل باشا الحكم إلى وقتنا الحاضر، خلا ترجمة لكليوباترة كتبت قبل أن تكتب هذه التراجم جميعا، أما سائر التراجم المصرية فنشرت في «السياسة الأسبوعية» حين كانت تنشر فيها فصول رجال التاريخ الحديث في مصر، اللهم إلا ترجمة محمود سليمان باشا فقد كتبت لمناسبة وفاته، وترجمة عبد الخالق ثروت باشا فقد كتبت ولم تنشر في غير هذا الكتاب، وربما كانت الترجمة لرجل كثروت باشا عاش بين أظهرنا وكان له دور في حياة مصر في أثناء وجودنا، مما يتعذر أداؤه بما تقضي به الدقة التاريخية وما توجبه من تمحيص ونقد، وكنت أنا شاعرا كل الشعور بهذه الدقة في أثناء كتابتي هذه الترجمة، لكني إنما تخطيت هذه الاعتبارات لأني أردت أن أضع أمام القارئ صورة - ولو تقريبية - لحياة مصر السياسية في هذا العصر الأخير، وما دمت قد بدأت هذه الصورة منذ عصر إسماعيل باشا الخديو فقد رأيت واجبا إتمامها إلى آخر عصرنا الحاضر، ثم ما دمت بدأتها بترجمة بعض من كان لهم في حياة مصر السياسية أثر ظاهر فمن حق ثروت باشا أن يكون ختام هذه السلسلة من عظماء الرجال الذين تناولت، على أني رأيت أن أقف في ترجمته عند الوقائع الثابتة وأن أتجنب المغامرة في الفروض والظنون، حتى لا يتعرض ما أكتب عنه لنقد يفسده وإن أمكن أن يظهر فيه نقص كثير.
فأما النوع الثاني فيتناول ترجمة بتهوفن، وتين، وشكسبير، وشلي، من كبار رجال الغرب، وهؤلاء إنما ترجمت لهم لمناسبات خاصة، ولأني أحببتهم منذ زمان طويل حبا جما، فلما كانت مناسبات كمرور مائة عام على موت بتهوفن أو على مولد تين أو نحوهما من المناسبات، رأيت واجبا علي لهذا الحب الذي أضمر لأولئك الرجال حبا يعادل ما أفدت من آثارهم وما حققت لي من معاني السرور بها والطرب لها - أن أثبت صورة هذا الحب بإثبات صورة من حياتهم هي الصورة الممتلئة بها نفسي منهم.
ولم يكن الاسم الذي وضعته للكتاب هو الذي دار من أول الأمر بخاطري، فإن كلمة «تراجم» تقتضي تناول جوانب حياة المترجم له بتدقيق وتوسع أكثر مما عالجت أنا في هذه الرسائل، فأنا لم أتناول - أغلب الأمر - إلا ما اعتقدته الناحية الغالبة في حياة الشخص، والتي كان لها فيه الأثر البالغ، وأنا قد تناولت هذه الناحية في إيجاز جعلني أختار في نفسي اسما للكتاب تؤديه الكلمتان الإنجليزيتان (Biographical Sketches) ، على أني بعد البحث مع أصحابي لم أهتد لعبارة عربية سائغة لأن تكون عنوانا للكتاب تؤدي هاتين الكلمتين أداء دقيقا، وفكرت وقتا في أن أجعل عنوانه (من صحف التاريخ)، وأشار علي صديق بأن أجعل العنوان (ملامح)، ثم انتهيت إلى هذا العنوان الذي ظهر الكتاب به، فإذا كان فيه شيء من الادعاء فليس الذنب في ذلك ذنبي، وإنما هو العجز عن أن أجد المقابل الصالح للصورة المضبوطة التي تعبر تعبيرا صادقا عما في الكتاب.
وكم وددت لو أني استطعت أن أجعل الكتاب كله تراجم مصرية صرفة، بل لو استطعت أن أظهره في عدة أجزاء تصل التراجم فيها بين عصور مصر المختلفة منذ عهد الفراعنة إلى وقتنا الحاضر، فما أشك في أن كتابا كهذا يمكن أن يكشف من تاريخ مصر عن صلة عصورها بعضها ببعض وعن جهود المصريين المتصلة منذ أول التاريخ إلى عصرنا الحاضر في سبيل الحق والحرية والعرفان، على أني أعترف بأن عملا كهذا مما لا يطيقه شخص وحده، ومما لا أطيق أنا بنوع خاص، فإنني لم أتخصص في التاريخ ولم تمل بي حياتي العملية نحوه إلا بمقدار، ثم إن تاريخ مصر في مختلف عصورها ما يزال مبعثرا في أطواء الكتب القديمة، لم يعن أحد، ولم تعن الجامعة المصرية نفسها، بالكشف عنه كشفا علميا صحيحا وبتدوينه على طريقة تجعله عذبا سائغ المورد لمن يشاء أن يصل إلى الحقائق فيه من غير أن تصده الطريقة السيئة أو اللغة المضطربة أو القصد السيئ، وإذا كنت قد وقفت على تاريخ مصر بشيء من الدقة في العصور الأخيرة فذلك حين كتابة رسالتي للدكتوراه في القانون عن «دين مصر العام»، فقد اضطرني ذلك إلى الانقطاع لدراسة التاريخ الحديث منذ عهد والي مصر سعيد باشا والإكباب على هذه الدراسة شهورا متوالية وتدوين الملاحظات، والوقوف عند الأشخاص الذين كان لهم في حياة مصر السياسية في أثناء هذا العصر الأخير دور خاص، ولا يزال كثير مما وقفت عليه في أثناء مطالعاتي ثم لم تقتض حاجة رسالتي تدوينه بها عالقا بذهني ممثلا أمام خيالي صورة مصر منذ أيام محمد علي، وصور الكثيرين ممن لعبوا دورا خاصا في حياتها، فأما قاسم أمين فقد عنيت بقراءة كتبه وكل ما كتب عنه مذ كنت في مدرسة الحقوق بمصر، فتكونت في نفسي منه فكرة أحسبها دقيقة غاية الدقة، وأتاح لي اشتغالي بشئون مصر السياسية في السنوات الأخيرة أن أضبط صور من ترجمت لهم من هؤلاء جهد ما واتتني به الطاقة.
وإن كتابا كالذي أشرت إليه حاويا تراجم أكابر رجال مصر في عصورها المختلفة منذ الفراعنة إلى اليوم، يكون لا ريب جليل الأثر في تكوين صورة تاريخية لهذا الوادي الجميل الذي نعيش فيه، صورة تظهر اتصال الحياة على ضفاف نهره المبارك منذ أقدم الأزمان إلى وقتنا الحاضر، ثم إن مثل هذا الكتاب ليدل دلالة كبرى على بطلان الصورة الزائفة التي يضعها مؤرخو الغرب لتاريخ مصر، فالواقع أن تاريخ بلادنا لم يصغه حتى اليوم مؤرخ منصف على طريقة علمية صحيحة، اللهم إلا ما تعلق ببعض جوانب العصر الفرعوني من عصوره، فأما ما بعد ذلك من عصور فقد شوهه الساسة الأجانب لمآربهم الخاصة منذ القدم: شوهه العرب الذين خلفوا الرومان في مصر، كما شوهه نابليون حين قدومه بالحملة الفرنسية في آخر القرن الثامن عشر، ثم كان لكتاب الإنجليز بعد ذلك النصيب الأوفى من تشويهه تشويها قائما على ذلك الأساس الاستعماري من أن شعب مصر قد ظل محكوما منذ انتهى عهد الفراعنة بأمم أجنبية عن مصر، بالفرس، ثم اليونان، ثم الرومان، ثم العرب، ثم الترك، ثم الإنجليز، وشعب هذا شأنه - فيما يدعون - لا يعرف لنفسه عليه كرامة يضحي في سبيلها ولا يقدر للعزة القومية معنى يثور من أجل تحقيقه، وما يزال هذا التاريخ هو - مع الكثير من الأسف - التاريخ الرسمي الذي درس لنا ويدرس اليوم لأبنائنا، هذا، على أن التاريخ الصحيح والتراجم الحقة تنادي بكذب هذه الصورة من حياة مصر على تعاقب الأزمان وببطلانها.
ولست واثقا من أن تمكنني الفرص من الرجوع إلى تواريخ هذه العصور القديمة وإلى تراجم الرجال الذين عاشوا فيها لأثبت حينئذ في شيء من التفصيل أن تاريخ مصر جدير بأن يفخر المصريون به أكثر مما يفخر غيرهم من أبناء أية أمة أخرى بتاريخها؛ لذلك أسارع فأنتهز فرصة نشر هذا الكتاب المشتمل على تراجم بعض رجال مصر في العصر الأخير، وعلى ترجمة كيلوباترة خاتمة عهد البطالسة في مصر، لأبين زيف الصورة التي يصورها الساسة الاستعماريون، ولأظهر للقارئ في كلمات موجزة كيف دل ما تداول على مصر من ألوان الحكم على أن شعبها أعرق الشعوب حرصا على قوميته وأكثرها تضحية في سبيل الحق والحرية والعرفان.
على أني قبل أن أعالج هذا البيان أود أن أثبت للحقيقة أن بعض الذين أرخوا مصر من أهل الأمم المختلفة كانوا حسني النية، ولكنهم خدعوا بتمويه الساسة، وما أشك في أنهم متى اطلعوا على هذه المقدمة الوجيزة سيعودون إلى الحق يقررونه وسيعترفون لمصر بمكانتها التاريخية السامية.
ولعل ما خدع به هؤلاء المؤرخون الحسنو النية هو ما تواضع عليه الكتاب من تبويب تاريخ مصر عصورا أطلقت عليها أسماء أمم غير مصرية، فمن بعد العصر الفرعوني يذكرون عصر الفرس، ثم العصر اليوناني، ثم العصر الروماني، ثم العصر الإسلامي أو عصر العرب، ثم عصر الترك، ثم العصر الأخير عصر الاحتلال الإنجليزي، وتبويب التاريخ على هذه الصورة من شأنه أن يدعو إلى الخطأ وسوء التقدير من جانب من لا يكلفون أنفسهم مؤونة البحث في التفاصيل بشيء من الدقة، والواقع أن هذا التبويب خاطئ في أكثر مناحيه، وإذا كان صحيحا أن الحكام الذين تولوا أمر مصر في عصور مختلفة لم يكونوا من أصل مصري صميم فلن يغير ذلك من خطأ المؤرخين وادعائهم خضوع مصر لأمم أجنبية عنها، إلا إذا اعتبرنا قيام ملك كملك الإنجليز على رأس أكبر إمبراطورية في الوقت الحاضر - مع أنه من أصل غير إنجليزي - دليلا على أن إنجلترا والإمبراطورية البريطانية كلها خاضعة للأمة التي يرجع إليها دم مليكها، وهذا لغو من القول، كما أن ادعاء خضوع مصر لأمم أجنبية عنها هي التي يرجع إليها أصل حكامها لغو مثله، وليس هذا المثل الذي ضربنا بالمثل الفرد، فنابليون إمبراطور فرنسا كان من كورسيكا، أي كان أقرب للإيطالية منه للفرنسية، وأكثر الملوك الباقين على عروش أوربا اليوم من دماء غير دماء الشعوب التي ملكتهم عليها، وليست هذه الشعوب لذلك أقل حرية واستقلالا وعظمة مما كانت مصر في أكثر العصور التي تعاقبت عليها.
ولنعد الآن إلى تاريخ مصر نفسه، فالكل يعترف لمصر الفراعنة بأنها كانت أمة عزيزة الجانب مضيئة الحضارة على نحو لا يمكن أن تتسرب إليه الشبهة مع قيام الآثار القديمة شاهدة به محدثة عنه بأقوى عبارة وأفصح لهجة، مع هذا فقد منيت مصر الفراعنة بغزو الرعاة الهكسوس إياها مدة استمرت نحو تسعين سنة، حتى استرد المصريون تاج بلادهم سنة 1580 قبل الميلاد، وظلت مصر من بعد ذلك متحكمة في البلاد المجاورة لها ممتدة السلطان على حوض البحر الأبيض المتوسط، وفيه روما واليونان، إلى أوائل القرن السابع قبل الميلاد، هنالك كانت الحضارة الإنسانية على ضفتي النيل قد بلغت من الرقي والترف ما تشهد به الآثار التي ترى أعيننا شيئا منه.
وهنالك بدأت آشور، ومن بعدها فارس، تفكر في غزو مصر، ومع غلبهم إياها ودخولهم عاصمة ملكها غير مرة فإنهم لم يستطيعوا الاستقرار بها وتولي الحكم فيها إلا فترات قصيرة انتهت في سنة 332 قبل الميلاد.
قبيل هذا التاريخ نشأ في شمال اليونان فليب المقدوني وخلفه من بعده الإسكندر الأكبر، وكانت الطبيعة قد وهبتهما - ووهبت الابن بنوع خاص - من المقدرة في القيادة الحربية ما يدخل في باب المعجزات، وحيث يظهر في الناس نصف إله في الحرب أو في الدين أو في السياسة ترى العالم كله يتطلع معجبا مسحورا، وقد دوخ الإسكندر روما وآشور والفرس ووصل إلى الهند، ولم تكن أمة من الأمم تستطيع مقاومته، أما أمم أوربا الغربية والشمالية فكانت في تلك الأيام في حال من الهمجية أشبه بحال أواسط أفريقيا اليوم مما يجعلها نكرة على التاريخ، ولا يجعل لأية مقارنة بينها وبين غيرها محل، وجاء الإسكندر إلى الشام ففتحت أمامه مصر أبوابها في سنة 332 التي أشرنا إليها؛ لأنها رأت فيه مدوخ الفرس، وكانت بينها وبين الفرس عداوة أشد العداوة، وبقيت مصر في حكم الإسكندر، وإن شئت في حكم اليونان تسع سنوات، إذ مات الإسكندر في سنة 323ق.م ثم اختلف قواده من بعده فيما بينهم، وكان بطليموس بن لاجوس من أقدرهم ومن أعرفهم بمصر وأشدهم حبا لها.
وإذا كانت مصر بحاجة إلى رجل ذي مواهب حربية ممتازة يستطيع أن يصد بقواها عدوان من يحاول الاعتداء عليها، فقد اطمأنت إلى بقاء بطليموس مستقلا بها مستقلة هي به، وحدث ما أراد المصريون من ذلك، فإن هذا البطل من قواد الإسكندر جعل الإسكندرية قاعدة له ومنها حارب الآشوريين والفرس وحارب اليونان أنفسهم، ووطد لمصر سلطانا أعاد لها ولحضارتها عز الفراعنة الذي اضطرب وتزعزع خلال القرون الثلاثة التي سبقت ولايته عرش إيزيس وأوزوريس.
ومع أن بطليموس الأول هذا كان أشد حرصا على طقوس الديانة اليونانية التي نشأ فيها فإن ابنه بطليموس الثاني كان مصريا في دينه مصريا في عاداته مصريا في دمه، ولا عجب، فمصر - بعزلتها عن العالم لما يحيط بها من البحر في شمالها والصحارى في سائر جهاتها - هي عالم وحده تخلق الناس فيها خلقا وتسكب في عروقهم دماء تجري فيها روح النيل وقوة سلطانه؛ ولذلك كان كل الذين أقاموا بمصر إما تمثلتهم مصر فأصبحوا مصريين، أو لفظتهم فلم يطيقوا ولم يطق أخلافهم من بعدهم بها مقاما.
وبلغ من حب بطليموس الثاني مصر وحب مصر إياه أن أصبحت الإسكندرية عاصمة العالم كله حضارة وعلما وإيمانا، وإن اجتمعت فيها فلسفة اليونان المادية بفلسفة مصر الروحية، ثم نشأت منهما فلسفة مصرية خاصة هي فلسفة مدرسة الإسكندرية، وكانت مصر هي سيدة البحار في ذلك العصر، فكانت سياستها موضع النظر والتأويل في روما واليونان وآشور والفرس وسائر بلاد العالم المعروف حينئذ، وتعاقب البطالسة حتى كليوباترة في حكم مصر ثلاثة قرون متوالية، تعاقب البطالسة على عرش مصر بإرادة شعب مصر مستقلين به مستقلا هو بهم قائمين باسمه ناشرين على ربوع العالم المعروف يومئذ لواءه، فهل يكون نعت هذا العصر من تاريخ مصر بالعصر اليوناني معناه خضوع الشعب المصري لأمة أخرى؟ أو يكون ذلك التصوير باطلا البطلان كله لأن شعوب العالم ومنها الشعب اليوناني هو الذي خضع لمصر في كل تلك القرون الثلاثة، وكان يرى في الإسكندرية عاصمة الدنيا كلها؟
وفي أواخر عهد البطالسة بدأ نجم روما يعلو في سماء السياسة العالمية، وبدأت روما تطمع في التغلب على مصر بعد أن كانت تخطب ودها وتخشى غضبها، وكما وهبت الأقدار الإسكندر المقدوني المقدرة الحربية التي استطاع بها أن يتغلب على كل شعوب العالم المعروف يومئذ، كذلك وهبت هذه الأقدار مثل تلك المقدرة يوليوس قيصر صاحب عرش روما، فلقد ظفرت جيوش قيصر بالشعوب كلها ورفت راية روما على اليونان والشام، وامتدت غزواتها إلى ناحية آشور، ثم سارت شمالا وغربا فأخضعت السكسون في ألمانيا والفرنسيين في بلاد (الجول) وأخضعت أهل الجزيرة البريطانية لحكم قيصر، فإذا كانت هذه الأقدار قد عصفت بمصر فلم تكن مصر لذلك متفردة بالخضوع دون غيرها من أمم العالم، وصحيح أن حكم روما لمصر عن طريق حاكم تبعث به إليها ظل متتابعا قرونا عدة، لكن الصحيح كذلك أن هذا الحاكم كان يجد أكثر الأمر أشد العنت في حكم البلاد، وكان يتعرض للثورات المتوالية تقوم عليه وتضطر روما معها للاحتماء بالإسكندرية أحيانا تاركة داخلية البلاد يحكمها أهلها، وتتمكن أحيانا أخرى من قمع هذه الثورات والتغلب عليها وإخضاع مصر لنير روما قهرا عنها.
والمؤرخون جميعا متفقون تمام الاتفاق على أن السكينة والأمن لم يسودا مصر طول هذا الذي يسمونه العهد الروماني، فإن روما كانت - كما كانت بيزانس من بعدها - دائمة الوجل من ناحية مصر من خشية أن ينقطع عنها مدد الغلال التي كانت مصر تبعث بها غذاء لأهل عاصمة العالم في ذلك الحين، ولم تكن أسباب الاضطراب يومئذ مقصورة على الناحية السياسية، بل خلق المصريون منها في سائر النواحي ما ارتبكت روما معه وما اضطرت بسببه لارتكاب الفظائع التي لا يزال تاريخها ملطخا بها، من هذه الأسباب السبب الديني؛ فقد كان الدين المصري القديم بعد اختلاطه بالتعاليم اليونانية قد قصر عن أن يلهم الشعب ما يلهم كل دين من طمأنينة النفس وسعة الأمل، وكانت المسيحية الوليدة في روما قد بدأت تنتقل إلى مصر رويدا رويدا، وكان الطبيعي أن يلقى الدين الجديد في مصر قبولا حسنا، فقد كان اليهود في مصر كثيري العدد جدا، وكانت الديانة اليهودية تتصل في كثير بالديانة الفرعونية القديمة أن كان موسى مصريا تلقى الطقوس أيام شبابه على كهنة إيزيس، وكان الاضطهاد الروماني مما جعل الناس أشد إقبالا على دين يدعو إلى الإخاء والسلام والتسامح، ويعد الجنة المحروم والبائس والمظلوم، على أن خلافا في الرأي الديني ما لبث أن نشأ في مصر بين المتشبعين من قبل بتعاليم الفلسفة اليونانية والآخذين بروحية الديانة المصرية القديمة، وكم أثار هذا الانقسام الديني من خلاف! وكم اتخذ سببا خفيا للثورة على روما ومحاربتها والتغلب في بعض الأحايين على ولاتها وحكامها واستقلال أهل مصر بالحكم في مختلف ولاياتها.
وكذلك نرى أن مصر قد تمثلت البطالسة وهضمتهم طبيعتها فأصبحوا مصريين كسائر المصريين وإن كانوا من أصل يوناني، فأما الرومانيون الذين أرادوا الاحتفاظ برومانيتهم وحكم مصر على غير إرادة أهلها، فقد ظلوا تناهضهم عناصر الحياة في مصر حتى انجلوا عنها كارهين، وكذلك كانت دورات التاريخ في مصر دائما؛ فمن خضع لحكم الطبيعة المصرية القوية في تمثلها من ينزل ربوعها كان له أن يطمع في نعيمها وأن يستريح إلى خيرها ورخائها، ومن حاول محاربة هذه الطبيعة المصرية كانت عليه حربا عوانا، لكنها لا تلجأ في حربها إلى العواصف الاجتماعية التي تثور فجأة مرة بعد أخرى، كلا! بل هي تلجأ في الناحية السياسية والاجتماعية إلى مثل ما تلجأ إليه الطبيعة المصرية من شمس وهواء ونهر وأرض ورمال، هذه الطبيعة لا تعصف بشيء أجنبي عنها ولكنها تظل حتى تبليه وتفنيه.
وانتهى حكم الرومان وعقبه العصر الإسلامي لتكتب مصر خلاله صحف مجد في تاريخها كأمة مستقلة ناهضة بأعباء الحضارة في العالم على نحو ما كانت مصر الفراعنة، تاركة من آثار ذلك مثل ما تركوا مما لا يزال شهيدا على العظمة والجلال وتقدم المدنية وارتقاء آثارها من علم وفن إلى أبعد حدود الارتقاء، فقد نهض العرب منذ أوائل القرن السابع الميلادي نهضة روحية بفضل الإسلام أعقبتها نهضة حربية قوية متأثرة بها لا تقل في اندفاعها اكتساحا لغيرها من الأمم عن نهضة الإسكندر في اليونان وقيصر في روما.
ولم تقف مصر في وجه تيار هذه النهضة أن شامت في الدين الجديد جدة روحية كانت تشعر بالحاجة إليها شعورا عميقا، فإن المسيحية - على أنها دين فضل وجمال - قد خالطت طقوسها صور من الزهد والتقشف والانقطاع بما لا يتفق مع طبيعة وادي النيل الدائم الصفو الدائم الابتسام، وهذا التنافر بين ابتسام الوادي وعبوس التقشف، جعل دعاة المسيحية في مصر يبالغون في ميلهم إلى جانب الانقطاع والزهد، ويفضلون العيش في صوامع خشنة فوق رمال الصحراء المحرقة، وذلك لفرط خوفهم من زخرف الوادي وغضارة نعيمه، وبالرغم من قيام طائفة من المصريين المسيحيين تحاول التوفيق بين تعاليم دين عيسى وفيض النيل ببركاته فإن دعاة الزهد والتقشف كانوا أصحاب الغلب.
فلما أذن مؤذن المسلمين بأن التقرب إلى الله لا يصد عن المتاع بالدنيا ونعيمها، دخل المصريون في دين الله أفواجا، وآوت مصر من العرب حملة هذا الدين وحماته كل من تستطيع أن تؤويه، ولم يكن ذلك عجبا في أرض الأنبياء، ولا هو كان عجبا في عصر لم تكن الفكرة القومية فيه قد نمت النمو الذي نعرف اليوم، فالأماكن المقدسة في مكة والمدينة كانت معتبرة في نظر المسلمين جميعا عاصمة المملكة الإسلامية كما كان الخلفاء الراشدون، ثم أمراء المؤمنين من بعد، معتبرين كلمة الله على الأرض تجب لهم على كل مسلم الطاعة المطلقة.
لكن غريزة القومية كانت قوية في مصر بسبب عزلة مصر عما جاورها، يفصل بينها وبين كل جار من البحار أو الصحارى ما لا يسهل اجتيازه؛ لذلك لم تلبث خلافة الراشدين أن انتهت وأن قام يزيد بن معاوية أميرا للمؤمنين خلفا لأبيه حتى بدأت نذر الانتقاض على السلطة المركزية تبدو في مصر برغم أنها كانت حلقة وسطى في سلسلة الفتوحات الإسلامية المستمرة المتوالية ذاهبة إلى الغرب حتى تصل إلى مراكش كي يغزو موسى بن نصير الأندلس منها متخطيا جبل طارق، ولم يكد حكم بغداد وسلطان الدولة العباسية يستقر ويطمئن حتى بدأت مصر تقوم مستقلة استقلالا ناجزا صحيحا: استقلت أول أمرها حين قامت الأسرة الطولونية بالحكم فيها، ونازع الإخشيديون الطولونيين وغلبوهم واستقلوا بعرش مصر، ثم جاء الفاطميون من ناحية المغرب فأجلوا الإخشيديين وأسسوا بمصر دولتهم بفضل قائدهم جوهر الصقلي الذي أنشأ القاهرة، واعتلى الأيوبيون العرش من بعد الفاطميين.
وفي هذه القرون المتوالية كانت مصر مستقلة بشئونها بالغة في أحيان كثيرة المكانة الأولى بين الأمم الإسلامية صاحبة الغلب على أمم العالم جميعا، ولن ينسى أحد من ذلك فضلها العظيم في الناحية العلمية والأدبية، فقد كان الجامع الأزهر منذ أنشأه الفاطميون الجامعة الإسلامية الأولى، سواء كان ذلك في أول عهد الفاطميين حين كانت التعاليم الشيعية تلقى من فوق منابره، أو كان في العهد السني الذي جعل له حتى عصرنا الحاضر المقام الأول بين الجامعات الدينية الإسلامية.
ثم لن ينسى أحد كذلك ما كان لمصر من مجد وفخار في الحروب الصليبية حين تألبت أوربا تريد أن تغلب المسلمين على أمرهم في الأماكن المقدسة بفلسطين، وتضع يدها عليها باسم الصليب؛ فقد كانت الجيوش المصرية المظفرة هي التي صدت أكبر الغارات وأشدها هولا. واسم صلاح الدين الأيوبي باق على الزمان بقاء الزمان كلما ذكرت تلك الحروب، وهزيمة لويس التاسع في المنصورة وسجنه بها باق كذلك شهيد على مجيد فعال مصر في صد الغارة الصليبية.
وكان هذا كله والدولة العباسية ببغداد لا تزال باقية ولا يزال لها اسم دولة الخلافة مما أدى بطائفة من المؤرخين للوقوع في الخطأ واعتبارهم هذه القرون المتوالية على مصر، وهى متمتعة باستقلالها مقيمة من صروح الحضارة والعلم ما فاق كل ما عرفت بغداد، بعض ما توالى على مصر من ظلم وما ناء به أهلها من مهانة وذل.
وليس بي حاجة إلى العود للقول بأن قيام أفراد من دم غير مصري على عرش مصر لا يدل على أن مصر كانت تابعة لأمة أخرى؛ فالملوك في أكثر الأمم وفي مختلف عصور التاريخ لم يكونوا أكثر الأمر من أهل تلك الأمم إذا أنت تقصيت أصل مولدهم، لكنهم وقد عظموا بها كما عظم بمصر ملوك مصر فقد نسبوا إليها على حين يصر المؤرخون على نسبة ملوك مصر لبلاد غير مصر، والغلو في ذلك إلى حد القول بأن مصر وملوكها كانوا تابعين لدولة أخرى، وهم يقولون: ألم يتول أحمد بن طولون أمر مصر من قبل العباسيين وإن استقل من بعد بها؟ إذا فمصر ولاية عباسية، والحقيقة أن الخلافة الإسلامية في تلك العصور كانت قد انحلت عنها الصبغة الزمنية وبقيت لها السلطة الروحية وحدها، فكانت تبعية كثير من الدول الإسلامية لها شبيهة كل الشبه بتبعية الدول المسيحية لبابا روما، واستقلال الأمم وسيادتها لا شأن لها بالسلطان الروحي، وإنما مرجع أمرهما إلى السلطان الزمني، فما دام في عاصمة مملكة من الممالك كل أمر هذه المملكة الزمني فليكن لها من الاتصال الروحي بمكة أو بدمشق أو ببغداد أو بروما ما تشاء، فلن يغير ذلك قليلا ولا كثيرا من أنها أمة كاملة الاستقلال، والأمر الذي لا ريبة فيه أن الخلافة الإسلامية انحلت عنها السلطة الزمنية انحلالا فعليا من بعد خلافة المأمون ومنذ بدأ المعتصم يضطرب في حكم الدولة العربية وحدها، هذا إلى أن أولئك الذين حكموا مصر من طولونيين وإخشيديين وفاطميين وأيوبيين كان شأنهم شأن طوائف تماثلهم في أكثر بلاد أوربا حضارة ورقيا، طوائف جاءت إلى إنجلترا وفرنسا وألمانيا وغير هذه من الدول من بلاد أخرى في بعض الغزوات، وكانت في ركاب الغازي ثم اندمجت من بعد ذلك في الشعب، وظل لها مع ذلك من تاريخها ما يحفظ لها في نظام الطوائف أقرب مكان من العرش، فهي أبدا تتطلع إلى مقامه وكثيرا ما تصل إلى ارتقائه.
واستمر حكم الدول الطولونية والإخشيدية والفاطمية والأيوبية بمصر من سنة 868 إلى سنة 1250، ومن بعد هذا التاريخ ازداد انحلال السلطان الروحي للخلافة وزالت الدولة العباسية نفسها من بغداد، واستولى التتار على أكثر ممتلكاتها الآسيوية، أما مصر فقد استمرت تخطو إلى الأمام خطوات واسعة في سبيل التقدم والحضارة، وكان المماليك هم الذين حلوا محل الدولة الأيوبية في الحكم، والمماليك هم بعض هذه الطوائف التي أشرنا إليها والتي تجيء في ركاب الغزاة، ثم تصل في كثير من الأحيان إلى عرش البلاد بإقرار أهل البلاد أنفسهم، وهؤلاء المماليك كانوا قد جاءوا إلى مصر في بلاط حكامها الذين سبقوهم والأيوبيين منهم بنوع خاص.
اشتراهم هؤلاء الحكام ليكونوا في حاشيتهم وفي جيوشهم وليكون لهم من نسائهم الجميلات سراري وموالي، ومن شأن هؤلاء أن يكونوا أكثر من كل الناس وقوفا على أسرار ذوي العرش ومعرفة ببواطن أمورهم وأسباب قوتهم وضعفهم، فكان طبيعيا بعد إذ كثروا في مصر كثرة جعلت منهم جيشا جرارا أن يخلفوا الأيوبيين في ملكهم، لكنهم - كالأيوبيين وأكثر من الأيوبيين - كانوا مستقلين بمصر وكانت مصر مستقلة بهم تمام الاستقلال غير خاضعة لحكم أية دولة أخرى، بل لقد كانت في عهدهم عزيزة الجناب مرهوبة الجانب من كل دول البحر المتوسط التي كانت وحدها المعتبرة ذات حضارة معترف بها في العالم كله، وبلغت من ذلك أن أصبحت القاهرة مقر الخلافة الإسلامية ممثلة في العباسيين الذين انقرضوا ملوكا، فلم يبق للخلافة منهم إلا شبح ذابل أراد الظاهر بيبرس أن يخلع عليه رواء من قوة مصر ومجدها بأن يسكن الخليفة العباسي في عاصمة ملكه، ولم يكن الظاهر في هذا دعيا ولا مغرورا، فقد بلغت مصر في عهد المماليك البحرية والبرجية من الرفعة شأوا عظيما حتى كانت صاحبة الإملاء على السياسة الدولية في ذلك العصر، ولم يقف أمرها في عظمتها عند السلطان الحربي، بل كان لها أكثر من سلطان علمي وأدبي معترف به، كما كانت مركز الدائرة من حركة التجارة العالمية، وكمثل من سلطان مصر الأدبي أضع تحت نظر القارئ الفقرة الآتية من كتاب الأستاذ عبد الرحمن بك الرافعي «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر» قال:
ظلت الآداب العربية إلى عهد السلاطين البحرية والبرجية الشراكسة حافظة مكانتها التي كانت لها من قبل، وإليهم يرجع الفضل في إنقاذ آداب العربية من غزوات المغول التي كادت تقضي على العلوم والآداب العربية في الشرق، فكانت مصر ملجأ للناطقين بالضاد ممن فروا أمام التتار في العراق وفارس وسوريا وخراسان، وبقيت لغة حكومتها عربية في عهد تينك الدولتين، واستظلت العلوم والآداب العربية بحماية الملوك والسلاطين في مصر، ونبغ فيها طائفة من فطاحل الشعراء والأدباء والعلماء، كالبوصيري صاحب البردة، والسراج الوراق، وابن نباتة المصري ، والقلقشندي صاحب صبح الأعشى، والأبشيهي صاحب المستطرف، وابن منظور صاحب لسان العرب، وابن هشام النحوي العظيم الذي يقال فيه إنه أنحى من سيبويه، وابن عبد الظاهر، والنواجي - نسبة إلى نواج إحدى قرى مديرية الغربية - صاحب حلبة الكميت، والقسطلاني المحدث المشهور، وشمس الدين السخاوي صاحب الضوء اللامع، وابن خلكان المؤرخ المشهور صاحب وفيات الأعيان، والصفدي صاحب الوافي، وابن حجر المؤرخ إمام الحفاظ والمحدثين في زمانه، والعيني المؤرخ والمحدث، وابن وصيف شاه، وابن دقماق، والمقريزي صاحب الخطط، والمكين بن العميد، وأبو الفداء المؤرخ الجغرافي المشهور صاحب تقويم البلدان، والذهبي، والنويري صاحب نهاية الأرب في فنون الأدب، وابن فضل الله العمري صاحب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، وابن عقيل، وابن تغري بردي صاحب النجوم الزاهرة، وجلال الدين السيوطي صاحب التآليف الشهيرة في التفسير والعلوم الشرعية والتاريخ والأدب واللغة وهو آخر من ظهر في ذلك العصر من كبار العلماء بمصر، والدميري صاحب حياة الحيوان، وابن إياس المؤرخ الذي أدرك الفتح العثماني، وقد استضافت مصر في ذلك العصر جماعة من أئمة العلوم والفلسفة في الشرق، كالإمام ابن تيمية وابن القيم الجوزية، وفيلسوف المؤرخين ابن خلدون.
ونضع كذلك تحت نظر القارئ هذه العبارة من كتاب «صفحات في تاريخ مصر» للأستاذ توفيق حامد المرعشلي، ليرى منها مبلغ ما وصلت إليه مصر أيام المماليك من عظمة في نواحي حياتها الاقتصادية والسياسية، قال: «إن عصر المماليك يعد من عصور الرخاء والنشاط التجاري والاقتصادي بمصر، فكانت الصلة بين مصر ودول أوربا موطدة الدعائم، عقدت المعاهدات مع فرنسا وجمهوريات إيطاليا لحماية التجار الأجانب وترغيبهم في الإقامة بمصر، فراجت الأسواق التجارية وصارت مصر الملتقى التجاري بين الشرق والغرب سواء أكان بمرور التجارة من مصر فالبحر الأحمر إلى الهند، أم من الشام إلى العراق فالخليج الفارسي إلى بلاد العجم والهند وبالعكس من الطريقين، بما عاد على المماليك وخزانتهم وعلى المصريين ضمنا بالأموال الطائلة التي كانت تجبى من المكوس والحركة التجارية.» فأما رقي الفنون، وفن العمارة منها بنوع خاص، فتشهد به الآثار الكثيرة الموجودة بمصر ومنها المساجد والمنازل الأثرية بمشربياتها وأبهائها البديعة التنسيق الرائعة الجمال.
وليس إنسان يقرأ هذا الذي بلغت إليه مصر في عصر المماليك من سؤدد وعلم وحضارة إلا يقف ذاهلا: ألم يكن الأثر الباقي في نفوسنا لما تعلمنا عن تاريخ مصر في هذه الفترة أنها تعتبر عصرا مظلما في تاريخ مصر؟ فكيف يذر العصر المظلم كل هذه الآثار المضيئة؟! قد نفهم القول بأن حكومات مصر في ذلك الزمن كانت حكومات استبدادية وأن الفكرة الديمقراطية كانت معدومة يومئذ، وإنما كان يقوم نظام الطوائف مقامها، لكن هذا لا يعني شيئا ولا يخفى ما لتاريخ مصر في أثناء عصر المماليك من سناء ساطع، هو لا يعني شيئا لأن أمم العالم كله كانت يومئذ محكومة على نظام استبدادي تؤيده الطوائف المعزوة رياستها إلى مقام الحاكم بما يجعلها ذات مشورة، إن لم تكن ذات رأي في تصريف الشئون العامة، وما دام هذا النظام قد أنبت كل تلك الثمرات اليانعة التي تفخر بها مصر وتضعها في الغرة من تاريخها، فذلك الدليل على أنه كان النظام الصالح في العصر الذي قام فيه، فليس نظام للحكم يحمد لذاته أو يذم لذاته، ولكنه يحمد أو يذم بقدر ما يؤتي من صالح الثمرات أو من سيئها، وبقي هذا العصر الزاهر في تاريخ مصر من سنة 1250 إلى سنة 1517.
وكما اكتسح الإسكندر الأكبر العالم فعنت له أممه ثم فتحت مصر له آخر الأمر أبوابها، وكما أتاحت الأقدار ليوليوس قيصر أن يصنع بالعالم صنيع الإسكندر من قبل، مما جعل مصر تذعن لسلطان روما مع مداومتها الثورة عليه، كذلك اكتسح الأتراك العالم في القرن الخامس عشر وقضوا على الدولة البيزنطية باستيلائهم على القسطنطينية في سنة 1453 وأوغلوا بعد ذلك في أوربا حتى وصلوا إلى أسوار فيينا، وقد بقيت مصر مرهوبة مهوبة الجناب عندهم برغم ما كان من كل تلك القوة لهم حتى سنة 1517 حين نزلها السلطان العثماني سليم بعد حرب تم له فيها النصر على السلطان الغوري في موقعة بالشام على مقربة من حلب وعلى طومان باي الذي كان قائما مقامه بالقاهرة.
وحكم الأتراك مصر على الطريقة التي حكمتها بها روما، وكان أول ما صنعوا أن أخذوا الخليفة العباسي إلى الأستانة حيث جعله السلطان سليم يتنازل عن الخلافة التي أصبحت من يومئذ في آل عثمان حتى قضى مصطفى كمال عليها في سنة 1923، ثم جعلوا يوفدون إلى مصر واليا حرصوا على ألا تطول مدته بمصر من خشية أن ينظم جيشها ثم يقهر الأتراك به ويعيد إلى مصر استقلالها على نحو ما حدث في عهد البطالسة، وأوقفوا ما كان بمصر من مظاهر الحضارة بأن أخذوا إلى عاصمتهم كل رجال العلم والفن والصناعة في مصر، ولم يعوضوها شيئا، وظل الحال على ذلك إلى أواخر القرن السابع عشر حين بدأت نذر الانحلال يدب دبيبها إلى تركيا، حينذاك بدأ المماليك، الذين ظلوا طوال مدة ولاية تركيا حكام الأقاليم، يفكرون في استعادة السلطة والاستقلال بمصر، وكان هؤلاء المماليك قد أصبحوا - كما أصبح اليونان والعرب من قبل - مصريين، فكانوا يقفون متكاتفين مع شعب مصر في وجه الوالي الذي تبعثه الأستانة كما كان أسلافهم من قبل يقفون في وجه الحاكم العسكري الذي تبعثه روما، وكان هذا الوالي التركي الذي لم يندمج في مصر ولم يتمثل روحها يظل سجينا في قلعة القاهرة لا سلطان له على أحد ولا على شيء فيها، وكان المماليك والشيوخ الذين يمثلون الطبقة المتعلمة إذا رأوه على غير ما يريدون بعثوا إليه رسولا يطلق عليه اسم (الأوده باشي) يدخل عليه ويطأطئ الرأس احتراما له ثم يلمس طرف السجادة ويطويها ويقول مناديا للوالي: «انزل يا باشا»، ويكون هذا أمرا للوالي صادرا له من المصريين لا يستطيع له مقاومة ولا تستطيع تركيا له نقضا، وبلغ الضعف بالوالي التركي أن كان طوال القرن الثامن عشر واليا بالاسم لا سلطة له ولا عمل أكثر من إرسال الخراج إلى تركيا، ودفع هذا الضعف علي بك الكبير إلى التفكير في الاستقلال بمصر وتم له من ذلك ما أراد، وظل ثلاث سنوات تلقب فيها بسلطان مصر وخاقان البحرين ، على أن سوء سياسة الحكم في تركيا وما كان من تدميرها كل أسباب الحضارة في مصر في أثناء القرن الأول من استبدادها بها، نضح على هؤلاء المماليك فجعلهم يسيرون مع الشعب أسوأ ما يسير مستبد جائر، مما شوه اسم أسلافهم المماليك الذين ارتفع اسم مصر في عهدهم على مكان من العزة لا ينال.
وجاءت الحملة الفرنسية إلى مصر سنة 1798 فقاومها المصريون أشد المقاومة حتى انتهت بالجلاء عن البلاد بعد ما نقلت إليها أفكار الثورة الفرنسية وأسباب الحضارة الغربية، وبعد أن فتحت عيون المصريين على حياة جديدة هي التي يدأبون اليوم لتوطيدها واتخاذها وسيلة لعود مصر إلى مجدها وقوتها.
وجاء محمد علي باشا واليا من قبل تركيا على مصر فقضى على المماليك، ثم استمال إليه علماء مصر وأعيانها ووجهاءها، وفكر طوعا لإرادتهم في الاستقلال بها، وأعلن ذلك بالفعل وغزا الدولة العثمانية في الشام وفي الأناضول ووصل حتى صار على ثلاث ساعات من الأستانة، وكان مخضعا سلطان تركيا لولا أن تحالفت معها عليه دول أوربا جمعاء، ووقفت في وجهه برا وبحرا، وقضت على الأسطول المصري في معركة نافارين، وهذا الوقوف من جانب الدول الأوربية في وجه الجيوش المصرية الظافرة لم يكن القصد منه المحافظة على تركيا الضعيفة مخافة أن يهدد وجود حاكم قوي في الأستانة التوازن الدولي كما اعتاد المؤرخون أن يقولوا، فلو أن ذلك وحده كان السبب لكان أقل ما تجزى به مصر على انتصاراتها بقيادة محمد علي أن تقوم بنفسها دولة مستقلة غير خاضعة لأحد، لكن الدول أبت على مصر هذا الاستقلال وأصرت على أن تظل ولاية تابعة لتركيا، وإن كانت ولاية ممتازة مستقلة استقلالا داخليا كاملا، إنما كان السبب الصحيح تخوف أوربا من أن تستعيد مصر قوتها التاريخية المعروفة، وأن تنضم إليها فلسطين وسوريا كما كانتا منضمتين لها في أكثر حقب التاريخ، وأن تتحكم لذلك في حوض البحرين: الأبيض والأحمر، وأن يصبح سلطانها بالفعل خاقان البحرين كما كان علي بك الكبير يدعو نفسه في الفترة القصيرة التي استقل فيها بأمر مصر، ومهما يكن من أثر ذلك في تقوية الحضارة ورفع منار السلام فإن الفكرة الاستعمارية كانت قوية يومئذ في نفوس الساسة الأوربيين إلى حد جعلهم يضعون أساسا لسياستهم القضاء على قيام دولة في مصر لها هاته القوة والسلطان، وهذا وحده هو السر في إبائهم على مصر أن تستقل بإزاء تركيا التي ضعفت كل الضعف عن مقاومة جيوشها، والتي كانت معرضة لأن تقع هي وعاصمتها تحت سلطانها.
على أن هذا العسف من جانب أوربا لم يوهن عزيمة مصر، وقد ظل شعبها طوال القرن التاسع عشر كله متوثبا يريد تحقيق استقلاله على النحو الذي يستشفه القارئ من تراجم من ترجمنا لهم في هذا الكتاب، وهو هو ذا اليوم قد بلغ من مجهوداته في هذه السبيل مقاما محمودا، وهو لا ريب سيكون في المستقبل كما كان في الماضي عاملا من أقوى عوامل العرفان والحضارة والسلام.
القسم الأول
تراجم مصرية
كليوباترة
صورة تمثال لها في متحف الفن الحديث بروما.
كليوباترة اسم ساحر خلع عليه التاريخ وخلعت عليه الأساطير من ألوان الفتنة بهاء باهرا تضاءلت إلى جانبه أسماء الزهرة وأفروديت وسميراميس وسائر آلهة الجمال، وهاتاسو ونيفرت وسائر الملكات، بل تضاءلت إلى جانبه أسماء الملوك، والشعراء، والكتاب؛ فهي ليست جميلة وكفى، وليست مليكة وكفى، وليست ساحرة الحديث وكفى، وليست ذكية وكفى، وليست أديبة وكفى، بل هي ذلك كله وهي أكثر من ذلك كله، هي الفتنة والسحر والذكاء والأدب والنشاط وقوة الإرادة في أسمى ما تصوره معاني هذه العبارات، وهي مع ذلك آخر البطالسة الذين حكموا مصر عصورا طويلة كانت مصر فيها مهبط وحي الحكمة والشعر والجمال؛ لذلك لم يفت مؤرخ ولا قصاص ولا شاعر أن يتحدث عن كليوباترة وأن يتغنى بحياتها، وأن يصور هذه الحياة على النحو الذي يجب أن تكون؛ ولذلك كان ما أريق من مداد وما سود من صحف في الكلام عن هذه الملكة أكثر من مثله مما يمكن لأية إلهة أو ملكة أخرى أن تفخر به.
وكان حظ كليوباترة أن ولدت بالإسكندرية في عصر بلغ فيه نجم روما غاية سموه، وبدأت مصر فيه دور الترف الذي يسبق الانحلال، وكانت الإسكندرية في ذلك الحين عاصمة الدنيا ومستقر كل ما في الحياة من متاع ونعمة، فكان الناس يتكلمون فيها كل اللغات المعروفة، كما كانت الفلسفة فيها ناضرة مستقرة بكل نظرياتها المتضاربة استقرار جوار حسن ليس فيه شيء من الكفاح أو القسوة، فإلى جانب الأبيقورية الناظرة للحياة نظرة سرور بها وحرص عليها واستمتاع بكل ما فيها، المبتسمة سخرا منها وازدراء لها وإشفاقا على أهلها، كان الرواقيون ينادون بالزهد في الحياة والأخذ بأسباب التقشف واحتقار عرض الدنيا الزائل، وبلغ بعضهم من ذلك حد الدعوة إلى تعذيب الجسد لطهارة الروح، وإلى جانب مكتبة الإسكندرية العامرة الحاوية ثمانمائة ألف مجلد فيها ما شئت من ألوان الحكمة والعلم والتفكير والفن، كانت تقوم المراقص والملاهي، يهرع الناس إليها لينسوا أنفسهم في لهوها ولينهمكوا في ملذاتها وليمتعوا أبصارهم بجمال ساحراتها الراقصات والمغنيات.
وكانت هذه الحياة المتفجرة بينابيع الحكمة واللهو جميعا تموج في محيط بلغ كمال العمارة التي قامت خلال ثلاثمائة سنة كانت منذ أنشأ الإسكندر الأكبر المدينة عام ثلاثين وثلاثمائة قبل الميلاد سني نشاط وعظمة لمصر وفلسفتها وعمارتها، فقد اتصل ما بين هذا الثغر البديع الموقع في امتداده على شاطئ بحر الروم وجزيرة فاروس القائمة وسط البحر ترقب غدواته وروحاته بجسر هفتا البالغ غاية العظمة والجمال، والذي انتهى بالجزيرة إلى أن أصبحت جزءا من المدينة، واتصل بالنيل بقناة كانوب (ترعة المحمودية الحاضرة) التي لم تكن مجرد مجرى للماء والتجارة، بل كانت كذلك مجرى للمسرة والنعيم بما أحاط بها على مدى طولها من حدائق وأعناب ونخيل قامت في أثنائها منازل اللهو ودور المتاع تحيط بها جنات فيحاء جمعت كل أسباب النعمة من زهر عطر وفاكهة نضرة، فأما أهل هذه المدينة فكانوا أهل ذكاء وظرف، وكانوا حريصين على المتاع بكل ما في حياة مدينتهم الزاهرة متاعا عريضا، يتهالكون في ذلك على اللهو وعلى المسرة في مختلف صورهما وألوانهما، فكما كانت فراعنتها تفتن في الترف بما يعجز خيال كل مترف في عصرنا الحاضر، كان الشعب - رجالا ونساء - منغمسا في حمأة اللذائذ الدنيا مسلما نفسه إليها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، لكنهم كانوا مع ذلك أميل للاستخفاف بالحياة وما فيها ولو بلغوا من الحياة أعظم مكان، وأي استخفاف أشد من استخفافهم بالفراعنة الآلهة حتى لقد دعوا جد كليوباترة البطين ودعوا أباها بطليموس أوليتا أي العازف بالناي.
وكانت كليوباترة شديدة الولع منذ صباها بالتجول في أنحاء الإسكندرية والوقوف على كل ما في هذا العالم العامر بكل ما في العالم من حياة وحضارة، وفي تجوالها هذا عرفت وتعلمت كثيرا، عرفت كل ما وقعت عليه عيناها الواسعتان الجذاب دعجهما الساحر، وكل ما أحاط به ذهنها الحاد، وتعلمت اللغات والآداب وطرائق التعبير العزيزة على مدرسة الإسكندرية يومئذ، والتي تمتاز بالتورية والرقة والقوة، وكان لها بالكتب ولع وغرام ليس مثلهما ولع ولا غرام، وكانت أميل للشعر وأشد لذلك تفضيلا للأوديسي على التوراة وعلى كثير من كتب الحكمة.
وفي هذا الصبا الناعم عرفت وارثة عرش بطليموس الثاني عشر من ألوان الترف وتذوقت من صوره ما لم يعرفه ولم يتذوقه غيرها ممن لم يؤت ذكاءها ولا علمها باللغات والآداب، فقد كان أبوها الفرعون العازف بالناي المستغرق في ملاذ الحياة بما استحق معه لقب إله الخمر ديونيزوس يدللها بكل ما يلهمه ملك مترف معجب بابنة ليس لها في بنات حواء مثيل، فكان يطوف وإياها مدائن مصر ويركب وإياها النيل من الإسكندرية إلى طيبة ذات الأبواب المائة، يقفان عند ما يحلو لهما الوقوف عنده من المدائن العامرة بآثار مصر القديمة، فإذا تركا طيبة إلى أنس الوجود أقاما فيه من الحفلات ما يجل عن الوصف، وما ليس له مثال إلا فيما أقامته كليوباترة من المآدب لأنطونيو حين غرامه بها ودلها عليه.
على أن الصبية لم تبق في هذا النعيم الملكي طويلا، وإن كانت لم تحرم منه إلا لتعود إليه فتكون به أكثر متاعا، ذلك أن أباها طرد من مصر فالتجأ إلى سوريا حتى عاد مع جند الرومان الذين أوفدهم بومبي، وكان أنطونيو على رأس فرقة من هذا الجند تحت قيادة جاليوس، فذهب مع بطليموس الطريد حتى دخل وإياه الإسكندرية دخول الظافر.
وكانت كليوباترة يومئذ في الرابعة عشرة من عمرها، فلما أيقنت بانتصار أبيها وبعودته إلى مدينة النعيم اجترأت على اختلاس شارة الملك من برنيس زوج أركايلوس خصم أبيها، وجلست مع خديناتها في شرفة القصر وقد ارتدت ثوبا رقيقا أبيض بدا فيه جمالها الساحر أشد سحرا برغم أنه كان في بدء ترعرعه، ولما أقبل أبوها بعد دخول أنطونيو على رأس الجند إلى القصر أمامه شقت هي وسط الجمع طريقا واندفعت تعانق أباها باكية من شدة التأثر، وكانت هذه أول مرة رأت فيها عين الروماني الفاتح الطويل القامة العريض الأكتاف الشره إلى كل لهو ومسرة، تلك الفتاة الطفلة ما تزال، والتي برعت برغم ذلك كل قريناتها من فتيات القصر ونسائه، ولم تنس كليوباترة في دلها وتيهها أن توجه إليه نظرة حلوة فيها أكثر من معنى الاعتراف بالجميل لرده أباها إليها وإلى ملكه.
وعاد أنطونيو إلى روما وعاد بطليموس إلى الحكم وإلى اللهو يستمرئ مرعاه ويمعن فيه بعدما حرم زمنا منه، وكانت ابنته تطوف وإياه أنحاء البلاد ينزلان في المدائن العامرة ويقيمان فيها من أسباب اللذة ما لا يباح لفتاة أن تعرفه، وظلا على ذلك ثلاث سنوات تباعا انتهت بموت الأب بعدما أوصى بالملك لكليوباترة ولأخيها بطليموس الطفل الذي لم يكن يزيد يومئذ على اثنتي عشرة سنة على شريطة أن يتزوج من أخته، وكان زواج الأخ من أخته متعارفا في الأسرات الملكية يومئذ لحرصها على ألا يختلط دمها الفرعوني المستمد من الشمس كبيرة الآلهة بدم الرعايا، وإذ كان هذا الأخ قاصرا عين له قوام ثلاثة اشتركت الملكة معهم في الحكم وإن استأثرت به دونهم إلى حد عظيم.
وقد ملكت قلب المصريين في الفترة الأولى من فترات حكمها بما كانت تغدقه عليهم من صنوف المتاع وبسحرها إياهم بفتنة جمالها، حتى دعيت إذ ذاك حبيبة الشعب وملكة كل نعيم ، لكن عهدها بذلك لم يطل، فقد بعث منيلوس يطلب إليها إرجاع الجند الرومانيين الذين ظلوا عندها، وإذ كان هؤلاء الجند قد استوطنوا الإسكندرية وتزوجوا فيها ومتعوا بنعيمها فقد أبوا مغادرة مصر واستغاثوا بالشعب، ثم جاء من بعد ذلك ابن بومبي لنفس القصد، وكان لأبيه على أبيها فضل إعادته إلى ملكه مما أجلسها هي على العرش بعده؛ لذلك رأت واجبا عليها أن تحسن وفادته، وقابلته فرأت فيه غير أخيها الطفل الذي فرضه الملك زوجا لها، فقبلته ضيفا في قصرها وأجابته إلى ما طلب أن كان أبوه يومئذ في حرب مع قيصر، وقد غاظ ذلك أخاها منها فانضم إلى المؤتمرين بها وعاون على انتقاض الشعب عليها ومحاولته قتلها، وإذ كانت لا تملك الفرار من طريق البحر فرت في ذهبية إلى الصعيد كسيرة القلب أن لم يفعل جمالها في أولئك السكندريين فعله، ونزلت طيبة على صورة لم تعهدها أيام زيارتها المدينة الخالدة مع أبيها المترف المتلاف، وبدلا من أن تجعل مقامها في طيبة الأحياء جعلت مقابر الملوك موضع نجواها كأنما كانت تريد أن ترقد بينهم تنتظر البعث وإياهم آملة في الآخرة ملكا أكثر من ملك مصر ثباتا، لكن أصواتا انبعثت إليها من جوف مقابر هؤلاء الفراعنة العظام تناجيها: أن لا ملك بغير إقدام ولا جلالة من غير كبرياء ولا حكم لمن لم تملك نفسه شهوة الفتح، وأيأستها دعة المصريين من أن تجد منهم أي عون أو مدد، ففرت إلى سوريا وهي في مقدرتها على سحر أهلها أكبر أملا وفي فتنتهم بجمالها أشد ثقة ولم يخنها حدسها، فما كادت تستقر في ربوع الشام حتى سحرت أهلها بجمالها وبلاغتها وإقدامها فالتفوا حولها واجتمع منهم جيش سارت هي على رأسه ممتطية جوادها، لكن المصريين بعثوا هم الآخرين بجيوشهم ورابطوا على حدود ما بين مصر والشام، ووقف الجيشان وجها لوجه لا يلتقيان.
وفي هذه الأثناء هزم قيصر بومبي في موقعة فرسالا وفر المنهزم إلى مصر عله يجد موئلا في بلد له عليه وعلى القائم على عرشه فضل سابق ، لكن أوصياء بطليموس الطفل علموا أن قيصر يطارد غريمه، وخشوا إن هم حموا هذا الغريم أو ألجأوه أن يصب عليهم قيصر جام غضبه، فقتلوا اللائذ بهم، فلما نزل قيصر عليهم وعلم ما فعلوا ركبه الهم وحزن غاية الحزن وأمر أن تقام لبومبي أفخر طقوس الجنازة.
وعرفت كليوباترة أمر ذلك كله، وعرفت أكثر منه أن قيصر لما علم بما بينها وبين أخيها من حرب نصب نفسه حكما بينهما عملا بوصية أبيها أن تحمي روما ملك أبنائه من الشتات والدمار، هنالك فكرت في أن تلجأ إلى هذا الحكم ترفع إليه ظلامتها غير جاهلة ما قد يحمله لها من ضغن أن حمت ابن خصمه وأن مدت بومبي بالرجال والذخيرة، لكنها كانت واثقة من سحرها مطمئنة إلى مقدرتها وفتنتها مؤمنة بأن لا نجاح من غير إقدام، وزادها طمأنينة ما كان من بكاء قيصر حين علم بقتل بومبي، فتركت الجند واستصحبت مؤدبها الأمين أبولو دور، واجتازا طريق البحر حتى وصلا أمام الإسكندرية، بقي أن تدبر الوسيلة للمثول في حضرة قيصر، وكليوباترة نحيفة القوام بضة لينة الملمس، فليس يعجز أبولو دور أن يحملها وأن يزعم أنها بعض المتاع وأنه من رجال روما يريد إيصال ما يحمله لقيصر، فالتفت الصبية الفاتنة في بعض أسمال وأردية من غير أن تبدل شيئا من زينتها الملكية وعطرها، وحملها مؤدبها على كتفه، وزعم حين سأله الحراس عن غايته أنه موصل ما يحمل إلى بعض ضباط قيصر، واجتاز معسكر الرومان حتى أنزل حمله في رفق أمام الظافر على عاهل روما، الباكي عليه حين وفاته.
وكانت هذه هي الساعة التاريخية التي اتجه فيها الزمن غير وجهته، الساعة التي وقف إزاءها القصاص والمؤرخون، أذهلهم البهر وسحرتهم الفتنة كما أذهلا قيصر وسحراه، نضت الملكة الصبية ما التفت به من أطمار وأسمال وبدت في زينة الملكة وعطرها وجلالها، أكانت طويلة أم قصيرة؟ أكان أنفها كبيرا أم صغيرا؟ لم يعرف قيصر في هذه اللحظة من ذلك شيئا، واختلف المؤرخون فيه خلافا كبيرا، وكأنما كان لجمال هذه الفاتنة من الروعة ما لأشعة الشمس من قوة تحول دون التحديق بها، وكأنما بقي هذا الجمال في قوة سحره بعدما مر على صاحبته من عصور وقرون، فكل يختلف في صورته وفي قسماته، على أن كليوباترة لم تحاول فتنة قيصر بجمالها، بل ارتمت عند قدميه ضارعة مستغفرة، وجعلت تتكلم وتشكو وتستعطف، وكان صوتها أفعل سحرا من جمالها، وكانت عبارتها أنفذ إلى القلب من صوتها إلى شغاف الفؤاد، ومن جمالها الذاهب باللب.
جعلت تتكلم وتشكو وجعل قيصر ينصت ويصغي، ثم صار لا يسمع دفاعا ولا شكوى بل أنغاما دونها صوت البلبل وعزف الناي وانتهى بكليوباترة وبه الأمر أن وقفت وجثا هو على قدميها ضارعا مستغفرا، ثم حملها على كتفه كما حملها إليه أبولو دور وذهب بها إلى مضجعه.
وكان قيصر برغم تجاوزه الخامسة والخمسين محبا للنساء، كما كان مثار إعجابهن بقوامه ونظرته وبروحه المذهب الرقيق وعزمته الصادقة القوية؛ لذلك اتصل بينه وبين كليوباترة منذ هذه المقابلة الأولى بما سحره عن كثير مما كان اعتزم لمجده ومجد روما، وجلست هي إلى جانبه في قصرها المنيف تعجب به وتثير إعجابه، وملكته حتى لم تبق في شك من حكومته بينها وبين أخيها، ودعا هو أخاها الطفل ليصلح بينهما، فلما دخل عليهما قرأ في عيونهما ما هاج الدم في عروقه الضعيفة، وما دعاه ليلقي التاج عن رأسه، وليخرج صائحا في الشعب وفي جند روما داعيا إلى الثورة على أخته وعلى قيصر لعهر كليوباترة ولخيانة صاحبها، ولم يرد قيصر أن يقاتل لقلة جنده ولحرصه على استبقاء هذا الطفل مغمضا عينه على ما يفعل الحبيبان، فاسترضاه وصالحه على تنفيذ وصية أبيه بإشراف روما، ورضي الغلام آملا أن يطمئن له الأمر فيصير ملكا وفرعونا وإلها، وظل هو وكليوباترة يرتشفان من كأس الحب وينهلان أعذب موارد الهوى بما يتفق وروحيهما المهذبين، ولقد كانا بذلك سعيدين كل السعادة، ولم يكن ورد سعادتهما مقصورا على اتصال الغرام بين ابنة الملك العازف اللدنة القوام، الموسيقية الصوت والنفس، الرطبة الخلق، الندية النظرة الرشيقة رشاقة الراقصة ، وبين قيصر الساحر الحلو الحديث، بل كان ورد سعادتهما الحق هو الحب، كبل كل واحد منهما صاحبه بأغلال هذه العاطفة القاسية السامية في قسوتها فسعد كل بأغلاله، وكانت كليوباترة أكثر سعادة لأنها استردت مع هذا الحب ملك مصر، ووضعت يدها على تاج روما وصرفت قاهر السكسون والجرمان وسائر دول أوربا عن حروبه في سبيل الجمهورية ليحارب في سبيلها وليقهر أوصياء أخيها، وليثبت لها أركان عرشها بعدما ثبتت في قلبه، وظل كذلك ستة أشهر لا يعرف من أمر روما شيئا ولا يبعث إلى روما بخبر، وإن عرفت روما من أمره مع ملكة مصر كثيرا، وزادت به ارتباطا وازداد لها عبادة حين حملت منه، إذ ذاك لجا في أسباب المسرة يلتمسانها في كل مكان ويرتجيان النعمة من كل الآلهة، فأقاما أعيادا عند الأهرام وأبي الهول، وفي أبيدوس عند قبر إيزيس وأوزوريس، وفي دندرة حيث معبد هاتور إلهة النسل الخصب وفي طيبة ذات الأبواب المائة، وفي أنس الوجود، وفي كل معبد وعند كل إله.
ووضعت كليوباترة غلاما دعته قيصرون وخلعت عليه كل ألقاب الفراعنة آلهة مصر وعواهل روما وحكامها، ثم أبحر قيصر إلى روما ولحقت هي به في أبهة الملك وجلاله، وفي حاشية ليس للرومان بها عهد، وقيصر ظافر والشعوب عباد من ظفر، وقد أقام لمناسبة عودته أعيادا أسرف خلالها فيما خلعه على الشعب من أعطيات ونعم زادت الشعب له عبادة وأنسته ما كان من انصراف قيصر عنه إلى كليوباترة عاما كاملا، لكن هذا الشعب لم يعجب من كليوباترة بجمالها الرائع المترفع، لأن زعماءه وقادته جعلوا يستعطفونه على كالبورينا زوجة قيصر.
ولم يعن قيصر من ذلك بشيء، بل أقام لابنة بطليموس قصرا على نهر التبر جمع فيه من ألوان النعيم ما أبدعه خيال الملكة، وجعل يزورها فيه فتقيم له من المراقص وصنوف اللهو ما ينسيه كل هموم الحكم ومتاعبه، ثم جعل يستقبل أصحابه في قصر التبر ولا يخفي عليهم من صلته بكليوباترة شيئا، وبالغ في الحفاوة بها حتى أقام لها هيكلا نصب فيه تمثالها على صورة الزهرة إلهة الجمال والحب، ودار في خاطره أن يتزوج منها برغم وجود كالبورينا زوجته وبطليموس الطفل زوجها، ومع أن مجلس الشيوخ لم يكن ينظر إلى هذا الزواج بعين الرضا فقد فكر في أن يعدل قوانين روما بما يبيح للرجل أن يعدد زوجاته ما دام لا عقب له، ولقد كان فاعلا وكان قيصرون يصبح يومئذ وارثه على عرش روما ويتغير وجه التاريخ وتبقى مصر مقرا للحضارة كما كانت لولا أن دبرت المؤامرة لقيصر وأن قتله أصحابه يوم أعياد المريخ في العام الرابع والأربعين قبل الميلاد.
بكته كليوباترة ثم عادت إلى مصر مع حاشيتها وأبنائها، وتركت أخاها الملك زوجها فنسيه التاريخ ولم يعرف أحد عنه بعد ذلك خبرا، وأقامت بالإسكندرية متوجسة خيفة أن يوقع بها خصوم قيصر وقتلته، لكن الحروب التي قامت بين أصدقائه وقتلته انتهت بانتصار أنطونيو وأصحابه في موقعة فيليب، ولم يزل ذلك وجلها وظلت في خشية من أن ينزل أكتاف ابن أخت قيصر مصر وهو لابنها من قيصر ألد عدو، لكن نجمها كان ما يزال نجم سعادة، فتقاسم المنتصرون ملك روما ووقع الشرق لأنطونيو، وأنطونيو صديق قيصر ومحبه، وأنطونيو رجل شهوة لا صبر له أمام امرأة، وأنطونيو معجب بجمال كليوباترة منذ سنين، عابد إياها مذ كان يزور قيصر في قصر التبر، مع ذلك لم تر كليوباترة أن تبعث إليه وفودا تهنئه بالملك كما بعثت سائر ممالك الشرق التي وقعت في حكمه، وهي لم تمده في حروبه مع قتلة قيصر بمدد من مال أو رجال، فغاظ ذلك أنطونيو وبعث إليها رسولا أن تحضر بنفسها لتدافع عن ذنوبها، وظل الرسول في قصرها أياما عاد بعدها مسحورا بها آخذا نفسه بالدفاع عنها حتى تحضر إجابة لطلب سيده، وبقيت هي زمنا تعتذر عن عدم مسارعتها لاجتياز البحر بشتى الأعذار، وبقي رسول أنطونيو خلال ذلك يحدثه عن فتنتها بما أذهب صبره، ثم بعثت هي أنها آتية إليه في تارسيس وذكرت موعد وصولها فخف الحاكم إلى المدينة ينتظرها، وأقبل أسطولها يشق عباب البحر حول سفينها السابح تدفعه أشرعة من خز، ويحمل مقدمه الرفيع تمثال آلهة البحر، وتبدو في وسطه مقاصير زينت بأفخر الرياش، وقد ذهب بالشعب لما رأى كل هذا الجمال والجلال فصاح: «هذه أفروديت بل هذه الزهرة أتت تزور إله لهونا المحبوب.»
وبعث أنطونيو برسوله يدعوها للعشاء عنده، فاعتذرت بأنها متعبة ودعته إلى سفينها، فلم يغضب ولم يتردد بل طار إليها وقضى شطرا من الليل في حضرتها نسي فيه الذنوب ونسي العقاب ونسي كل شيء غيرها، ثم دعته في الليلة التالية إلى وليمة عشاء في قصرها ودعت معه جمعا من الأمراء وأرباب الدولة، وما كان أشد بهرهم حينما رأوا الليل ينقلب في ذلك القصر نهارا ورأوا فيه من التماثيل والآنية والطنافس والخدم وألوان الطعام يتناولونها وتطربهم أنغام الموسيقى تطير في الجو مع ريح العطر والزهر، وتمتزج مع أنغام أجسام الراقصات اللدنة بما لم يحط به خيال أحد منهم من قبل، وكليوباترة وسط هذا الجمال الساحر أروع فتنة وأشد سحرا، وأبدى أنطونيو دهشته متى نظمت الملكة هذا القصر وما فيه، فابتسمت قائلة: إنه رسولها الذي بعثت به من أسابيع ثلاثة هو الذي صنع هذا بأمرها.
ودعاها أنطونيو إلى قصره ودعا معها الأمراء وحاول أن يجاريها في البذخ والنعمة ثم ابتسم آخر الوليمة أن رأى محاولته عبثا، ودعته وأمراءه إلى وليمة ثانية قالت إنها تكلفها ثلاثة ملايين درهم فأنكر أنطونيو ذلك عليها، وراهنته إنها فاعلة، وكلف هو أحد الأمراء أن يحصي التكاليف، ولما رأى أن لم تزد الملكة شيئا على ما فعلت في الوليمة الأولى أبدا لها أنه قمرها، فاستمهلته وخلعت من أذنها قرطا فيه جوهرة منقطعة النظير كان الإسكندر أهداها لبعض أسلافها وألقت بها في كوب به خل، فذابت وشربت هي الكوب وما فيه وقمرت أنطونيو، وظلت فعلتها هذه يقصها المؤرخون على أنها بعض العجائب.
وأسرع أنطونيو بالنظر فيما لديه من شئون الملك وعاد وكليوباترة إلى مصر واندفعا في سبيل الغرام تهيج سماء مصر في نفسيهما ما انطوتا عليه من حب اللذات واستباحة كل ألوانها والافتنان فيها، على أن أنطونيو لم يكن مهذبا كقيصر، بل كان جنديا خشنا فج الذهن لا يعرف الرقة ولا يحيط من الأدب أو اللغات بشيء، وإنما حببه إلى الجند ورفعه إلى مقام قيصر سهولة في العبارة التي كان يخطبهم بها ونزول منه إلى مشاركتهم في تذوق اللذات الدنيئة السافلة التي كانوا يتذوقونها، فلم يكن حي من أحياء الدعارة في روما أو بغي من بغاياها لا يعرفه، وكان من أسباب فخره أن أعقب من الأولاد حيثما ذهب ما لا عدد له، فألفت فيه حياة بهيمية قوية لم تكن في قيصر، ولكنها لم تجد فيه حياة العاطفة الإنسانية التي تغذي القلب، وإن قصرت عن إلهاب الدماء، على أن هذا الخلاف بينهما اضطر أنطونيو إلى أن يتعلم ويحضر من الدروس ما يخفف من شعوره بأنه دون كليوباترة، ودفعها هي لتنزل عن التفنن في رقة المتاع إلى هذه البهيمية الثائرة، وقد أنفت ذلك في بادئ الأمر حين كان حرصها على أنطونيو راجعا إلى حاجتها السياسية له، لكنها تذوقته بعد ذلك وبلغت من تذوقه أن لم تكن تطيق مفارقة صاحبها حين جولاته في أحياء الدعارة واللهو، ولم تأنف أن تدفع بكتفيها أيا من رجال تلك الأحياء ونسائها على طريقتهم، وبقيا غارقين في نعمتهما حتى حملت، وخيل إليها أن سيربط الحمل بينها وبين صاحبها كما ربط بينها وبين يوليوس من قبل، لكنه رآها ثقلت حركتها وخمد شعاع روحها، فعاد يفكر فيما كان غافلا عنه من شئون الدولة، ورأى أن لا مفر له من العودة إلى روما ليصالح أكتاف بعدما حزبت عليه فلفيا زوج أنطونيو وهبت لمحاربته، وليستعديه على أهل فينيقيا والشام الذين انتقضوا على روما وخلعوا نيرها، ولم تجد توسلات كليوباترة إليه كي يبقى ولو إلى حين وضعها، فلما قابل فلفيا في اليونان أنزل عليها من سخطه ما كسر قلبها، وغادرها إلى روما فماتت قبل وصوله إليها، وأصلح موتها بينه وبين أكتاف وتزوج من أخته أكتافيا برضا مجلس الشيوخ، وكانت أكتافيا عدل كليوباترة في سنها وجمالها، وكانت أم طفلين من زوجها الأول، محبة لحياة العائلة ونظامها بما يسر لها أن تسير زوجها وفق رأيها، فأنطونيو ككل رجل له مثل هذه الطبيعة الحيوانية يهون على كل امرأة أن تقوده، ولقد ذهبت معه إلى اليونان وظلت معه زهاء ثلاثة أعوام أعقبت له في أثنائها ابنين شغلت بهما وبأولادها الآخرين وبأولاد أنطونيو من فلفيا، فأحرج ذلك صدر أنطونيو منها وجعل يراها أما لا يعنيها منه إلا أبوته لأبنائها، من غير أن تعير مجده ولا عظمته اهتماما كالذي كانت تبديه كليوباترة، إذ كانت تدعوه أنطونيو الأكبر، وبلغ من حرج صدره أن اتهمها بأنها أحن على أخوتها لأكتاف منها على زوجيتها له، ثم بعث بها إلى روما وانطلق هو إلى سوريا يجني ثمار النصر الذي أحرزه بعض قواده.
في هذه السنوات الثلاث كانت كليوباترة تعاني من الهم والألم أشدهما تبرما ولذعا، علمت بما كان من زواج أنطونيو وأكتافيا على أثر وضعها توءمين دعت أحدهما الشمس والأخرى القمر، فاضطربت للخبر وما كانت من قبل تضطرب من خشية امرأة، وزاد في مخاوفها ما قد يؤدي هذا الزواج إليه من القضاء على آمالها في قيام قيصرون مقام أبيه، هنالك غادرت الإسكندرية إلى دندرة وشغلت نفسها بأن أقامت لهاتور معبدا ثم انقبضت نفسها لهذه الوحدة التي أحاطت بها فعادت إلى عاصمتها وشغلت نفسها من جديد ببناء قبرها، وكان أكبر جهادها أن تنسى أنطونيو باستدامة العود إلى تذكر قيصر، ونجحت في ذلك نجاحا سرها، لكن هذه الذكرى وذلك الاشتغال بما بعد الموت لم يكونا ليتفقا مع ما يتحرك به الشباب في جسد اعتاد ملذات النعيم ثم قسر على عفة قاسية، فعادت إلى مثل ما عودها أنطونيو من المرح في الأنحاء التي يلهو الشعب فيها، لكن ذلك لم يطفئ من رغباتها ما كان كامنا.
ولما عاد أنطونيو إلى الشام بعث إليها رسولا يستقدمها إليه بأنطاكية، ويل له من جريء! أيظن أن ملكة الملوك تطير إليه بعد أن نسيته، بل بعد أن أبغضته وبعد أن هجرها إلى أحضان امرأة غيرها قضى معها أكثر مما قضى مع كليوباترة؟ لكن لا! تضاءل ذلك كله أمام دعوته إياها فطارت تعد عدتها للسفر واجتازت البحر إليه لائمة عاتبة، وكفاها أن أقسم لها أن قلبه لم يعرف غيرها ولم يتعلق بسواها لتعود وإياه سيرتها الأولى، وأنطاكية كانت ثالثة مدائن بحر الروم بعد روما والإسكندرية، فكان لهما فيها من مسارح اللهو ما يسد كل شهواتهما، ولكي تؤمن بحبه إياها عقد عليها زواجه منها وخلع عليها ثلاث ولايات بدل ثلاث السنوات التي غابها عنها.
وبعد زمن نهلا فيه ما طاب لهما من ورد النعيم جهز لمحاربة خصوم روما فيما وراء الفرات، ورفض مشيئتها أن تصحبه لما في ذلك عليها من مشقة، لكنه عاد إلى سوريا محطما جيشه، فجاءت إليه من خير مصر مالا ورجالا بما أنساه هزيمته، وأقامت معه فأنسته فتنتها كل متاعبه، ثم تلقى رسالة من زوجه أكتافيا أنها آتية من روما في عدة وعديد، فتأثر حين رآها تقابل صده لها وجفوته إياها بهذا الكرم والإخلاص والحب، لكن كليوباترة وقفت في سبيل ما أتت أكتافيا فيه، ورفض أنطونيو أن يرى أخت عاهل روما أو أن يقبل منها مددا، فعادت إلى المدينة الخالدة ذات التلال السبعة مقهورة آسفة.
وعد الرومانيون هذه الفعلة على أنطونيو، فلما استرد قواه عاد فحارب خصوم روما وانتصر عليهم، لكنه بدلا من أن يحتفل بانتصاره في روما ذهب يحتفل به في الإسكندرية ويعتبرها عاصمة تعادل روما، وذلك ما لا طاقة للرومانيين باحتماله، فأثار أكتاف الرومان عليه، وابتهجت كليوباترة لذلك وجهزت أسطول مصر الضخم، وسارت وأنطونيو إلى أثينا في انتظار ما ستتمخض عنه الحوادث راجية الانتصار على أكتاف حتى تجلس قيصرون على عرش أبيه، لكن نجمها كان قد بدأ ينحدر نحو المغيب، فقد التقى الأسطولان في (أكسيم) وكانت الملكة في سفينتها «الأنطونياد» في مؤخرة الأسطول المصري ترقبه، وبدأت المعركة يحمى وطيسها وشعرت الملكة بأن حلمها أن تحكم روما وأن تقيم ابن قيصر مقام أبيه على عرش الغاصب أكتاف يتلاشى ، عند ذلك طار صوابها وتولاها الذهول، فلما أفاقت ألفت الريح تهب نحو مصر فأمرت رجالها بالعودة، وما يزال الأمل في النصر مضطربا بين العسكريين، والتقطت أنطونيو من سفينته وأخذته معها في «الأنطونياد» وعادا إلى مصر وقد تولاه الأسى أن رأى نجمه يأفل وعظمته تذوي وتذبل.
فأما كليوباترة فلم تفل الهزيمة من غرب عزمتها، بل نقلت أسطولها برا من البحر الأبيض إلى البحر الأحمر راجية أن تغزو الهند على نحو ما كانت تفكر مع قيصر، لكن هيرود عدوها في سوريا لم يمهلها أن قتل رجالها وأحرق سفنها، هنالك تحطمت كل آمالها الإمبراطورية واضطرت أن تقف كل حياتها ونشاطها على الدفاع عن مصر.
أسلم أنطونيو نفسه للشراب ليله ونهاره آملا أن ينسيه الشراب هم انكساره، وظل في شرابه حتى علم أن أكتاف آت من طريق سوريا لغزو مصر وأكبر همه أن يطفئ حياة ابن قيصر وكانت مشابهته لأبيه أكبر شهيد على اغتصاب ابن عمه عرش روما، وأخذ أنطونيو قيادة جيوش مصر لكن الحظ إذا عثر لج به العثار، فانهزم أنطونيو فعاد إلى قصر كليوباترة وأمر أحد عبيده أن يقتله، فأمسك العبد الخنجر وتظاهر بطعن سيده ثم طعن نفسه فهوى فأصغر ذلك أنطونيو في عين نفسه فقضى عليها بأن ألقى بنفسه على النصل وذهب يعالج آلام الاحتضار يسلكها سبيلا لراحة الموت، وقضى بين ذراعي محبوبته الفاتنة، فبكته أحر بكاء ثم دفنته في القبر الذي شادته حين هجرها، وبالغت في الحزن عليه لما أحست من سوء ما أعد لها القدر من مصير بعده.
ودخل أكتاف الإسكندرية ظافرا وكل همه أن يقضي على ابن عمه الذي فر من وجهه وحاولت كليوباترة أن تلعب به كما لعبت من قبله بقيصر وبأنطونيو، وفي سبيل أبنائها وفي سبيل ملك قيصرون لم تكن لتعنى بشيء أو تتورع عن شيء، وبرغم حزنها على أنطونيو وجزعها على مصيرها ومصير أبنائها ولزومها القبر تقضي فيه وقتها باكية مكتئبة فقد ظفر أكتاف منها بساعات حديث شهي، وكان كل همه أن يأخذها إلى روما وأن تسير في حفلات نصره ليرضي بذلك شهوة انتقامه وانتقام أخته منها، وليقدم للشعب الروماني منظرا تبتهج له قلوب الشعوب، منظر ذل العزيز، وعرفت هي هذا فثارت في عروقها كل دماء البطالسة فراعنة مصر الأعظمين، لكنها لم تكن قادرة إلا على نفسها، وكانت قدرت هذا المصير ووطنت عليه نفسها وأوصت خادما من أتباعها أن يحضر لها ثعبانا في فاكهة طعامها يوم تشير له إلى جبينها، وأشارت على هذا الجبين المصقول يوم أيقنت أن أكتاف غريمها يريد أن يذلها، ونزعت التين واحدة بعد واحدة ثم أمسكت الثعبان فوضعت فمه في ثديها ليبعث إليها الموت من خلاله، وكم بعث هذا الثدي الحياة إلى أبنائها وإلى الذين أنعمت عليهم الآلهة بالمتاع بها.
وكان معها خادمتاها إيراس وشارميون فشاركتاها مصيرها بعدما حلتاها بكل حلي ملكها الذي تحطم، والذي حاربت حتى المقادير في سبيل عزه ورفعته منذ مولدها إلى مماتها (من سنة 69 إلى سنة 30 قبل الميلاد).
ويومئذ ذهبت إلى بارئها أرواح كثيرين من عشاق فاتنة التاريخ، ويومئذ انطفأ نجم كان منيرا في سماء الجمال والذكاء والقوة والنشاط، وانطفأ معه سراج أسرة البطالسة كما انطفأ من مجد مصر حظ عظيم.
الخديو الأول إسماعيل باشا
لئن صح أن كان لولاية محمد علي حكم مصر أثر مباشر في تاريخها الحديث، وصح أن كان لشق قناة السويس أثر مباشر كذلك في توجيه هذا التاريخ وجهة خاصة، فالذي لا ريب فيه أن أكبر الأثر الذي خضعت وما تزال تخضع له مصر حتى الآن إنما ترتب على حكم إسماعيل باشا، فأكبر مظاهر الحضارة التي تراها اليوم في مصر يرجع إليه: إليه يرجع فضل إنشاء السكك الحديدية وتنظيم البريد، وله الفضل الأول في النظام القضائي القائم في مصر حتى اليوم، وله أكثر من ذلك كله الفضل الأكبر في شعور الأمة المصرية بقوميتها وبكيانها، ثم إن عليه تبعة الارتباك السياسي الذي لا تزال مصر تجاهد بكل قواها للخروج منه، وتبعة الاضطراب المالي الذي شل حركة البلاد سنوات طويلة وهو ما يزال إلى اليوم باقي الأثر، وعليه أكثر من ذلك كله تبعة تسليم البلاد ماليا واقتصاديا وسياسيا إلى أيدي الأجانب.
فهذه الستة عشر عاما التي رأته على عرش مصر (من سنة 1863 إلى سنة 1879) والتي شهدت من مظاهر النشاط المعمر، ومن فضائح الظلم المخرب، ومن البذخ والإسراف اللذين لا يعرف التاريخ ولا تعرف الأقاصيص لهما نظيرا، والتي انتهت بسقوط عاهل مصر العظيم بعد أن جاهد أمته فأجهدها، وبعد أن جاهد أوربا فأخضعته لها، وبعد أن جاهد القدر فهوى به عن عرشه وأخرجه من مصر حسيرا ينظر إلى شواطئها تبتعد عنه بعين دامعة وقلب كسير، هذه الستة عشر عاما هي التي جرت إلى مصر مظاهر الحضارة الأوربية، وهي التي جرت على مصر الخراب، وهي التي أيقظت في شعب مصر الروح الاستقلالية التي لم ينسها يوما من الأيام، وهي التي أججت في نفوس المصريين نيران كراهية الاستعباد والظلم والحرص على الحرية والعدل.
ولم يكن عجيبا أن تترك هذه الأعوام الستة عشر في مصر كل هذا الأثر وإسماعيل باشا كان حاكم مصر المطلق، فقد كان بشخصه بطلا من أبطال الأقاصيص، وكانت أيام حكمه أسطورة لا يسلم العقل بها لو رواها التاريخ عن عصر قديم، كان إسماعيل ساحرا أعظم السحر، ذكيا أشد الذكاء، وسيم الطلعة حاد النظرة ماضي العزيمة جذابا لكل من اتصل به، وكان مع ذلك قصير النظر شرها في كل مطامعه وشهواته مغامرا في سبيلها مجازفا لا يهون منها أي حذر، وكان فيه من دم محمد علي إقدام لا يعرف التردد، وبطش لا هوادة فيه، وقسوة لا يتسرب إليها أمل في رحمة، وكانت هذه الصفات كلها بالغة منه فوق ما تبلغه من أذكياء الناس والباطشين منهم، ثم إنه كان مولعا أشد ولع بالمظاهر الاجتماعية للحضارة الأوربية، وإن غاب عنه الجانب المعنوي منها، وهو الجانب الذي يحركها ويمدها بكل ما فيها من قوة؛ لذلك سخر ذكاءه وإقدامه ليجعل لعرش مصر مظاهر العروش الأوربية، وليكون قصره كقصر لويس الرابع عشر إن لم يكن أبهى منه وأزهر، وليقول عن مصر إنها أصبحت قطعة من أوربا، وفي سبيل ذلك أنشأ كثيرا وخرب كثيرا وأثقل كاهل مصر بدين ما تزال تنوء إلى اليوم به، وما تزال تحتمل بسببه نقصا في سيادتها وذبولا في استقلالها وعزتها.
ولد إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي بمصر في 31 ديسمبر سنة 1830 وتربى في المدرسة التي أنشأها جده محمد علي باشا بالقصر العالي، ثم أوفده جده لما بلغ السادسة عشرة من عمره مع طائفة من الشبان إلى باريس حيث التحق فيها بمدرسة أركان حرب
L’ecole de l’etat major
ثم عاد إلى مصر بعد أن أتم بها دراسته.
وكان عباس الأول والي مصر يومئذ، وقد حدث خلاف بينه وبين أفراد العائلة ومن بينهم سعيد باشا على اقتسام التركة، فذهبوا إلى الأستانة يحتكمون إلى جلالة السلطان، وفض السلطان النزاع بأن أوفد اثنين من رجاله إلى مصر سويا الخلاف، وعاد أفراد العائلة العلوية خلا إسماعيل الذي ظل بالأستانة وعين فيها عضوا بمجلس أحكام الدولة العلية.
وفي سنة 1854 تولى سعيد باشا أريكة مصر خلفا لعباس الأول، فاستقدم إسماعيل وجعله على رئاسة مجلس أحكام مصر في مثل وظيفته التي كان يشغلها بالأستانة، ولم يكن إسماعيل يومئذ وليا للعهد، بل كان أخوه أحمد أكبر رجال العائلة، وكان بذلك صاحب عرشها بعد سعيد، لكن أحمد توفي وآلت ولاية العهد لإسماعيل، من يومئذ جعل سعيد يخشى وجوده على مقربة منه فجعل يوفده في مهمات خاصة إلى البابا وإلى نابليون الثالث وإلى الباب العالي بالأستانة، وفي سنة 1861 نشبت فتنة بالسودان فبعث به على رأس أربعة عشر ألف مقاتل لقمعها، ونجح إسماعيل في ذلك وعاد وله في أعين الشعب مقام كريم، ولما توفي أخوه أحمد وآلت إليه ولاية العهد ساءت العلاقة بينه وبين عمه الوالي إلى حد أنه لما توفي سعيد باشا في 18 يناير سنة 1863 ونودي به واليا مكانه حدد للتشريفات بالقاهرة نفس الساعة التي كانت محددة لسير جنازة سعيد بالإسكندرية، فلم يحتفل بالدفن احتفالا رسميا ولم يحفل بالمشهد أحد.
وقد انتعشت النفوس بأكبر الآمال لأول ولاية إسماعيل باشا الحكم، أن كان الناس في سعة بسبب انتظام جباية الضرائب أيام سعيد وارتفاع أسعار القطن ارتفاعا عظيما ترتب على حروب الانفصال بين شمال الولايات المتحدة وجنوبها، وأن أبدى إسماعيل من الحرص على حضارة مصر وإصلاحها ما جعل الرجاء في المستقبل عظيما، وكان أول ما صنعه إسماعيل مما استراحت له النفوس أن نشر في الناس على أثر ارتقائه العرش برنامجا خلابا كله المبادئ الحرة والوعود المغرية بخير الأمل والإصلاحات الواسعة على أحدث النظم الأوربية، وفي هذا البرنامج وعد بإلغاء السخرة والرقيق والاتجار به، وبإصدار قوانين خاصة بالتعليم وبتحديد مخصصات والي مصر، وتوقع الناس أن ينفذ هذا البرنامج وأن تخطو مصر الخطى الواسعة التي تترتب حتما على تنفيذه لما بدا على إسماعيل بعد عودته من دراسته بأوربا ومن سياحاته الكثيرة فيها من الحرص على تنمية ثروته الخاصة، وزاد الناس رجاء في ذلك ما كانت عليه حال البلاد إجمالا من الانتظام والطمأنينة.
لكن إسماعيل حرص - إلى جانب نشر هذا البرنامج - على نشر حالة الخزانة المالية وبخاصة فيما يتعلق بالديون التي خلفها سلفه سعيد باشا، ومع أن هذه الديون لم تكن تزيد في التقديرات الرسمية التي عرفت إلى حين موت سعيد على أربعة ملايين من الجنيهات، فقد ظهرت في البيان الذي نشرته حكومة إسماعيل باشا أحد عشر مليونا ومائة وستين ألفا من الجنيهات، والسبب في نشر هذا البيان ليس مجرد الحرص على تحديد ما للدولة وما عليها، فمثل هذا الحرص لم يكن معروفا في ذلك الوقت، وإنما السبب أن إسماعيل باشا كان يرى ما يقتضيه تنفيذ برنامجه العظيم من طائل النفقات مما لا سبيل إلى الحصول عليه من غير طريق الاقتراض؛ لذلك أراد أن يبين للناس وللأوربيين خاصة أن سلفه الذي لم يصنع شيئا لحضارة مصر أكثر من هذا الجيش الذي اختاره من طوال القامات، والذي كان يصحبه أنى ذهب، هو الذي بدأ سنة الاقتراض وهو الذي اقترض هذا المبلغ العظيم من غير فائدة للبلاد.
والواقع أن مطامع إسماعيل كانت عظيمة تنوء بها موارد مصر، فقد أراد أن يصل إلى ما رمى إليه جده محمد علي من استقلال البلاد، لكنه كان يعلم أن تحقيق ذلك بالسيف غير ميسور، وأنه على كل حال عرضة لأن يصطدم من معارضة أوربا بما اصطدمت به انتصارات مصر أيام جده، وكان يعلم كذلك ما للرشوة من أثر في وزراء الباب العالي، فإذا هو سخا بيده استطاع أن يحصل على هذا الاستقلال شيئا فشيئا، ثم إنه رأى من جهة ثالثة أن لا سبيل للحصول على المال اللازم لهذه الغاية ولسداد أطماعه وشهواته إلا أن يظهر أمام أوربا حاكما غربيا يريد الإصلاح بالفعل، فنشر البرنامج المشار إليه ونشر قائمة بديون سعيد، وأبدى من مظاهر العطف الإنساني على رعاياه ما جلب إليه أنظار أوربا، من ذلك أنه لم يوافق على الاستمرار في تنفيذ اتفاقية قناة السويس التي عقدت في عهد سلفه سعيد باشا بينه وبين المسيو فردينان دلسبس، لأنه رأى شروطها قاسية بالنسبة لمصر وبالنسبة للعمال المصريين الذين كانوا يرهقون في حفر القناة أشد إرهاق، يسامون الخسف ويضربون بالكرابيج ويطعمون الزقوم، ويكادون لا يقتضون عن عملهم أجرا، ولما استحر الخلاف بين إسماعيل وشركة القنال ارتضى الطرفان تحكيم نابليون الثالث.
ولسنا نستطيع أن نفهم هذا التحكيم إلا على أنه نوع من الكبرياء والغرور، فنابليون الثالث إمبراطور فرنسا، وشركة القنال على صفتها الدولية كانت ما تزال في كل مظاهرها شركة فرنسية تعني إمبراطور فرنسا حمايتها، فتحكيمه مع ذلك نوع من الكبرياء والغرور معناه أنه لا يجوز لغير رأس من أكبر الرءوس المتوجة أن تنظر في خلاف بين إسماعيل والشركة الدولية العالمية، وانتهى التحكيم بإلزام مصر بأن تدفع للشركة تعويضا عن عدم تنفيذ شروط الاتفاق أربعة وثمانين مليونا من الفرنكات، أي ثلاثة ملايين وثلاثمائة وستين ألفا من الجنيهات، فإذا أضيفت نفقات الدعوى وما قامت به الحكومة المصرية من أعمال النشر والإذاعة وما كان يتقاضاه القائمون بهذه الأعمال من باهظ النفقات لم يكن غلوا تقدير ما خسرته مصر في هذه الحركة بأربعة ملايين من الجنيهات.
وبعد زمن وجيز من ولايته الحكم جاء جلالة السلطان عبد العزيز إلى مصر ومعه الصدر الأعظم فؤاد باشا، فكانت هذه أول فرصة عرضت لإسماعيل كي ينفذ ما جال بخاطره كوسيلة لبلوغ الغاية التي صبا إليها من قبل جده محمد علي، ولم يكفه ما أقامه لجلالة السلطان من أعياد فاقت في الفخامة كل ما يتصوره خيال السلطان الشرقي، بل نفح الصدر الأعظم بمبلغ زهيد مقابل الخدم التي أداها أو يمكن أن يؤديها لبقاء علاقات المودة والصفاء بين والي مصر وجلالة السلطان، هذا المبلغ الزهيد هو ستون ألفا من الجنيهات.
على أن تباشير الخير التي جعلت المصريين يستقبلون ارتقاء إسماعيل العرش بالبشر والتهليل لم تدم طويلا، فقد انتهت حرب الانفصال بين شمال الولايات المتحدة وجنوبها وعادت أسعار القطن فانحدرت من ستة عشر جنيها للقنطار إلى ثلاثة جنيهات أو ثلاثة جنيهات ونصف الجنيه، وفتكت بالزراعة المصرية آفات أنقصت من دخل الضريبة العقارية واضطرت الحكومة معها لشراء الماشية والغلال لتموين الأهالي، مما خسرت معه ما يزيد على مائة وعشرين ألفا من الجنيهات، ثم إن إسماعيل كان مغرما أشد الغرام بتملك الأطيان حتى لقد بلغت مساحة «دوائر» العائلة المالكة في سنة 1865 ما يزيد على خمس الأطيان المنزرعة في مصر الوسطى وفي الوجه البحري.
ذلك كله مضافا إلى حاجات الميزانية العادية، وما احتاجت إليه الإصلاحات العامة التي بدأ إسماعيل بالقيام بها تنفيذا لبرنامجه، جعل الالتجاء إلى الاقتراض أمرا لا مفر منه، وقد بدأ إسماعيل فعلا بالاقتراض منذ ولي الحكم، فلما انقضت على ولايته سنة وبعض السنة كان الالتجاء إلى المرابين في مصر غير كاف لحاجاته، وكان لا بد من الاقتراض من بيوتات مالية كبيرة في أوربا، ولم يجد إسماعيل عنتا في استصدار تصريح بالاقتراض من الأستانة، وبذلك استطاع في 8 سبتمبر سنة 1864 عقد أول قروضه وقدره 5704000 جنيه.
كيف صور إسماعيل لنفسه برنامج الإصلاحات العامة؟ وما هي الطريقة التي أراد أن ينقل بها مصر من بلد شرقي بعيد عن مظاهر الحضارة الأوربية إلا القليل الذي جاء مع نابليون والبعثة الفرنسية، والذي دخل إلى مصر سدا لحاجات محمد علي الحربية؟ هي صورة غاية في البساطة، يجب أن نقيم مدنا أوربية النظام في طرقها وفي عمارتها وفي بساتينها، فما يلبث المقيمون بها أن يصطبغوا بالحضارة الأوربية.
ويجب أن ندخل أحدث المخترعات والنظم كالسكك الحديدية والبريد والتلغراف، فما يلبث الناس أن يفهموا هذه الاختراعات والنظم وأن يصيروا كأصحابها، ويجب أن نعلم جماعة من النشء ليكونوا واسطة احتفاظ بمظاهر الحضارة هذه، أما الشعب فلم يكن إسماعيل يأبه له كثيرا لأنه كان كغيره من الحكام الشرقيين إلى يومئذ، وككثير من الحكام الغربيين إلى زمن غير بعيد قبله، يعتبر مصر كما اعتبرها جده من قبل مزرعة له، مركز الشعب فيها مركز العبد أو الخادم، وقد أراد إسماعيل أن يصل لتحقيق فكرته من الحضارة والإصلاح في سنوات مما لم تصل أوربا لتحقيقه إلا في قرون، فبدأ تنظيم القاهرة على نظام باريس وغير باريس من مدائن أوربا الكبرى يخطط فيها الشوارع ويقيم القصور وينشئ الدواوين ودور الحكومة ويغرس البساتين، وجعل من جانبه يعيش عيشة بذخ لم يتهيأ لخيال شاعر ولا قصاص من قبل، وطبيعي أن اقتضى القيام بذلك كله من النفقات ما تلاشى معه قرض سنة 1864 أسرع التلاشي وما كثرت معه الديون السائرة التي كان يقترضها من المرابين الأجانب المقيمين بمصر كثرة اضطرته للتفكير من جديد في الالتجاء إلى أوربا كي يعقد قرضا آخر.
ولم يكفه قرض واحد، بل كان وزيره نوبار باشا يتفاوض له مع كل البيوتات المالية وعقد له في ثلاث سنوات ثلاثة قروض: قرض سنة 1865 وقدره 3387000 جنيه، وقرض سنة 1866 وقدره ثلاثة ملايين من الجنيهات، وقرض سنة 1867 وقدره 2080000 جنيه، لكن هذه الملايين كلها لم تكن شيئا مذكورا إلى جانب النفقات الباهظة التي كان يقوم بها إسماعيل باشا.
وماذا تريد من رجل أقل أطماعه أن يصل ليكون ملكا على بلاد مستقلة استقلالا داخليا على الأقل؟! وكم كلفه ذلك من باهظ الرشوة يدفعها للكثيرين من رجال الباب العالي بالأستانة! ولقد كانت أول خطوة خطاها في هذا السبيل أن حصل في سنة 1866 على فرمان من جلالة السلطان بجعل الوراثة في أبنائه بدلا من جعلها في أكبر العائلة كما كانت من قبل، ثم حصل كذلك على ضم سواكن ومصوع لمصر بعدما سلخا عنها من بعد حكم محمد علي.
ثم إنه من بعد أن حكم نابليون الثالث إمبراطور فرنسا في الخلاف بينه وبين شركة قناة السويس أصبح صديقا حميما للشركة، وأصبح ينتظر اليوم الذي يعلن فيه افتتاح القناة، ليدعو العالم كله كي يشهد هذا التحوير البديع لنظام الطبيعة تحويرا من شأنه أن يغير سير الوجود الاقتصادي والتجاري تغييرا خطيرا، وكانت سنة 1869 هي السنة التي حددت لهذا الافتتاح، وكانت قروض السنوات الثلاث السالفة الذكر قد نفدت كلها، وتزايد الدين السائر مع ذلك تزايدا جعل إسماعيل يفكر في الحصول على المال للظهور بالمظهر اللازم في حفلة الافتتاح تفكيرا جديا استغرق كل مواهبه وكل ذكائه.
وفي هذا السبيل سافر في سنة 1867 إلى أوربا وزار باريس ولندره واستضافه نابليون الثالث والملكة فكتوريا، وكان معه في هذه السياحة وزيره نوبار باشا المطلع على دخائل مفاوضات البيوتات المالية والقدير بدهائه وخبثه على القيام بأعمال في السياسة جسام، وفي هذه الزيارة بدئ الحديث في مسألة تعديل نظام الامتيازات الأجنبية، فقد كان إلى يومئذ كما كان إلى يوم إلغائه في تركيا قائما على القاعدة القانونية التي تقرر أن المدعي يقاضي المدعى عليه أمام قضاته، وكان من أثر ذلك أن شعر الأجانب أنفسهم بالارتباك في مقاضاة بعضهم بعضا، فاستقر رأي إسماعيل ووزيره على إقامة نظام المحاكم المختلطة في مصر، على أن يشمل اختصاص هذه المحاكم الشئون الجنائية كذلك، ومنذ هذه الزيارة التي قام بها إسماعيل لأوربا في سنة 1867 فتحت مسألة تعديل النظام القضائي في شأن الأجانب، وظلت المفاوضات فيها مستمرة بعد ذلك ثماني سنوات حتى كللت بالنجاح في سنة 1875، لكن هذه المسألة لم تكن الجوهرية يومئذ، إنما المسألة الجوهرية كانت الحصول على المال لسداد الديون السائرة فيما أعلنه إسماعيل باشا المفتش وزير مالية إسماعيل، ولتحضير حفلة افتتاح القناة في رأي المستر كيف الذي حقق أسباب ديون إسماعيل في سنة 1870 كما سنرى، وقد نجح إسماعيل في عقد قرض تم توقيعه سنة 1868 قيمته الاسمية مبلغ 11890000 جنيه والمتحصل الحقيقي منه مبلغ 7193334 جنيه، وقد قبل إسماعيل ضمن شروط هذا القرض أن يمتنع عن الاستدانة لمدة خمس سنوات مقبلة، مما يدل على أنه كان في أشد الحاجة إلى المال، وكان افتتاح القناة في ذلك الظرف هو شاغل إسماعيل الأكبر.
فلقد حرص على أن يدعو إلى هذه الحفلة كل الرءوس المتوجة في أوربا وأكبر عدد من ذوي المقام والمكانة في العالم، وكان أكبر همه من هذا أن يشهد هؤلاء جميعا كيف نقل مصر من بلاد شرقية أفريقية فجعل منها بلادا غربية متحضرة، وفي الحق أنه أعد لهذا المظهر خير عدته، فقد بنى في القاهرة قصورا تضارع أفخم قصور المدائن الأوربية العظمى: بنى قصر الجيزة الذي انقلب في العهد الأخير حديقة للحيوانات، ووصل بينه وبين القاهرة بكوبري قصر النيل، وبنى قصر الجزيرة الذي آل أخيرا إلى الأمراء آل لطف الله، وبنى غير هذين من القصور الشاهقة ومن دواوين الحكومة ما تعتز بمثله مدائن أوربا، ثم أعد مسرح الأوبرا وكلف الموسيقي الإيطالي الكبير فردي فوضع أوبرا عايدة لتمثل في أثناء حفلات الافتتاح، وأنشأ حديقة الأزبكية في وسط القاهرة أسوة بالحدائق العامة في العواصم الكبرى.
وليتيسر للزائرين وبخاصة الإمبراطورة أوجيني زوج نابليون الثالث زيارة آثار الفراعنة اختط طريق الأهرام في أشهر معدودة، هذا إلى ما مد من خطوط السكة الحديدية، وإلى ما شيد من مدينة الإسماعيلية على ضفة القناة، كما أنه كان قد أنشأ في مختلف أنحاء القاهرة كثيرا من المدارس الجديدة، كما أعاد المدارس التي كانت قد أنشئت في عهد جده محمد علي باشا واضمحلت من بعده: فأنشأ مدارس المبتديان والتجهيزية والمهندسخانة والمساحة والألسن والعمليات والإدارة واللسان القديم والتجارة ومدرسة للبنات ومدارس كثيرة أخرى في القاهرة والإسكندرية والأرياف، وكذلك كان من حقه أن يفخر بهذه المنشآت العظيمة وأن يريها لملوك أوربا ليعلموا أنه أكثر حضارة من متبوعه الأعظم سلطان تركيا ، وأنه إذا طلب يوما أن يستقل بحكم مصر فطلبه لا شيء من المبالغة فيه.
وسافر من جديد إلى أوربا سنة 1869 وعاد بعد ما دعا كل الرءوس المتوجة إلى حضور الاحتفال بافتتاح القناة، وقد أجاب الدعوة منهم عدد غير قليل، ثم تم افتتاح القناة في خمسة أيام، ففي 16 نوفمبر سنة 1869 ركب المدعوون بواخرهم وعددها ثمان وستون ترفرف فوقها أعلام مختلفة ويتقدمها (النسر) سفين الإمبراطورة أوجيني زوج نابليون الثالث التي جاءت بالنيابة عن زوجها، وقطعوا المسافة من بورسعيد إلى الإسماعيلية في ذلك اليوم، وبعد أن أقيمت في الإسماعيلية أعياد استمرت يومي 17 و18 نوفمبر ركب المدعوون من جديد بواخرهم يوم 19 وبلغوا السويس يوم 20 نوفمبر، ولم يكتف إسماعيل بهذا بل طاف بضيوفه العظام أنحاء مصر يظهرهم على ما جدد فيها من حضارة تضارع حضارة أوربا، وقد كلفته هذه الأعياد الباهرة - حسب التقديرات الرسمية - أربعة ملايين من الجنيهات.
وانتهت الأعياد وأضواؤها الباهرة وابتساماتها الخلابة وأجال إسماعيل بصره يريد متابعة أعماله فإذا خزانة الدولة قفر، وإذا هو في أشد الحاجة إلى المال، ولم يكن يستطيع أن يقترض وهو مقيد في عقد سنة 1868 بألا يعقد قرضا جديدا قبل مضي سنوات خمس، فلجأ إلى المرابين من جديد ولجأ إلى وسيلة تشبه ما يسميه الفلاحون اليوم (البيع على الوجه)، فكان يبيع آلاف الأرادب من الغلال قبل زرعها ويقبض ثمنها، فإذا جاء موعد التسليم أعطى ما يجبى من الضرائب غلالا ثم اشترى الباقي بأسعار أعلى بكثير من الأسعار التي باع بها، ولجأ إلى غير ذلك من الوسائل المخربة حتى اضطر جلالة سلطان تركيا برغم ما أصاب وزراؤه من أموال إسماعيل أن يبعث له يحظر عليه الاقتراض بغير تصريح سابق منه.
لكن ذلك كله لم يوهن من عزيمة إسماعيل الصلب ولم يثن من إرادته، يجب أن يوجد المال للقيام بمشروعاته ولمضاعفة هذا البذخ الذي كان يعيش فيه، والذي اضطره لنثر الذهب من الأبواب والنوافذ نثرا، وهل تراه يرضى أن يقول لرجل من أتباعه الذين يتولون تسليته أو لجارية من مئات الجواري اللاتي كانت تترنم بأصواتهن قصوره: إن سيدكم قد عرف أخيرا كلمة المستحيل، كلا، ليس هذا من خلق إسماعيل، فليعقد إذا قرضا ترهن أملاكه الخاصة لسداده، وعقد بالفعل قرضا خاصا في سنة 1870 قيمته الاسمية 7142860 جنيه والمبلغ المتحصل منه بالفعل خمسة ملايين جنيه.
من سنة 1870 بدأ يرمي بنظره إلى التوسع الاستعماري، ولقد أصاب من ذلك حظا من النجاح غير قليل، ففيما بين هذه السنة وسنة 1875 استصفى لمصر كل الشواطئ الشرقية من السويس إلى رأس غردفوي وحاصر بربر وزيلع، وفي سنة 1874 ضم دارفور إلى مصر واحتل هرر، وقد أدى احتلال هرر إلى حروب مع الحبشة قتل فيها ابنه، ولم يكن النصر فيها حليف جيوشه، على أن ذلك لم يصدها عن التوغل جنوبا إلى حدود الأوغندة، وكان من أكبر رجال إسماعيل المسئولين في السودان صمويل بيكر والكولونيل جوردون، ولعل ذلك كان أول ما دعا إنجلترا لتفكر في هذا القطر النائي، وكان السبب في السياسة التي رسمتها لنفسها فيه والتي أدت إلى مركز السودان الحاضر.
1
وكانت هذه الأعمال، وكان إسراف الحكومة في مصر، وكانت نفقات إسماعيل ومن حوله، تجعل كل مبلغ ضئيلا لا يقوى على سدادها، لكن إسماعيل باشا بدأ يرى هول الديون التي استدانها وبدأ يشعر بأن من الواجب التفكير في السعي للتخلص منها، ولعله كان مخلصا في سعيه، وإن كانت كل الوسائل التي ابتدعت لجلب المال لم تنجح في أكثر من أن زادت الخديو مطامع وسرفا، وأول ما أبدع من الوسائل قانون المقابلة، وخلاصته: أن ديون مصر إلى يومئذ كانت تبلغ ستة أمثال الضريبة العقارية، فإذا دفع الملاك ضعف الضريبة المضاعفة يعفى الملاك أبدا من نصف الضريبة التي عليهم، وقد دفع كثير من كبار الملاك والباشوات الضريبة المضاعفة بطلب ولي الأمر، وبدأت الحكومة فعلا تسدد الدين السائر، لكنها لم تمض عليها سنة واحدة حتى كانت قد استدانت من جديد بسندات أصدرتها مكفولة بضريبة المقابلة ما قيمته اثنا عشر مليونا من الجنيهات.
ولما كان موعد الخمس السنوات المحدد في عقد قرض سنة 1868 قارب الانتهاء رأى إسماعيل أن يستأذن الباب العالي في قرض جديد يوحد به ديونه، واتفق فعلا مع بيت أوبنهيم الذي أصدر قرض سنة 1868 على أن يصدر قرضا جديدا قيمته اثنان وثلاثون مليونا من الجنيهات لهذا التوحيد، على أن كل ما حصلته الحكومة المصرية من هذا المبلغ كان 20840077 جنيه، وكان الدين السائر وحده قد بلغ يومئذ ثمانية وعشرين مليونا.
ثم إن الخديو كان قد اضطر إلى إنفاق مبلغ ضخم في الأستانة للحصول على فرمان سنة 1873 الذي وطد الوراثة في بكر الأبناء على نحو ما صدر به فرمان سنة 1866، والذي أتم لمصر استقلالها الداخلي حتى لم يبق لتركيا إلا أن تسك العملة باسم سلطانها وتتقاضى الجزية آخر كل سنة، وزاد هذا المبلغ في مقدار الديون السائرة زيادة جعلتها تجاوز مقدار القرض الجديد بما يوازي نصفه؛ لذلك لم يفلح القرض في سداد الدين السائر، واستمر إسماعيل على طريقته يصدر سندات جديدة أسماها في هذه المرة سندات الرزنامة، وقد حصلت الحكومة من هذه السندات 3337210 جنيه فلم تكف هي الأخرى مضافة إلى الدين الجديد لسداد الديون السائرة، ولم يبق أمام إسماعيل إلا بيع أسهم الحكومة في قنال السويس، ولقد عرضها للبيع في السوق العالمي، لكن إنجلترا جعلت المسألة ماسة بسياستها ووقفت في وجه فرنسا واشترت الأسهم من إسماعيل بمبلغ أربعة ملايين من الجنيهات وتمت الصفقة في عام 1875.
وفي هذا العام الذي أطل فيه الخراب محدقا بعينيه البشعتين في وجه إسماعيل تم تنظيم المحاكم المختلطة بعد معارضة غير قليلة من جانب فرنسا، وافتتحها إسماعيل وهو ما يزال يأمل في أن أعمال الحضارة التي قام ويقوم بها في مصر تسمح له أبدا بأن يجد من الدائنين من يثق به، ناسيا أنه كان قد رهن كل إيرادات الدولة وكل أملاكه الخاصة، وأن الثقة به تزعزعت في كل مكان؛ لذلك ما بزغت شمس سنة 1876 حتى كان وقت الحساب قد آن، وحتى أطفئت أنوار هذه الأعياد الدائمة وهذا النشاط العجيب الذي نشره إسماعيل لا في مصر وحدها بل في أرجاء كثيرة قريبة من مصر ونائية عنها: في السودان وفي تركيا وفي فرنسا وفي إنجلترا وفي كل بلد حلت به رحاله أو كان له دائنون فيه.
سنة 1876، نعم هي السنة العصيبة في حياة إسماعيل لأنها السنة التي بدأ فيها الصراع العنيف بينه وبين أوربا مجتمعة، والعجيب أنه واصل هذا الصراع وما يزال واثقا من نفسه ومن حيلته؛ لذلك كان إذا اضطر إلى الإذعان يوما لم يكن ذلك منه حرصا على الوفاء ولكن انتظارا لفرصة النكث والأخذ بالثأر، لكن خصومه كانوا أقوى منه أضعافا برغم أنه كان في داره، وعلى الرغم من كل الوسائل التي لجأ إليها فقد انتهى آخر الأمر فأسلم نفسه للمقادير التي قضت بخلعه وإبعاده عن بلاده بقية حياته.
ومن عجيب سخر القدر من الناس أن إسماعيل هو الذي ألقى لأوربا بأول فكرة للتدخل في شئونه وشئون مصر تدخلا ينتهي في أمره هو إلى الخلع، وفي أمر مصر إلى الخضوع لنير أوربا أولا وإنجلترا أخيرا، ذلك بأنه لما ثقل حمله وأيقن أن لا وسيلة إلى الاقتراض من جديد إلا أن تثق به أوربا أجال نظره صوب صديقته الصدوق فرنسا فألفاها ما تزال مهيضة الجناح من أثر هزيمتها سنة 1870، عند ذلك فكر في مصادقة إنجلترا وانتهز فرصة مرور ولي عهدها بمصر فطلب إليه أن يعين إنجليزيا مستشارا للمالية المصرية، وكان جواب ولي العهد أن ذلك من شأن القنصل الإنجليزي، فبعث القنصل بخطاب إلى حكومته كطلب إسماعيل، وأهملت إنجلترا الخطاب حتى اشترت أسهم القناة، يومئذ ذكرت الخطاب من جديد فأرسلت إلى مصر ببعثة لفحص شئونها المالية وعلى رأسها المستر ستيفن كيف.
ولم يترك إسماعيل باشا وسيلة لاسترضاء المستر كيف ولجنته إلا بذلها، وقدمت اللجنة تقريرها إلى الحكومة الإنجليزية فامتنعت عن نشره بحجة أن النشر يزيد مركز الخديو حرجا، ولقد نشر التقرير من بعد فتبين أنه لا يزيد المركز سوءا، وأنه على العكس من ذلك يبين للناس أن ما اقترضته مصر إنما أنفق أكثره في أعمال مثمرة إن لم تظهر نتائجها بعد، فهي على كل حال ضمان يمكن أن يعتمد الدائنون عليه، على أن التقرير استظهر دقة حال مصر وأشار بأن لا بد من توحيد ديونها على قاعدة جعل الفائدة لها جميعا 7 في المائة، ولم يعجب إسماعيل هذا الرأي وأراد المقاومة بتأجيل الدفع ولو كان من نتيجة ذلك إشهار إفلاسه أسوة بمتبوعه الأعظم سلطان تركيا، لكن سرعان ما أدرك خطر ما اندفع إليه فتلافاه بأن أصدر قانونا في 2 و7 مايو سنة 1876 بتوحيد الدين وبإنشاء صندوق خاص بعملياته، وصندوق الدين تعين الحكومة المصرية أعضاءه من الأجانب بالاتفاق مع دولهم، وهذه أول خطوة من خطى التسليم والخضوع لأوربا ولتدخلها في شئون مصر الداخلية.
على أن الدائنين لم يرتضوا القواعد التي بني عليها توحيد الديون فضجوا بالشكوى وطلبوا تعيين لجنة جديدة لفحص حالة مصر المالية، فذهب المستر جوشن والمسيو جوبير مندوبين عن الدائنين لإجراء هذا الفحص، وكان من أثر فحصهم أن صدر دكريتو 18 نوفمبر سنة 1876 يفرق بين ديون الحكومة المصرية وديون إسماعيل الخاصة، ويزيد في اختصاص صندوق الدين، وينشئ منصبي المراقبين العامين: أحدهما إنجليزي والآخر فرنسي، يراقب أحدهما كل إيرادات الدولة، ويراقب الآخر كل مصروفاتها، وينشئ كذلك إدارة للسكة الحديدية مكونة من إنجليزيين ومصريين وفرنسي واحد، على أن يكون الرئيس إنجليزيا، وبهذا الدكريتو أصبحت الحكومة المصرية في يد صندوق الدين والمراقبين الأجانب، وأصبح إسماعيل صورة لا يطلب منها إلا أن تكف عن الأذى، وبدأت هذه النظم الجديدة بالعمل وبدأ إسماعيل يشعر بتلاشيه وانحدار سلطانه المطلق إلى هاوية الفناء.
أين كان الشعب المصري في أثناء ذلك كله؟ لم يكن في نظر إسماعيل شيئا إلا أنه العبد المطيع الذي يفعل ما يؤمر به والبقرة الحلوب التي تدر الضرائب لإقامة الميزانية، ولم تكن للحكومة ميزانية معروفة، وإنما كانت ميزانيتها ما تتطلبه شهوات عاهلها الذكي القاسي، ولتحصيل هذه الميزانية غير المحدودة كان يكفي أن يقول إسماعيل: «أريد» لتتحرك كل الحكومة كي تنفذ إرادته، والناس على دين ملوكهم، فكان كل موظف في الحكومة كإسماعيل شهوة وقسوة، وكان ما يطلبه إسماعيل يجبى من الناس أضعافا مضاعفة سدا لشهواته وشهوات هؤلاء الجباة الجناة، والناس يجب أن يدفعوا أو يكوي الكرباج والسوط جلودهم ويدمغ جباههم، ويجب أن يدفعوا أو يلقى بهم في غيابات السجن يذوقون فيها أشد العذاب، ولم لا؟! أليس عزيز مصر وولي أمرها يريد، و
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، فمن عصى فعليه اللعنة وله العذاب، وأي عذاب وأية لعنة! كان رجال الحكم يومئذ من غير المصريين إلا قليلا، فلم تكن بينهم وبين مصر وشيجة رحم أو عاطفة مودة أو قربى تحرك في نفوسهم بإزاء المصريين المساكين معنى من الرحمة أو الإنسانية، بل كانوا من الأكراد والجركس والأرمن والألبانيين، وكانوا قساة القلوب غلاظ الأكباد، على عقولهم أقفالها، لا يعصون إسماعيل ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
لذلك كان طبيعيا ألا يتحرك الشعب لتدخل الأجنبي في شئونه، ولماذا يتحرك؟ أليس حكامه هؤلاء أجانب عنه كالذين تدخلوا في شأن الحكم سواء بسواء؟ واختلاف العقيدة لا يكفي ليقوم شعب هده الظلم وأضعف نفسه لينصر ظالمه على مخالفه في العقيدة، وبخاصة إذا انتظر من هذا المخالف رفع الحيف ووقف الظلم والأذى.
وبدأ إسماعيل يشعر بهذا ويحسه في أعماق نفسه، جلس حسيرا في قصره مغلولة يده يشهد بعيني رأسه ما جر إليه بذخه وإسرافه من خراب، وسمح لأذنه أن تسمع لأول مرة ما يضج به الناس من ألم وشكوى، وماذا يعني الناس من قصور تشاد وحدائق تغرس وجسور تمد فوق النهر وألحان تعزفها الحسان، إذا كان ذلك كله يشاد من دمائهم ويمد على أكتافهم؟! وزاد إسماعيل شعورا بالكارثة أن استنفدت أقساط الدين كل الضرائب التي جمعت على النحو الذي كانت تجمع به من قبل من وسائل الإرهاق، ولم يبق منها شيء يدفع للموظفين ولا للجيش.
ورأى الدائنون بأعينهم هذه الحال البشعة فاتفق الرأي على تعيين لجنة جديدة لفحص جديد، وفي سنة 1878 تعينت لجنة الفحص العليا أنشأها دكريتو 27 يناير من تلك السنة، وفي 30 مارس صدر دكريتو آخر يجعل للجنة أوسع السلطة، وتشكلت من مسيو دلسبس رئيسا ومن مستر ريفرس ولسن نائب رئيس، ومن أعضاء صندوق الدين الأربعة، وبدأت اللجنة فحصها تحركها فكرة أساسية هي وضع قرار اتهام إسماعيل، وبعد انتهائها من الفحص قدمت تقريرا مبدئيا كانت الفكرة السائدة فيه وجوب تحديد سلطة الخديو واعتباره مسئولا عن حرج مركز مصر، واقترحت لذلك إجراء إصلاحات في التشريع المالي بالنسبة للضرائب، وأن تخصص إيرادات أملاك الخديو كلها ومساحتها 917000 فدان لسداد ما يكون من عجز في الميزانية.
تردد إسماعيل بادئ الرأي في قبول هذه المطالبة، لكنه رأى تردده لا يفيد شيئا بعد أن أصبح الأمر كله للمراقبين ولصندوق الدين، وأنه إذا قبل ما اقترح عليه فقد يفتح ذلك أمامه بابا جديدا للاقتراض من جهة، ويترك له الوقت من الجهة الأخرى في تدبير وسيلة للخلاص من هذه المراقبة التي غلت يده، وتحت ضغط نوبار باشا أعلن إلى المستر ريفرس ولسن في يوم 23 أغسطس سنة 1878 قبوله اقتراحات اللجنة، وفي 28 أغسطس أصدر الأمر العالي المشهور بإنشاء وزارة (يحكم هو معها وبواسطتها وتكون متضامنة في مسئوليتها) وشكل نوبار باشا هذه الوزارة واستعان فيها بالمستر ريفرس ولسن.
ومنذ طلب نوبار باشا إلى المستر ريفرس ولسن معاونته في الوزارة قام الأخير بالمفاوضة لعقد قرض جديد تسد منه الديون السائرة ويسد عجز الميزانية، وقبل أن يوقع عقد القرض أصدر إسماعيل دكريتو 26 أكتوبر سنة 1878 ينزل أعضاء العائلة الخديوية للحكومة بموجبه عن أملاكهم العقارية وقدرها 425729 فدانا خلا العقارات، واعتبرت هذه الأملاك ضامنة للقرض الجديد الذي دعي باسم قرض الدومين أو قرض روتشيلد.
وفي شهر أكتوبر أصبح المستر ولسن وزيرا للمالية والمسيو دبلنيير وزيرا للأشغال العمومية، وألغيت بذلك المراقبة الثنائية على إيرادات الدولة ومصروفاتها على أن تعود إذا عزل هذان الوزيران الأوربيان من منصبيهما من غير موافقة إنجلترا وفرنسا، وجعلت هذه الوزارة المختلطة جل همها أن تسدد الديون وأن تتلافى عجز الميزانية، والواقع أن الديون السائرة بلغت مبلغا ضاق دونه القرض الجديد على الرغم من أنه بلغ ثمانية ملايين، وكذلك وقفت الوزارة المختلطة بعد ثلاث سنوات من المراقبة المالية موقف الحكومات التي سبقتها، وعجزت أن تواجه حرج المركز بخير مما واجهته غيرها من قبل، ولجأت إلى الضغط والاضطهاد اللذين لجأت إليهما أشد الحكومات عسفا واستبدادا، وزاد الموقف حرجا أن رأى وزير المالية الإنجليزي الاستغناء عن ألفين وخمسمائة ضابط من غير أن يدفع لهم متأخرات رواتبهم لأكثر من سنة كاملة، هنالك هاجوا وقاموا ومن بينهم أحمد عرابي في 18 فبراير سنة 1879 بمظاهرة خطيرة وأحاطوا بنوبار وولسن وأهانوهما وأوسعوهما ضربا، ولما نمى الخبر إلى إسماعيل جاء بنفسه، فلما رآه الضباط وأمرهم بالانصراف لم يعص أمره منهم أحد، مما دل على أن له في تدبير هذه الفتنة يدا، وقد ثبت بعد ذلك أنه كان المدبر لها بالفعل بأن أوعز إلى أكثر الضباط إقداما وجرأة بالقيام بها.
وكان من الضباط الذين قاموا بهذه المظاهرة ومن الذين استغنى عنهم ريفرس ولسون عدد غير قليل من المصريين الصميمين، ولعل ذلك هو الذي أدى إلى استمرار الحركة في المستقبل والذي كان نواة الثورة العرابية، فإن الموظفين والضباط من الشركس والأتراك والأرمن وغيرهم - ممن كان بيدهم الأمر فكانوا يسومون المصريين الخسف وسوء العذاب - شعروا بفشلهم وبعجزهم إذا بقيت الخصومة بينهم وبين المصريين قائمة، ثم إن ريفرس ولسن تقدم بسبب آخر أدى إلى تحرك العناصر القومية الصميمة في البلاد، فقد طلب إلى الحكومة أن تعلن أن مصر مفلسة كي تعامل معاملة المفلس في شأن ديونها، هنالك اجتمع نواب البلاد وأعيانها وكبراؤها وموظفوها الدينيون والمدنيون والحربيون وقدموا للخديو برنامجا ماليا يخالف برنامج ولسن محتجين على القول بإفلاس مصر، ولم تكن يد إسماعيل بعيدة عن وضع هذا البرنامج، ثم لم يكتف النواب ببرنامجهم الذي تقدموا به، بل تقدموا كذلك بعرض للخديو يبينون فيه استياءهم من الوزارة لعدم اكتراثها بآرائهم، وانضم الخديو لهذه الحركة وعضدها؛ لأنه رأى فيها الوسيلة الوحيدة لعود بعض سلطته إليه بعد أن تقلص ظلها وانتقلت إلى أيدي الأجانب، وبلغ من تعضيده إياها أن رفض النواب الارفضاض لما جاء رياض باشا وزير الداخلية يعلن إليهم انتهاء الدورة، وكذلك أصبح هذا المجلس الذي خلقه إسماعيل في سنة 1886 صورة يوهم بها الدول الأوربية أن مصر أصبحت بالفعل جزءا من أوربا وقد شعر بوجوده وقدر مكانته، فقد احتج في 29 مارس سنة 1875 على الوزارة المختلطة لأنها لم تكن تعترف بوجوده وبمسئوليتها أمامه، وفي 5 أبريل طلب إلى الخديو تعديل قانون الانتخاب وإعلان مسئولية الحكومة أمام مجلس النواب، ولم يقف عند ذلك بل احتج على بقاء الوزارة المختلطة وبالتالي على وجود ولسن ودبلنيير فيها، ولم يلبث إسماعيل أن أبلغ هذا الاحتجاج حتى عزل الوزارة وعهد إلى شريف باشا بتأليف الوزارة الجديدة، وفي الشهور الثلاثة التي انقضت بين توليها وخلع إسماعيل بدأت بوضع قانون للانتخاب، كما نشرت في 4 يونية لائحة مجلس شورى النواب الأساسية، وفيها تقرر الحصانة البرلمانية وتحدد عدد النواب وتنص على المسئولية الوزارية، ومع أن هذه الوزارة كانت جادة في عملها، ومع أنها سبقت هذا التشريع النيابي بتشريع مالي صدر به دكريتو بتاريخ 22 أبريل سنة 1879 يكفل للأجانب حقوقهم ويقر المراقبة الثنائية وصندوق الدين في اختصاصهما الواسع، فإن أوربا بدأت تشعر بأن مصر على وشك انتقال خطير ليس من العسير تقدير مدى نتائجه، وإن خيرا للمصالح الأوربية الوقوف في سبيله، فبدأت ألمانيا والنمسا بالاحتجاج في 18 مايو على دكريتو 22 أبريل بدعوى أنه مخالف لتعهدات مصر الدولية، وألقتا مسئولية هذه المخالفة على الخديو، وفي 18 يونيو احتذت وزارتا باريس ولندرة مثال ألمانيا والنمسا، وقد حاول إسماعيل القضاء على هذه الحركة الدولية فطلب موافقة الدول على الدكريتو، لكن حركته هذه لم تنجح.
وكانت الدول قد سئمت هذا الصراع الطويل مع إسماعيل، ولعلها كذلك خشيت بعد انضمامه للأمة وإظهاره العطف كل العطف على مطالبها أن تقوى الحركة القومية المصرية وأن يصبح إسماعيل مثلما كان جده محمد علي مكانة وقوة سلطان؛ لذلك رأت أفضل السياسات أن ينزل عن العرش، لكن إسماعيل لم ينظر إلى المسألة هذه النظرة، وأراد أن يلجأ إلى جلالة سلطان تركيا آملا أن يكون لما قدمه له من طائل الأموال وعظيم التضحيات بعض الأثر، وهنا خاب فأله، فقد بعث الباب العالي في 26 يونيو تلغرافا بعزل إسماعيل عن العرش وبرفع ولده توفيق مكانه، وعلى أثر ذلك أقلع إسماعيل من الإسكندرية قاصدا إيطاليا وقلبه خافق وعيونه هامية بالدمع، وأقام في إيطاليا زمنا ثم انتقل إلى الأستانة إذ أقام بها في قصر «أمر جيان» على شواطئ البوسفور حتى جاء أجله في 2 مارس سنة 1895. •••
وكم دار بخاطره في هذه السنوات الأربع عشرة التي انقضت بين عزله وأجله أن يعود إلى نضال يسترد به عرشه، وكان أول ما صنع من ذلك أن بعث إلى السلطان بالأستانة على أثر وصوله إلى نابولي رسالة حارة يذكر له فيها ما أجرى من عظيم الإصلاح في وادي النيل، وما قام به من فتح السودان إلى خط الاستواء حيث خفقت الراية العثمانية من تلك الأنحاء في ربوع لم تخفق من قبل قط عليها، لكن السلطان لم يعبأ بخطابه ولا أجابه عنه، بل نسي كل ماضي إسماعيل وما أغدقه على الأستانة ورجالها من مال وأنعم، وما باله يعبأ به وقد أصبح لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا يملك لمتبوعه العظيم رشوة ولا هدية، وأصحاب العروش لا يعنون إلا بصاحب القوة ما داموا يهابون قوته ويطمعون في خيره ومعونته، ونال ذلك من نفس إسماعيل، ولكنه حملها على الصبر حتى كانت الثورة العرابية في مصر، هنالك حز الألم في نفسه واذكر أنه لم يفكر في مقاومة كالتي قاومها اليوم هؤلاء المصريون الأبطال، ولو أنه قاوم فربما كان له من الأقدار عون يستبقي نجمه عاليا، أما ولم يفعل فليس له أن يرجو من الأقدار مددا وهي لا تمد الضعيف أو الخائف، وإنما تحارب في صف الشجاع المقدام.
ومنذ دخل الإنجليز مصر محتلين خيم اليأس على كل آماله في استعادة ملكه، فظل في إيطاليا حتى انتقل إلى الأستانة ليلقى فيها منيته، وليكون فيها أسير عطف الأتراك الذين طالما تمتعوا بما أغدقه عليهم من مدد ومال أيام ولايته.
هوامش
الخديو توفيق باشا
ثلاثة عشر عاما تولى فيها توفيق أمر مصر كان خلالها في زهرة شبابه بين السابعة والعشرين والأربعين، لكنه كان فيها كذلك بين عوامل لا يستطيع مدافعتها والتغلب عليها إلا نابغة محنك، كان فيها بين تركيا الناقمة لضعف سلطانها في مصر، وإنجلترا الطامحة إلى بسط نفوذها نهائيا على وادي النيل، وفرنسا المكتئبة لتقلص مكانتها رويدا رويدا من أرض الفراعنة، والأمة المصرية المثقلة بديون إسماعيل باشا وظلم حكامها والمتأججة نفوس أهلها بالثورة طمعا في الاستقلال والدستور، وهو بين هذه العوامل رجل يشعر بضعة أمومته وبحقد أهله عليه، ويود لو أنه كان في مكانة أبيه بطشا وسلطانا، ويخضع للأقدار التي لم تهبه من سعة الذكاء ما وهبت غيره، ولتربيته الشرقية البحتة التي اقتضت ألا يغادر مصر وألا يتصل بالمدينة الأوربية اتصال إخوته، وللظروف التي جعلت تتقاذفه منذ ارتقى عرش أبيه فتصدمه بكل واحد من العوامل المحيطة به، لينتهي به الأمر إلى أن يكون في تاريخ مصر صورة غير محبوبة، ولا ممقوتة، صورة مرت في هذا التاريخ فكان أثرها فيه سلبيا هو أثر العاجز عن أن يقوم لبلاده أو لنفسه بخير، وليودع العالم في الأربعين من عمره فيلقي بمصائر مصر بين يدي ولي عهده الفتى عباس وما يزال في الثامنة عشرة من عمره. •••
ولد توفيق باشا في 15 نوفمبر سنة 1852 ثمرة لبرهة هوى من إسماعيل مع إحدى جواريه التي لم تنل منه إلا حظوة قصيرة ولم تكن له زوجا، ولم يكن إسماعيل يومئذ وارثا لعرش سعيد أن كان أحمد أكبر العائلة ما يزال حيا؛ لذلك لم يلفت مولد توفيق نظر أحد إلا ما كان من زراية أميرات العائلة المالكة لأمه، فلما حصل إسماعيل على فرمان وراثة العرش للولد الأكبر انقلبت الزراية للأم حقدا على الابن، وشارك إسماعيل أهله في عدم عطفهم على توفيق وإن لم يبلغ ذلك من نفسه مبلغ حقده على حليم باشا وارث عرشه على النظام القديم، وثبت عدم عطفه على توفيق وعدم رعايته إياه في عزمه على أن يكون عرشه لحسين من بعده، وقد كان يستطيع ذلك اعتمادا على أمومة توفيق أو بالتخلص منه كما كان يفعل ملوك ذلك العصر في تركيا، لكنه لم يكن يتعجل النظر في أمر لم يكن في حسبانه وقوعه قبل زمان طويل، وكفاه وجود توفيق بمعزل عنه في قصر له مقتصرا على إدارة أراضيه.
على أن عزلة توفيق وعدم إغداق أبيه أسباب الرضا عليه جعله ينظر إلى ما صنع أبوه من استدانة ومن إرهاق للمزارعين والفلاحين ومن بطش بالناس جميعا نظرة مصري لا نظرة ولي عهد؛ لذلك اتصل بطائفة من الناقمين على الحال التي آلت مصر إليها، أمثال السيد جمال الدين الأفغاني واللقاني والشيخ محمد عبده ومن كان يلوذ بهم من أمثال عرابي، وانخرط في سلك الماسونية الذي انخرطوا فيه، فلما اضطر إسماعيل تحت ضغط الدائنين إلى أن يعين نوبار باشا رئيسا للوزارة المسئولة الأولى وأن يضم إليه مستر ريفرس ولسن ومسيو دبلنيير، الأول وزيرا للمالية والثاني وزيرا للأشغال، ثم لما رأى أن الحال المالية في البلاد تزداد كل يوم سوءا برغم ما تنزل عنه من سلطته ومن أملاكه، ورأى الشعور العام ضد التدخل الأجنبي يزداد في البلاد كلها، خلع نوبار من الوزارة واتفق مع فرنسا وإنجلترا على تعيين ولي عهده توفيق باشا رئيسا للحكومة، على أن ولي العهد كان يعلم دقة الموقف كما يعلم بنوع خاص تهيج الشعور العام بإزاء ما كان يعتزمه السير ريفرس ولسن كعضو في لجنة التحقيق الدولية من إعلان إفلاس مصر؛ لذلك لم يجد الوزيران الأوربيان من رئيس الوزارة الجديدة مؤيدا قويا لهما، وعلى أثر إعلان وزير المالية تأجيل دفع الفوائد المستحقة للدائنين في شهر أبريل تقدمت عريضة من العلماء والوجهاء والنواب ورجال الجيش يحتج فيها مقدموها على هذا التصرف ويطلبون إلى الخديو أن يلجأ إلى نوابه للخروج من المأزق، وعلى ذلك استقالت وزارة توفيق من غير أن تفعل شيئا، وكلف إسماعيل شريف باشا بتأليف وزارة تكون مسئولة حقيقة أمام برلمان تنظم حقوقه وطرق الانتخاب له بحيث يستطيع أن يقوم بما تقتضيه الأحوال وأن يحقق الأماني القومية.
وكان ذلك هو الانقلاب الحكومي الذي أريد به القضاء على سلطة المراقبين وعلى تدخل الأجانب في الإدارة المصرية، والذي انتهى بتركيا إلى عزل إسماعيل باشا في 26 يونيو سنة 1879 وإلى إرسال برقية في اليوم نفسه إلى توفيق باشا تعلن فيها إسناد منصب الخديوية المصرية إلى جنابه ويختتمها وزير تركيا بقوله: «والأمر والفرمان في كل حال لمن له الأمر أفندم.»
كانت هذه الضربة الحاسمة غير المنتظرة من جانب تركيا منبهة لكل من يعنيهم أمر مصر وكل من لهم مصالح فيها لكي يقفوا على حذر، ومع أن توفيق باشا فوجئ بالخبر وفزع له حتى لقد قابل موظف قصره الذي أبلغه إليه أسوأ مقابلة بأن صفعه، فإنه شعر من ذلك الحين بأن التركة التي آلت إليه أعباؤها تركة مبهظة مخوفة، ترى ماذا عساه يصنع بإزاء أبيه، وبإزاء تركيا، وبإزاء الدول وتدخلها في شئون مصر، وبإزاء الأمة المصرية المتوثبة للحركة بل للثورة؟
أما إسماعيل فأيقن أن لا مفر له من الانحناء لعاصفة لم يكن يستطيع مواجهتها، وإن لم ينقطع رجاؤه في العود يوما ما إلى هذا العرش الذي انتزع منه اغتصابا؛ لذلك قابل الصدمة بكل ما يستطيع رجل في عظمته وفي قوته أن يواجهها به، وأظهر من العطف على ولي عهده ما لم يكن له من قبل به عهد، وفي الأيام التي انقضت ما بين تبوؤ توفيق عرش أبيه وسفر إسماعيل من بلاد عزيزة عليه كانت عواطف الأبوة والبنوة بينهما كخير ما يمكن أن تكون في مثل هذا الظرف العصيب.
اطمأن توفيق إذا من هذه الناحية، ولقد أظهر من عواطف البنوة ما دفعه للتنازل عن عشرين ألف جنيه من مرتباته السنوية لأبيه كي تبلغ مرتباته خمسين ألف جنيه، ولمناسبة رفع مرتبات البيت الخديو إليه أراد في نفس الوقت أن يظهر للأمة حرصه على مصلحتها ومشاركته إياها في متاعبها المالية، فأمر بإلغاء الراتب المعين لوالدته وحرمه وقدرهما خمسة وخمسون ألف جنيه.
بعد ارتقاء توفيق العرش جعلت تركيا تفكر في الاستفادة من الانقلاب بأن تسترد ما كسبته مصر بفرمان سنة 1873 الذي جعلها مستقلة استقلالا داخليا تاما فيما عدا سك العملة ودفع الجزية، وقد أثار هذا الخبر في مصر قلقا غير قليل، على أن فرنسا وإنجلترا عارضتا الباب العالي فيما أظهره من عزمه وأنبأتا ممثليهما في مصر بأنهما معتزمتان فيما إذا لم يكرر السلطان أحكام فرمان سنة 1873 في الفرمان الذي يوجهه إلى الخديو توفيق أن تطلبا الاستقلال التام لمصر، وقد اختلف في الأسباب التي دعت تركيا إلى هذا التصرف: أهي كانت تريد بالفعل إلغاء الحقوق والامتيازات التي حصلت عليها مصر في أثناء ولاية إسماعيل باشا؟ أم هي كانت تتذرع بالمطل والتسويف للحصول على مبلغ من المال بدليل أنها قطعت في ذلك الوقت حوالة على مصر أبت الحكومة المصرية قبولها بسبب ارتباكها المالي، على أن هذا التسويف طوع لفرنسا ولإنجلترا أن تتدخلا وأن تطالبا الباب العالي بإبلاغهما فرمان تولية الخديو كوثيقة دولية، وأن تثبتا بذلك حقوقهما في التدخل في شئون مصر للمحافظة على حقوقها بإزاء تركيا استنادا على ما كان من تدخلهما للمحافظة على مصالح رعاياهما الدائنين للحكومة المصرية، وكان من أثر ذلك أن شعر توفيق بما للدولتين من فضل عليه بسبب محافظتهما على حقوقه وحقوق البلاد التي ولي عرشها.
ولم يصل الفرمان بتولية الخديو الجديد إلا بعد شهرين من ارتقائه عرش أبيه، أي في 14 أغسطس سنة 1879.
خلال هذين الشهرين كانت خطة توفيق غامضة ما تزال، فهو حين ارتقى العرش كان في زمرة الماسون الذين يناصرون الحرية والعدالة؛ لذلك وجه خطابه إلى شريف باشا لتشكيل الوزارة الأولى في عهده مقدرا للأمة معتمدا عليها ذاكرا «إني عظيم الميل لبلادي، شديد الرغبة في تحقيق آمال الأمة التي أظهرت السرور بولايتي، عازم عزما أكيدا على التماس أحسن الوسائل لإزالة الاختلال المفسد لكثير من المصالح، إلا أن إدراكي لهذه الغاية التي هي موضوع آمالي يتوقف على مساعدة الأمة بجملتها.»
وتحقيقا لهذه السياسة تألفت لجان من الأوربيين غايتها تقديم العرائض إلى قناصلهم يلتمسون بها من دولهم منع تدخل الأجانب في أحوال مصر وقصر النظر فيها على الوطنيين، ثم إن توفيق باشا تحدث في ذلك الظرف إلى مكاتب التيمس، فأشار بادئ ذي بدء إلى أنه لا يبرح مقيد اليد في العمل حتى يرد الفرمان بتعيينه، لكنه مع ذلك صرح للمكاتب بأنه لا يريد الرجوع إلى تعيين وزراء أوربيين، بل ينبغي أن تكون الوزارة مصرية وطنية يصح أن يعاونها رجال من الأوربيين في الإدارات على أن يكونوا موظفين مصريين لا أكثر، أما سير ريفرس ولسن ومسيو دبلنيير شخصيا فقد صرح توفيق بأنه يعارض أشد المعارضة في رجوعهما أيا كانت صفتهما؛ لأن رجوعهما يكون مخالفا لمصلحة مصر على خط مستقيم، وطلب الخديو إلى الدول في حديثه هذا أن تمهله بضعة أعوام «فنحن في مقام الامتحان فلا يحسن بأوربا أن تمسك علي وعلى مصر طريق النجاح».
وكان من أثر هذه الخطة وتلك التصريحات أن هدأت أعصاب المصريين التي كانت متوترة في الأيام الأخيرة من عهد إسماعيل، فعلى الرغم من عزل الحكومة عشرة آلاف من الجند المجتمعين تحت السلاح وإنقاص الجيش العامل إلى اثني عشر ألفا وتأخير صرف مرتبات الكثيرين، أمسك الرجاء بالناس عن أن يلجأوا للهياج، لكن نيات توفيق باشا الديموقراطية لم تلبث إلى أكثر من وصول الفرمان بتثبيته على عرشه، ففي مساء اليوم الذي عاد فيه مندوب السلطان الذي كان يحمل هذا الفرمان قافلا إلى تركيا بعد حفلة تلاوته أقيلت وزارة شريف باشا وألف توفيق باشا وزارة تحت رئاسته مباشرة، والحجة التي روجت تبريرا لهذا التصرف إنما هي إرادة الخديو تعجيل الإصلاح، أما الحقيقة فعدم رضا توفيق عن ميول شريف باشا الدستورية، ففي الخطاب الذي أرسل به الخديو إلى كل من وزرائه الجدد معنى قصده العودة إلى حكومة الفرد، فيه تكليف لكل من النظار أن يحضر أوراق شئون وزارته ومعلوماتها عند حضوره إلى المجلس لعرضها، على أن توفيق كان يشعر بأن الأمة لا يمكن أن ترضى عن هذه الحال؛ لذلك بعث بتلغراف إلى رياض باشا الذي كان متغيبا هو ونوبار باشا، أو قل منفيين في أوربا، يستقدمه إليه لعلمه بعدم ميل هذا الوزير إلى حياة الشورى، فلما حضر في أوائل سبتمبر عهد إليه بتشكيل الوزارة وقطع على نفسه العهد باحترام إرادة 28 أغسطس سنة 1879 التي قررت مبدأ مسئولية الوزارة وتضامنها، وبعد ثلاثة أشهر من استقرار هذه الوزارة في مناصبها زار توفيق - جريا على سنة أسلافه - أنحاء ملكه في الوجهين القبلي والبحري وقضى فيهما أشهرا وعاد منهما في أوائل مايو سنة 1880.
وكان الهدوء شاملا أنحاء مصر في هذه الفترة، لكنه كان هدوء تربص وانتظار، ذلك بأن المسألة الشائكة التي انتهت بعزل إسماعيل كانت تحت البحث منذ أول ولاية توفيق، وكانت لا تؤذن بخير كثير، فعلى الرغم مما أعلنه الخديو لمكاتب التيمس من المعارضة في عودة ولسن ودبلنيير بعد فشل سياستهما المالية في مصر لم تر الحكومة الفرنسية بعد اتفاقها مع حكومة مصر على إعادة المراقبين أن يعين أحد غير مسيو دبلنيير، أما الحكومة البريطانية فأشارت بتعيين السير بارنج (لورد كرومر) وتم تعيين المراقبين في 4 سبتمبر سنة 1879 وباشرا عمليهما، وانتهيا بتقديم تقرير إلى الخديو في أواخر عام تعيينهما يقترحان فيه تعيين لجنة تصفية للدين المصري كله، وبعد محادثات بين الدول صاحبات الشأن تعينت اللجنة في 31 مارس برئاسة السير ريفرس ولسن وتعهدت الدول بقبول قراراتها، وإذا فقد رأى توفيق نفسه بإزاء حالة كان يراها أول جلوسه على العرش مخالفة لمصلحة مصر على خط مستقيم من غير أن يستطيع لها نقضا.
وقدمت لجنة التصفية تقريرها في 17 يوليو سنة 1880 فأصدره الخديو فورا وأطلق عليه اسم قانون التصفية، وعلى موجب هذا القانون بلغ دين مصر 98748930 جنيها، وقد روعيت في هذا القانون، كما روعيت في كل تصرفات ممثلي الدول الأجنبية، مصالح الدائنين الأجانب على حساب نظام الحكم في مصر، وبالرغم مما كان يعلمه المراقبون وغير المراقبين من أن أكثر من نصف هذا الدين لم يدفع إلى مصر لم يفكر أحد في إلزام الدائنين بالتنزل عن شيء من الديون الاسمية التي كانوا يقتضونها من مال المصريين ومن دمائهم، ولما كان تدخل الأجانب مثيرا لعواطف المصريين في عهد إسماعيل فقد بدأت هذه العواطف تثور من جديد بعد هدأة التربص، وبدأت العاصفة تتكور في الجو لتؤذن بالانفجار عما قريب.
وبدأت نذر الانفجار بما كان من تبرم رجال الجيش تبرما سببه امتهان العنصر المصري فيه لمصلحة الأجانب من الأتراك والجراكسة، فلما سرح إسماعيل باشا في أواخر أيامه ألفين وخمسمائة من الضباط أكثرهم مصريون كان إخوانهم يشعرون بالألم من أجلهم ويخشون أن يصيبهم مثل نصيبهم، على أن ارتقاء توفيق إلى العرش واستيزاره شريف باشا هدأ الحالة زمنا، فقد ظن الناس أنهم حاصلون على هيئة نيابية خير من شورى النواب القديم تراقب الحكومة وتمنع تدخل الأجانب وتعيد العدل إلى نصابه، فلما عين رياض باشا وعين معه في وزارة الحربية شركسي قح هو عثمان رفقي، يمقت المصريين ويمتهنهم، ولما تكشفت نيات الخديو ووزارته عن العدول عن الحكم النيابي بل عن شورى النواب نفسه، ثم لما بدئ بتنفيذ قانون التصفية وتبين أن حال مصر المالية لم تفد منه خيرا - لما حدث ذلك كله كان المدنيون وكان رجال الجيش تغلي في صدورهم مراجل الحقد وتأجج نفوسهم بنيران الثورة.
وعجيب أن يحدث ذلك كله بأعين توفيق فلا يراه ولا يقدر مداه، بل يندفع في التيار العجيب الذي اندفع فيه مخالفا بذلك كل ما أظهره من الميول أول جلوسه على عرش أبيه، فهذا الميل الشديد لتحقيق آمال الأمة وهذا الاعتماد على معاونتها قد انقلب فجأة عقب وصول الفرمان إلى إعادة حكومة الفرد، ثم إلى إسناد الوزارة لنصير قوي من أنصار النظام المطلق، وهذا الحرص على معارضة عودة ولسن ودبلنيير وعلى أن تكون الوزارة مصرية وطنية، وهذه الدعوة لانتظار أوربا نجاح السياسة الوطنية الجديدة قد انقلب فجأة إلى قبول هذين الشخصين وغيرهما من الأشخاص، وإلى ترك التدخل الأجنبي يتوغل في إدارة البلاد، وهذه السياسة المالية التي فشلت على يد ولسن قد انقلبت فجأة سياسة الحكومة المصرية ليصدر على موجبها قانون التصفية، وهذه الانقلابات كلها قبلها توفيق راضي النفس مطمئنا.
على أن لهذا العجيب في نظرنا تفسيره الواضح: فتوفيق الضعيف قد رأى ما حل بأبيه حين عارض إنجلترا وفرنسا فيجب ألا يعارضهما، وإنجلترا وفرنسا تريدان هذا النظام فيجب أن يريده ليتمخض ذلك كله عن انفجار أو عن ثورة أو عما يمكن أن يتمخض عنه، فليس توفيق الضعيف هو الذي يطالب بالتفكير في هذا، ويكفيه أن يعتمد في بقائه في عرشه على سند الدولتين اللتين استخلصتا له من تركيا فرمان توليته.
وكان يسيرا أن يرى توفيق نذر الانفجار آتية من ناحية رجال الجيش، ذلك بأنه فضلا عن تسريح ألوف من الجند ومئات من الضباط في آخر عهد إسماعيل وبالرغم من تسريح عشرة آلاف جندي أول ولايته، فإن تنفيذ قانون التصفية أسفر عن عجز الميزانية اللازمة لنفقات الدولة في سنة 1881 عجزا بلغ مقداره 1610000 جنيه، بينما كان متوافرا في صندوق الدين بعد دفع الفوائد مبلغ 813000 جنيه أنفقت في استهلاك السندات بدلا من أن يسدد منها ذلك العجز، وقد ترتب على هذا أن بقي كثيرون من الموظفين - ومن بينهم رجال الجيش - لا يتقاضون مرتباتهم، أضف إلى هذا أن رفقي باشا ناظر الحربية أصدر لائحة مقتضاها عدم ترقية المصريين إلى الدرجات التي يستحقونها، بيمنا يرقى الجراكسة إلى أكثر مما يستحقون، ولما كان للضباط المصريين جماعة سرية بين أعضائها أحمد عرابي وعلي فهمي وعبد العال حلمي وكانوا قد قدموا لرياض باشا طلبات بالإصلاح منذ شهر مايو سنة 1881 لم تنظر الحكومة فيها، فقد قرر هؤلاء دفع ألايات الجيش للاحتجاج على تصرفات رفقي باشا وعلى المطالبة بعزله، ورفعت بالفعل عريضة للخديو متضمنة هذا الاحتجاج.
وكان محمود باشا سامي البارودي وزير الأوقاف في وزارة رياض على اتصال بهؤلاء الضباط؛ لذلك تيسر لهم أن علموا بعد احتجاج الجيش أن الحكومة تريد محاكمة الثلاثة الذين ذكرنا أسماءهم، وأنها أمرتهم بالذهاب إلى قشلاقات قصر النيل في أول فبراير سنة 1881 لتقبض بعد ذلك عليهم، فما كادوا يذهبون وما كاد يقبض عليهم ويجردون من رتبهم ويسجنون حتى كانت ألاياتهم قد حضرت وأنقذتهم من سجنهم بقوة السلاح.
وسار الضباط الثلاثة على رأس ألاياتهم من قصر النيل إلى عابدين وهناك وقف عرابي بين الجند خطيبا فشكرهم على إخلاصهم له وإنقاذهم إياه، ثم تقدم إلى الخديو يطلب العفو عنه وعن زملائه، وخلع عثمان رفقي من نظارة الحربية، وأردف عبارته هذه بقوله: «إنهم لا يبرحون إلا بنيل بغيتهم.» ولما كان توفيق قد رأى كل الأوامر التي أصدرها إلى ضباط الجند لا تنفذ، ورأى نفسه في مأزق لا يعرف سبيلا إلى النجاة منه سارع إلى إجابة طلب العصاة وأقال عثمان رفقي من الحربية وعين مكانه صديق الضباط المنتقضين محمود سامي البارودي.
لو أن توفيقا كانت له سياسة معينة يومئذ لما وقع حادث قصر النيل، لكنه كان مضطرب الرأي والسياسة جميعا لأنه كان يشعر - كما قدمنا - بأن سنده الأخير ليس تركيا وليس الأمة المصرية ما دام حليم باشا وارث العرش على النظام القديم مقيما في الأستانة يدس لإلغاء وراثة الابن ويعاونه أنصار من الساسة والأميرات، وما دام هو لا يريد أن يعتمد على الأمة أو ينيلها شيئا من الحقوق التي تشعرها بكيانها، على أن حادث قصر النيل لم يكف توفيقا درسا في وجوب تحديد سياسة يسير عليها لكيلا يكون دائما معرضا للتصادم مع القوى المختلفة المحيطة به، فمع شعوره بأن أباه اضطر للاستعانة بالأمة ولو استعانة صورية ممثلة في مجلس شورى النواب، فقد ظل حفيظا على مبدأ الحكومة المطلقة ثم إنه إلى جانب هذا كان قد بدأ يتخوف رياضا لقوته وشدة سلطانه على الرغم من مشاركة رياض إياه في تأييد النظام المطلق؛ لذلك بدأت الوزارة تضعف شيئا فشيئا على حين بدأ المتمردون من رجال الجيش يزدادون قوة على أثر انتصار يوم قصر النيل، وينضم إليهم كثيرون من غير العسكريين ويجاهرون جميعا بضرورة تشكيل مجلس النواب، وكان سامي البارودي من أصحاب هذا الرأي ومن أقوى المحركين لعرابي ومن معه، بل كان هو روح الحركة ومحورها.
وبرغم ضعف الوزارة وشعور الخديو بمعارضة عنصر قوي في البلاد لها فإنه أراد أن يقاوم هذه المعارضة بالشدة؛ لذلك عمد إلى عزل سامي البارودي من وزارة الحربية وإلى تعيين صهره داود باشا يكن مكانه، وأراد داود باشا قمع الحركة، فأمر بمنع اجتماع الضباط وبث عليهم الأرصاد والعيون، ولما عاد الخديو من الإسكندرية أمر الوزير الجديد بإجراء تنقلات بين الألايات شعر معها عرابي وأصحابه بأن المراد تشتيتهم للتنكيل بهم بعد ذلك، فرفضوا تنفيذ الأمر وأبلغوا الخديو بأن الجيش سيحضر بتمامه إلى عابدين لإبداء اقتراحات تتعلق بنظام الحكم في البلاد وبشئون الجيش وتحسين حاله.
ترى ماذا يفعل توفيق بإزاء هذه الحركة وهي حركة تمرد عسكري صريح؟! أتراه يترك الأمر لوزارته فيصرح أن عليها حفظ النظام والأمن؟ أتراه يدعو إليه كبار رجال الدولة وأعيانها في مجلس عام لينظر في الأمر؟ أتراه يأمر بتجريد المتمردين من رتبهم وألقابهم لكيلا يكون لوزارته ولا لغيرها من رجال البلاد عليه فضل ويقف صلبا ينتظر النتائج كائنة ما تكون؟ كلا، فهذه كلها حلول تحتاج إلى عزيمة وإلى قوة جنان وإلى شعور بالمسئولية واستعداد لمجابهة الخطر وجها لوجه، وتوفيق الضعيف لا يملك شيئا من هذا؛ لذلك عمد إلى وسيلة عجيبة لا يعمد إليها سياسي، أخذ وزراءه وتوجه بهم إلى حيث تعسكر الألايات المتمردة يحقق معهم ويستعطفهم، ثم ذهب بنفسه إلى القلعة حيث ألاي عرابي ليرجوه ألا يفعل ما اعتزم فعله، لكنه وجد عرابي قد سبقه إلى عابدين فعاد هو الآخر أدراجه إليها.
وهناك في 9 سبتمبر سنة 1881 قام عرابي على رأس الجيش ممتطيا جواده مستلا سيفه ووقف توفيق في شرفة عابدين يحيط به وزراؤه وقناصل الدول.
وبأمر توفيق أغمد عرابي سيفه وتقدم بمطالبه، وهي إسقاط الوزارة وتشكيل مجلس النواب وزيادة عدد الجيش والتصديق على قانون العسكرية الجديد وعزل شيخ الإسلام، وربما كان التصديق على قانون العسكرية أهم مطالب الجند، وربما اكتفوا به لو أن الخديو أجابهم فورا إليه وأمرهم بالانصراف لكي تنظر حكومته فيما عدا ذلك من المطالب، لكن الخديو اضطرب لساعته ورفض الطلبات جميعا مواجها خطر النداء بعزله وإعلان الجمهورية في مصر على نحو ما كان يدور برأس عرابي وأصحابه، لكن وزراءه وقناصل الدول أشاروا على الخديو بالعود إلى داخل السراي خشية أن تعجل مواجهة ما بين الرجلين الحوادث، وصار مستر كولفن القائم بعمل المراقب الإنجليزي وقنصلا إنجلترا والنمسا رسلا بين الخديو وعرابي، وتصلب عرابي التصلب كله وأشار بعض الحاضرين على الخديو - ومن بينهم مستر كلفن - أن يتشبث بالرفض مؤكدين أن لن يصل رجال الجيش إلى أكثر من المظاهرة التي قاموا بها، لكن الخديو أوصله ضعفه وعدم احتياطه إلى التسليم فسقطت وزارة رياض لساعتها ووعد الخديو بتنفيذ باقي المطالب بالتدريج، ودعا إليه شريف باشا كي يشكل الوزارة الجديدة، ورفض شريف بسبب ما أمامه من المصاعب وأخصها تمرد الجيش وعدم طاعته الأوامر، فلما أظهر عرابي استعداده ورجاله للامتثال وللطاعة، ولما جاء عمد البلاد فكفلوا عرابي فيما قاله، ثم لما استشار شريف حكومة تركيا وحكومات إنجلترا وفرنسا وكفل معاونتهم جميعا، بعد كل هذا شكل الوزارة وأمر الضباط الثلاثة بأن يتفرقوا في أنحاء مختلفة من القطر، وبعث بعرابي إلى رأس الوادي وباشر الحكم في حزم وأناة كانت البلاد يومئذ بحاجة أشد الحاجة إليهما.
وآنس توفيق نفسه في عزلة بعدما أذعن إلى الاستعانة بشريف الذي كان قد أقصاه عن الحكم يوم طمع في الحكم المطلق على أثر وصول الفرمان بتثبيته في عرشه، وأحسبه هذه المرة كان يود أن تطول عزلته وأن تظل الحكومة عاملة والأمن مستتبا وأن تجري الأشياء في نصابها، فلا تزعجه العسكرية ولا غير العسكرية مرة أخرى، لكنه لم يلبث إلا قليلا حتى علم أن الباب العالي أرسل وفدا برياسة علي نظامي باشا، ترى ما هي مهمة الوفد؟ الخديو لا يعلم، وفرنسا وإنجلترا لا تعلمان، والوزارة العثمانية نفسها لا تعلم، لقد أرسله أمير المؤمنين بإرادة شاهانية، فماذا عسى أن تكون هذه الإرادة؟ ونزل الوفد مصر في 10 أكتوبر سنة 1881 بعدما احتجت إنجلترا وفرنسا على تركيا لإرسالها إياه من غير اتفاق معهما ولا مجرد إخطار لهما، وجاء الوفد واحتفل الخديو به وأقام بمصر سبعة عشر يوما وعاد أدراجه، وكان كل ما فعل أن أكد للخديو ثقة المتبوع الأعظم به، وإن أكد للجيش المصري في حديث دار بين نظامي باشا وطلبة عصمت بمسمع من الجند أن حكومة الباب العالي لا تلوم الجند على ما فعلوا وأنها ترى مصر في طمأنينة وسكينة.
بإزاء تصرف الوفد شعر توفيق كأن الدسائس التي كانت تحاك له خيوطها على ضفاف البسفور بمعرفة حليم باشا تعاونه الأميرات قد آتت ثمراتها، وأنه لولا تأييد إنجلترا وفرنسا إياه لكان معرضا لمثل ما تعرض له أبوه من قبل، ومن يدري؟ فقد يكون حليم باشا قبل أن تسترد تركيا في فرمان توليته ما شاءت أن تسترده من الحقوق المكسوبة لمصر، فليزدد توفيق إذا اعتمادا على فرنسا وعلى إنجلترا، وليخش في نفس الوقت تدخلهما، وليضطرب لذلك بين مختلف العوامل، وليترك وزارته تجاهد وحدها للخلاص من حرج الموقف.
ودعت الوزارة لانتخاب مجلس شورى النواب كي تعرض عليه القانون النظامي لمجلس النواب، وافتتحه توفيق بخطاب عرش ألقي في 26 ديسمبر سنة 1881 ورد عليه سلطان باشا رئيس المجلس، وعرضت الوزارة القانون النظامي، فاختلف المجلس معها في أمر نظر الميزانية، ذلك أن الحكومة كانت ترى احتراما للاتفاقات التي تمت بين الحكومة المصرية والدول الأجنبية أن يكون الأمر الأخير في الميزانية للوزارة مع مراعاة إرادة النواب قدر المستطاع في حدود هذه الاتفاقات، أما النواب فكانوا يريدون أن يكون رأيهم الأخير أو يسار على القاعدة الدستورية من حل المجلس أو سقوط الوزارة، ولم يمكن التوفيق بين الرأيين، فكان ذلك سببا في استقالة وزارة شريف باشا بتاريخ 4 فبراير سنة 1882 وحلول وزارة محمود باشا سامي البارودي محلها مع تعيين عرابي باشا وزيرا للحربية فيها.
وفي أثناء قيام الخلاف بين وزارة شريف باشا ومجلس شورى النواب أرسلت الحكومتان الفرنسية والإنجليزية مذكرة مشتركة إلى الخديو توفيق باشا تؤيدانه فيها في الخديوية وفقا للفرمانات، وتعدان سكينة مصر مما يعنيهما لمصلحة رعاياهما، وتعلنان استعدادهما لدفع ما يطرأ على الحكومة الخديوية من الأخطار، وكان منتظرا أن تحدث هذه المذكرة من الأثر ما يضعف تمرد المتمردين، على أن تركيا احتجت على الدولتين لتخطيهما إياها ومخاطبتهما الخديو مباشرة، كما علم العرابيون أن إنجلترا أبلغت فرنسا أنها برغم هذه المذكرة تعتبر نفسها حرة في الخطة التي تتخذها تنفيذا لمقاصدها، وقوى ذلك من ساعدهم وجعلهم أقل اكتراثا للحوادث وتقديرا لنتائجها، والواقع أن فكرة الثورة التي بدأها الجيش كانت قد انتشرت في أنحاء البلاد جميعا وأن قمع تيار هذه الروح كان قد أصبح متعذرا، وبخاصة مع وجود رئيس للدولة ضعيف ضعف توفيق.
واستمر مجلس النواب ينعقد إلى 26 مارس سنة 1882 حين صدر الأمر بانفضاض دوره العادي.
وفي أعقاب انفضاض المجلس نظر عرابي إلى ما حوله موجسا خيفة مما يدبر خصومه له، ولم تك إلا أيام حتى صدرت أوامر الحكومة بالقبض على عشرات الجراكسة ومن بينهم عثمان باشا رفقي بتهمة ائتمارهم به وبزملائه وبالنظام الذي أقاموه، ومحاكمتهم أمام مجلس حربي والحكم عليهم بالنفي إلى أقاصي السودان، وكان عرابي ومن معه مقتنعين بأن الخديو هو المحرض على هذه المؤامرة، وزادهم اقتناعا رفض الخديو التصديق على حكم المجلس الحربي، وعلى ذلك استعر الخلاف بين الخديو والوزارة، يصر الوزراء على تنفيذ حكم المجلس ويعترضه رئيس الدولة، وأدى ذلك إلى تخوف فرنسا وإنجلترا على الرعايا الأجانب في مصر، فقرروا إرسال بوارج إلى المياه المصرية للمحافظة على حياتهم ومصالحهم، وأعلنت فرنسا وإنجلترا جميعا حرصهما على تأييد الخديو في مركزه، وفي ذلك إشارة إلى ما كانتا تتوقعانه من وصول عرابي وأصحابه إلى استصدار قرار من النواب بعزله.
ولما اشتد الخلاف بين الوزارة والخديو دعت الوزارة الهيئة النيابية للاجتماع وتوسط سلطان باشا رئيس المجلس وجماعة من كبار النواب معه يريدون الوصول إلى حل لهذا الخلاف، وكان من الحلول التي قبلها الخديو أن يقال سامي البارودي من رياسة الوزارة وأن يحل محله مصطفى باشا فهمي، لكن مصطفى باشا أبى، وبينما المحادثات دائرة بين النواب والخديو والوزارة كانت البوارج الإنجليزية والفرنسية قد وصلت إلى المياه المصرية، وأعقبتها الدولتان ببلاغ وجهه قنصلاهما في 25 مايو إلى الخديو يطلبان فيه سقوط الوزارة بتمامها، وخروج عرابي من القطر المصري مع ضمان الدولتين رتبه ومرتباته ونياشينه، وإقامة علي فهمي وعبد العال حلمي في الأرياف وإصدار الخديو بعد ذلك عفوا عاما عن جميع من كانت لهم يد في المسألة.
وأبلغ الخديو وزراءه هذا الإنذار، فرفضوه بحجة أن ليس للدول شأن في مخابرة مصر إلا عن طريق الأستانة، على أن الخديو أظهر رضاه عن الإنذار، فاستقالت الوزارة محتجة وقبل الخديو استقالتها، ودعا شريف باشا لتشكيل وزارة جديدة، لكن شريف باشا رأى الموقف لا يطاق فاعتذر كما اعتذر عمر باشا لطفي، وفي هذه الأثناء أوفد الباب العالي درويش باشا معتمدا سلطانيا لينظر في الخلاف بين الخديو ووزرائه بل العرابيين جميعا، فإن هؤلاء كانوا قد انتهوا إلى ضرورة خلع الخديو وتولية البرنس حليم مكانه، وكانوا يطمعون في نجاح هذه السياسة لعلمهم أن تركيا تؤيدها.
وفي انتظار حل المشاكل وتعيين وزارة جديدة وطنية تفاقم الخطب واضطرب حبل الأمن، فاضطر الخديو إلى أن يعين عرابي وحده ناظرا للحربية ليتولى أمر الأمن في البلاد.
ولم يشر الخديو من جانب المعتمد السلطاني بما يدل على استعداد تركيا إذا اقتضت الحال للتدخل المسلح ولتأييده في مركزه برغم العرابيين؛ لذلك قبل الموقف كما هو وعين وزارة إسماعيل راغب باشا على أن يظل عرابي وزيرا للحربية، وظل توفيق ووزراؤه في العاصمة، وظلت أساطيل الدول في مياه الإسكندرية، وظل الناس يتحدثون فيما يمكن أن تؤول إليه الأمور في زمن قريب، وكان أعجب المواقف يومئذ موقف تركيا، فقد اقترحت إنجلترا وفرنسا أن ينعقد بالأستانة مؤتمر دولي للنظر في حالة مصر وإقرارها على صورة من الصور، لكن تركيا رفضت رفضا باتا بدعوى أن الحالة في مصر عادية وأن النظام القائم لا خوف عليه، وفيما الحديث بين الدول في أمر المؤتمر وانعقاده دائر وقعت فتنة الإسكندرية في 11 يونيو سنة 1882.
وليس يسيرا معرفة الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذه الفتنة، أهي كانت حركة فجائية نتيجة تكدس هذا الثغر بالسكان وتزايد الوافدين عليه بسبب الحال غير الطبيعية التي نشأت عن وجود البوارج في مياهه؟ أم هي كانت بتدبير سابق من عرابي وأنصاره كما يزعم بعض الكتاب الإنجليز مؤيدين زعمهم بأن الحكومة تباطأت في قمع الذين أثاروا الفتنة وبكثرة عدد قتلى الأجانب على قتلى المصريين زيادة محسوسة؟ أم هي كانت على العكس من ذلك مدبرة من جانب الإنجليز على ما يذهب إليه عرابي وأنصاره مؤيدين رأيهم بأن أمير الأسطول الإنجليزي كان مأمورا بالمحافظة على أرواح الرعايا البريطانيين ومصالحهم، على خلاف أمير الأسطول الفرنسي الذي كان مكلفا بالمظاهرة البحرية لتأييد سلطة الخديو؟ ومهما يكن من هذه الفروض فقد وقعت مذابح 11 يونيو وحكومة الخديو بالقاهرة، فخف توفيق وعرابي والوزراء في اليوم نفسه وعقدوا مجلسا عسكريا لتحقيق أسباب الفتنة وجعلوا على رأسه عمر باشا لطفي محافظ الإسكندرية الذي اتهمه الإنجليز بالتهاون في قمعها، وبلغوا من اتهامه أن انسحب المحامي الإنجليزي الذي حضر تحقيق المجلس العسكري بأمر القنصلية البريطانية.
وبقي الخديو وحكومته بالإسكندرية يريدون إعادة الأمن إلى نصابه، وكان توفيق يومئذ في مركز لا يحسد عليه، فهو لم يكن يأمن جانب تركيا، وكان يعتقد اعتقادا جازما أنها تعارضه وتؤيد المتمردين عليه رجاء الوصول يوما من الأيام إلى خلعه وإقامة حليم باشا مكانه، وهو لم يكن يأمن العرابيين لما كان يعتقده من بغضهم إياه واتفاقهم مع السياسة التركية في التخلص منه، وهو مع اعتماده على تأييد فرنسا وإنجلترا كان يخشى ألا يتخطى أمرهما التأييد المعنوي، فإذا فوجئا بالأمر الواقع من عزله لم يقوما بعمل لتثبيته في عرشه، ثم هو لم يكن يثق حتى بالجراكسة من وزرائه؛ لأنه شعر بالقوة المصرية تتغلب على كل شيء في البلاد وتبتلعه.
وتجسم الشعور بهذه القوة القومية في رأس عرابي وأعوانه حتى دفعهم إلى تقوية حصون الإسكندرية استعدادا لدفع الغارة البحرية عليها، ومع أن الدول كانت قد تخطت معارضة تركيا في عقد مؤتمر الأستانة لحل المسألة المصرية وانعقد المؤتمر في العاصمة التركية فعلا برئاسة لورد دفرين سفير إنجلترا لدى الباب العالي، وكان طبيعيا أن يكف الجميع عن تعقيد المسائل في مصر حتى يصدر المؤتمر قراره، فإن تحصين قلاع الإسكندرية استمر، كما أن الأميرال سيمور الإنجليزي أبلغ الخديو بأنه مضطر إذا لم تقف التحصينات إلى ضرب قلاع الإسكندرية بالمدافع، وعلى الرغم من احتجاج ممثلي الدول على بلاغ الأميرال ومن إنكار طلبة عصمت الاستمرار في التحصينات ومن أن تسوية المسألة كانت ممكنة لو أن فرنسا شاركت في الضغط المعنوي على الحكومة المصرية كي تنتظر قرار مؤتمر الأستانة فإن الأميرال سيمور أصر على قراره، وقررت وزارة فريسنيه انسحاب الأسطول الفرنسي إلى بورسعيد.
ماذا يفعل توفيق ومقامه بسراي رأس التين يجعله معرضا لقنابل مدافع البوارج؟ لقد طلب إليه المستر كلفن أن ينتقل إلى بارجة أمير البحر الإنجليزي لأن غرض الأسطول الإنجليزي تأييد ملكه، لكن توفيق كان يعلم أن التجاءه وهو أمير هذه البلاد التي تطلق النار عليها إلى أساطيل مهاجميها يعرضه لعزل تنفرد إنجلترا بالاعتراض عليه بينا تشترك فرنسا والدول الأخرى مع تركيا في تأييده لما كان لفرنسا من ضلع ظاهر مع العرابيين ومع حليم باشا؛ لذلك رأى الاستسلام للمقادير وقال لمستر كلفن ما مؤداه:
إني لا أبرح مكاني ولو وقعت الواقعة وأطلقت المدافع على الإسكندرية، فإن لي من رعيتي قوما أمناء لم يخونوني بل خدموني بأمانة وصداقة، فلا يصح أن أتركهم أوان الشدة لأنجو بنفسي، ولا يليق بي كذلك أن أترك البلاد في وقت الحرب فإن في ذلك عارا عظيما.
واكتفى بالانتقال هو ودرويش باشا إلى قصر الرمل بعيدا عن مرمى المدافع.
وفي صباح 11 يوليو سنة 1882 أطلقت البوارج الإنجليزية مدافعها على حصون الإسكندرية فجاوبت الحصون بإطلاق مدافعها، على أن الموقعة لم تدم لأكثر من الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، إذ صمتت نيران الحصون ودك بعضها دكا وشعر العرابيون بأن ما توهموه من قوتهم على مقاومة البوارج الإنجليزية لم يكن إلا وهما، على أن ذلك لم يفت في عضدهم ولم يوهن من عزيمتهم إذ اعتقدوا أنهم يستطيعون أن يعسكروا في كفر الدوار ليعودوا بعد زمن إلى مهاجمة الإسكندرية.
وعلى ذلك قرر عرابي ومن معه الانسحاب من الثغر بعد أن أيقنوا من أن الخديو الذي رفض الالتجاء إلى بوارج الإنجليز قد سر لانتصارهم، وأنه لذلك قد صار خصما ظاهرا للثائرين عليهم، وفيما كانت المدينة تحترق بفعل الجماهير الثائرة والعساكر المقيمة مع عرابي عاد الخديو من سراي الرمل حيث كان سجينا تحت أمر رجال عرابي إلى سراي رأس التين حيث استقبله الجند الإنجليز على بابها وحيث استقبله الأميرال سيمور وعدد من رجاله داخلها.
وكان في الوقت متسع ما يزال لإخماد نار الفتنة في مصر لو أن تركيا لم تكن متأثرة بسياسة فرنسا حريصة على تأييد الثائرين، فقد طلب إليها لورد دفرين - بناء على تعليمات حكومته - أن تعلن أن عرابي عاص وتؤيد سلطة الخديو واستعدادها لإرسال قوة لقمع العصيان وإعادة النظام، لكن تركيا أبت أن تخطو هذه الخطوة، وطلبت إنجلترا إلى فرنسا أن تشترك معها في الدفاع عن قناة السويس، فأعلن الساسة الفرنسيون أن قنال السويس بمأمن من أن يهدده مهدد، والواقع أن عرابي ومن معه لم يفكر أحد منهم في تحصين بناحية القنال اعتمادا منهم على حيدته وعلى تأكيد المسيو دلسبس بأن أية قوة محاربة لن تستطيع خرق حياده، ورأت إنجلترا بإزاء ذلك كله أن الفرصة سانحة لأن تخطو خطوة جديدة في وادي النيل بعد خطوتها الأولى التي أتمها دزرائيلي في سنة 1875 بمشترى أسهم القناة التي كانت مملوكة لإسماعيل، فقررت التدخل المسلح منفردة، ولم تعبأ بحيدة القناة بل ذهبت أساطيلها المقلة للجيش الذاهب إلى مصر قاصدة بورسعيد والإسماعيلية فاحتلتهما من غير أية مقاومة ولا أي احتجاج، وعسكرت القوة الإنجليزية يوم 22 أغسطس في الإسماعيلية، وفي هذا الظرف وبعد فوات الفرصة أعلنت تركيا عصيان عرابي وأيدت توفيقا في عرشه، لكن توفيقا كان قد انضم إلى السياسة الإنجليزية وعزل عرابي من نظارة الحربية واعتبره ثائرا، وقامت في مصر إذ ذاك حكومتان: حكومة توفيق يؤيدها فريق من المصريين وتؤيدها إنجلترا، وحكومة الثورة تخضع لها البلاد كلها، لكن هذه الحكومة الثانية لم يطل أمرها؛ فقد انهزم عرابي وجنده في موقعة التل الكبير يوم 12 سبتمبر ودخل الإنجليز القاهرة في الخامس عشر من هذا الشهر نفسه.
وعاد توفيق إلى عاصمة ملكه في 25 سبتمبر سنة 1882 يصحبه الدوق أوف كنوت والجنرال ولسلي والسير إدورت مالت، وكان توفيق يظن أن قضاء إنجلترا على الثورة باسم تأييد مركزه معناه عوده للحكم وتولي أمور البلاد على ما تجيزه الفرمانات، ولعله لم يخطر بباله أن انتصار إنجلترا في التل الكبير ودخول الجيوش الإنجليزية إلى عاصمة ملكه قد قدر له أن يكون معناه القضاء على سلطته بنقلها من يده إلى يد هؤلاء الذين ثبتوه في عرشه، ولعله لم يخطر بباله أن عودته إلى مقر سلطانه محاطا بالأمير وبالقائد وبقنصل إنجلترا سينتهي لا ريب إلى أن تكون الحوادث العرابية آخر ما خبأ القدر لتوفيق من نشاط، ولئن كان عرابي سيحاكم وسينفى إلى سيلان فإن ولي عرش مصر لن يكون أعظم من عرابي سلطانا برغم مقامه في قصوره وسط عاصمة ملكه.
فبرغم تبليغ اللورد دوفرين الباب العالي عقب موقعة التل الكبير أن الحكومة البريطانية تفكر في سحب جنودها من مصر ما دام النظام قد استتب فيها فإن حكومة جلالة الملكة رأت عقب انتصارها على الثوار أن يكون مصير الثوار بيدها لا بيد حكومة الخديو، أليست هي التي تغلبت عليهم وقهرتهم؟ وإذا كان الخديو وأنصاره يرون طبيعيا أن يقضى على عرابي وكل من معه بالإعدام جزاء فشلهم في ثورتهم، فإن إنجلترا تنظر للأمر نظرة أخرى؛ ولذلك أبلغ القنصل الإنجليزي الخديو ألا يتصرف في أمر الثائرين قبل حضور اللورد دوفرين إلى مصر، وكانت حكومته قد انتدبته «لينصح إلى حكومة الخديو بالوسائل الواجب اتباعها لإعادة سلطة سموه»، وكان أول ما صنعه لورد دوفرين أن طلب الإفراج عن المئات الذين اكتظت بهم السجون باعتبارهم ثائرين عدا خمسة هم: عرابي وطلبة ومحمود سامي ومحمود فهمي وعلي فهمي، ومع أن القوانين التركية للمجالس العسكرية لم تكن تبيح حضور محام عن المتهمين فقد جاء محاميان إنجليزيان هما مستر نابير ومستر برودلي، وبعد صدور الحكم بالإعدام استبدله الخديو عملا بنصيحة قنصل إنجلترا - ونصيحته عند توفيق أمر محترم - بالنفي المؤبد.
وكان لا بد لانسحاب الجنود الإنجليزية من أن تستريح إنجلترا إلى انتظام الجيش المصري انتظاما تطمئن معه إلى عدم تهديد الأمن مرة أخرى، وأن تطمئن إلى شيء آخر هو ألا تتعرض مصر لغزو دولة أخرى إياها غزوا يعرض قناة السويس إلى الخطر، وغير مرة أعلنت إنجلترا استعدادها للجلاء عن مصر وسحب جنودها منها متى اطمأنت إلى هذه الغايات، وهذه ثمان وأربعون سنة مضت منذ الاحتلال ولما تهتد الحكومة البريطانية - على الأقل - إلى ما يطمئنها على ألا تغزو مصر دولة أخرى أو أن تتعرض قناة السويس الدولية للخطر!
على أنها رأت في ذلك التاريخ وبعد مشورة اللورد دفرين أن تنظيم الحكم في البلاد على قاعدة العدل هو أقرب الوسائل لتحقيق الأغراض التي تريد أن تتحقق لتجلو عن وادي النيل، فأمرت، أستغفر الله، فنصحت أن يلغي توفيق قانون مجلس النواب ويستبدل به قانون مجلس الشورى والجمعية العمومية، وأخذت بيدها مقاليد مالية البلاد، ونحت فرنسا قدر المستطاع عنها، ودعت إلى عقد مؤتمر لاستبدال نظام التصفية بنظام آخر، وجعلت تتغلغل في شئون الحكم شيئا فشيئا حتى وضعت يدها على كل شيء وعلى توفيق من بين ما وضعت يدها عليه.
وسر توفيق بهذه الحال الجديدة واطمأن أشد الاطمئنان لها، بل لقد بلغ من إخلاصه لإنجلترا أن كان لا يكتم على ممثلها سرا من أسرار وزارته، روى أحد الذين حضروا ذلك العصر أن رياض باشا اتفق مع زملائه مرة على أن يعقدوا مجلس وزارة لا يحضره المراقب الإنجليزي كلما أرادوا النظر في شئون تعني مصر وحدها، وأبلغ رئيس الوزارة توفيقا هذا الخبر، ثم لم يكن بأكثر من دهشة رياض حين نبهه قنصل إنجلترا العام إلى أنه كان يعتقد فيه الصراحة، وروى له ما أخبر هو به الخديو من قبل.
ولم يكن يدور بخاطر توفيق شيء من أمر جلاء الجنود البريطانية عن مصر برغم إلحاح السياسة الفرنسية فيه بعد إذ رأت نفوذها في وادي النيل يتقلص، وكيف تريد توفيقا أن يؤيد السياسة الفرنسية وقد كانت منضمة للعرابيين ضده في ظروف كثيرة، وكانت تعطف على فكرة تعيين حليم باشا في منصب الخديوية ؟! وإذا فليصنع الإنجليز لتنظيم أمر البلاد ما يشاءون، ليقرروا ثلاثة ملايين من الجنيهات تعويضا لمن أصابهم ضرر من جراء فتنة الإسكندرية، وليوطدوا نظام الحكم الذي يرون توطيده في مصر، وليوفدوا إلى السودان ما يشاءون من الجيوش لقمع ثورة المهدي، وليقرروا الانسحاب من السودان وإخلاءه فيأبى رئيس وزارته شريف باشا ويقبل نوبار الوزارة والانسحاب - ليصنعوا بمصر ما شاءوا وليعينوا من الوزراء من شاءوا، فلن ينسى توفيق لهم فضل تثبيته على عرشه ولن يكون لهم إلا أخلص المخلصين.
ولعل ما كتبه لورد كرومر عن توفيق وخلقه خير ما يوضح لنا مبلغ اطمئنان توفيق للحالة الجديدة، حالة الاحتلال الإنجليزي، قال جنابه ما مؤداه:
ما أحسب خير أصدقاء توفيق يذهبون إلى أنه كان رجلا عظيما أو خديويا مثاليا، فالواقع أنه لم يكن من العظمة في شيء، ولقد كان مكتفيا بزوج واحدة فضرب بذلك مثلا صالحا لأهل بلاده، وكان أبا صالحا نشيطا معنيا بحسن تربية أولاده، وقد اشتهر بالتقوى ولكنه كان خلوا من أية ظاهرة للتعصب مما يصطبغ به أتقياء «المسلمين» ووصلت تقواه بينه وبين رعاياه المسلمين وكانت لذلك عاملا سياسيا له بعض الخطر، وكان بالقياس إلى من حوله مستقيما وفيا، وكان كأكثر أهل بلاده يخاف المسئولية ويجتهد ما استطاع ليلقي كل ما يقدر على إلقائه منها على أكتاف الآخرين، فكان يشكو من كثرة عدد الأوربيين في الحكومة المصرية، فإذا قصد إليه أوربي يلتمس منصبا أجابه بأنه يكون سعيدا لإجابة الطلب، ولكن سلطة بريطانيا تمنعه من السير بما يمليه عليه قلبه، وكان عديم النشاط يعوزه الابتكار، ولكنه كان إذا اضطر إلى أن يقر قرارا أبدى في غير قليل من الأحيان ما يدل على الكرامة وحسن التقدير وبعد النظر، وكان طيب القلب حتى يكاد في بعض الأحايين يبدي من الاعتراف بالجميل عما قدم إليه من خدمة ما يندر أن يكون من صفات حاكم شرقي، وكان يظهر أعمق المقت لكل أنواع التحكم والإرهاق والقسوة، ولم يكن أبدا مسئولا شخصيا عن عمل من هذه الأعمال ، وإن كان تباطؤه وإهماله قد اتاح ارتكاب كثير من الظلامات باسمه، ولم يكن متعلما تعليما عاليا، وقل أن قرأ كتابا، ولكنه كان يطلع على الصحف ويتحدث مع رجال من كل طراز ومكانة، وكان متوسطا في إدراك الحوادث التي تلقى إليه وفي تتبع المناقشة التي تحدث أمامه، أما من حيث حدة الذكاء فربما كان فوق متوسط أهل بلاده.
وإذا لم يكن عظيما في الرجال فهو لم يكن خديويا مثلا، فلو أنه كان رجلا قوي الإرادة سامي الخلق حاد الذكاء لوضع نفسه على رأس حركة الإصلاح في مصر، ولظهرت سلطته، ولما توقدت غيرة الإنجليز الذين كانوا موظفين في حكومته، على أنه مع ذلك كانت له الفضيلة السلبية أنه لم يكن ملوثا برذائل الحاكم الشرقي، وهو إذا لم يكن قد قام بالفعل بشيء في حركة إصلاح فكفاه أنه كان مغتبطا لقيام آخرين بدله بهذه الحركة، وهو إذا لم يكن قد ساق غيره في سبيل الخير فكفاه أنه اتبع الغير في هذا السبيل، وأشهد أني اقتنعت برأيه في أحيان أكثر من التي اقتنع هو فيها برأيي عند وجود خلاف بيننا.
وهذا الحكم يبين للقارئ السبب في أنا لم نقف بعد حوادث الثورة العرابية عند شيء من حياة توفيق، فقد كانت حياة عادية لا تتخللها الحوادث لأنه لم يكن له في الحوادث يد ولا تصريف، وبقي كذلك إلى أن توفي في سنة 1892 غير محمود ولا مذموم. •••
والآن فهل على توفيق تبعة في الحوادث الجسام التي حدثت أول أيام حكمه والتي أدت بمصر إلى موقفها الحاضر؟ هذا ما لا يصعب الجواب عليه، فعلى توفيق التبعة إذا كانت على إنسان تبعة ضعف نفسه واضطرابه بين قوى لا سلطان له عليها، وإنما التبعة أكبر التبعة على الحوادث التي أحاطت بتوفيق فكان لضعفه لا يملك تحويرها بما يتفق ومصلحة بلده، إنما التبعة على تركيا، وعلى فرنسا، وعلى إنجلترا، وعلى عرابي، وماذا يستطيع ضعيف قصير النظر كتوفيق أن يصنع بين هذه القوى جميعا إلا أن يترك نفسه يتقاذفه موج الحوادث ليصل بملكه وبلاده إلى ما وصلا إليه!
محمد قدري باشا
نقلت هذه الصورة عن مجلة المقتطف الغراء.
من الكتب ما ينبه ذكره ويعظم أثره بمقدار يجني على ذكر المؤلف حتى ليكاد يعفي خبره، من هذا الطراز كتب ثلاثة ما يغيب اسم واحد منها عن ذاكرة محام ولا قاض ولا طالب حقوق ولا رجل من رجال الشرع الإسلامي، هذه الكتب الثلاثة هي: «مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان في المعاملات الشرعية على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان»، وكتاب «الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية»، وكتاب «قانون العدل والإنصاف للقضاء في مشكلات الأوقاف»، بل إن معرفة هذه الكتب لا تقف عند رجال القانون والشرع، بل تمتد كذلك إلى عدد عظيم من سواد الناس، فقد نظمت ثلاثتها أحكام الشريعة على مذهب أبي حنيفة في تقنين ذي مواد يفي بحاجة كل من يهمه الوقوف على هذه الأحكام، إذ يجدها مبوبة مرتبة مدققا في اختيار ألفاظها حتى تعني مدلولاتها على صورة من التحديد الدقيق الذي يقضي به فن الفقه القانوني، وهذه الكتب الثلاثة هي الأولى والأخيرة في بابها؛ ولذلك نبه ذكرها وعظم أثرها وتناول الناس ما فيها بالدراسة، فإذا سألت أكثرهم عن واضعها قيل لك هو قدري باشا، لكن أكثر الناس لا يعلمون من أمر قدري باشا إلا اسمه، وإلا أنه واضع هذه الكتب الثلاثة، وقد يكون ذلك كافيا لتاريخه، فهذه الكتب الثلاثة هي في الحق أثر كاف لتخليد واضعه، وإذا كان نابليون قد جعل من قانونه المدني عنوان مجده واعتبر ما إلى جانب ذلك من مجد النصر والظفر وحكمه العالم ثانويا، فكتب قدري باشا في تقنين أحكام الشرع في المعاملات والأوقاف والأحوال الشخصية عنوان مجد باق على الزمان.
لكن، من كان قدري باشا؟ وماذا كان تاريخ حياته؟ لا بد أنه كان فقيها عظيما من علماء الأزهر معهد دراسة الشريعة الإسلامية وموضع العناية بها، فالرجل الفذ الذي يقنن شريعة من الشرائع يجب أن يكون من أساطين رجال هذه الشريعة، فليس طبيعيا أن يخرج هذا المعهد الألوف من العلماء والفقهاء ثم يكون من يقنن الشرع غيرهم! غير أن الواقع أن قدري باشا لم يكن منهم ولم ينخرط في سلكهم، ولم ينضم إلى زمرتهم، وكتبه الفقهية هذه ليست كل تواليفه وإن كانت أبقاها وأخلدها، فقد كانت تربيته ودراسته مدنية بحتة، وكانت الوظائف التي تقلدها بعيدة عن أن تمس الأزهر الشريف أي مساس.
وقد ولد بملوي حوالي سنة 1821 من أب أناضولي هو قدري أغا الذي كان من أعيان بلد وزير كوبرلي، وحين جاء إلى مصر أقطعه والي مصر بعض العزب بمركز ملوي على طريقة الالتزام التي كانت معروفة يومئذ، فتزوج من مصرية أولدها ولده محمدا وأدخله مدرسة صغيرة بملوي، حتى إذا أتم الدراسة بها بعث به إلى القاهرة في مدرسة الألسن حيث أتم بها دراسته وعين فيها مترجما مساعدا.
وكانت مدرسة الألسن هي المعهد الذي أسس لبث الثقافة الحديثة في مصر، فقد أدرك أهل ذلك العصر إدراكا تاما أن المدنية الغربية قوية التيار جارفته، وأن الحضارة الإسلامية التي يمثلها الأزهر أصبحت غير قادرة على الوقوف في وجه هذا التيار، كما أنها كانت قد جمدت على تعاليم لا تقبل أن تطعم بالتعاليم الحديثة، فلا يمكن معالجة التوفيق بين المذهبين، وكانت اللغات - أو الألسن على ما كانوا يسمونها يومئذ - هي موضع عناية مدرسة الألسن الكبرى، فكانت تدرس فيها اللغات التركية والفارسية والفرنسية والإيطالية والإنجليزية، وكانت العناية فيها باللغة العربية عناية فائقة يدل عليها ما وضعه الذين تخرجوا منها وما ترجموه من كتب ومؤلفات كثيرة، قال قدري باشا صاحب هذه الترجمة في كتابه (معلومات جغرافية) الذي نشر في سنة 1869: «وقد ترجم تلاميذ هذه المدرسة أكثر من ألفي مجلد.» وأتى بأسماء كثير ممن ترجموا والفنون التي ترجموا كتبها الغربية، وكان القصد من تعليم هذه (الألسن) والقيام من بعد ذلك بترجمة الكتب في مختلف الفنون نقل الحضارة الغالبة إلى مصر ليتمكن أهلها من السير سيرة أهل أوربا، ولعل أكثر ما ترجم إنما ترجم عن اللغة الفرنسية، فقد تأثرت مصر بالثورة الفرنسية الكبرى، كما تأثرت بها دول أوربا المختلفة، وكان من أثر ذلك أن قام محمد علي باشا فيما بعد بحركة تشبه الحركة التي قام بها نابليون في فرنسا، وكان مرجوا أن تؤتي خير الثمرات لولا أن تألبت أوربا على مصر وحرمتها يومئذ ثمرات الظفر، كما وقفت بعد ذلك عائقا في سبيل تقدمها تقدما يرفعها إلى الصف الذي يجب أن تشغله بين أرقى أمم الأرض وأقواها.
عين قدري باشا إذا مترجما مساعدا بمدرسة الألسن على أثر تمام دراسته بها، وكان له ميل خاص لدراسة علوم الفقه ولمقارنة الشريعة الإسلامية بالقوانين الأوربية، فكان لذلك يحضر بعض دروس الفقه بالأزهر، وكان مكبا على مطالعة كتب الشرع منذ حداثة سنه، لكن آثاره في ذلك لم تظهر إلا بعد سنين طويلة، وبقيت الترجمة عمله الرسمي الذي كان يتقنه أيما إتقان؛ ولذلك نقل من مدرسة الألسن إلى نظارة المالية مترجما لا مساعد مترجم.
ولما احتل إبراهيم باشا الشام عين شريف باشا واليا لها، فأخذ هذا الأخير قدري باشا (وكان ما يزال قدري أفندي) سكرتيرا له، ثم سافرا إلى الأستانة وعادا بعد ذلك إلى مصر وظلا متلازمين حتى عين قدري باشا أستاذا للغتين العربية والتركية في مدرسة الأمير مصطفى فاضل باشا، ثم اختاره الخديو مربيا لولي العهد، ثم عين بالمعية فالمعارف فمجلس التجار بالإسكندرية فرئيسا لقلم ترجمة الخارجية.
وفي أثناء اشتغاله بالتدريس وضع عدة كتب في مواضيع مختلفة، لكن أكثرها كان في اللغة العربية وأجروميتها ومفرداتها، وكان معاجم عربية-فرنسية، من ذلك (الدر النفيس في لغتي العرب والفرنسيس) ويقع في سبعمائة صفحة، و(الدر المنتخب من لغات الفرنسيس والعثمانيين والعرب)، و(أجرومية في اللغة العربية)، و(مختصر الأجرومية الفرنساوية) مترجمة إلى العربية، و(المترادفات باللغة العربية والفرنساوية)، هذا عدا بعض كتب في التاريخ والجغرافيا ككتاب (معلومات جغرافية مصحوبة ببعض نبذ تاريخية لأهم مدن مصر جمعت وترجمت بالعربية لفائدة الشبيبة المصرية)، وهذا الكتاب ثم طبعه في سنة 1869.
يدل كثير من هذه الكتب على مبلغ تضلع قدري باشا في اللغتين العربية والفرنسية وعلى مقدرته الفائقة في الترجمة؛ لذلك كان طبيعيا أن يدعى للاشتراك في التمهيد للعمل التشريعي العظيم الذي كانت الحكومة المصرية تفكر فيه والذي كان مقدمة لانتشار المحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية، فقد كان القضاء المصري في ذلك العهد منوطا بالمجالس الملغاة التي كانت تحكم بالعرف، وكانت تجمع من الرجال من قلت درايتهم بقواعد العدالة، وإذ كانت مبادئ الثورة الفرنسية قد تسربت إلى مصر من طريق الحملة الفرنسية في سنة 1798 ومن طريق الشبان المصريين الذين أوفدوا إلى فرنسا ثم عادوا إلى مصر، فقد اتجهت الفكرة إلى تعريب القوانين الفرنسية التي وضعت أيام نابليون، وعهدت الحكومة إلى جماعة من أفاضل المترجمين المصريين بهذه المهمة، فعرب القانون المدني الفرنسي رفاعة بك رافع وعبد الله بك رئيس قلم الترجمة وأحمد أفندي حلمي وعبد السلام أفندي أحمد، أما قانون المرافعات فعربه أبو السعود أفندي وحسن أفندي فهمي أحد مترجمي وزارة الخارجية، وعرب قدري باشا قانون العقوبات، وعرب صالح مجدي بك قانون تحقيق الجنايات، وجمعت هذه القوانين كلها وطبعت بالمطبعة الأميرية في سنة 1283ه.
وإذ كان ميل قدري باشا للفقه والتشريع يرجع إلى أيام الدراسة - على ما قدمنا - فقد صادف ذلك العمل هذا الميل ودفع بصاحبه إلى التفكير في تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، وزاده إمعانا في هذا التفكير أن عهد إليه بالاشتراك في ترجمة قوانين المحاكم المختلطة إلى اللغة العربية مع اللجنة التي أنشئت في وزارة الحقانية للقيام بهذا العمل تمهيدا لوضع تشريع جديد للمحاكم الأهلية التي أزمع إنشاؤها من يومئذ، ولما كان التشريع للمصرين يقتضي التوفيق بين أحكام القانون المختلط الجديد الذي أخذ عن القانون الفرنسي وبين أحكام الشريعة الإسلامية التي كان عليها القضاء إلى يومئذ، فقد اشتغل قدري باشا بهذه المقارنات، فوضع كتابا لم ينشر بعد وما تزال نسخته المخطوطة في دار الكتب المصرية عن (تطبيق ما وجد في القانون المدني - الفرنسي - موافقا لمذهب أبي حنيفة)، وجاء في مقدمته أنه «بيان المسائل الشرعية التي وجدت في القانون المدني مناسبة وموافقة لمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان».
هذه الترجمة لقانون العقوبات الفرنسي ولقوانين المحاكم المختلطة وهذه البحوث المتصلة في المقارنات بين أحكام الشرع والقانون المدني الفرنسي مضافة إلى ميله الأصيل؛ جعل من قدري باشا فقيها في القانون، ولقد نقل من رياسة قلم ترجمة الخارجية مستشارا بمحكمة الاستئناف المختلطة، وظل في منصبه هذا إلى أن عين وزيرا للحقانية في أول عهد المغفور له محمد توفيق باشا، ثم استقال مع الوزارة وعاد بعد ذلك وزيرا للمعارف، ثم انتقل وزيرا للحقانية من جديد، وعمل في منصبه هذا على وضع القوانين للمحاكم الأهلية التي أريد إنشاؤها، واشترك بنفسه في وضع القانون المدني وقانون تحقيق الجنايات والقانون التجاري، وفيما كان لا يزال ناظرا للحقانية صدرت لائحة ترتيب المحاكم الأهلية، ثم أحيل إلى المعاش، وصدرت القوانين التي اشتغل في وضعها أيام كان فخري باشا ناظرا للحقانية.
كان طبيعيا إذا أن ينصرف قدري باشا في الشطر التالي من حياته عن الاشتغال بما شغل به في الشطر الأول - من ترجمة ونحو وصرف - إلى العمل في القانون والتشريع، وكان قدري باشا من طراز الذين يتوافرون بكل قوتهم على العمل ولا يملونه؛ ولذلك وجه كل همه إلى تقنين مذهب أبي حنيفة بوضع الكتب الثلاثة التي ما يزال اسمه مقرونا بها: (مرشد الحيران) في المعاملات، و(الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية)، و(قانون العدل والإنصاف في القضاء على مشكلات الأوقاف)، وقد ظلت هذه الكتب كلها مخطوطة إلى حين وفاته في 20 نوفمبر سنة 1886 ولم تطبع إلا بعد الوفاة بسنوات طويلة، وهي مع ذلك التي خلدت ذكره وما تزال سبب مجده، هي هذا الجهد العظيم الذي لم يضطلع به من رجال الشرع الإسلامي أحد، فاضطلع هو به وأداه على خير وجوهه، واقتران اسمه بها دليل على أنها أثر خالد حقا.
فلقد كان في أعماله الأخرى ما يكفي ليجعل منه واحدا من رجالات مصر وفي مقدمتهم، كان يكفي اقتران اسمه بلائحة ترتيب المحاكم الأهلية وصدورها، وكان يكفي أنه تقلد الوزارة ثلاث مرات في حياته، وكانت تكفي كتبه الأخرى، لكن مناصب الحكومة واقتران الذكر بقانون من القوانين أو عمل عام ناب فيه صاحب الذكر عن الحكومة لا يخلد اسم صاحب المنصب إلا على أنه اسم لا أكثر، اسم من هذه الأسماء التي قد تصل إلى المناصب بالرياء أو الخديعة أو غير هذين من الأسباب الكثيرة الوضيعة التي يعتبرها بعض الناس حلية لهم وسلما يرتقون به درجات الحياة، اسم مكون من حروف هجائية لا من أعمال جليلة، اسم جف على نقائص الحياة يلاشيها الموت ولا نصيب له من خير يبقى على الحياة أثره، فأما هذه الكتب الثلاثة التي لم تظهر إلا بموت مصنفها فقد أعادت اسمه إلى الحياة متألقا شديد الإشراق سقطت من حوله حياة المادة وضعفها وبقيت له حياة الروح المتصلة بالكون من أزله إلى أبده.
ويقول الذين عرفوا قدري باشا أيام حياته إنه مع إكبابه على العمل أشد الإكباب لم يكن من المتجهمين للحياة العابسين في وجهها، بل كان ظريفا غاية الظرف، وكان يتقن الضرب على العود، وكان لا يأبى أن يجلس مع إخوانه خريجي مدرسة الألسن في حفلة طرب يسمعهم من أنغام عوده ما يهون على النفس أعباء العمل، وإنك لتجد أولئك الذين وهبتهم الطبيعة من قدرتها ما يجعلهم قوة عاملة ذات أثر خالد في العالم أحرص الناس على أن ينالوا من جوانب الطبيعة الباسمة حظا يعينهم على أداء الواجب العظيم الذي فرض الوجود عليهم أداءه، والذي يقتضيهم من الجهد ما ينوءون به لولا هذا الحظ القليل، وما كان لأحد أن يأخذهم بذلك، وهو - أيا كان لونه - ليس إلا رياضة لنفوسهم وأعصابهم أن يبهظها الجهد أو يأتي عليها الملال، وإذا أبهظ الجهد قوى الأفذاذ الذين يقيمون العالم وحضارته فقد آن للملايين الذين يعيشون في كنف مواهب هؤلاء وينعمون بعلمهم أن تتحطم سعادتهم وأن تهدم حضارتهم.
وكان من قسوة القدر على قدري باشا أن كف بصره وأن انطفأ نور عينيه، وكانتا قبل ذلك ذواتي جمال وحدة، وقد سافر إلى النمسا أملا في معالجة نفسه من هذا المرض، ولم يمنعه عدم نجاحه في هذا من متابعة عمله الذي أخرج للناس في تقنين الفقه الشرعي كتبه الثلاثة.
وتوفي فأحدثت وفاته فراغا في عالم النهضة القومية، ولكن هذه النهضة كانت حين وفاته في منحدر أدى بها إلى وقوف تيار النشاط العظيم الذي قام به هو وزملاؤه، فمن قبل سنة 1886 كانت مصر قد أصيبت في مطامعها في الحرية بضربة لا تقل قسوة عما أصيبت به على أثر انتصارات محمد علي باشا على تركيا، وكانت أوربا هي صاحبة الضربة الأولى وصاحبة الضربة الثانية.
ولن تزال كتب قدري باشا الثلاثة عنوان مجد لا يقل عظمة عن قانون نابليون، ولئن ينس الناس من حياة قدري باشا كل شيء فلن ينسوا هذه الكتب الثلاثة، وهي كافية لتقيم مجد رجال لا مجد رجل واحد.
بطرس باشا غالي
لعلك إن طلبت مثلا أعلى بين بلاد العالم لشعب وديع هادئ لا ترى خيرا من مصر محققة لهذا المثل، ثم لعلك إن طلبت مثلا أعلى لشعب طموح لا تفتأ أحشاؤه تضطرب بأسباب الثورة على الحاضر تطلعا إلى الكمال وإلى العظمة والمجد؛ لا ترى خيرا من شعب مصر محققا لهذا المثل، فقل أن عرفت مصر وسائل العنف في السعي إلى أغراضها، ولم يقع أن ذلت مصر واستكانت ويئست من تحقيق هذه الأغراض، ولهذا الظاهر من التناقض في صورة الحياة المصرية أثر كبير في قدر رجال مصر والآخذين بها لتحقيق مطامعها، فهي أبدا في نضال مع أمم غيرها تريد قهرها وإذلالها، وهي أبدا لا تذل لقاهر وإن كانت ظروفها وكان تاريخها قد ألجأها إلى ستر ثورتها الدائمة تحت ظاهر من الهدوء والسكينة؛ ولذلك كان حتما بحكم هذه الظروف أن ينشأ فيها الرجل المحرك للعواطف يستنهضها وللهمم يحفزها، ولنشاط الجماهير يدفعه إلى الغاية السامية التي تطمع مصر بحق فيها، وأن ينشأ إلى جانب هذا الرجل رجل آخر هو السياسي الذي يعمل لتلافي الاصطدام بين اندفاعات الشعب وبين القوى الغالبة في مصر اصطداما عجز الكل حتى اليوم عن تقدير نتائجه: أهو ينتهي إلى تحطيم قوة الغالبين وقيام مصر إلى جانبهم قوية اليد كما أنها قوية النفس؟ أم هو ينتهي إلى تحطيم أمل النفس المصرية في بلوغ المكانة التي تطمع فيها؟ وإذا تحطم أمل أمة فترت أجيالا بعد أجيال عن بعثه واستعادته، حتى يكون ظرف جديد يعين على هذا البعث ويدفع إلى نفس الأمة الأمل حارا قويا ينبض به قلبها ثم يتدفق ثورة قوية تخلع النير وتحطم القيود.
وكان هذان الرجلان - رجل الدعوة إلى المثل الأعلى ورجل السياسة والسلم - خصمين في أكثر الظروف، وكانت الجماهير بطبيعتها نصيرة أبدا للمثل الأعلى لأنه غذاؤها في الحياة بل هو ذاته حياتها، أما السياسي الذي يزن القوى ويفاضلها ويعمل للوصول إلى خير ما يمكن أن تصل إليه بلاده فالحوادث اللاحقة هي التي تحكم عليه أو له، ولقد كان بطرس باشا غالي سياسيا، وكان من أكثر المصريين اتصالا بحوادث عصره من ناحيتها السياسية، فلنجعل للحوادث وحدها الحكم عليه، ولتكن كلمة التاريخ كلمة حق وإنصاف. •••
ولد بطرس غالي بالقاهرة في 12 مايو سنة 1846 وتلقى دراسته الأولى في مدرسة حارة السقايين التي أنشأها الأنبا كيرلس الرابع الملقب عند الأقباط بأبي الإصلاح، وبعد ثماني سنوات أمضاها في هذه المدرسة انتقل إلى مدرسة مصطفى فاضل باشا، وكان له من الصلة بها أن والده غالي بك نيروز كان يشتغل في دائرة مصطفى فاضل، فلما تخرج منها اشتغل مدرسا بمدرسة حارة السقايين وظل مع ذلك يتلقى علوم الترجمة في مدرسة الترجمة التي أنشأها المرحوم رفاعة باشا.
وكان في أثناء دراسته مثلا للذكاء ولقوة الذاكرة المنقطعة النظير، كان يكفيه أن يقرأ ما يدرس له مرتين أو ثلاث مرات ليستظهره استظهارا تاما، ويسرت له قوة ذاكرته العلم باللغات المختلفة، فقد أتقن العربية والفرنسية والتركية والفارسية، وهاتان اللغتان الأخيرتان أتقنهما على أحد تجار خان الخليلي، إذ كان يتلقى عليه مقابل دفع (شبرقته) له، ثم إنه تعلم اللغة القبطية بعد الثلاثين من سنه لمناسبة تدل - إلى جانب قوة الذاكرة - على قوة في الإرادة امتاز بها، ذلك أنه سافر إلى إنجلترا فقابله أحد العلماء العارفين باللغة القبطية، ولما علم أنه قبطي كلمه بها فلم يجبه، ولكنه لم يلبث بعد أن عاد إلى مصر أن أكب على دراستها، فلم تمض ستة أشهر حتى كتب لصاحبه العالم الإنجليزي خطابا بها.
وأعانه في الحياة إلى جانب ذكائه وقوة ذاكرته ومضاء إرادته صحة متينة كان يدل عليها طول قامته وعضله المفتول، كما كان بريق عينيه بريقا عجيبا يدل على ذكائه وحيلته؛ لذلك لم يكد يتخطى أوليات الشباب حتى عرفه أولو الأمر يومئذ وعهدوا إليه بأعمال ذات خطر ومسئولية، فقد دخل في مسابقة حين كان مدرسا بمدرسة حارة السقايين انتقل بها إلى وظيفة كاتب بمجلس تجار الإسكندرية الذي حلت المحكمة المختلطة بعد ذلك محله، وجعل يرتقي من وظيفته هذه حتى صار رئيس كتاب المجلس الذي حكم سنة 1873 في قضية ضد مصلحة أحد المحسوبين على إسماعيل باشا المفتش، وإذ كان مجلس التجار تابعا لنظارة الداخلية؛ فقد أوصل المفتش الأمر إلى ناظرها شريف باشا وأبلغه أن بطرس غالي كان صاحب اليد في إصدار ذلك الحكم الجائر، فدعا الناظر بطرس إليه فأعجبته مناقشته كما أعجب بمعرفته للغات؛ ولذلك نقله من عمله وعينه رئيسا لكتاب نظارة الحقانية التي كلف شريف بإنشائها استعدادا لتطبيق نظام الإصلاح القضائي الجديد.
وكانت سنة 1874 سنة نشاط كبير في الحقانية بسبب التحضير لإنشاء المحاكم المختلطة، وكان المغفور له محمد قدري باشا مشتغلا بترجمة قوانين هذه المحاكم إلى اللغة العربية، فانضم إليه بطرس وعني وإياه بتعريب التشريع الذي ما يزال أكثره ساريا في مصر إلى الوقت الحاضر.
وأتاح له الاشتغال في التحضير للمحاكم المختلطة التعرف إلى رئيس النظار نوبار باشا، فكان اتصاله به ذا أثر كبير في تكوينه السياسي، وما فتئ هذا الاتصال بينهما وثيقا مستمرا داعيا إلى ثقة نوبار بباشكاتب الحقانية، حتى كان هو أول من اختاره ليكون ناظرا للخارجية في وزارته التي ألفها سنة 1895 بعد أن اختاره رياض باشا قبل ذلك ومنذ سنة 1893 ليكون ناظرا للمالية.
ويرجع اختيار رياض باشا إياه لوزارة المالية إلى سبب خاص، ذلك أنه لما انتهت الحكومة المصرية من إنشاء المحاكم المختلطة في سنة 1875 كانت على أبواب الضائقة المالية التي جرتها إليها الاستدانة الفادحة منذ أول حكم إسماعيل باشا في سنة 1863، ففي سنة 1876 صدر القانون بتأليف صندوق الدين وبتعيين المراقبين الماليين، لكن هذا القانون لم يخفف من وطأة الديون شيئا ولم يرفع من الضغط على دافعي الضرائب وإرهاقهم بأقسى وسائل الإرهاق وأبعدها عن كل معاني الإنسانية، ثم استيلاء صندوق الدين على كل ما كان يحصل، حتى اضطرت الحكومة إلى عدم دفع مرتبات الموظفين بما جعل أحد الإنجليز الموظفين فيها يومئذ يكتب في مذكراته أنه قضى يومين لم يدخل فمه فيهما طعام لإعوازه إلى كل ما يسد به رمقه، وإذا كان الدائنون الأجانب مع ذلك مصرين على اقتضاء مصر كل تعهدات ولي نعمتها، فقد انتهوا إلى الاتفاق على تشكيل لجنة للفحص ثم لتصفية ديون مصر، وعين رياض باشا نائبا عن الحكومة المصرية في اللجنة المذكورة وعين بطرس بك غالي السكرتير العام لنظارة الحقانية مساعدا له، ثم عين رياض رئيسا للجنة، وعهد إلى بطرس بالنيابة عن الحكومة، وفي ذلك الظرف الدقيق اضطر إلى أن يدرس من مباحث اللجنة ومن الشئون المالية ما مكنه من أن يضع تقريرا عن نظام الضرائب في مصر كان بعد ذلك مرجعا ينقل عنه وحجة يعتمد عليها.
ولما انتهت الحوادث التي تلت تقرير لجنة المالية إلى إقصاء إسماعيل باشا عن العرش فخلفه توفيق فيه كانت الحكومة قد بدأت تفكر في إلغاء المجالس القضائية القديمة وفي إنشاء نظام قضائي جديد هو النظام القائم الآن، وإذ كان بطرس ممن عملوا في التشريع للقضاء المختلط فكان طبيعيا أن يكون على رأس الذين يعملون للتشريع للقضاء الأهلي؛ لذلك عين في سنة 1881 وكيلا للحقانية وألقي عليه عبء تنفيذ النظام القضائي الجديد.
وإلى يومئذ كانت مناصب الحكم في أعمال الدولة لا يليها إلا المسلمون، فأما الأقباط فكانوا يلون وظائف إنجاز أعمال الحكومة، فكانت المناصب الكتابية وما إليها مفتوحة وحدها أمامهم، فأما القضاء وإدارة الأعمال فكانت وقفا على أبناء الأغلبية الدينية في البلاد ، ويسير تفسير هذا التقسيم في ذلك الظرف الذي كان الحكم فيه للأتراك والذي كان الحاكم فيه تابعا لدولة الخلافة الإسلامية، على أن بطرس غالي رأى في ذلك منافاة لروح الزمن، وبخاصة في عصر بدأت مصر تنقل فيه النظم الأوربية بإنشاء المحاكم المختلطة وبخضوع المصريين لقضاء جماعة لا يختلفون عنهم في الدين فقط، بل في الجنسية وفي اللغة أيضا؛ لهذا عين حين وجوده في الحقانية عددا من الأقباط في وظائف القضاء، ولعل هذا التصرف وما إليه من مثله هو ما دعا جماعة من الذين خاصموه في أثناء حياته لاتهامه بالتحيز لأهل طائفته.
وبقي في وكالة الحقانية حتى عين ناظرا للمالية في سنة 1893، على أن أحوال مصر السياسية تغيرت في هذه الفترة تغيرا كبيرا كان لبطرس بك غالي رأي فيه معروف، ذلك أنه لما حدثت الثورة العرابية وانتهت إلى تدخل الإنجليز وهزيمة العرابيين في التل الكبير وتشاورهم في الأمر كان من رأي بطرس أن يلتمسوا عفو الخديو وأن يركنوا إليه، وقد أوفده القوم يومئذ بعريضة إلى الخديو توفيق فيها هذا المعنى، ومع أنه لم يظهر له عمل مباشر في الثورة، مما يدل على أنه لم يكن من المطمئنين إليها، فإن التجاء العرابيين إليه يدل على أنه كان موضع عناية الخديو توفيق وعطفه كما يدل من جهة أخرى على أن ذكاءه وفطنته السياسية كانا موضع تقدير الذين التجأوا إليه ورأوا فيه خير واسطة للتفاهم بينهم وبين الحاكم الذي ثاروا عليه.
وحياة بطرس باشا كانت كلها بعد ذلك حياة وساطة سياسية لم تكن الحاجة إليها ماسة أيام حكم توفيق لما كان بينه وبين الإنجليز من تمام التفاهم، ولكنها كانت ضرورية وكانت منتجة أيام حكم الخديو عباس الذي كان يثق به ويطمئن إليه في حل الخلاف الكثير الحدوث بينه وبين لورد كرومر قنصل إنجلترا العام في مصر.
ولعل الحوادث التي مرت بمصر وشهدها بطرس باشا قبل أن يصل إلى منصب الوزارة كانت ذات أثر كبير في توجيه سياسته وزيرا، فقد حضر نائبا عن الحكومة المصرية في لجنة التصفية ووقف على ميول الأجانب وعلى أطماعهم، ثم رأى جهود إسماعيل للوقوف في وجه تدخلهم باسم مصلحة الدائنين تنتهي إلى إقصائه عن العرش، ثم إنه حضر وشهد تطورات الثورة العرابية وما آلت إليه من تشتيت الثوار والحكم على زعمائهم بالإعدام واستبدال ذلك الحكم بالنفي، وكان بعد ذلك على اتصال بالمؤتمرات والمحادثات التي حصلت بقصد جلاء الجيوش الإنجليزية عن مصر، وما كان من وعود الإنجليز في ذلك وتدخلهم برغم هذه الوعود في الشئون المصرية ووضعهم يدهم على الإدارة المصرية، ثم كانت بعد ذلك حادثة فرمان الخديو عباس ووقوف إنجلترا في وجه تركيا باسم الدفاع عن حقوق مصر، كما كانت حادثة الحدود واعتذار الخديو عباس برغم اعتزازه بملكه الشاب للقائد كتشنر.
وبطرس باشا كان على ذكائه وقوة إرادته وسعة حيلته رجل سلم وعمل مطمئن؛ مما جعله بعيدا عن الحركة العرابية إلى أن جاء دور السلم والوساطة، كما كان من طائفة الأقلية الدينية في وقت كانت النعرة الدينية فيه متغلبة على كل نعرة أخرى، أضف إلى هذا كله اتصاله بنوبار وتكوين عقله تكوينا سياسيا لا تكوين زعامة شعبية مقصور غرضها على الدعوة للمثل الأعلى، هذه الظروف كلها تفسر لك سياسته من بعد ارتقائه إلى منصب وزارة المالية في سنة 1893 وانتقاله إلى وزارة الخارجية بعد ذلك وبقائه فيها حتى مع تقلده رياسة الوزارة في سنة 1908 برغم ما جرت به سنة الوزارات المصرية من تقلد رئيس الوزراء لوزارة الداخلية.
وتشهد ظروف تقلده الوزارة بأنه كان - برغم ما قدمنا من ميله للسلم وللحيلة - موضع ثقة الخديو الشاب عباس؛ فلقد كانت أول وزارة اختير بطرس لها وزارة فخري باشا التي أحلها عباس محل وزارة مصطفى فهمي في سنة 1893 برغم لورد كرومر، والتي لم تبق لذلك في مناصب الحكم غير يوم واحد، ثم إنه حل بعد ذلك محل ثقته أن رأى فيه خير وسيط يحل المشكلات التي كانت كثيرة الحدوث بينه وبين لورد كرومر، على أن عمله في وزارة المالية وفي وزارة الخارجية ظل عمل موظف أمين كفء حريص على بقاء المساواة في المعاملة بين المصريين جميعا من غير تمييز بينهم بسبب الجنس أو الدين من غير أن يبرز ليكون محلا لحكم التاريخ، حتى كانت سنة 1899 إذ وقع مع إنجلترا في 19 يناير اتفاقية السودان التي كانت بعض ما حاربه به خصومه في حياته وبعض ما اتخذه قاتله إبراهيم ناصف الورداني حجة له في إقدامه على ارتكاب جريمة القتل السياسي، والتي ما تزال موضع حنق المصريين عليها ونظر كثيرين منهم لها على أنها عمل من أعمال خيانة الوطن.
وقد نعجب إذ نرى بطرس غالي ولم يكن في سنة 1899 إلا ناظرا للخارجية متضامنا مع سائر زملائه النظار في سياسة الدولة العامة يحمل وحده وزر هذه الاتفاقية، فإخلاء السودان في سنة 1884 بأمر إنجلترا واستعادة فتحه بعد ذلك بأمر إنجلترا أيضا لم يكن من عمل نظارة الخارجية وحدها، بل كان من عمل مجلس النظار كله، وقد كان بطرس وزيرا للمالية في سنة 1893 مع فخري ثم مع رياض باشا الذي ألف الوزارة حلا للإشكال بين الخديو ولورد كرومر، ثم انتقل وزيرا للخارجية لما شكل نوبار الوزارة في سنة 1894، وظل في منصبه بعد استقالة نوبار وحين شكل مصطفى باشا فهمي الوزارة من جديد، وفي هذه الأثناء كانت الأعمال لاستعادة السودان جارية حتى سقطت الخرطوم وأم درمان وتمت استعادة السودان في سنة 1898، فهل يسأل وزير الخارجية وحده إذا هو وقع بعد ذلك اتفاقا باسم حكومته؟!
كان خصومه يقولون: ولكنه المسئول الأول والمباشر، فهو الذي وقع باسمه وبيده، ثم إنه فضلا عن ذلك كان أكثر من كل الوزراء الذين معه مسئولية لأنه كان أقواهم وأذكاهم وأقدرهم، بل لعله هو الذي أقنعهم بالقبول، وماذا تريد من مصطفى فهمي والذين كانوا معه وهم كانوا مثل الاستماتة والضعف، لقد كان بطرس هو العنصر القوي الوحيد فيهم، فهو لذلك مسئول دونهم، ثم لنقل الحق أيضا: إن بطرس قبطي وكان للأقباط زعيما، والأقباط كانوا يومئذ وفي نظر دعاة الحركة الوطنية المصرية متهمين بممالأة الإنجليز على بلادهم، فبطرس إذا قد وقع اتفاقية السودان ممالأة للإنجليز وتفريطا في حقوق بلاده.
كذلك كان يقول خصوم بطرس، وكذلك ما يزال البعض يحسب، ولو في دخيلة نفسه، حرصا على وحدة الأمة المقدسة في الأيام الحاضرة، لكن للتاريخ حكما آخر تجب المجاهرة به إحقاقا للحق، فمصر يوم اتفاقية السودان كانت تابعة لتركيا وكانت لا تستطيع أن تمضي اتفاقا تنقص به من سلطتها أو سيادتها على أي جزء من الأجزاء التابعة لها، أو التي كانت تابعة لها وعادت إليها، وقد أبلغت الحكومة المصرية حكومة الباب العالي أن إنجلترا تريد أن تتفق مع مصر اتفاقا مقصورا على إدارة السودان؛ لتتمكن بذلك من إلغاء الامتيازات الأجنبية فيه، ولتستطيع بما تبيحه لها الشركة في الإدارة أن تسهر على أملاكها الأفريقية من غير أن يضر ذلك حقوق مصر في السودان باعتباره ولاية منها تابعة لحكم الخديو، وبالرغم من تكرار الكتابة في هذا الأمر إلى الحكومة التركية فإنها لم تحرك ساكنا ولم تشر بنصيحة ولم تظهر مجرد استعدادها لتعضيد مصر إذا هي وقفت بإزاء إنجلترا موقفا خاصا، وعلى ذلك ألفت مصر نفسها وحيدة بإزاء إنجلترا مضطرة أن تحل معها هذه العقدة بعد أن كانت فرنسا قد ضربت قبيل ذلك في حادثة فاشودة بما قطع كل رجاء في مداخلتها كما انقطع الرجاء في مداخلة غيرها من الدول، مع هذا لم يخرج اتفاق يناير سنة 1899 السودان من ولاية صاحب عرش مصر ولم يجعل إنجلترا شريكة فيه، بل هو اتفاق مقصور على إدارة السودان بنصه وبتفسير لورد كرومر وغير لورد كرومر من كتاب الإنجليز وساستهم إياه وبتنفيذه في المدة التي تلت عقده، فقد كان حاكم السودان العام - برغم أنه حاكم عسكري في بلاد خاضعة للحكم العرفي - لا ينفذ أمرا ولا ينشر قانونا إلا بعد أن يبعث به إلى مجلس النظار في القاهرة، وبعد أن يرد المجلس إليه الأمر أو القانون أو الإرادة السنية كما هي أو منقحة بما تراه الوزارة المصرية، فإذا كان قد حدث بعد ذلك أن استفادت السلطة الإنجليزية من ضعف الوزارات التي وليت الحكم في مصر وأن مدت ادعاءاتها إلى أكثر مما يبيحه اتفاق سنة 1899، فليس الذي وقع الاتفاق المذكور في الظروف التي أشرنا إليها مسئولا عن شيء منها.
هذا هو حكم التاريخ، وهو الحق في أمر اتفاقية السودان وموقف بطرس باشا غالي منها، على أن ما تلاها من نشاط الحركة الوطنية بزعامة المغفور له مصطفى باشا كامل ومن طعنها على المعاهدة واتخاذها ذريعة للهجوم والمقاومة؛ جعل الوزارة المصرية أشد ميلا للتفاهم مع الإنجليز تفاهما يخفف من حدة هذه الحركة إن كان ذلك مستطاعا، ويقف في وجه طغيانها على النظام وعلى الأمن إذا خشي منها عليهما، ويعطي لاتفاقية السودان معنى غير معناها الأول يخول إنجلترا فيه سلطانا لم يقصد الاتفاق تخويلها إياه.
وكانت الحركة الوطنية في ذلك الحين متجهة إلى الاستفادة من خلاف الدول، معتمدة على ما يمكن أن يكون لتدخل فرنسا من قيمة في تحرير مصر، وبرغم فشل مرشان عند فاشودة وانسحابه وتضعضع سلطان فرنسا لهذا السبب، فقد ظلت أنظار مصطفى كامل ورجال الحزب الوطني متجهة صوب باريس حتى سنة 1904 حين عقد الاتفاق الودي الذي التزمت به فرنسا ألا تعترض إنجلترا في مصر، فلما تم هذا الاتفاق شعر المصريون جميعا بازدياد مركز إنجلترا في مصر قوة، وكان النظار المصريون المتصلون بالسلطة الإنجليزية في مصر بسبب مراكزهم أكثر من غيرهم شعورا بهذه القوة، بل إيمانا بها واستعدادا لتقديم القرابين لتهدئة ثوائر غضبها.
وفي هذه الظروف بلغ سلطان إنجلترا في مصر أوج قوته، فلم يكن أمر ما - بالغة ما بلغت تفاهته - يبرم أو ينقض من غير إقرارهم عن طريق موظفيهم الذين احتلوا كل مناصب الدولة الرئيسية والذين كانت لهم الكلمة النافذة على الموظفين المصريين مهما يكن منصب الموظف الإنجليزي صغيرا ومنصب الموظف المصري كبيرا، كان تلغراف جرانفل - الذي يقرر أن مشورة إنجلترا واجبة الاتباع في مصر - لا يقف عند ما تبديه الدولة المحتلة عن طريق عميدها من رأي، بل يمتد إلى المستشار الإنجليزي وإلى مفتش الداخلية وإلى ملاحظ الطرق وإلى كل إنجليزي أيا كانت مكانته، وبإزاء هذا السلطان الإنجليزي النافذ في مصر كانت الحركة الوطنية المصرية تنمو وتقوى، وكانت الثورة النفسية لشعب مصر الوادع الذي لا يقبل مذلة ولا خضوعا قد ملأت النفوس حتى كادت تفيض عنها، وكمظهر لهذا التنافر بين السلطة الحاكمة من ناحية والشعب المصري من ناحية أخرى، وقعت حادثة دنشواي باصطدام جماعة من الضباط الإنجليز الذين كانوا يصيدون الحمام في أثناء ذهابهم من القاهرة على الإسكندرية مع أهل قرية دنشواي في يونيو سنة 1906 اصطداما انتهى إلى موت الكابتن بول الإنجليزي، وإلى تأليف المحكمة المخصوصة برئاسة بطرس باشا غالي الذي كان وزيرا للحقانية بالنيابة لغياب وزير الحقانية بالإجازة، وإلى صدور وتنفيذ ذلك الحكم الجائر الذي يعتبر مثلا من أمثلة البربرية والوحشية في أشد عصور الإنسانية ظلاما، والذي أعدم بموجبه أربعة وجلد ثمانية أمام أنظار أهل دنشواي المفجوعين في أهلهم وعائليهم، عدا الذين زجوا منهم في غيابات السجون.
وكانت رياسة بطرس باشا للمحكمة المخصوصة التي أصدرت الحكم مما أخذ به وليم عليه، ولكن دون لومه ومؤاخذته على اتفاقية السودان، ويقول المدافعون عن بطرس باشا في هذه المسألة: إن حكم دنشواي كان حكما سياسيا أملته السلطة الإنجليزية التي أمرت بإرسال المشانق قبل أن يصدر، إذ أرادت أن تضرب بكل صرامة وحزم، وإنه كان صادرا من أغلبية إنجليزية لأعضاء المحكمة، فلم يكن للأقلية الموجودة فيها - بحكم القانون - بد من إقراره وتوقيعه، وبطرس باشا كان رئيسا للمحكمة المخصوصة بحكم القانون الذي ألقى بهذه الرئاسة إلى ناظر الحقانية، فكان لا مفر له من الخضوع لرأي أغلبية الهيئة التي يرأسها والتي أصدرت ذلك الحكم الجائر.
وهذا الدفاع على ظاهره من الوجاهة لا ينهض حجة لتبرير عمل بطرس باشا إلا إذا كان هو معتقدا عدالة الحكم الذي أصدره وإنسانية تنفيذه مما لا يصدق على رجل كان له من عواطف الخير والإنسانية ما كان لبطرس، ذلك بأن الرجل الذي يجلس رئيسا لهيئة قضائية يعهد إليها بتطبيق العدل يجب ألا يخضع لصوت غير صوت الضمير ولاعتبار غير اعتبار العدل المجرد من كل هوى، فأما أن كانت المحكمة المخصوصة ليست هيئة قضائية وكانت صورة هزلية لعدل لا وجود له وإنما تملي السياسة أحكامه، فكان حريا برجل له ما كان لبطرس من دهاء ومقدرة أن يصل من تخفيف الجور إلى أقل حدوده وألا يرضى هذا التنفيذ الذي بعث إلى قلب الإنسانية جمعاء رعشة اشمئزاز وتقزز واستفز في نفسها أشد المقت لعمل لا يمكن أن يكون من الإنسانية المهذبة ولا من الإنسانية المتوحشة في شيء.
وكان حكم دنشواي خاتمة سيئة لحياة سياسي ماهر هو لورد كرومر، فعلى أثر صدوره وتنفيذه بدأت مكانة إنجلترا - كأمة مدنية ونظام - تتزعزع في نفوس المصريين على اختلاف طبقاتهم، وبعد أن كانت الوكالة البريطانية معتبرة ملجأ العدالة في مصر، وكانت ألوف العرائض والشكاوى ترفع إليها طلبا للنصفة من ظلم الحكام بل من حيف القضاء؛ تراجع المتظلمون مذعورين أن فتحت أشباح المشانق والمشنوقين والمجالد والمجلودين عيونهم على منظر بشع يتردد الإنسان في التحديق به، بل يولي منه فرارا ويمتلئ منه رعبا؛ لذلك لم تطق الوزارة الإنجليزية أن تؤيد عميدها في مصر فاضطر إلى الاستقالة في مارس سنة 1907 كما اضطرت الحكومة البريطانية إلى الموافقة على العفو - بفضل جهاد مصطفى كامل - عن مسجوني الدنشويين.
وخلف السير الدون غورست لورد كرومر كعميد لإنجلترا في مصر، وأراد أن يسلك فيها سياسة أخرى هي التقرب إلى الخديو الذي كان مؤيدا حتى يومئذ لمصطفى كامل وللحركة الوطنية، وربما خيل إلى السير غورست يومئذ أن الخديو كان قديرا على توجيه حركة مصطفى كامل وجهة أخرى ما دام هو الذي خلق هذه الحركة وغذاها، متناسيا أن الزعيم الشعبي مرتبط دائما بالمبادئ والمثل العليا التي نادى بها ولو اعتقد عدم إمكان تنفيذها، أو لعله قصد بسياسة الاتفاق مع الخديو إلى ما حدث بعدها من انفصال الحزب الوطني عن عباس الثاني ووقوفه منه موقف العداوة الصريحة في بعض الظروف، على كل حال فقد خلقت سياسة غورست في مصر جوا جديدا ووجهت الأنظار إلى نواح لم تكن تتجه إليها طويلا من قبل.
ومما اتجهت إليه الأنظار يومئذ اتجاها خاصا المطالبة بالدستور وتقرير سيادة الأمة، فقد تألف حزب الأمة وجعلت «الجريدة» - وعلى رأسها الأستاذ لطفي بك السيد - يدعون إلى الدستور بكل ما لديهم من قوة، ويدللون على فساد نظام مجلس الشورى فسادا بينا، وإذ كان حزب الأمة يعبر عن الرأي المعتدل في مصر فلم يكن في مقدور الحكومة ألا تستمع له في هذا الشأن، لكن وزارة مصطفى فهمي كانت قد سلخت في دست الأحكام ثلاث عشرة سنة منفذة لسياسة خاصة لا تتفق مع السياسة الجديدة التي جاء بها السير غورست ولا تتفق مع تطور المطامع المصرية؛ لذلك استقالت في سنة 1908 وعهد الخديو إلى بطرس باشا بتشكيل الوزارة الجديدة فشكلها، وكانت فاتحة أعماله فيها أن قررت الحكومة علنية جلسات مجلس الشورى وحضور الوزارة المجلس لمناقشة أعماله وللإجابة عما يوجه إليها من الأسئلة، وأن عينت البرنس حسين كامل (السلطان حسين) رئيسا للمجلس زيادة لهيبته واحترامه، لكن هذه الخطوة الأولى كانت دون ما تطلب الأمة بمراحل، فلم تخفف لذلك من المطالبة بالدستور بل زادتها قوة واندفاعا، وإذ كان بطرس يميل إلى تحقيق هذا المطلب فقد سعى سعيه لدى معتمد إنجلترا كي يضع نظاما يقرب مصر من الحكم الذاتي.
وكان السير غورست لما يصل أمام الرأي العام البريطاني إلى شيء من مثل مكانة لورد كرومر؛ لذلك رأى أن حركة الصحافة حركة عنيفة في مصر قد تحول بينه وبين موافقة الحكومة البريطانية على طلب الحكومة المصرية، كما رأى أن حالة الأمن ليست كذلك مما يؤيده عند وزارة خارجيته؛ لذلك طلب أن يبعث قانون الصحافة الذي سن في سنة 1882 مبيحا للإدارة حق إنذار الصحف وتعطيلها، وأن يوضع قانون النفي الإداري لإرهاب الجناة، والظاهر أن حرص بطرس باشا على تحقيق خطوة جديدة في سبيل الحكم الذاتي كان شديدا، وكثيرا ما يلجأ السياسي الشديد الحرص على تحقيق غاية معينة يراها ذات خطر في حياة أمته إلى قبول أشياء لا يقبلها غيره ما دام يعتقدها أشياء مؤقتة قليلا ضررها إلى جانب الغاية العظيمة المرجوة؛ لذلك لجأ بطرس بإزاء رفض زميليه سعد زغلول ومحمد سعيد لطلب المعتمد البريطاني بعث قانون الصحافة وإصدار قانون النفي الإداري إلى وساطة الخديو عندهما، فأوفد سموه من رجاله من أقنعوهما، فصدر القانونان في سنة 1909 فأحدث صدورهما في البلاد دويا هائلا ووقفت الصحافة ووقف الرأي العام يندبان الحرية المضاعة بغير ثمن إلا إرضاء المطامع الإنجليزية في حرصها على قهر مصر وإذلالها.
وامتدت هذه الضجة إلى تناول مسألة كانت تتناول الوقت بعد الوقت في الصحف، ولكنها تنوولت هذه المرة بحدة لم يسبق لها نظير؛ ذلك أن الصحافة القبطية في مصر كانت تدافع دائما عن بطرس باشا وكانت تتهم الصحافة الإسلامية بالتعصب الديني في مهاجمتها إياه، وكانت النعرة الدينية قوية في ذلك الحين كما قدمنا؛ لذلك كانت العصبية الدينية تدفع الكتاب إلى حدود غير معقولة ولكن لها نظائرها حتى في أشد الأمم تحضرا، وأقرب هذه النظائر ما لا يزال يبدو الوقت بعد الوقت في صحافة الأمم المسيحية خاصا باليهود، وكانت بعض الصحف الإسلامية من جانبها لا تني عن مجاراة الصحف القبطية في هذا المضمار وسبقها، على أن ما وقفنا عليه من مصادر مختلفة أكثرها إسلامي يقنعنا بأن بطرس باشا لم يكن متعصبا لأبناء طائفته تعصب عداوة لأغلبية البلاد الدينية، يؤيد ذلك أنه لما أنشأ الجمعية الخيرية القبطية في سنة 1881 كان من بين الخطباء يوم افتتاحها الأستاذ الشيخ محمد عبده والشيخ محمد النجار وعبد الله نديم وغيرهم، وأنه كان بعد ذلك عظيم الوفاء لكثير من أصدقائه المسلمين متصل البر بكثير من العائلات الإسلامية.
من ذلك أنه كان أول من ذهب إلى المغفور له الشيخ سليم البشري على أثر إقالة الخديو إياه من مشيخة الأزهر يسأله ما يستطيع أن يقدمه له من خدمة، وكان كثيرا ما يقضي حاجات أفراد من المسلمين من غير أن تكون له بهم كبير معرفة، كما كان يصلهم صلة أبناء طائفته، على أن بره بأبناء طائفته أمر طبيعي، وخير ما سمعنا عنه في هذا أنه كان يتوافى للأقباط جميعا كما كان يتوافى لأفراد من المسلمين، وأنه هو الذي صنع الطائفة القبطية فرفعها من مستواها الضعيف الذي كانت فيه إلى مستوى أسمى منه بكثير، فالجمعيات القبطية والمدارس القبطية والمنشآت الخيرية القبطية يرجع الفضل في أكثرها له هو أكثر مما يرجع لأي شخص آخر، كما يرجع الفضل له في فتح أبواب الوظائف العامة للأقباط أسوة بالمسلمين.
واستمر يتابع - بالاتفاق مع المعتمد الإنجليزي - وضع النظام الجديد للهيئة النيابية المصرية، وقبل أن يتمه كي يصدر القانون به طلبت شركة قناة السويس من الحكومة المصرية مد امتيازها أربعين سنة أخرى بعد سنة 1969، وكانت الحكومة المصرية يومئذ مستعدة لقبول الطلب، لكن حركة الرأي العام المصري في هذا الشأن كانت قوية اضطر أولو الأمر معها أن يعرضوا المشروع على الجمعية العمومية المصرية وأن يعدوا بأن يكون رأيها فيه قطعيا، وفي أثناء نظر هذا المشروع بالجمعية وفي فرصة هياج الرأي العام وتوتر أعصابه، فكر إبراهيم ناصف الورداني في قتل بطرس معتبرا إياه خائنا لوطنه بسبب توقيعه اتفاقية السودان ورياسته محكمة دنشواي، روت «الجريدة» الصادرة في 21 فبراير سنة 1910 وصفا للحادث ما نصه: «بقي - الباشا - كذلك حتى كان يوم أمس نزل كعادته في جماعة من الموظفين، وعند باب نظارة الحقانية صافحهم وانصرف ومعه النائب العمومي، فما كاد يضع رجله على سلم عربته حتى أصابه الرصاص المتعاقب من غدارة شاب لعب الشباب برأسه وتصور ما تصور وتجسمت في نفسه الخيالات، فلم ترعه هيبة الوزير ولا وقار الشيخ ولا خوف العقاب ... أصابه الرصاص في العنق والكتف والبطن فخر صريعا، فحمل إلى أودة ناظر الحقانية ثم إلى مستشفى الدكتور ملتون، وهناك زاره سمو الخديو وجميع الوزراء والسير غورست والأمراء وأعيان الأمة وكلهم يرجون له الشفاء العاجل، فلما كانت الساعة السادسة عملت له عملية جراحية لإخراج الرصاصة الباقية، ولكن كانت - مع الأسف - قد نسفت الأمعاء ونفذت في صدر المعدة.»
وقضى - رحمه الله - في الساعة الثامنة والربع من صبيحة يوم 21 فبراير سنة 1910 ودفن في اليوم التالي في مشهد مهيب، واليوم ترقد رفاته في كنيسته القائمة على جانب شارع الملكة نازلي الذي كان من قبل شارع عباس.
1 •••
هذه حياة بطرس غالي، والقارئ يرى كيف كانت حياة سياسي عظيم ومحسن كبير، ولئن كان قد أخطأ التقدير في بعض مواقفه فهو لم يقصد يوما إلى غير خدمة بلاده؛ ولذلك كانت آخر كلمة فاه بها حين احتضاره «يعلم الله أني ما أردت غير الخير لبلادي.» وكانت كلمة حق.
هوامش
مصطفى كامل باشا
في عصر يوم 10 فبراير سنة 1908 بينما أنا جالس مع أحد زملائي طلبة مدرسة الحقوق الخديوية إذ ذاك على باب داره، جاز الطريق أمامنا رجل ممتط جوادا، فلما كان بإزائنا وقف برهة فحيانا وقال: «أبقى الله حياتكم، الباشا توفي.» وكان زميلي من المتشيعين للحزب الوطني المتطرفين في تشيعهم، فلما سمع قول الناعي سأله في لهفة: مصطفى باشا كامل؟ فأجابه الرجل منطلقا جواده: نعم، ولكم طول البقاء، وتركنا أنا وصاحبي واجمين من هول الخبر وإن كان حديث الباشا ومرضه والخوف على حياته بعض ما تواتر في ذلك الحين، وبعد زمن قصير تركت صاحبي عائدا إلى بيتي فألفيت على الناس في الشوارع والحوانيت من أثر الذهول ما يدل على أن نعي الباشا إليهم مس من قلوبهم أدق أوتار الحزن والألم، ولم يستقر بي المقام في البيت دقائق حتى جاء زميل يبلغني الخبر، ويعلن إلي ما قررته المدارس كلها من الاشتراك في تشييع جنازة الزعيم العظيم، وكان يوم 11 فبراير يوم حداد عام في العاصمة، وفي مصر كلها لم يشغل الناس شيء فيه غير جنازة الزعيم الشاب، فالمدارس والهيئات الوطنية كلها كانت تفكر في تنظيم الجنازة، وأهل الريف كانوا يفدون من أطراف البلاد للاشتراك فيها، والحكومة كانت تعد وسائل الأمن والنظام، والأجانب الذين رأوا العاصمة جللت بالسواد ورأوا أهلها اتشحوا بأسباب الحداد كانوا يفكرون في العمق الذي تغلغل إليه الروح الوطني من سويداء نفس هذه الأمة، فلما سار النعش يحمله على أعناقهم أهل دنشواي الذين حكمت المحكمة المخصوصة عليهم، ثم كان لسعي مصطفى كامل أكبر الأثر في العفو عنهم ؛ صمت كل ما في المدينة ولم يبق بها أثر لحياة إلا في مشهد وداع هذا الراحل رحلة الأبد، قال المرحوم قاسم أمين في كلماته التي نشرت بعد موته، أي بعد شهرين اثنين من وفاة مصطفى كامل:
11 فبراير سنة 1908 يوم الاحتفال بجنازة مصطفى كامل هي المرة الثانية التي رأيت فيها قلب مصر يخفق، المرة الأولى كانت يوم تنفيذ حكم دنشواي.
رأيت عند كل شخص تقابلت معه قلبا مجروحا وزورا مخنوقا ودهشة عصبية بادية في الأيدي وفي الأصوات، كان الحزن على جميع الوجوه، حزن ساكن مستسلم للقوة، مختلط بشيء من الدهشة والذهول، ترى الناس يتكلمون بصوت خافت وعبارات متقطعة وهيئة بائسة، منظرهم يشبه منظر قوم مجتمعين في دار ميت كأنما كانت أرواح المشنوقين تطوف في كل مكان من المدينة.
ولكن هذا الإخاء في الشعور بقي مكتوما في النفوس لم يجد سبيلا يخرج منه فلم يبرز بروزا واضحا حتى يراه كل إنسان.
أما في يوم الاحتفال بجنازة صاحب (اللواء) فقد ظهر ذلك الشعور ساطعا في قوة جماله وانفجر بفرقعة هائلة سمع دويها في العاصمة ووصل صدى دويها إلى جميع أنحاء القطر.
هذا الإحساس الجديد، هذا المولود الحديث الذي خرج من أحشاء الأمة، من دمها وأعصابها، هو الأمل الذي يبتسم في وجوهنا البائسة، هو الشعاع الذي يرسل حرارته إلى قلوبنا الجامدة الباردة، هو المستقبل.
ولم يكن عجيبا أن يكتب قاسم أمين على هدوء نفسه وحسن تقديره هذا الذي كتب، ولم يكن عجيبا أن يحرك مصر من أقصاها إلى أقصاها الحزن لوفاة الزعيم الشاب، فقد جاء به القدر في فترة من فترات حياة هذا الوطن حين بدأت الأمة تنسى مظالم الماضي أيام حكم إسماعيل وتشعر بشدة وطأة الحكم البريطاني الذي قام على أساس من المصالح المادية وحدها، فلم يعن إلا بتخفيف الأعباء المالية ناسيا كل اعتبار غير تخفيض الضرائب؛ ليخيم على البلاد الجهل، وليكن الغرض الأسمى من التعليم خلق الموظفين، وليشعر المصريون بافتقارهم للحاكم البريطاني وبضعفهم أمامه، فذلك كله هين ويسير ما دامت الضرائب المرهقة وما دامت السخرة والكرباج قد ألغيت، في هذه الفترة التي شعرت فيها الأمة بالحاجة المعنوية للعزة القومية وللكرامة الإنسانية، بعث القدر مصطفى بشيرا بهذه الحاجات السامية رفيع الصوت، عالي الكلمة، طلق اللسان، قوي الجنان، حلو الأسلوب، يتغنى لقومه بما تشعر به نفوسهم في غور أعماقها، فكان طبيعيا أن يلتف الظمأى حول هذا الورد من الكلام السائغ يسمعون عنده الأناشيد التي تطرب لها نفوسهم وتهتز لها قلوبهم ويجد فيها شعورهم الحبيس منفذا ومتنفسا، ليكن ذلك الكلام غير ذي غناء، ولتبق القوة الغاشمة قديرة على أن تسير في طريقها، ترفع من شأن المصالح المادية على حساب حاجات النفس المعنوية، فلن يغير ذلك من قيمة هذا الذي يشدو باسم الوطن ومن محبة الناس له شيئا، ألست ترى إلى الجمع الحافل من العمال يسد جوعه على مائدة ذي المال جزاء كدحه طول نهاره، ثم ما يلبث أن يذهب لسماع الشاعر أو المغني يروي عنده ظمأ روحه؟ وهو لهذا المغني أشد حبا منه لمن يمسك عليه حياته المادية؛ لأنه يحس في الشاعر معنى إنسانيا، في حين أن سعيه لدى المالك وجزاءه من سعيه لا يجزيه إلا الإبقاء على حياته الحيوانية البحتة.
لذلك كان جزاء وفاقا أن تحزن مصر على شاعر الوطنية العظيم مصطفى كامل، وكان حقا أن يرى قاسم أمين في وحدة هذا الشعور بفقد الزعيم الشاب الذي كرس حياته ليتغنى باسم مصر وليعلن أنه وهبها حياته، وحدة في الأمل الكبير بمستقبل زاهر. •••
ولد مصطفى كامل في سنة 1874، أي في السنة التي ولد فيها الخديو عباس حلمي الثاني، وقد بعث به أبوه علي أفندي محمد - وكان مهندسا - إلى مدرسة أم عباس، فمدرسة القربية الابتدائيتين حيث تلقى دراسته الأولى، وفي أواخر أيامه بهما توفي أبوه وكفله أخوه حسين واصف باشا وزير الأشغال السابق، وبعد الدراسة الابتدائية التحق بالمدرسة التجهيزية - الخديوية الآن - لتلقي دراسته الثانوية، وفيها ظهر جريئا أكثر من زملائه جميعا، وجرأته هي التي جعلته دون سائر إخوانه يذهب بنفسه فيقابل ناظر المعارف إذ ذاك علي باشا مبارك يشكو له حيف نظام الامتحان حيث أدى إلى رسوبه ورسوب زملائه، وإعجاب ناظر المعارف بهذه الجرأة هو الذي جعله يعدل عن هذا النظام فيؤدي ذلك إلى نجاح مصطفى وكثيرين من زملائه، فلما أتم دراسته الثانوية التحق بمدرسة الحقوق الخديوية في العام المدرسي 1891-1892، ومن ذلك التاريخ بدأ ينشر رسائل ومقالات في الصحف، كما أنه - على ما يذكر مؤرخوه ومن بينهم مدام جوليت آدم - ارتبط بالخديو السابق عباس حلمي الثاني برابطة كانت ذات أثر مباشر في حياته كلها بعد ذلك.
ولم يكن مصطفى كامل هو وحده الشاب الذي اصطفاه عباس الثاني، ولا كان هو وحده الذي أثر ارتباطه به في حياته، بل لقد اصطفى كثيرين من الشبان يومئذ ممن توسم فيهم الذكاء والإقدام فعاونهم في دراساتهم وعاونهم بعد الدراسة، وأوفدهم إلى أوربا لمهمات سياسية يؤيد بها سلطته ومركزه كحاكم مصر الشرعي، وسياسة عباس الثاني كانت معارضة تمام المعارضة لسياسة الإنجليز، فإنه ما لبث أن تبوأ عرش أبيه وجده حتى وجد ندا له في قصر الدوبارة، لورد كرومر معتمد بريطانيا صاحبة السلطان الفعلي في البلاد بقوتها وبجيش احتلالها وباستئثارها بكل المناصب الرئيسية في الحكومة، وهو ما لبث أن تبوأ عرش أبيه وجده وأراد - مدفوعا بحماس الشباب - أن يظهر للناس حقه وسلطانه حتى صدمته حادثة الحدود التي اضطر معها إلى الاعتذار عن ملاحظته التي أبداها للقائد كتشنر حين استعراضه الجيش المصري بالسودان، وكان المتقدمون في السن من المصريين الذين شهدوا عهد إسماعيل ومظالم حكومته والذين رأوا حركة عرابي واشتركوا أو لم يشتركوا فيها وشهدوا فشلها وتغلب سلطان الإنجليز عليها وعلى فرنسا وانفرادهم دونها بأمر مصر - كان هؤلاء المتقدمون في السن أشد الناس ترددا في مشاركة الأمير الشاب الذي اعتلى العرش في الثامنة عشرة من عمره مطامعه ومطامحه، فلم يكن يستطيع الاعتماد إلا على الذين لم يهون عليهم ظلم إسماعيل استبداد الإنجليز والذين لم يضعف الجهل أو البله في نفوسهم معنى الحرية، وكان مصطفى كامل بين هؤلاء بل كان في مقدمتهم، فقد جمع إلى الشباب إقداما جاوز حدود الإقدام مع نشاط عصبي لا يهدأ إلا أن يهد المرض صاحبه ويقعده عن حركته الدائمة، وهو لذلك لم يقنع بدراسة الحقوق وبكتابة المقالات في الصحف بل أنشأ - وما يزال في أول سني طلب الحقوق - مجلة أسماها «المدرسة»، صدر أول أعدادها في 18 فبراير سنة 1892 وجعل نفسه بها زعيما لزملائه في الدرس يلقي عليهم النصائح ويرشدهم إلى الواجب ويقدم لهم مختلف المعلومات التي يرشده إليها اختباره الشاب في بطون الكتب والنشرات الدورية.
وفي يونية سنة 1892 سافر لأول مرة إلى فرنسا ليؤدي امتحان الحقوق الأول بباريس، وكان طبيعيا أن تأخذ بلبه الغض حضارة الغرب وأن تؤثر في أعصابه الحساسة مظاهر الحياة الناشطة والحرية المنظمة، وكانت فرنسا يومئذ قد أفاقت من كبوة سنة 1870 حين قهرتها ألمانيا، وجعلت تذكر في حسرة تدليها من الصف الأول في تصريف سياسة العالم، والشعور بالألم يحفز الإحساس ويفيض على اللسان الشكوى والطموح والأمل، وقد تأثر مصطفى كامل بهذا أيضا كما تأثر بالحضارة وبالحرية، وزاده تأثرا معاودته الحضور للامتحان في سنة 1894 بباريس، وفي أواخر هذه السنة بتولوز حيث نال إجازة الحقوق، ومن ذلك اليوم انفتحت أمام خياله الشاب آفاق الحياة وآمالها، ولعل مما وجه هذه الآمال وجهتها ما وقع له مصادفة من مقابلة الكولونيل بارنج شقيق لورد كرومر وما دار بينهما من حديث كان له في العالم السياسي قيمة وترتبت عليه حملة صحفية اشترك هو فيها فحالفه الفوز، فاتجهت إليه الأنظار، فرسم له القدر بذلك طريق حياته، فقد نشرت جريدة الأهرام الصادرة في 28 يناير سنة 1895 مقالا عنوانه (حديث ذو شأن) موقعا بإمضاء مصطفى كامل حاويا لما دار بين المصري الشاب وبين الضابط الإنجليزي من مناقشة أفضى فيها الضابط بكل سياسة إنجلترا في مصر مؤيدة بالدليل القاطع الذي لا يعرف حجة ولا جدلا: دليل قوة السيف والمدفع، وأفضى فيها المصري الشاب بحجة مصر وحقها وباعتمادها لنيل هذا الحق على قوته في ذاته وعلى أوربا التي لا تنظر إلى إنجلترا في وادي النيل بعين مطمئنة، ولعل هذه الفقرة من أقوال مصطفى كامل تفسر نشاطه في المستقبل وتفسر السياسة التي اتبعها إلى سنة 1904 حين تم الاتفاق الودي بين فرنسا وإنجلترا اتفاقا انضمت إليه ألمانيا والنمسا، قال مصطفى: «إن لمصر أن تأمل من أوربا نجاتها وخلاصها، ولنا أوربا بأسرها التي تناديها صوالحها العدة بأن تنصرنا نصرة لتلك الصوالح التي سعيتم من يوم احتلالكم البلاد في تقويض أركانها.»
وربما كان للخديو ومصطفى كامل ولكثير من المصريين يومئذ العذر في اعتمادهم على أوربا والتجائهم إلى بعض دولها لمناوأة البعض الآخر، فلم تكن سياسة أوربا الاستعمارية قد استقرت يومئذ على أساس ارتضته دولها الكبرى، واطمأنت معه كل واحدة منها إلى أنها نالت من الغنيمة الحظ الذي يكفيها، والتي تكفي قواها للدفاع عنه ولاستغلاله وامتصاص دمه، بل كانت المنافسات ما تزال على أشدها بين إنجلترا وفرنسا، وكانت ألمانيا الناشئة متطلعة إلى مثل الإمبراطورية البريطانية، وكانت النمسا تنظر إلى ماضيها بعين الوجل إذ تراه يرتجف، وكانت سياسة الباب العالي في الأستانة قائمة على الاستفادة من هذه المنافسات الدولية، فلم لا تقوم سياسة مصر على الاستفادة من هذه المنافسات الدولية، فلم لا تقوم سياسة مصر على هذه القاعدة أيضا؟ ولم لا تستفيد مصر من تطلع هذه الدول جميعا إليها لتتخلص منها جميعا ولتصل إلى نوع من الحيدة يكفل لها ولو الاستقلال الداخلي الواسع النطاق الذي وصل إليه إسماعيل باشا؟
والواقع أن فرنسا كانت ما تزال دامية الجرح لفشل سياستها بمصر بعد إحجامها عن الاشتراك مع إنجلترا في التدخل المسلح سنة 1882، وكان ألمها أشد لأن هذه الضربة كانت في حكم القاضية على ما نالته في وادي النيل من نفوذ منذ حملة نابليون في سنة 1798، ومنذ اصطفائها محمد علي وسعيد من بعده، ومنذ قيامها بحفر قناة السويس ونشر الثقافة الفرنسية في بلاد الفراعنة، وزاد الجرح إيلاما أن الفشل لم يقف عند مصر، بل تناول نفوذ فرنسا في الشرق الأقصى بسبب تغلب إنجلترا عليها في الهند وفي غير الهند من الممتلكات.
وقد أراد الخديو مستترا وأراد مصطفى كامل أن يستفيد من هذه السياسة غاية الاستفادة، وكانت القاعدة التي رسمت أن تطالب الدول الأوربية إنجلترا بتنفيذ وعدها بالجلاء عن مصر، وأن تدفع الدول الأوربية إلى هذه المطالبة ببيان ما تقوم به إنجلترا في وادي النيل من أعمال تدل على قصدها البقاء فيه، وكان حديث مصطفى كامل مع الكولونيل بارنج خطوة أولى وخطوة قوية في هذا السبيل، ولم تمض على هذه الخطوة أسابيع حتى استصدرت إنجلترا من الحكومة المصرية دكريتو بتأليف محكمة مخصومة تحاكم المصريين الذين يعتدون على جنود جيش الاحتلال أو ضباطه، وانتهز مصطفى كامل الفرصة للاستفادة من هذا الحادث أيضا، ثم كان أن جاء مسيو دلونكل عضو مجلس النواب الفرنسي إلى مصر في 21 مارس سنة 1895، ولعله وحده، بل لعل الحكومة الفرنسية وحدها لم يكونا كل السبب في حضوره، وقد استقبله مصطفى كامل بالإسكندرية وظل معه يصل بينه وبين المصريين من الطبقات المختلفة حتى غادر مصر عائدا إلى بلاده في 13 أبريل من ذلك العام، وفي يوم 11 أبريل أولم دلنكل للصحفيين بالإسكندرية وخطبهم فرد عليه مصطفى كامل شاكرا إياه وشاكرا فرنسا منتظرا منها معونة مصر وتأييدها.
ويذكر المرحوم علي بك فهمي كامل في السيرة التي وضعها لأخيه أنه بعد أيام من ذلك وساعة سفر علي مع الأورطة البيادة الأولى أسر إليه مصطفى بأنه مسافر إلى باريس، وقد دهش علي لهذا السفر المفاجئ على غير ميعاد وبلا سبب، وربما دهش له لسبب آخر حين ذكر له أخوه أن سفره إنما تدعو إليه «المسألة المصرية» لما يقتضيه هذا السفر وهذه المسألة والدعوة لها من طائل النفقة.
وسافر مصطفى إلى باريس، والحق أنه قام بالدعوة فيها بطريقة تدل على مهارة لا تتاح لفرد، بل تدبرها جماعة، وعلى نشاط لا يؤتاه كثيرون، فذكر بداءة أنه موفد من قبل الحزب الوطني المصري، والحزب الوطني على ما نعرفه نحن اليوم وعلى ما خلفه مصطفى كامل في سنة 1908 لم يكن له وجود في سنة 1895، لكن الحزب الوطني هو الاسم الذي كان يطلق على العرابيين، وإذا فهو يذكر الفرنسيين بهذا الحزب الذي تغلب عليه الإنجليز وحدهم حين تنحى الفرنسيون عن وادي النيل.
ثم إنه جعل أساس دعوته فضلا عن ذلاقة لسانه لوحة فنية بديعة لم يذكر لنا مؤرخوه من الذي نقشها ومن الذي أمر بنقشها، وتمثل هذه اللوحة فرنسا واقفة في قوس نصر قام على نصب رفيع يجري النيل من تحته، وقد قامت مصر على شاطئه مقيدة يحرسها جندي بريطاني، وتقدم جماعة من المصريين إلى فرنسا يستنجدونها لتفك إسار وطنهم، ونقش على اللوحة بالعربية وبالفرنسية هذه الأبيات:
أفرنسا يا من رفعت البلايا
عن شعوب تهزها ذكراك
انصري مصر إن مصر بسوء
واحفظي النيل من مهاوي الهلاك
وانشري في الورى الحقائق حتى
تجتلي الخير أمة تهواك
ومن هذه اللوحة طبعت ألوف وزعت في أنحاء العالم ونشرت في كل صحيفة بعد أن قدمها مصطفى كامل بعريضة إلى رئيس مجلس النواب الفرنسي نيابة عن المجلس، ومما جاء في هذه العريضة قوله:
جاءت الأمة المصرية تستغيث بهذه الأمة الكريمة - فرنسا - التي حررت عدة من الأمم، فهل تجاب إلى استغاثتها وتضرعها؟ وهل لفرنسا أن تؤيد بهذا العمل الجليل مكانتها في العالم الإسلامي الواثق بها؟ على أن ذكر اسم مصر عندما تكون حرة مستقلة بجانب الأمم العديدة التي حررتها فرنسا ليس بالفخار القليل لها، فلتحيا فرنسا محررة الأمم.
كان لهذا العمل الذي قام به مصطفى كامل نيابة عما سماه الحزب الوطني ضجة كبيرة في العالم لفتت إليه الأنظار من كل صوب وجعلت الصحف في مختلف الدول تهتف باسمه، خلا الصحف الإنجليزية التي تناولت هذا العمل بالتقريع وعزته إلى مقامات خاصة في مصر، وشد هذا النجاح الأول من عزيمة مصطفى كامل، ومكن له من الاتصال بكبار الساسة وما يزال في مقتبل شبابه، وزاده جرأة وإقداما فجعل يطوف عواصم أوربا يتحدث فيها إلى الصحفيين والساسة مذكرا إياهم بوعود إنجلترا بالجلاء عن مصر وبمصالح دولهم في أن يتم هذا الجلاء، ثم عاد إلى باريس فنشر فيها رسالة عن أخطار الاحتلال الإنجليزي لمصر، وفي 13 نوفمبر سنة 1895 كتب إلى لورد سالسبري ردا على خطاب كان الوزير الإنجليزي قد ألقاه في جلد هول عن سياسة أوربا نحو تركيا، وفي خطابه دافع مصطفى كامل عن المسلمين وعن دولة الخلافة، وفي 3 يناير سنة 1896 كتب إلى المستر جلادستون يطلب إليه - برغم وجوده بعيدا عن الحكم - تصريحا في شأن مصر؛ فأجابه جلادستون بخطاب وردت فيه العبارة المأثورة: «وافى زمن الجلاء فيما أعلم منذ سنين.» وعاد بعد ذلك إلى مصر حيث أقام بها حتى أغسطس إذ شد رحاله إلى أوربا من جديد، وفي أثناء مقامه بمصر ألقى خطابه الأول بالإسكندرية كما كثر المتصلون به من المصريين، وفي هذه الفترة أيضا نشرت له جريدة الإكلير الفرنسية التي تصدر بباريس حديثا عن الحملة المصرية الإنجليزية إلى السودان معتبرا إياها وسيلة إلى إطالة أمد الاحتلال الإنجليزي إطالة لا نهاية لها، وفي هذه الفترة أيضا اتصل علنا بالخديو اتصالا زاد العلاقات بين لورد كرومر وعباس توترا، ثم سافر في أول أغسطس إلى باريس حيث استمر هناك في نشر الدعوة لمصر على أمل أن يحمل فرنسا وغيرها من دول أوربا على التدخل لمصلحتها، وفي هذه المرة كان يذكر الخديو عباس ويموله نحو مصر وأن «خطته هي انتظار الظروف ليستعد أحسن استعداد للوثوب والنزال لاسترداد حقوق البلاد المهضومة»، ولم يغفل ذكر المسلمين والخليفة، وبعد أن قام بنشر الدعوة في باريس سافر إلى برلين ومنها إلى فيينا فالأستانة حيث وصلها في أواخر أكتوبر وقابل فيها جلالة السلطان، قال في كتاب له إلى أخيه علي فهمي كامل: «وكان جلالته - كما أبلغني الباشكاتب - يود الإنعام علي برتبة أو نيشان ولكني أظهرت عدم رغبتي في شيء من ذلك حتى لا تروج بضاعة الأعداء ضدي ويتهمني أبناء الوطن العزيز بالعمل حبا في الظهور وفي مثل هذه الألقاب الكاذبة.»
وكذلك جعل من أوربا ميدان نشاطه السياسي فكان يقضي فيها معظم شهور السنة متنقلا بين عواصمها متحدثا إلى رجال الصحافة والسياسة فيها داعيا إياهم ليستوفوا إنجلترا وعودها بالجلاء عن مصر متحدثا عن المصريين تارة وعن المسلمين طورا، كل ذلك في لهجة أدنى إلى الاعتدال وإن وصفها الإنجليز بالتطرف، وقد بقيت من أساليبه في الدعاية السياسية إذ ذاك تلغرافات الاحتجاج على ضرب الإسكندرية وغير ضرب الإسكندرية من الحوادث التي أدت إلى الاحتلال البريطاني لمصر، لكن السياسة الإنجليزية من جانبها كانت جادة في السعي لتحقيق ما أفضى به الكولونيل بارنج إلى مصطفى كامل مما نشره في يناير سنة 1895.
فكانت الحملة لاسترداد السودان واسترداده بالفعل وعقد اتفاقية 19 يناير سنة 1899 وفتور الدول وفي مقدمتها فرنسا عن القيام بأي سعي جدي لمناوأة إنجلترا في مصر، ولكن ذلك لم يفت في عضد مصطفى كامل، ولم يضعف من نشاطه وإقدامه، وإن يكن قد دعاه أو دعا الذين يعمل معهم للتفكير في وسائل أخرى، وكان الالتجاء إلى الباب العالي بعض هذه الوسائل.
ولعل التفكير في هذا الالتجاء كان من أثر انتصار الدولة العلية في الحرب البلقانية، وفي هذه الأثناء كثر تردد مصطفى كامل على الأستانة وازداد إعجاب السلطان عبد الحميد به، فأنعم عليه في سنة 1899 برتبة المتمايز ثم بالرتبة الأولى، وذلك في ظرف شهرين اثنين كما أنعم عليه برتبة الباشوية بعد ذلك بسنين قلائل.
ولم يكن في مقدور تركيا أن تقاوم إنجلترا في مصر أكثر مما تقاومها أية دولة من الدول الأوربية، وهذه الظروف مجتمعة دعت مصطفى كامل والذين يعمل معهم ليروا عقم سياسة الاقتصار على نشر الدعوة في أوربا وحدها والاعتماد على الدول لإجلاء إنجلترا عن مصر، وليفكروا في استنهاض الشعب المصري نفسه بالتعليم وبدعوته لتقدير عزته القومية وكرامته الوطنية، وبهذه الفكرة تأسست مدرسة مصطفى كامل في سنة 1899 وصدرت جريدة اللواء في 2 يناير سنة 1900، ومن ذلك الحين قامت سياسة مصطفى على أساس من توثيق عرى روابط مصر بتركيا باعتبارها الدولة المتبوعة من جهة والدولة الإسلامية القوية التي يمكن أن تتجه الشعوب الإسلامية لها بالرجاء من جهة أخرى، أما فيما يتعلق بسائر الدول الأوربية فقد ضعف رجاؤه فيها، وإن ظل مستمسكا منه بخيوط لعلها كانت بقية ذلك الأمل القوي القديم الذي جعله يرفع صوته عاليا خمس سنوات تباعا في عواصم أوربا، أو لعلها الحرص الطبيعي في الإنسان على ألا ينكر شيئا من ماضيه، أما سياسته في استنهاض الشعب المصري فكانت تقوم على غرس الكراهية في نفوس المصريين للإنجليز وحكمهم مصر وملء النفس المصرية بالإيمان بحق الوطن وبالتفاني في محبته والإخلاص له وبالأمل دائما في ثمرة السعي الصالح لفائدته.
وعجيب مع ذلك كله، ومع أن مصطفى كامل كان ذكيا جريئا، ومع أنه أمضى ما أمضى من السنين في أوربا، ومع إعجابه بالمدنية الأوربية إعجابا تكرر ذكره في كتبه ورسائله؛ عجيب مع ذلك أنه كان رجعيا في دعوته الاجتماعية، فلقد ظهر كتاب المرحوم قاسم أمين عن تحرير المرأة في سنة 1899، وكان منطقيا أن يلقى التأييد الحار من جريدة الزعيم الشاب أول ظهورها في يناير سنة 1900، لكن الأمر كان على نقيض ذلك، فقد كان اللواء خصما لدودا لقاسم أمين ولأفكاره وكان ميدانا لأشد المطاعن عليه، وظل اللواء كذلك في شأن الإصلاحات الاجتماعية كلها محافظا بل رجعيا مستمسكا بالقديم أشد الاستمساك، ولئن جاز لنا أن نعلل خصومته لقاسم أمين بما لقيه قاسم من تجهم الخديو له تجهما حرم عليه وهو مستشار بمحكمة الاستئناف أن يدخل القصر، فإن تعليل رجعية اللواء في الشئون الاجتماعية قد يبدو عسيرا إلا إذا كانت العلة هي بعينها التي دعت الأمير ورجاله للوقوف في وجه قاسم وأفكاره، هذه العلة في رأينا هي تمليق الشعب فيما هو عزيز عليه من عادات وأوهام لاستغلاله في الغايات السياسة التي يريد الأمراء والملوك استغلاله فيها، وتلك هي علة تمليق الأمراء والملوك والدعاة السياسيين لرجال الدين لأنهم حفظة هذه العادات والأوهام، فلو أن عباسا أو لو أن مصطفى كامل عضد قاسما في رأيه في تحرير المرأة لأدى ذلك لفتور الشعب عنهم وتردده في اتباعهم، ولو أن عباسا أو لو أن مصطفى كامل أراد أن يهز أوهام السواد في الناحية التي تعرض الشيخ محمد عبده لهزها لفتر الشعب كذلك وتردد، والداعية السياسي تاجر يزن الأمور والحقائق بنتائجها لا بقيمتها الصحيحة ولا بما تحتويه، وما دام غرس كراهية الاحتلال البريطاني في نفوس المصريين وملء قلوبهم بالإيمان الوطني يعوق سبيل الدعوة للإصلاح الاجتماعي فليكن الداعية السياسي، وليكن الأمير محافظا بل رجعيا بل عدوا ظاهرا محاربا لكل فكرة حرة.
ونجحت دعوة مصطفى كامل أعظم نجاح، ذلك بأن نفوس الشباب في مصر كانت متعطشة إلى نغمة جديدة تحيي فيها الأمل بحياة عزيزة، وكانت هذه النغمة قد اختفت منذ الحوادث العرابية إلى أن جاء مصطفى كامل، وبرغم وجود كثيرين ذوي مقدرة لا تقل عن مقدرته وذوي تفكير أنضج من تفكيره، فلم يكن أحد منهم في إقدامه ولم تكن حمية الشباب ملتهبة في نفس هؤلاء التهابها في نفسه، وعاون على نجاحه أسلوب جديد في الخطابة لم يكن مألوفا من قبل، هو الأسلوب الوجداني الذي امتازت به خطابات الثورة الفرنسية، هذا الأسلوب المعتمد على الجمل الضخمة التي تندفع بها المجاميع من غير روية عادة إلى الغاية التي يريدها الزعماء، «لا معنى للحياة مع اليأس، ولا معنى لليأس مع الحياة»، «بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي، لك حياتي ووجودي، لك دمي ونفسي، لك عقلي ولساني، لك لبي وجناني، فأنت أنت الحياة، ولا حياة إلا بك يا مصر»، «لو انتقل قلبي من الشمال إلى اليمين ... إلخ»، بهذا الأسلوب الوجداني وبقوته الخطابية النادرة المثال وبمخاطبته شعور الشبيبة وباستنهاضه همتها وبأناشيده عن الوطن ومحبته وارتقائه، بذلك كله استطاع الزعيم الشاب أن ينهض بأعباء دعوته مؤيدا من الخديو عباس وأصدقائه بادئ الأمر، شاعرا بقوته بعد ذلك، ممليا إرادته على الذين كانوا يملون من قبل عليه إرادتهم، مستأثرا بكل أمر وبكل رأي، مطاعا من كل أنصاره وأتباعه الذين لم يتسام واحد منهم ليتطلع إلى مثل مكانته، متقدما دائما إلى الأمام يتبعه شباب الأمة كلها، رافعا بذلك علم النهضة مرددا نشيد الأمل في المجد والعظمة بصوت تهتز له الأفئدة وتخفق له الجوانح فلا تعرف الخطر ولا تأبه له ولا تشعر باقترابه بل بوقوعه.
بإزاء هذه الحركة الوطنية المتدفقة حرارة وإيمانا لم يكن لإنجلترا إلا أن تضاعف المجهود لبلوغ غاياتها السياسية في مصر، ولم يكن لورد كرومر ممثلها في مصر يومئذ بالرجل الذي يستهان به، فحارب هذه الحركة وطعنها من جانبين: اتهمها بالتعصب الإسلامي ليستثير أوربا المسيحية، واتهمها بالعداوة للأجانب ليؤلب الدول في صف إنجلترا، وما أيسر ما تصدق الأذن الأوربية كلمة التعصب الإسلامي وعداوة المصريين المسلمين للأجانب المسيحيين؛ لذلك أنفق مصطفى كامل كثيرا من جهوده في مصر وفي أوربا لنفي التهمتين، وكان من ذلك أن أنشأ جريدتين في مصر إحداهما فرنسية والأخرى إنجليزية، على أن إنجلترا لم تقف من مجهوداتها عند هذا الحد، بل واصلت المسعى السياسي حتى عقدت الاتفاق الودي مع فرنسا في 8 يناير سنة 1904 وبه حصلت على إطلاق يدها في مصر على ألا تغير نظام مصر السياسي، وأقرت ألمانيا والنمسا هذا الاتفاق، فأقرت الدول الثلاث بذلك معاهدة السودان التي عقدت في سنة 1899، وبهذا الاتفاق الودي انهار ركن من أهم أركان سياسة مصطفى كامل، بل انهار مجهوده منذ سنة 1895 إلى سنة 1900 حين كان كل عمله التجوال في عواصم أوربا لاستفزاز دولها كي يقتضوا إنجلترا تنفيذ وعودها بالجلاء عن وادي النيل.
والواقع أن هذا الحادث صدم المصريين يومئذ صدمة قوية، فرنسا هذه التي طالما علقت مصر عليها الآمال، فرنسا التي رفعت البلايا عن شعوب تهزها ذاكراها، فرنسا محررة الأمم ومعلنة حقوق الإنسان والمنادية بالحرية والإخاء والمساواة، هي التي تمضي الاتفاق الودي تؤيد به سياسة الاستعمار، فتترك إنجلترا تطلق يدها في مصر مقابل ترك إنجلترا إياها تطلق يدها في مراكش! يا لخيبة الأمل! وأين إذا محل الرجاء؟!
لكن «لا معنى للحياة مع اليأس، ولا معنى لليأس مع الحياة» فلنجاهد، واستمر مصطفى كامل في جهاده، وما يزال له في دولة الخلافة بعض الرجاء وما تزال دعوة الشعوب الإسلامية للالتفاف حول دولة الخلافة كوسيلة لتحررها محور دعوته، فلما كانت أوائل سنة 1906 حدث ما زعزع من رجاء مصر في الدولة العلية هي الأخرى، ذلك أن أعادت تركيا الخلاف الذي أحدثته حين تبوأ عباس عرش أبيه في سنة 1892 بأن أرادت أن تخرج شبه جزيرة سينا من الأراضي المصرية، فوقفت إنجلترا وأصرت على أن تكون حدود مصر هي المبينة في الفرمان الذي أصدره السلطان لإسماعيل باشا في سنة 1873، وقد قبلت تركيا ذلك في تلغراف أرسله الباب العالي في 8 يناير سنة 1895، لكنها أرادت أن تفسر هذا التلغراف في سنة 1906 تفسيرا خاصا فتجعل حدود مصر تنحدر من رفح إلى السويس فإلى العقبة، فوقفت إنجلترا مرة أخرى، ولما احتلت القوة التركية طابة، وهي قرية على مقربة من العقبة داخلة ضمن الحدود المصرية، خاطب السير إدوارد جراي وزير الخارجية البريطانية إذ ذاك سفير تركيا في لندرة بما معناه: أن قوات الإمبراطورية على استعداد لتأييد مركز إنجلترا في مصر. وقد استمرت المشادة في هذا الموضوع بين تركيا وإنجلترا زمنا وقف في أثنائه مصطفى كامل بجانب تركيا يدافع عن مطالب دولة الخلافة جهد طاقته، على أن تركيا انتهت آخر الأمر بالتسليم بمطالب إنجلترا، فكانت هزيمة مسقطة لكل أمل في معونة تركيا، وكذلك تداعى الركن الثاني من أركان الدعوة التي كان مصطفى كامل قائما بها.
ولقد كان من شأن تداعي هذه الأركان واحدا بعد واحد أن يكشف عما تستره هذه السياسة من الخيال، على أن حادثا جديدا وقف فيه مصطفى كامل موقف المدافع عن العدالة والإنسانية بمعناها الصحيح ستر ما انكشف من فساد الاعتماد على أوربا وعلى الباب العالي، ذلك هو حادث دنشواي، فقد خرج جماعة من الضباط والعساكر الإنجليز من القاهرة قاصدين الإسكندرية فمروا في طريقهم بقرية دنشواي فنزلوا لصيد الحمام بأجرانها، واعترضهم الأهالي وحدث تصادم انتهى بجرح أربعة من المصريين بينهم امرأة وبإصابة بعض الضباط الإنجليز إصابة فر من جرائها أحدهم الكابتن بول فأصابته ضربة شمس مات متأثرا بها.
وعلى أثر هذا الحادث عقدت المحكمة المخصوصة التي شكلت بديكريتو سنة 1895 لتنظر في هذه القضية وحكمت على أربعة من الأهالي بالإعدام وثمانية بالجلد وآخرين بالأشغال الشاقة، ونفذ هذا الحكم بطريقة همجية لا عهد للإنسانية بها منذ عصورها المظلمة، فقد نصبت المشانق التي أرسلت إلى قرية دنشواي قبل صدور حكم المحكمة أمام منازل الأهالي مباشرة ونصبت إلى جانبها آلات الجلد، وغداة صدور الحكم نفذ على صورة يقشعر من هولها البدن، فكان كل محكوم عليه بالإعدام يعلق في المشنقة ويبقى معلقا أمام أنظار أهله وأبنائه إلى أن يجلدوا اثنين من المحكوم عليهم بالجلد، وكان هؤلاء يجلدون بكرابيج ذات ثمانية ألسن معقود طرف كل لسان منها بقطعة من الرصاص، ومن حول المشانق والمجالد وفوق أسطح المنازل وقف الناس من أهل هؤلاء التعساء وذويهم يشهدون جلودهم تشوى بالكرابيج وجثثهم فارقتها أرواحها معلقة في المشانق، ومستشار الداخلية الإنجليزي واقف يحافظ على النظام لهذا المشهد الذي أبدعته إنجلترا في مطلع القرن العشرين، ما أشدها وحشية! وما أتعسها حضارة!
هنا يجب أن يرتفع الصوت عاليا دفاعا عن الرحمة وعن الإنسانية وعن العدالة وعن كل المعاني التي جاهدت الإنسانية أجيالا وقرونا لتثبيتها في النفوس، وأي صوت أرفع من صوت مصطفى كامل، وأي أسلوب وجداني كأسلوبه! وهذه الدعاية السياسية التي فشلت بإزاء قوة إنجلترا في أوربا وفي مصر لا بد أن تنجح إذا استغلت لكشف هذا الظلم وللاستفادة منه لتحريك النفوس، وقد نجح مصطفى كامل في هذا أكبر نجاح، والحق أنه لم يرتكب في التاريخ الحديث فظاعة تعدل فظاعة تنفيذ حكم دنشواي، ولم تثر حادثة من الحوادث الشعور القومي في مصر ما أثارته هذه الحادثة، ولقد صدق مصطفى كامل إذ قال: إن عشرات السنين كانت أقصر من أن تحيي شعور الشعب كما أحياه هذا الحادث؛ لذلك ظل يكتب ويخطب في مصر وفي إنجلترا بيانا لبشاعة هذا الظلم الذي بلغ من بشاعته أن اضطر لورد كرومر إلى اعتزال منصبه في مصر مع اعتراف الكل له بأنه من أقدر الساسة البريطانيين وأعظمهم أثرا في حياة الإمبراطورية.
على أن المصريين كانوا قد رأوا فشل السياسة الأولى التي جروا عليها: سياسة الاعتماد على فرنسا ثم على أوربا ثم على الباب العالي، وقدر جماعة منهم أن لا بد من الأخذ بسياسة أخرى هي إعداد الأمة بأدوات الاستقلال من علم وخلق وغرس الإيمان بنفسها في نفسها لا لمجرد كراهية الإنجليز ولا حبا في الباب العالي ومقام الخلافة السامي، ولكن حبا في الاستقلال والحرية لذاتها، وكان لطفي بك السيد وزير المعارف السابق لسان الذين فكروا هذا التفكير والذين اعتزموا لبث دعوتهم إصدار جريدة «الجريدة»، على أن نفس مصطفى كامل لم تطاوعه ليرى في ميدان الخدمة السياسية العامة من يرى غير رأيه؛ لذلك هاجم «الجريدة» قبل صدورها وهو من أعرف الناس بصديقه لطفي السيد وبالذين كانوا على رأيه، ولعل هذا الخلق في الزعيم الشاب هو الذي دعاه أن يبعث من أوربا على أثر إعلان المرحومين سعد زغلول باشا وقاسم بك أمين تشكيل لجنة لتأسيس جامعة مصرية أهلية محتجا على عملهم بأنه سبقهم إلى الفكرة فيجب أن يكون تنفيذها تحت رعايته.
وخلف سير الدون غورست لورد كرومر كمعتمد لإنجلترا في مصر، فجرى مع الخديو على سياسة غير سياسة المشادة والنزاع التي كانت سائدة بين عابدين وقصر الدوبارة إلى ذلك التاريخ، وطمع الخديو في أن ينال من وراء هذا الاتفاق مع معتمد بريطانيا سلطة لعل السعي لها هو الذي دفع به لاصطفائه من اصطفى من الشبان ليعلموا باسم مصر كي يخليها الإنجليز فتبقى السلطة فيها محصورة في يد حفيد إسماعيل، وغير ذلك من الخديو على مصطفى كامل، وذلك شأن الملوك، يصطفون من يصطفون ما دام لهم في ذلك مأرب خاص، فإذا انقضى المأرب انصرفوا عنه وأنكروه، ثم إن مصطفى رأى دعوة لطفي السيد إلى الاستقلال التام أبعد مدى من الدعوة إلى جلاء إنجلترا وبقاء مصر تابعة لتركيا؛ لذلك قال في الخطبة البديعة التي ألف بها الحزب الوطني وألقاها في تياترو زيزينيا بالإسكندرية ما نصه: «فليعلم أعداء مصر أننا نطلب لها الاستقلال، ونطلب لها ذلك الاستقلال بأعلى أصواتنا وعلى مسمع من أمم الأرض كلها، وأننا إذا خطبنا الود لأمة أو لدولة فإنما نعمل كغيرنا ونتبع ناموس الطبيعة القاضي بأن من اتفقت مصالحهم يجتمعون ويتناصرون.» ومع هذه الكلمة الصريحة في المطالبة بالاستقلال والحرص عليه كانت الفقرة الأولى من برنامج الحزب الوطني هي استقلال مصر الداخلي وفاقا لمعاهدة لندرة في سنة 1840، ولعل ذلك إنما نص عليه تفاديا من معارضة القانون والتعرض لتهمة التآمر لقلب النظام الذي كان موجودا.
ولم يوهن فتور العلاقات بين مصطفى كامل والخديو ولا الخلاف بينه وبين الأحزاب المصرية الأخرى من همته العالية في الدفاع عن منكوبي دنشواي، وقد كلل مسعاه بالنجاح فصدر الأمر العالي بالعفو عنهم في عيد جلوس الخديو الذي تلا هذه الحوادث أي في 8 يناير سنة 1908. •••
بعد ذلك بشهر واحد كان مصطفى كامل على سرير المرض ينتظر الموت في ثبات وصبر، والأمة من حوله يخفق قلبها فرقا على هذا الابن البار الذي أذكى ضرام الوطنية في شبيبتها، فلما كان يوم 10 فبراير أطبق الموت جفني الزعيم الشاب وما يزال في مقتبل عمره، ولما يبلغ الخامسة والثلاثين، لكن هذه السنوات الثلاث عشرة التي جاهد فيها مصطفى (من 1895-1908) هي في الواقع حياة طويلة؛ لأنها حياة جليلة بنشاطها وبأعمالها، جليلة بإيمانها وسعيها، وفي عصر ذلك اليوم بينا أنا جالس مع زميل لي من طلبة الحقوق مر بنا من نعى الزعيم لنا، وفي اليوم التالي خفق قلب مصر من أقصاها إلى أقصاها حزنا عليه وجزعا ألا يخلفه من يكون مثله ذكاء ومقدرة وقوة إيمان.
وودع مصطفى هذا العالم وقد عمل لوطنه في عشر سنوات ما لم يعمله غيره في عشرات السنين، بل ما لم تعمله أجيال بأسرها؛ لذلك بقيت ذكراه تحييها مصر كل عام، ومن حيت ذكراهم فأولئك لهم الخلد في ضمير الدهر وكفى بذلك جزاء موفورا.
قاسم بك أمين
كلما ذكر اسم قاسم أمين
1
ذكر معه تحرير المرأة في مصر، فأول صيحة ارتفعت لهذا التحرير هي صيحة قاسم في كتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، وعلى أثر هذه الصيحة قام جدل عظيم في الموضوع ما تزال حواشيه باقية إلى يومنا هذا، مع ذلك، ومع أن قاسما لم يمت إلا من عشرين سنة، فلو أنه بعث اليوم ورأى من آثار دعوته هذا التعليم الإجباري للبنين والبنات ، وهذه النهضة النسوية العظيمة في مختلف جوانب الحياة، وهذه الحرية النسبية التي تتمتع بها المرأة، وهذا الإصلاح في التشريع للأحوال الشخصية ما تم منه وما يوشك أن يتم، إذا لأخذته الدهشة، ثم لانقلبت دهشته اغتباطا أي اغتباط بهذه الآثار، ثم لعقب سروره أسف على ما اضطر إليه في كتبه من محافظة ألزمه إياها روح عصره الجامد، ثم لترك ميدان المرأة وتحريرها يسير في طريقه الطبيعي، ولفكر في ميدان آخر من ميادين الإصلاح الاجتماعي الخطير الذي تحتاج مصر اليوم إليه أشد الحاجة، ولعل الأدب القومي وخلقه وتوطيده والارتفاع به إلى سماوات الإنتاج الذاتي الخصيب يكون بعض الميادين التي يصرف إليها بطل الجامعة المصرية منذ تأسيسها وأحد واضعي أسس هذا الأدب القومي في كتبه الثلاثة كل ما يكون لديه بعد بعثه من نشاط وجهد.
ذلك بأن روح قاسم كانت روح أديب، كانت الروح العصبية الحساسة الثائرة التي لا تعرف الطمأنينة ولا تستريح إلى السكون، وكانت الروح المشوقة التي لا تعرف الانزواء في كن للبحث والتنقيب حيث تنسى نفسها وتستبدل بكنها ما في حياة الكون وحركته من نشاط وجمال، بل كانت عيونه الواسعة تريد أن ترى جدة الوجود الدائمة تتكرر مناظرها فتطبع على صفحات نفسه وحيا وإلهاما أكثر مما تؤدي إليهما المباحث الجافة منطقا وجدلا، وكانت هذه المناظر تذكي شعوره الحساس بجمال الحياة، وتدعوه إلى الحرص على متاعه بها وعلى دعوته غيره لهذا المتاع، وذلك لا يؤتاه إلا رجل فن جميل لا يقف عند التلذذ لنفسه بنعم الحياة، بل يعبر لغيره عن معاني هذه النعم، وكما يعبر الموسيقي بالنغم والمصور بالنقش والمثال بالنحت والشاعر بالوزن، كذلك الكاتب الأديب يجد في وصف ما في الحياة من مختلف ألوان الجمال ما يعبر عن شعوره به وما يدعو غيره إليه، وحياة قاسم كانت كلها متجهة إلى هذه الدعوة، وكانت متجهة إليها بقوة آخذة بنفسه متغلبة عليه حالة منه محل الإيمان بها إيمانا صادقا.
ولد قاسم مصريا يجري في عروقه دم كردي، أورثه إياه جده الأمير الكردي ، وولد في أسرة متوسطة اليسار لم يفسدها ترف الإكثار ولم تجن عليها آثار الحاجة، وتربى منذ نشأته تربية أمثاله، ثم سافر إلى فرنسا حيث درس الحقوق وعاد في سنة 1885، وليس في ظروف صباه شيء غير عادي إلا أنه كان جم الحظ من الحياء مما ألزمه العكوف على نفسه وعلى درسه، وليس في حياته بعد ذلك شيء من المجازفات التي تجذب لأصحابها أنظار الجماهير، بل ظل منذ أتم دراسته إلى أن عاجلته منيته سنة 1908 وهو في ريعان قوته قاضيا ثم مستشارا بمحكمة الاستئناف.
لكنه كان مع حيائه الجم عيوفا يحترم نفسه وكرامته كما يحترم الغير وحريته، فلم يجرب عليه أحد ضعة ولا ضعفا، ولعل أقدس ما كان يجله من مظاهر الحرية حرية الرأي، وتلك ظاهرة كثيرا ما تلقاها في ذوي الحياء، فهم مع احترامهم لغيرهم ولحريته ومع مبالغتهم في هذا الاحترام إلى حد يهون معه عليهم أحيانا أن يتحملوا سوء استعمال الغير لهذه الحرية إلى حد يضايقهم، تراهم إذا أراد مريد حبس رأيهم أو محاربته توترت كل أعصابهم وانتفضوا انتفاضة الليث تبدو أنيابه ومخالبه ووقفوا مستميتين يذودون عن رأيهم ويستهينون في سبيل ذلك بالمال والجاه وبالحرية والحياة وذلك سر نجاحهم دائما، على أنهم لذلك لا يصدرون عن الرأي إلا بعد تمحيصه وتقليبه على مختلف وجوهه والاقتناع به اقتناعا يحل منهم مكان الإيمان، وهذا ما عبر عنه قاسم في مقدمة كتابه «تحرير المرأة» حين قال: «هذه الحقيقة التي أنشرها اليوم شغلت فكري مدة طويلة كنت في خلالها أقلبها وأمتحنها وأحللها، حتى إذا تجردت من كل ما كان يختلط بها من الخطأ استولت على مكان عظيم من موضع الفكر مني، وصارت تشغلني بورودها وتنبهني إلى مزاياها وتنبهني بالحاجة إليها، فرأيت أن لا مناص من إبرازها من مكان الفكر إلى فضاء الدعوة والذكر.»
وهذا الخلق فيه هو الذي جعله منذ عودته من دراسة الحقوق بفرنسا إلى خاتمة حياته قاضيا ممتازا، فهو لم يقض يوما لينال حظوة عند أحد أو ليصفق الجمهور له، ولم يكن من بين القضاة الذين قال عنهم: «أعرف قضاة حكموا بالظلم ليشتهروا بين الناس بالعدل.» ولم يتقيد في قضائه بآراء الفقهاء أو أحكام المحاكم مما يعتبره أكثر القضاة حجة لا محيد عنها، بل لم يتقيد بنص القانون إذا لم يصادف هذا النص مكان الاقتناع منه، وهذا هو ما جعله ميالا للرأفة في قضائه نافرا أشد النفور من حكم الإعدام، فقد كان يرى «أن العفو هو الوسيلة الوحيدة التي ربما تنفع لإصلاح الذنب»، وأن «معاقبة الشر بالشر إضافة شر إلى شر»، وأن «التسامح والعفو عن كل شيء وعن كل شخص هما أحسن ما يعالج به السوء ويفيد في إصلاح فاعله»، وأن «الخطيئة هي الشيء المعتاد الذي لا محل للاستغراب منه، والحال الطبيعية الملازمة لغريزة الإنسان»، فإذا كانت الجماعة لم توفق بعد لإدراك هذه الأفكار وكانت قوانينها التي وكل إليه تطبيقها كقاض ما تزال تجري على سنة القصاص والانتقام وما تزال دموية متوحشة، فلا أقل من أن يتحاشى الإعدام وهو أشد ما فيها وحشية، وهو العقوبة الوحيدة التي لا سبيل لعلاجها إذا ظهر خطأ القاضي أو ثابت الجماعة إلى رشدها ورأت تعديل أساس عقوباتها بجعل العقوبة للإصلاح لا للقصاص أو أخذت بمذهب العفو والتسامح.
وكذلك كان رأيه في قضائه المدني، لم يكن يتقيد بالإجراءات إذا رأى العدالة توشك أن تهدر لأن واحدا من هذه الإجراءات لم يراع المراعاة الواجبة، ثم كان أشد القضاة ميلا لمصالحة المتخاصمين ولإحلال التسامح محل النضال والحسنى مكان الشر والسوء، وهو في هذا ككثير من القضاة والمفكرين الذين أحدثوا بأحكامهم جديدا في العدالة وفي التشريع، والذين خطوا بنصوص القوانين إلى معان تتفق مع الرقي الإنساني الذي يصبون إليه ويودون لو يتحقق، وأنت إذ تقرأ أحكامه تشعر فيها بهذه المعاني التي ربما خيل إلى رجال القضاء بالمهنة أنها إلى الأدب والخيال أقرب منها إلى النصوص المقدسة، والتي كانت مع ذلك وسيلة التطور التشريعي في سبيل بلوغ العدالة منازل الكمال.
وهذه الآراء المتقدمة التي اعتنقها قاسم في نظره إلى الإنسان وفي تحليله نفسيته، وهذه الأعصاب الثائرة التي تهتز لكل ما في الحياة من جمال وترجو لو يستمتع الناس به، وتربية قاسم في وسط فرنسا الحر الذي كان متأثرا بالثورة الكبرى وبثورات سنة 1830 وسنة 1848 وسنة 1870، ذلك كله هو الذي دفعه ليعلن رأيه في تحرير المرأة مع علمه بما يثيره إعلان هذا الرأي عليه من حملات شعواء، فقد شعر قاسم بما شعر به كثيرون من الشبان الذين درسوا في أوربا من ألم لما يرونه حين مقارنة الوسط الذي كانوا فيه بالوسط الذي عادوا إليه، بل لعل هذه الحال على حد تعبير الأستاذ لطفي السيد «اعترته على نوع أشد مناسب لمقدار أطماعه الواسعة ومداركه القوية ومشاعره الرقيقة، وربما استحالت هذه الحال بمساعدة ما به من الوقار الجنسي إلى ملكة ينم عنها سكونه وإطراقه ويفسرها كثير من كلماته إلى حد يجعل المرء يراه متطيرا أكثر منه متفائلا»، وكثيرون ممن تعتريهم هذه الحال يثورون ثم ما يلبثون أن يهدءوا إذ يرون أنفسهم عاجزين عن أن يهزوا الوسط الذي هم فيه أو يبدعوا فيه جديدا، ولعل قاسما حدثته نفسه غير مرة بالسكوت والاكتفاء بجاهه العريض وبمنصبه العظيم، ولعله كان يصف نفسه أيضا حين كان يقول عن الشيخ محمد عبده: «كم من مرة سمعته يؤكد أنه صمم على ألا يتداخل في شيء من هذا القبيل، ثم رأيته في الغد منغمسا فيه أكثر مما كان، ذلك لأنه - بعكس ما يراه عموم المصريين في أنفسهم - كان عنده أمل لا يزعزعه شيء في إصلاح أمته، كان عنده اعتقاد متين بأن البذرة الطيبة متى ألقيت في أرض بلادنا الخصبة نبتت وأزهرت وأثمرت كما نبتت وأزهرت وأثمرت بذور الفساد فيها؛ لهذا كان يلقي بملء يديه كل ما جمعه في حياته من الأفكار الصالحة والعواطف الشريفة والتعاليم المفيدة، كأنه كان يشعر أن حياته ليست طويلة فكان يعجل ببذل جميع ما كان عنده.»
2
وكذلك لم يستطع هو أن يسمع لداعي الطمأنينة إلى منصبه وجاهه بعدما رأى أن لا مناص من إبراز دعوته من مكان الفكر إلى فضاء الدعوة والذكر .
وفي ظننا أن الدعوة إلى تحرير المرأة من رق الجهل ورق الحجاب لم تكن كل برنامج قاسم الاجتماعي، وإنما كانت حلقة منه هي أعسر حلقاته وأعقدها، ذلك بأنه لم يقصر عليها كل جهد حياته، بل اشتغل منذ سنة 1906 بالدعوة لإنشاء الجامعة مع صديقه سعد زغلول وشغل بهذه الجامعة وبتوطيد أركانها إلى أن وافته منيته بعدما أعد كل العدة لافتتاحها وقبيل هذا الافتتاح بأشهر معدودة، وتدل كلماته على أن برنامجه كان أوسع من مجرد تأسيس الجامعة وتركها تسير حسب ما توجهها الرياح، وعلى أنه كان يريد أن يجعل من الجامعة خطوة لبرنامج أوسع نطاقا يتناول ثورة في اللغة والأدب كالثورة التي أحدثها كتاباه في تعليم المرأة وفي رفع الحجاب.
ومن نافلة القول تكرار الكلام عن برنامجه في تحرير المرأة، فقد تناول الكتاب هذا البرنامج بالشرح والتحليل منذ أكثر من عشرين سنة، وكل ما يمكن لقارئ كتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» أن يقف عنده اليوم في شأن برنامجه ما اضطر إليه من تحفظ يجعل أهل هذا الجيل يرون صيحة قاسم التي كانت يوم ظهرت قوية مرعبة أن هزت أركان عادات أهل عصره لا تزيد اليوم على أنها صورة للآراء والعادات المتداولة، ونسخة من آلاف ما يكتب من نوعها وما يزيد أكثر الأحيان في تقدمها وسبقها.
ومعنى هذا أن دعوة قاسم آتت كل ثمرها فصارت بعض عقائد الناس وآرائهم، وإذا كان شيء مما دعا إليه كتنظيم تعدد الأزواج وكجعل الطلاق بإذن القاضي ما يزال موضع النظر، فإن الرجاء منعقد بتمامه عما قريب، كما أنه لم يبق من يعترضه إلا الجامدون والذين في قلوبهم مرض.
على أن كتابي «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» ليسا مقصورين على الدعوة إلى تعليم المرأة وإزالة الحجاب، بل فيهما مذهب جديد في التفكير والكتابة لم يكن معروفا من قبل قاسم ولم يسبقه إليه أحد، فيهما شيء من «الرومانتسم» الغربي ومن تحليل الطبيعة الإنسانية في أرق عواطفها وأدق وجداناتها، فقد كان قاسم ينظر إلى عاطفة الحب نظرة عبادة وتقديس ، وكان يقول: «إن العارف يعتبر العثور على الحب الشريف أكبر السعادات في هذه الدنيا، وإذا كان المال زينة الحياة فالحب هو الحياة بعينها.»
3
وكان يراه غذاء روحيا لا غنى لنفس عنه في جميع أدوار حياته، وعنده أن: «كل عشق شريف، فإن كان بين شريفين زاد في قيمتهما ورفع من قدرهما، وإن كان بين وضيعين أكسبهما شرفا وقتيا حتى إذا زال العشق سقطت قيمتهما وانحطت مرتبتهما ورجعا إلى أصلهما»، ورجل ذلك نظره للحياة أدنى إلى تغليب حكم العاطفة وإلى اعتبارها الهادي والمرشد الأول في الحياة.
وإنك إذ تقرأ في كتابيه ما كان صادرا عنه هو غير متأثر بجدله مع غيره أو ببحوثه الفقهية التي التجأ إليها لتبرير مذهبه بإزاء الشريعة الإسلامية، إذ ذاك ترى العاطفة الحية الحساسة، عاطفة المحبة والرحمة والتسامح والسلام هي السائدة في كل نواحي الكتاب، وهي مقدمة كل أسبابه ونتائجه، وهل الحياة إلا محبة ورحمة وتسامح وسلام؟! وهل في الحياة أجمل من المحبة والرحمة والتسامح والسلام؟!
وقاسم يريد بالناس أن يستمتعوا بجمال الحياة وبالحياة كلها استمتاعا كاملا، وهو لا يريد هذا على أنه مجرد دعوة لمثل أسمى قد تصل الإنسانية إليه وقد لا تصل، ولكنه يريده حقيقة تتم، وهو يريده لنفسه بمقدار ما يريده للناس، وأكثر مما يريده للناس، وأنت ترى هذا في كلماته التي لم تنشر للناس إلا بعد موته والتي كان يرصد فيها أفكاره الخاصة لنفسه، ترى في هذه الكلمات مبلغ إيمانه بالجمال وبالحب وبالفن الجميل، وترى مبلغ ألمه لعدم تقدير بني وطنه بدائع الطبيعة وتصوير رجال الفن لهذه البدائع، قال: «وصلنا قصر اللوفر وكنا أربعة من المصريين لنمتع النظر بأبدع ما جادت به قرائح أعاظم الرجال في العالم، فبعد أن تجولنا في غرفتين جلس أحدنا على أحد الكراسي قائلا: أنا اكتفيت بما رأيت وها أنا ذا منتظركم هنا، وقال الثاني: أتبعكما لأني أحب المشي وأعتبر هذه الزيارة رياضة لجسمي، وسار معنا شاخصا أمامه لا يلتفت إلى اليمين ولا إلى اليسار وما زال كذلك حتى وصلنا قاعة المصاغ والحلي، وحينئذ تنبهت حواسه وصار ينظر إلى الذهب ثم صاح: «هذا ألطف ما في هذه الدار»، ووصلنا إلى تمثال إلهة الجمال الفريدة في العالم أجمع فسألت دليلنا: ماذا تساوي هذه الصورة إذا بيعت؟ فقال إنها تساوي ثروة أغني رجل في العالم، تساوي كل ما يملكه الإنسان، تساوي ما يقدره لها حائزها ويطلبه ثمنا لها إذ لا حد لقيمتها.» •••
ومثال الجمال عند قاسم مجسم في المرأة، وإذا كانت الموسيقى وكان التصوير وكان التمثيل وكان كل مظهر من مظاهر الفنون الجميلة محببا إليه فإن مصدر الوحي الذي تصدر عنه هذه الآثار جميعا هو المرأة، هي التي تجعل للطبيعة وما فيها جمالا لأن عيونها تقع عليها، وهي تلهم الرجل هذا الجمال لأنها تحب الزهر وعطره والنسيم وأرجه والقمري وشدوه ولأنها تحب كل جميل.
وقد لا ترى ذلك واضحا صريحا في كتب قاسم، ولكنك تراه واضحا في عباراته الملتهبة عن العشق والحب، وفيما قدمنا من عباراته في تحرير المرأة وفي الكلمات ما ينهض دليلا على رأينا، وأكثر منه في الدلالة قوله: «كلما أردت أن أتخيل السعادة تمثلت أمامي في صورة امرأة حائزة لجمال المرأة وعقل الرجل.» وقوله: «الحب إحساس عميق يستولي على النفس كلها ويجعلها محتاجة إلى الاختلاط بنفس أخرى احتياجا ضروريا كاحتياج العليل إلى الشمس والغريق إلى الهواء، نار تلهب القلب لا يطفئها البعد ولا يبردها القرب بل يزيدها اشتعالا، نظرة في عيون محبوبته تملأ قلبه فرحا وتجعله يتخيل أنه ماش في طريق مفروش بالورد أو راكب سحابة وطائر في المرتفعات العالية، فوق فوق قريب السماء.»
وهو - وذلك إيمانه الصحيح - قد رأى أن المرأة التي تستطيع أن تلهم الرجل كل هذه المعاني السامية وأن تفيض على الفنان بالوحي وعلى غير الفنان بأسباب السعادة التي تحبب إليه الحياة والعمل فيها ليست هي المرأة الجاهلة المحجوبة؛ لذلك دعا دعوته لتحرير المرأة من رق الجهل ورق الحجاب لتكون مبعث السعادة للناس جميعا. •••
لكن هذا الوحي والإلهام لا يكون إلا إذا استعد الرجال لتلقيه، وإذا كان لدعوة قاسم أن تنجح في ميدان تحرير المرأة وأن تجعل من المصرية مثلما كانت أخت رينان أو زوجة جون ستوارت ميل أو شبيهاتهما من النساء اللواتي أوحين إلى النوابغ ما غير وجه التاريخ، فلا بد من إعداد الرجال لتلقي هذا الإلهام السامي ولإبرازه فيما يجب أن يبرز فيه من قوة، وذلك لم يكن ممكنا والتعليم العالي - كما كان يومئذ - مقصور على أن يعد موظفين للحكومة وللأعمال الحرة ممن لا يرون العلم إلا وسيلة للكسب «ويعملون على مبدأ (اكسب كثيرا واتعب قليلا) وليس فيهم العامل المحب لعمله أو فنه والعاشق الذي تحتل شهوة العمل كل قلبه وتتمدد فيه وتملؤه برمته»، أمثال هؤلاء لا يوحي إليهم جمال العالم فكرة جديدة ولا يرتجون من الحياة إلا اعتزازا بمنصب أو بمال طائل يحصلونه، وهؤلاء لا يمكن أن تنهض أمة بهم لترقى إلى سبيل الكمال، فأما الفئة التي «تطلب العلم حبا للحقيقة وشوقا إلى اكتشاف المجهول، الفئة التي يكون مبدؤها التعليم للتعلم» والتي تحس جمال الحياة في مختلف مظاهره، الفئة التي ترى في المرأة الجميلة المهذبة معوانا على النهوض بالجماعة، هذه الفئة لا تكون إلا حين توجد الجامعة وحين يوجد التعليم الجامعي، وهذه الفكرة هي الأساس الذي دعا قاسما للتعاون مع صديقه سعد زغلول ومع أركان نهضة مصر ليؤسسوا الجامعة المصرية التي استظلت لجنتها برياسة سعد باشا زغلول حتى ترك منصبه كمستشار في الاستئناف وعين وزيرا للمعارف فحل محله قاسم أمين في رياسة اللجنة إلى أن عاجلته المنية.
وقد ظل قاسم عاملا مع أصحابه مجدا يستنهض الهمم ويجمع الأموال ويهيئ كل أسباب نجاح الجامعة، وقد بين فكرته عنها في خطاب ألقاه بمنزل المغفور له حسن باشا زايد بالمنوفية لمناسبة وقفه خمسين فدانا للجامعة قال فيه: «إن الوطنية الصحيحة لا تتكلم كثيرا ولا تعلن عن نفسها، عاش آباؤنا وعملوا على قدر طاقاتهم وخدموا بلادهم وحاربوا الأمم وفتحوا البلاد ولم نسمع أنهم كانوا يفتخرون بحب وطنهم، فيحسن بنا أن نقتدي بهم فنهجر القول ونعتمد على العمل .
نحن لا يمكننا أن نكتفي الآن بأن يكون طلب العلم في مصر وسيلة لمزاولة صناعة أو الالتحاق بوظيفة، بل نطمع في أن نرى بين أبناء وطننا طائفة تطلب العلم حبا للحقيقة وشوقا إلى اكتشاف المجهول، فئة يكون مبدؤها التعلم للتعلم، نود أن نرى من أبناء مصر - كما نرى في البلاد الأخرى - عالما يحيط بكل العلم الإنساني واختصاصيا أتقن فرعا مخصوصا من العلم ووقف نفسه على الإلمام بجميع ما يتعلق به، وفيلسوفا اكتسب شهرة عامة، وكاتبا ذاع صيته في العالم، وعالما يرجع إليه في حل المشكلات ويحتج برأيه، أمثال هؤلاء هم قادة الرأي العام عند الأمم الأخرى والمرشدون إلى طرق نجاحها والمدبرون لحركة تقدمها، فإذا عدمتهم أمة حل محلهم الناصحون الجاهلون والمرشدون الدجالون.
إن عدم استعداد طلبة العلم لحب العلم ذاته هو عيب عظيم فينا يجب أن نفكر في إزالته، وهو نتيجة من نتائج التربية المنزلية التي غفلت عن تربية إحساسنا وأهملت تربية قلوبنا فأصبحنا ماديين لا نهتم إلا بالنتائج في جميع أمورنا، حتى في الأشياء التي يجب بطبيعتها أن تكون بعيدة عن الفوائد كعلاقات الأقارب والأصحاب.
إن الارتقاء في الإنسان تابع على الخصوص لإحساسه، وإن أكثر الناس استعدادا للكمال هم أصحاب الإحساس الذين تهتز أعصابهم المتوترة بملامسة الحوادث وتبلغ منهم الانفعالات النفسية مبلغا عظيما فيظهر أثرها فيهم بكثرة وشدة، أولئك هم السعداء الأشقياء الذين يتمتعون ويتألمون، أولئك هم السابقون في ميدان الحياة، تراهم في الصف الأول مخاطرين بأنفسهم يتنافسون في مصادمة كل صعوبة، من بينهم تنتخب القدرة الحكيمة خيرهم وتوحي إليه أسرارها فيصير شاعرا بليغا أو عالما حكيما أو وليا طاهرا أو نبيا كريما.
ولي أمل عظيم أن يكون إنشاء الجامعة المصرية سببا في ظهور شبيبة هذا الجيل وما يليه على أحسن مثال.»
كان أول أمل لقاسم من إنشاء الجامعة إذا هو الأمل العلمي البحت، هو تكوين فئة للبحث وراء الحقيقة شوقا إليها وحرصا على كشف ما يحيط بهذا العالم من الأسرار، وهذه الحقيقة لا يصل إليها أولئك المشغولون بأسباب الرزق العاكفون على السعي لها والدأب في سبيلها، وإنما تصل إليها بيئة علمية يتصل الطالب فيها بالأستاذ اتصال دراسة واتصال بحث، اتصال تعليم واتصال تضامن في زيادة ثروة الإنسانية العلمية، هذه الثروة النورانية التي تضيء ما حولها لتهتك حجب الجهل وما يجره وراءه من جمود وتعصب ونفاق، والتي تهدي الإنسانية سبيل السعادة بما تكشف لها من جمال الوجود، ولعل أكبر رجاء قاسم كان أن يتناول هذا البحث آداب مصر بغية الوصول إلى تركيز أدب قومي صالح يجدد الأدب العربي الذي كان متداولا إلى عصره، وقد كانت لقاسم في تجديد اللغة والأدب آراء لا تقل تقدما عن آرائه في مسألة المرأة وتحريرها، وكان يرى «أن اللغة العربية مرت عليها القرون الطويلة وهي واقفة في مكانها لا تتقدم خطوة إلى الأمام، بينا أخذت اللغات الأوربية تتحول وترتقي كلما تقدم أهلها في الآداب والعلوم حتى أصبحت النموذج المطلوب في السهولة والإيضاح والدقة والحركة والرشاقة، وصارت أنفس جوهرة في تاج التمدن الحديث»، وفي كلماته كثير عما كان يراه من أوجه النقص في اللغة ووسائل علاج هذا النقص قال: «لم أر بين جميع من عرفتهم شخصا يقرأ كل ما يقع تحت نظره من غير لحن، أليس هذا برهانا كافيا على وجوب إصلاح اللغة العربية، لي رأي في الإعراب أذكره هنا بوجه الإجمال وهو أن تبقى أواخر الكلمات ساكنة لا تتحرك بأي عامل من العوامل، بهذه الطريقة - وهي طريقة جميع اللغات الإفرنجية واللغة التركية أيضا - يمكن حذف قواعد النواصب والجوازم والحال والاشتغال ... إلخ، بدون أن يترتب عليه إخلال باللغة إذ تبقى مفرداتها كما هي.»
ولم يكن جزعه على الأدب بأقل من نفوره من جمود اللغة، فكم نعى على الكتاب والشعراء اقتصارهم على «تكرار أفكار الغير التي حفظوها كما يحفظ الأطفال القرآن»، وكم أسف على الفتور العقلي الذي يجعلك «إذا اجتمعت في اليوم بعشرين رجلا من معارفك تسمع من التسعة عشر الآخرين ما سمعته من الأول، ولا تجد في الجريدة التي تقرؤها أو تسمع من الصاحب الذي تقابله فكرة غريبة أو تعبيرا جديدا أو أسلوبا مبتدعا، لا تجد النابغة الذي يدهشك ويجذبك بعجائب جنونه»، وكم استهجن الأساليب التي تقتصر على المحسنات اللفظية ودعا إلى جدة تخرج بالكاتبين من ذلك النوع البالي الذي لا يعرف البحث والتحليل والتسمع على النفس والمشاعر ووصف بدائع الطبيعة مكتفيا بالعبارات المحفوظة التي توارثوها عن كتاب العرب أيام مجدهم، وإنك لتجد فيما خلف قاسم صورة من هذا الأدب الجديد الذي يدعو هو إليه والذي غزا ميدان التحرير والكتابة فأصبح أدب هذا العصر الحاضر، ولئن كنا ما نزال نرجو للأساليب الجديدة ثروة وقوة فإن فضلا كبيرا يرجع لقاسم في هذه الجدة التي دعا إليها، والتي كان يرجو أن تبدع فيها الجامعة التي جاهد في إنشائها، والتي قامت بعد موته قوة تقربها من المثل الأعلى الذي يرجوه.
واختطف الموت فجأة قاسما وما يزال في ربيع قوته، مات بالسكتة القلبية بعد أمسية قدم فيها طالبات رومانيات في نادي المدارس العليا، مات وهو في ميدان هذا الجهاد الشاق الذي خاض غماره وحمل أعباءه بقوة وعزيمة لم يتطرق إليهما كلال، فقد وقف الرأي العام في وجهه على أثر نشر كتاب تحرير المرأة، ولم يكن هذا الرأي العام مقصورا على السواد ولا على الجامدين، بل ساير هؤلاء كثيرون ممن يزعمون أنهم يفهمون الرأي واحترامه والحرية وقداستها، بل ممن كانوا مقتنعين بصواب رأي قاسم، وبلغ الأمر أن حرم قصر عابدين عليه، ولم يثبطه شيء من هذا ولم يبال بذم الناس «بل وجد فيه نوعا من حماسة الغضب منبها لأعصابه منشطا لقواه مغريا إياه بالاستمرار والثبات»، ورد على خصومه بكتاب «المرأة الجديدة» ثم قام بالمجهود العظيم الذي قام به في إنشاء الجامعة، وكان في إبان ذلك كله ساكن النفس مطمئن الضمير محبا للحياة وجمالها غير بخيل على نفسه بحظ من ذلك يناله في رفق ما كان بعيدا عن مصر، فإذا عاد إليها اقتصر على أصدقائه القليلين الذين كانوا «يخففون عليه حمل الحياة ويرغبونه في بقائها».
مات فجأة في ليل 23 أبريل سنة 1908 فأثار خبر وفاته في نفوس الناس جميعا، أصدقائه وخصومه، رنة حزن وأسى، واجتمع لتشييع رفاته كل ذوي الرأي في مصر، وكانت جنازته مظهرا صامتا لإجلال الوطن وتقديره العاملين من رجاله، وغادر هذا العالم تاركا وراءه ذكرا باقيا هو ذكر الصدق والإخلاص لبلاده لم يبتغ عليهما في حياته أجرا من جاه أو نشب، فكان أجره عليهما الخلود بعد موته في ضمير الأجيال المتعاقبة، ذلك بأنه رفع لواء الحرية الصحيحة والعدل في أسمى معانيه، وبعث إلى الروح المصرية حياة جديدة تكفل لها بلوغ ما ترجوه بين جماعة الأمم المتحضرة.
وفي يقيننا أن مجهود قاسم من أبقى المجهودات على الحياة، وأن الصحائف المعدودة التي كتبها ستظل أبدا موضع إجلال العصور واحترامها.
هوامش
إسماعيل باشا صبري
لم تمض على وفاة المغفور له إسماعيل صبري باشا غير سنوات قليلة ومع ذلك فقد بدأ الناس لا يذكرون عنه إلا أنه كان شاعرا مجيدا، فأما أنه كان وكيلا للحقانية في آخر أيامه، وأنه درج قبل ذلك في وظائف الحكومة المختلفة حتى بلغ هذا المنصب، فهذا ما يسحب النسيان عليه ذيله رويدا رويدا، وهذا ما يعتبر الجانب القليل الخطر من حياته، ولا عجب في ذلك؛ فلقد كان الشعر هو الجانب المنير من روح إسماعيل صبري والذي يجعله أحد رجال التاريخ الحديث، والناس لا يذكرون من الكبراء إلا مواضع عظمتهم الحقة، المواضع التي تتصل فيها نفوسهم بنفس الإنسانية كلها اتصالا تتأثر به النفس الإنسانية تأثرا باقيا على الأجيال في تعاقبها، فأما هذا العمل اليومي الذي يقوم به كل منا ويستطيع غيره أن يحل محله فيه، فأما هذا الجانب من الحياة الذي يتكرر فيه الفرد من غير أن تظهر له شخصية خاصة ممتازة، فأما النيابة والقضاء ووكالة محكمة الاستئناف ومنصب النائب العمومي ووكالة الحقانية مما تقلب فيه إسماعيل صبري؛ فتلك المراكز على خطرها وجلالها وما تخلعه على صاحبها في حياته من جاه ومقام عظيم، إنما يتصل صاحبها بالجيل الذي يعيش فيه، إلا أن يمتاز في أعمال هذه المناصب امتيازا يترك أثرا تتناقله الأجيال، ولم يترك إسماعيل صبري في هذه الناحية من حياته ذلك الأثر؛ لذلك كان له من جاهها مدى حياته ما يكون لغيره، فأما ما بقي له فذلك الضياء النفساني الذي يتجلى في شعره القليل، والذي يعتبر على قلته آية في الجمال تهتز لها نفوس كل الأجيال، والذي يبقى من أجله اسم إسماعيل صبري على الزمان؛ لأنه - على حد قول الأستاذ علي الجارم في مرثيته إياه:
لم يمت من يزول من عالم الحس
وتأبى آثاره أن يزولا
ولد المرحوم إسماعيل صبري في 16 فبراير سنة 1854 ودخل مدرسة المبتديان التجهيزية فمدرسة الإدارة، وفي سنة 1873 التحق بالإرسالية المصرية لفرنسا فنال إجازة الحقوق في سنة 1878، وهذه الإجازة هي التي فتحت أمامه أبواب السلك القضائي من مساعد نيابة لدى المحاكم المختلطة إلى وكيل وزارة الحقانية، على أن الجانب النفسي الأقوى منه لم يكن الجانب التشريعي أو الجانب القضائي، بل كان جانب تجاوب الأوزان والأنغام والشعر، وكثيرا ما رأيت رجالا يكونون دون غيرهم من أهل حرفهم في الكفاية والمقدرة، ولكنهم يمتازون بجانب آخر لهم فيه نبوغ، هؤلاء يحجب فيهم جانب النبوغ الجانب الآخر ويجعله يبدو ضعيفا، بل كثيرا ما يجني جانب النبوغ على الجانب العملي للحياة، لما يكره النبوغ عليه من وهبته الطبيعة إياه من مجهود مستمر وحياة خاصة، فإذا الجانب العملي يكاد ينسى إلا ما تمليه عليه الملكات الممتازة من قوة واقتدار.
ولم يكن لجانب النبوغ الشعري في إسماعيل صبري تاريخ قديم معروف، وقد عبر شوقي في رثائه إياه عن ذلك بقوله:
إن فاته نسب الرضى فربما
جريا لغاية سؤدد وطراف
شرف العصاميين صنع نفوسهم
من ذا يقيس بهم بني الأشراف
قل للمشير إلى أبيه وجده
أعلمت للقمرين من أسلاف
وكثيرا ما كانت المواهب الممتازة لا ترجع إلى تاريخ قديم معروف، بل كثيرا ما رأيت هذه المواهب الممتازة تتجلى في أشخاص لا تلمح في تاريخهم أية مقدمة لها، وهي قد تجلت في نفس إسماعيل صبري مذ كان في السادسة عشرة من عمره، وقبل أن يختط طريقه إلى السلك القضائي، فقد نشرت له مجلة روضة المدارس وما يزال في هذه السن مقاطيع شعرية تلمح خلالها روح الشاعر، وإن كانت في تلك الحين قد كانت متأثرة أشد التأثر بأغراض الشعر في عصر إسماعيل من مدح الأمراء وذوي السلطان، وروضة المدارس كانت يومئذ مجلة أدبية تعمل لإحياء اللغة العربية والشعر العربي.
ولما سافر في الإرسالية وأقام بمدينة اكس أتيح له الاطلاع على الأدب والشعر الفرنسي، ويدل شعره في السنوات الأخيرة على أنه تأثر بهذا الشعر كثيرا وأنه انطبع منه في نفسه حظ غير قليل، على أنه لم يستطع في أول أمره أن ينقل إلى الشعر العربي روحا غربية مثلما فعل شوقي مثلا، فأنت ترى في شعر صبا شوقي الشيء الكثير المتأثر تأثرا باديا بحياة شوقي في أوربا، أما إسماعيل فكان منذ أول حياته شاعرا مقلا، وكان - على ما يظهر من شعره - لا يتأثر سريعا، ولكن ما يؤثر فيه يبقى عالقا بنفسه حتى يكون له مظهره ولو بعد حين.
والظاهر أن التقاء الحياتين الشرقية والغربية والشعرين الشرقي والغربي في نفس إسماعيل صبري أحدث أثرا عميقا امتزج مع غريزة حياته، فقد كان رجلا رقيقا كل الرقة دمث الأخلاق حاضر البديهة، اجتمع له كل ما يعرف من صفات «ابن البلد» وظرفه، وإنك لتسمع ما يرويه عنه أصحابه من ذلك الشيء الكثير، فكان إذا سئم إنسانا من الناس ولم تطاوعه نفسه الرقيقة على الإغلاظ له في القول؛ طلب إلى صديقه حافظ إبراهيم أن يوقع بينه وبين هذا الثقيل حتى لا يضطر لمقابلته أو التحدث إليه، وكان كثير التندر، حتى لقد تحكم عليه النكتة فلا يرى بأسا من أن يقول إنه لو نزل كتاب مقدس في القطب الشمالي لوعد الله عباده النار أعدها للمتقين، وكان ظرفه وخفة روحه وسرعة بديهته يلهمانه في كثير من المواقف ما لا يلهم المنطق، اعترف أمامه متهم بجريمة القتل فلما خلا مع زملائه للمداولة ورأى أن العقوبة هي الإعدام؛ ذكر لهم أنه يشك في اعتراف هذا الرجل لأنه لا يرى في سيماه معنى شجاعة يمتاز به على سواه من أمثاله، وجيء بالرجل إلى غرفة المداولة وقال هو له: أتدري أن اعترافك هذا يجعلنا نحكم عليك بالإعدام، فكان جواب الرجل: لكن العمدة لم يقل هذا، بل قال لي حين دفع لي الجنيهين: إني سيعفى عني لأني كنت في السجن حين ارتكاب الحادثة، وتبين فعلا أن الرجل كان في السجن فلم يكن له في الحادثة يد، وقضى ببراءته.
إلى جانب هذه الصفات التي يمتاز بها «ابن البلد» المصري مما تأثرت به نفس إسماعيل صبري الشاعرة بمخالطتها الوسط المصري، كان رجل اجتماع بالمعنى الإفرنجي الصرف، أي رجل دنيا إذا أردت ترجمة العبارة الفرنسية
Homme du monde
ترجمة حرفية، وكان له أصدقاء كثيرون جدا من الجاليات الأوربية المقيمة بالقاهرة، وكان يغشى اجتماعات من يختارهم من أهل هذه الجاليات بمقدار ما يغشى اجتماعات الظرفاء وأولاد البلد.
على أنه مع كل هذه الوداعة والظرف ومع ما كان يسيل به خلقه من رقة، كان أبيا لا يقيم على ضيم، ذكر لي أصدقاؤه الذين عرفوه طوال حياته أنه برغم ما تقلب فيه من كبرى مناصب الحكومة كان المصري الوحيد الذي لم يقابل لورد كرومر ولم يدخل الوكالة البريطانية في مصر، وأنه حدث بينه وبين رياض باشا - وكان رئيس النظار - جفاء لحكم أصدره ماسا ببعض المحسوبين على رياض باشا، فلما جاء في أحد المواسم إلى عابدين ومثل بين يدي الخديو توفيق ثم خرج من لدنه إلى رياض باشا مهنئا إياه كرئيس حكومة أوقفه رياض باشا ولم يأذن له بالجلوس، وكان ابن رياض باشا واقفا عند باب الحجرة التي يجلس فيها أبوه، فقال إسماعيل صبري مخاطبا الابن بمسمع من الأب: قل لأبيك يحترم الناس كي يحترموه، وروى عثمان باشا مرتضى في حفلة تأبين إسماعيل صبري أن أحد قناصل الدول الأجنبية طلب إليه - وكان محافظا للإسكندرية - أن يشيع جنازة غني من أهل جاليته ترك ثروة طائلة كسبها في مصر وأوصى بها كلها لبلاده، فكان جواب المحافظ أن اعتذر؛ لأن المحتفل بجنازته لم يفكر في مصر التي أثرى فيها، فليس يطلب من مصري أن يفكر في مجاملته حيا أو ميتا.
دعة وظرف ورقة وحسن معاشرة وإباء، اجتمعت كلها في نفس شاعر التقت فيه الحياتان الشرقية والغربية وألهمتها الطبيعة ذوق الجمال، وبخاصة ما كان منه متعلقا بالنغم الشعري، فماذا ترى يكون أثر ذلك كله في شعره؟ فأما الرقة فقد تنفست في شعر صبري غزلا بالمرأة وهياما بجمالها أيا كانت هذا المرأة، وأنت ترى من ذلك شيئا غير قليل حين تذهب إلى مراجعة شعر صبري الغنائي، لكنك تراه ماثلا بصورة حلوة جميلة آخذة باللب في قصيدته البديعة (تمثال جمال) وبخاصة في هذه الأبيات منها يخاطب المرأة الجميلة أو كما سماها «لواء الحسن»:
إن هذا الحسن كالماء الذي
فيه للأنفس ري وشفاء
لا تردي بعضنا عن ورده
دون بعض، واعدلي بين الظماء
ساعفي آمال أنضاء الهوى
بقبول من سجاياك رخاء
وتجلي واجعلي قوم الهوى
تحت عرش الشمس بالحكم سواء
أقبلي نستقبل الدنيا وما
ضمنته من معدات الهناء
واسفري تلك حلى ما خلقت
لتوارى بلثام أو خباء
واخطري بين الندامى يحلفوا
أن روضا راح في النادي وجاء
وانطقي ينثر إذا حدثتنا
ناثر الدر علينا ما نشاء
وابسمي، روحانية لا تدعي
أن هذا الحسن من طين وماء
وانزعي عن جسمك الثوب يبن
للملا تكوين سكان السماء
وأري الدنيا جناحي ملك
خلف تمثال مصوغ من سناء
وتراه كذلك في هذه الأبيات يخاطب بها امرأة لا تدري أية واحدة هي من ألوية الحسن التي تزدحم عادة في نفس ذوي الظرف والرقة ممن لا تحتمل نفوسهم طغيان الحب المستبد يذعن له الفؤاد والقلب والنفس والجوارح جميعا إذعان خضوع وإيمان واستسلام، وهو مع ذلك بإذعانه راض وبذله سعيد:
زيني الندي وسيلي في جوانبه
لطفا يعم رعايا اللطف رياه
ريحانة أنت في صحراء مجدبة
من الرياحين حيانا بها الله
إن غاب ساقي الطلا أو صد لا حرج
هذا جمالك يغنينا محياه
لعلك تلمح فيما نقلنا من هاتين القصيدتين - أو المقطوعتين إن شئت - شيئا غير الغزل بجمال المرأة من غير تقيد بامرأة معينة، ولعلك تلمح فيها من الموسيقى أكثر مما اعتدت أن تلمح فيما تستمع إليه من شعر غير إسماعيل صبري، وإنك لواجد هذه النغمة الموسيقية الحلوة الرقيقة في أكثر شعره وإن لم يكن في شعره جميعا، بل إنك لواجدها حتى في القصائد التي يكلف الشاعر نفسه أن يكون حماسيا فيها كقصيدة فرعون وقومه، بل إنك لواجدها حتى فيما يتكلف فيه الحكمة كقصيدة الساعة وما نظمه عن نجم هالي، وذلك طبيعي وقد كان إسماعيل صبري مشغوفا بالغناء طول حياته إلى غير حد حتى كانت الحياة عنده قطعة من الموسيقى، أو قل كان خير ما في الحياة عنده قطعة من الموسيقى، وكان سمعه أكرم حواسه عليه، أليس في رثائه يقول حافظ إبراهيم:
لقد كنت أغشاه في داره
وناديه فيها زها وازدهر
وأعرض شعري على مسمع
لطيف يحس نبو الوتر
والحق أن إسماعيل صبري لم يولع في حياته بشيء ولعه بالغناء، ولم يجاهد وهو في مناصب القضاء لترقية شيء في مصر أكثر من جهاده لترقية الغناء، كان ذلك شأنه منذ عهد الخديو إسماعيل باشا، أي منذ أن نشأ يقول الشعر إلى أن مات، وكان لا يقف من شعره الغنائي عند الشعر العربي بل كان يختلط بالمغنين ورجال الموسيقى وكان يضع لهم أدوارا باللغة المصرية، وكان لذلك موضع محبة رجال الفن الموسيقيين والمغنين واحترامهم.
ولقد كان له في هذا الباب فضل كبير: رفع الأدوار الغنائية من درك كانت فيه، فجعلها ذات معان رقيقة تمثل عواطف طاهرة وميولا سامية، وأدواره (قدك أمير الأغصان) و(الفجر لاح قوموا يا تجار النوم) وغيرهما لا تزال من أفضل الأدوار المصرية التي تغنى إلى وقتنا الحاضر، وقد عرفه الناس جميعا بذلك حتى كان حجة يرجع إليه، روى لي أحمد شوقي بك حادثة غاية في اللطف، تلك أنه كان عنده وهو يشغل منصب النائب العمومي يوما وكانت مصر تموج أفكار أهلها بحادث سياسي وقع فيها، وفيما هما جالسان يتحدثان دخل حاجب ومعه مظروف حكومي كبير فقطع ذلك حديثهما وانتظرا أن يجدا فيه إشارة إلى الحادث السياسي وما يجب اتخاذه من الإجراءات بإزائه، فلما فض إسماعيل باشا المظروف وقرأ ما بداخله هز رأسه مبتسما، ذلك أن علي باشا شريف رئيس مجلس الشورى يومئذ قد بعث في هذا المظروف بدور غنائي وهو يطلب إلى النائب العمومي إصلاحه، ولهذه المناسبة قص إسماعيل باشا صبري حادثا وقع في قرطبة حين كانت الدولة الإسلامية على وشك الزوال منها، وكانت طرقها تجري دما لاقتتال الناس فيها؛ ذلك أن فتاة أطلت من نافذتها منادية صديقة لها في نافذة مقابلة تطلب إليها وترا تصلح به عودها، وكذلك يطلب رئيس مجلس الشورى إلى النائب العام أن يصلح له دورا غنائيا بينما تموج البلاد بحادث سياسي لا تعرف نتائجه.
ولهذا الولع بالنغمة وبالغناء ترى الكثير من شعر إسماعيل صبري صالحا لأن يكون صوتا يغنى فيه، اسمع إلى قوله يخاطب سيدة تدعى ألكسندرا:
انثري الدر يا سمية إسكن
در لا فض عقده من فيك
وأميطي عن الحقيقة ما يح
جب عنا جمالها من شكوك
وقوله:
أقصر فؤادي فما الذكرى بنافعة
ولا بشافعة في رد ما كانا
سلا الفؤاد الذي شاطرته زمنا
حمل الصبابة فاخفق وحدك الآنا
هلا أخذت لهذا اليوم أهبته
من قبل أن تصبح الأشواق أشجانا
لهفي عليك قضيت العمر مقتحما
في الوصل نارا وفي الهجران نيرانا
وغير ذلك مما يغنى فيه من شعر إسماعيل صبري كثير.
أنت لا تستطيع أن تطلب إلى شاعر بلغ من الرقة ما بلغ إسماعيل صبري وشغف بالغناء شغفه أن يكون ممن يجاهدون الحياة ويحاولون إخضاعها لرأيهم أو أن يكون قوي الإيمان مما في الحياة بشيء، فالمرأة وجمالها والغناء وألحانه والموسيقى وأنغامها صور يطرب لها الحس وينطبع طربه في النفس فيدعوها إلى الطمأنينة للحياة والاستهتار بما يشغل الناس أنفسهم فيها من شئون، والتوافر على المتاع بهذا الطرب والحرص على استدامته والفزع لذلك من الموت، ويذكر الذين عرفوا إسماعيل صبري معرفة صحيحة أنه كان كذلك، لكنك مع ذلك ترى في شعره نزعات تكاد تكون صوفية، وترى إلى جانب ذلك شيئا من التبرم بالحياة ومن إيثار الموت واستعجاله، أليس يذكر بتغزل عمر بن الفارض شيخ الصوفية في الذات الإلهية قول إسماعيل صبري:
يا رب أهلني بفضلك واكفني
شطط العقول وفتنة الأفكار
ومر الوجود يشف عنك لكي أرى
غضب اللطيف ورحمة الجبار
يا عالم الأسرار حسبي محنة
علمي بأنك عالم الأسرار
أخلق برحمتك التي تسع الورى
ألا تضيق بأعظم الأوزار
أو ليست الحكمة كل الحكمة في قوله:
أواه لو عقل الشباب
وآه لو قدر المشيب
أو لم يقل الفلكيون إن نجم هالي المذنب الذي مر بالأرض في سنة 1910 كان سيحرق الأرض ويقيم القيامة فابتهج إسماعيل لذلك وقال:
أنت نعم النذير يا نجم هالي
زلزل السهل والرواسي ذعرا
إن يكن في يمينك الموت فاقذف
ه شواظا على الخلائق طرا
أغدا تستوي الأنوف فلا ين
ظر قوم قوما على الأرض شزرا
أغدا يصبح الصراع عناقا
في الهيولي ويصبح العبد حرا
إن يكن كل ما يقولون فاصدع
بالذي قد أمرت حييت عشرا
بل ألم يدع صبري الموت كما دعاه فوست مستعجلا إياه كي ينقذه من عذاب الدنيا حين قال:
يا موت خذ ما أبقت ال
أيام والساعات مني
بيني وبينك خطوة
إن تخطها فرجت عني
فكيف مع هذا كله يكون بشا للحياة طروبا بما فيها فزعا من الموت ومن العدم؟! وكيف مع هذه الحكم التي نراها في شعره يكون كل شغله بجمال المحسوسات من منظور ومسموع؟! هذا اعتراض يرد للذهن لأول وهلة، لكن الشاعر لا يكون شاعر حكمة ولا شاعرا نفسانيا لمجرد ذكره خواطر فلسفية وعتها ذاكرته أكثر مما اهتزت لها نفسه، ثم هو لا يكون برما بالحياة مؤثرا الموت لبعض أبيات قد تدفعه إلى قولها شئون خاصة، فالبيتان الأخيران اللذان رويناهما لإسماعيل صبري - في رواية بعض من عرفوه - لما كان يلقى في حياته العائلية من أسباب الشكوى، وأما ذلك التصوف الذي نراه في الأبيات الأولى فليس إلا مظهرا لما وعت الذاكرة راجع نفس الشاعر في ساعات تغص فيهما النفس بنعيم الحياة حين يفيض عنها فيضا يجعلها تستغفر وتتوب برهة لتعود إلى نعيم الحياة وفيضه بعد ذلك مباشرة، فأما الشاعر النفساني فهو الذي يحس في أعماق نفسه بمعان قوية تظهر في شعره، ولو تحدث عن ظواهر تعدها أنت وأعدها أنا تافهة في الحياة، من ذلك كثير من شعر أبي العلاء المعري، ومنه كثير من شعر الإفرنج، كنت أعيد منذ بضعة أيام قراءة قصيدة (موت الذئب) لألفرد دفيني وأستعيد منها المعاني القوية التي تجيش في نفس الشاعر الفرنسي وتتجلى في كل قصائده، مثل هذا الشاعر النفساني إن كان دينيا يرى في جمال المرأة وفي تجاوب الموسيقى وفي ألحان الغناء معاني دينية، وهو يرى هذه المعاني الدينية في موت طفل وفي موت ذئب كما يراه في الحب وفي كل صورة من صور الحياة ولون من ألوانها، وإن كان شاعر عاطفة أو شاعر فلسفة تجلت العاطفة والفلسفة في شعره كله، فإذا رأيت له شعرا لا يعمره الجانب النفسي القوي من جوانب حسه أو شعوره أو تفكيره كان لك أن تحكم بأن ما اختزنته الذاكرة مما لم يؤثر في النفس أثرا عميقا هو مبعث هذا الشعر، وما تختزنه الذاكرة مما ينظمه الشاعر ليس هو المعبر عن نظرته للحياة وتقديره لما فيها.
كان إسماعيل صبري إذا متأثرا بما تتأثر به العين والأذن من صور الحياة وألوانها، وكان هذا هو الذي يوقع على وتر عاطفته أنغام شعره، وكان شعره لذلك جميل اللفظ غاية الجمال، وكان تأثره هذا يجعله معنيا بالجمال اللفظي أكثر من كل شاعر سواه، وإنك لتجد أمامك فيما نقلنا لك هنا من شعره مظهر ذلك واضحا جليا، فرب فكرة عادية أو صورة تمر أمامك كل يوم تجدها في هذا الشعر فإذا بها قد اكتست رونقا وبهاء ما كان لها أن تكتسيهما لو أن شاعرا آخر هو الذي صاغها، والظاهر أن هذه النزعة القوية عند إسماعيل صبري كانت ذات أثر كبير في الشعر العربي في هذا العصر، فحافظ إبراهيم لا يأبى أن يدعو إسماعيل صبري أستاذه وأستاذ شوقي، وشوقي لا يأبى أن يعترف بأن هذه النظرة التي كان ينظر بها إسماعيل إلى الشعر أثرت فيه هو تأثيرا غير قليل، ولم ينشأ من الشعراء في العهد الأخير من كانت له في الشعر نفسية خاصة تخالف نفسية إسماعيل صبري لتطبع الجيل الجديد كما طبع هو جيله بطابعه.
ولا أستطيع أن أختم هذا البحث العجل عن إسماعيل صبري من غير أن أضع أمام القارئ أبياتا ارتجلها تسيل رقة وتعبر أرق تعبير عن هذه النفسية التي كانت ترى العاطفة كما كانت ترى كل ما في الحياة حسا منظورا أو مسموعا، ارتجلها يوم دفن ابن صغير للمرحوم الشيخ علي يوسف فقال:
يا مالئ العين نورا والفؤاد هوى
والبيت أنسا تمهل أيها القمر
لا تخل أفقك يخلفك الظلام به
والزم مكانك لا يحلل به الكدر
في الحي قلبان باتا يا نعيمهما
وفيهما إذ قضيت النار تستعر
وأعين أربع تبكي عليك أسى
ومن بكاء الثكالى السيل والمطر
قد كنت ريحانة في البيت واحدة
يروح فيه ويغدو نفحها العطر
ما كان عيشك في الأحياء مختصرا
إلا كما عاش في أكمامه الزهر
فارحل تشيعك الأرواح جازعة
في ذمة الله بعد القبر يا عمر
لعلك وقد رأيت من إسماعيل صبري وشعره هذه النفسية المشغوفة بالألوان تشعر - إلى جانب هذا - بما يشعر به كل من يقرأ شعر إسماعيل صبري من أنه كان شاعرا مصريا حقا، ومن أن النزعة البدوية كانت لا تعرف سبيلا إلى نفسه، وأن الرقة التي تسيل بها جوانب وادي النيل والصفو الذي يظل سماءه والخضرة النضرة التي تزين جنباته وأغاريد الطير في هوائه الرقيق، كل ذلك كان ينعكس في نفس إسماعيل صبري بقوة لا تراها في كثيرين غيره من الشعراء، ولعلك لذلك تقر له باللقب الذي لقبه به معاصروه: لقب شيخ الشعراء.
وقضى حياته مغتبطا بالحياة، حتى إذا كان في أخريات أيامه أصابته ذبحة صدرية قعدت به عن أن ينعم بشيء من الحياة خمس سنوات تباعا ، ولعل بيته يخاطب الموت:
بيني وبينك خطوة
إن تخطها فرجت عني
كان يصدق عليه خلال هذه السنوات الخمس الصدق كله.
وقد خطا إليه الموت هذه الخطوة في منتصب ليل 20 مارس سنة 1923، وقضى يومئذ متحملا معه مدرسة حافلة من مدارس الشعر ومذهبا جليلا من مذاهب تقدير الجمال، قضى وخلف بعده من أثره مجموعة أشعار لم تطبع بعد لأنه كان يقول إنه وهب شعره للنسيان، وتلك هبة لن تتم، فالنسيان لا يتطرق إلى الكمال ولا يعدو على الجمال؛ لذلك نشر من شعره الشيء الكثير وحفظ أصحابه ما لم ينشر، ولعلنا نسعد برؤية مجموعة شعره مطبوعة عما قريب.
محمود باشا سليمان
... وهذا أيضا محمود سليمان باشا قد مات، فأضاف حلقة إلى سلسلة عظماء مصر الذين ودعوا عالمنا في السنتين الماضيتين.
1
لكنه ودعه على صورة غير تلك التي ودعوه عليها، هم كانوا بين مجاهد تحفزه قوى الشباب للجهاد، وآخر بعض طبعه الكفاح، وثالث اضطر لاعتزال الناس اضطرارا، أما هو فجاهد لخير وطنه في شبابه، ثم جاهد له في كهولته، ثم جاهد له وقد نيف على التسعين، وبعد اعتزامه الانقطاع إلى الله وعبادته، فلما دب الخلاف بين المصريين واندلع لهيب الفتنة في البلاد نأى عن الفتنة مختارا وعكف على ما اعتاد من عبادة وتقوى، وظل في تقواه وفي عبادته ينتظر بقلب مطمئن ونفس هادئة اليوم الذي يختاره الله فيه إلى جواره، فلما كان عصر يوم الثلاثاء الماضي أغمض عينه عن عالمنا هذا ليفتحها هناك في العالم الذي قضى سنيه الطويلة يرجوه، عالم أجر وسعادة لا يعرفان الزمان ولا المكان لأنهما يسموان على كل زمان ومكان.
وليس كثيرين من أبناء هذا الجيل من يذكرون شخص محمود باشا سليمان، وإن كانت أجيال مصر المتعاقبة، وكان تاريخ مصر يذكره أطيب الذكر، وليس كثيرون من يذكرون هذا الرجل المهيب في وقاره النحيف في جسمه الطويل القامة في اعتدال، الحاد النظرات الأسمر اللون الجليل المشيب، ولئن كانت قد مضت سنوات لم أره فيها، فإني ما أزال أذكر أول مرة رأيته ، وكنت ما أزال طالبا بالحقوق، وكنت أتردد على دار «الجريدة» عند أستاذنا لطفي بك السيد، فبينا أنا هناك في أحد أيام ربيع سنة 1908 دخل محمود باشا سليمان فحياه الحاضرون في إجلال واحترام وقدمني له لطفي بك، وأشهد لقد جلست وفي نفسي شيء من الرهبة أمام هذا الشيخ الذي يحمل طي تجاعيد وجهه صحفا مجيدة من تاريخ مصر، جلست وجعلت أحاول أن أختلس - في نظرات يداخلها الحياء والخوف - صورة رئيس حزب الأمة آتيا يتحدث إلى كاتب حزب الأمة، وانتظرت أن يتكلم، فمضت لحظات خلتها طويلة وخلت معها أن وجودي قد يحول دون الشيخ والكلام، فاستأذنت وانصرفت، ولم أره بعد ذلك غير مرات قليلة كانت الأخيرة منها حين كان رئيسا للجنة الوفد المركزية وحين كانت تتعلق باسمه آمال الوفد المصري في أوربا، وآمال المصريين في مصر.
هذا الرجل قد غادرنا بعد أن طوى رحلة الحياة في أناة وتؤدة ووقار، وانتقل منها في مثل هذه التؤدة والأناة والوقار إلى جوار ربه وما يرجو من حسن ثوابه، غادرنا بعد إذ خلف وراءه تاريخا حافلا جليلا وذكرا لا تشوب سواطع نوره شارة من ظلام؛ فلقد وهب هذا الرجل حياته كلها لله ولوطنه ولأبنائه، كان في عهد إسماعيل باشا الخديو رجلا كاملا مسموع الرأي نافذ الكلمة، ترك عمدية بلده ساحل سليم ونظارة القسم التي تتبعه إلى وظائف وكيل مديرية في جرجا وفي أسيوط، فلما صدر القانون النظامي بعقد مجلس النواب في عهد توفيق باشا تقدم للنيابة عن الأمة وانتخب عضوا بمجلس النواب وألقي عليه أن يلقي خطاب العرش، وكان له في هذا المجلس مواقف يذكرها له التاريخ.
فلما شبت نار الثورة العرابية كان من بعيدي النظر الذين قدروا ما يمكن أن يصيب البلاد من جرائها، فتنحى عن الاشتراك فيها كما تنحى بعد ذلك عن الاشتراك في النظام الذي أعقبها، فمع هذه المكانة الكبيرة التي كانت له، ومع ما أظهر من مقدرة في مجلس النواب الذي سبق الثورة، ومع أنه لم يكن من أنصار الثورة وأعوانها، فإنه لم ير بعد فشل الثورة واحتلال الإنجليز مصر أن يتقدم للعمل العام تحت النظام الجديد الذي سنه الإنجليز لمصر حين استصدروا من الخديو قانون مجلس الشورى والجمعية العمومية، بل تنحى عن العمل العام وترك القاهرة إلى الصعيد، وعكف على عمله الخاص وعلى البر بالفقراء، وظل كذلك من سنة 1882 إلى سنة 1895 حين أخرجه ظرف محلي خاص من هذه العزلة وجعله يتقدم لعضوية مجلس الشورى، وما لبث أن عاد إلى القاهرة وإلى العمل العام حتى انتخب وكيلا للمجلس وحتى كانت له فيه مواقف مشهودة.
وإذا كان للتاريخ أن يذكر السابقين إلى مطالبة الإنجليز بأن يخلوا بين مصر ووضع نظام الحكم فيها؛ فلقد كان المغفور له محمود باشا في مقدمة هؤلاء، كان في مقدمتهم منذ كان عضوا في مجلس الشورى وحين ترأس بعد ذلك حزب الأمة.
وإذا كان للتاريخ أن يذكر السابقين إلى الأحزاب المنظمة، فإن محمود سليمان باشا هو أول من ترأس حزبا ذا برنامج ونظام في مصر؛ فلقد كانت الأحزاب المصرية إلى يوم تشكيل حزب الأمة تقوم على فكرة الدعوة لعمل واحد معين، فالحزب الوطني أيام عرابي باشا كانت مطالبه محصورة في الدستور وفي التسوية بين المصريين والأتراك من رجال الجيش، والأحزاب والهيئات التي جاءت بعد ذلك كانت تطلب مطلبا واحدا كجلاء إنجلترا عن مصر أو ما هو من ذلك بسبيل، أما حزب الأمة فكان أول الأحزاب التي وضعت لها برنامجا مفصلا يتناول مرافق البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية جميعا، وعلى نهجه سلكت الأحزاب الأخرى بعد ذلك.
ولقد تألف حزب الأمة على هذه الصورة في أخريات سنة 1907 وسبقته الجريدة التي كانت بعد ذلك لسان حاله بشهور، وكان رئيس شركة الجريدة ورئيس حزب الأمة هو المغفور له محمود باشا سليمان، فلما حدثت بعد ذلك بسنوات أسباب للخلاف بين المسلمين والأقباط وكان من أثرها أن عقد الأخيرون مؤتمر أسيوط يتهمون فيه حكومات ذلك العصر بأنها تنئي الأقباط عن مناصب الحكم ولا تعطيهم حظهم الكامل منها، وكانت هذه الحركة خطيرة النتائج ، كان محمود سليمان باشا من الذين تقدموا للقضاء عليها ولإعادة الألفة بين العنصرين؛ ولذلك تألف المؤتمر المصري بهليوبوليس واختار رياض باشا رئيسا له ومحمود سليمان باشا وكيلا له، وفند مزاعم الأقباط يومئذ وأظهر الناس على أن لهم من مناصب الحكم أكثر من نسبتهم العددية بكثير، ودعاهم إلى أن يكونوا في وحدة الأمة صفا.
وجاءت الحرب الكبرى وكان محمود باشا قد جاوز الثمانين وحق له أن يستريح من عناء العمل وأن يخلص كل نفسه لله في انتظار لقائه إياه، والحق أن صفحات الجهاد التي كانت له في ماضيه وما قام به كأب من حسن العناية وجميل البر بأبنائه كان كافيا وفوق الكفاية ليكتب لهذا الرجل صحيفة مجد باقية، وصحت عزيمته على الاعتزال والانقطاع لله حتى لقد خرج من ماله لأبنائه في سنة 1916 واعتزم عيش الزهادة والنسك وتمام الانقطاع لله، وما أجمل هذه الشيخوخة الطاهرة المنزهة عن شوائب الهوى، والتي قامت فيما سبق لها من سني الحياة بما يطلب إلى الرجل من جد وبر وتقوى، تقضي في حساب النفس والقربى إلى الله ورجاء مغفرته وثوابه، ما أجمل الشيخ يصل إلى قمة الحكمة بعد أن يطوف من الحياة بشهواتها وأهوائها ومطامعها ومالها ومجدها فتدعوه الحكمة إلى أن ينظر إلى الأهواء والمطامع والشهوات جميعا نظرة إصغار أن كانت لا بقاء لها ولا متاع للنفس بها، وإنما المتاع بإمعان النظر في الكون واستكناه ما فيه من خير وحق وجمال.
على أن الأقدار كانت قد احتفظت لمصر بصفحة أخرى من صفحات المجد يخطها محمود سليمان باشا، ليكن لشيخوخته عليه حق، ولتكن خير خاتمة المرء أياما تقضى في العبادة والتقوى، وليكن محمود سليمان قد خرج من دنياه تاركا إياها إلى أولاده وانقطع لنفسه ولربه، ليكن ذلك كله فإن للوطن مع ذلك عليه حقا، وهو لم ينس يوما حق الوطن عليه؛ لذلك ما كادت الحرب العامة تضع أوزارها، ثم ما كادت الحركة الوطنية المصرية تبدأ، حتى إذا هذا الشيخ خرج مرة أخرى من عزلته وجاء ينضم إلى صفوف المجاهدين لإعلاء شأن الوطن ورفع مناره وتقديس كلمته، ولئن كان قد نيف على الثمانين فلن تزيده سنه ولن يزيده مجده ومقامه وعظمته إلا حرصا على الوقوف في الصف الأول من صفوف المجاهدين، وأن يكون في مقدمة من يتعرض لما يصاب به من يتعرض للدفاع عن عظمة هذا الوطن واستقلاله، وكان منظرا يبهر النفس ما فيه من مهابة وإجلال، فقد جلس محمود باشا في رياسة لجنة الوفد المركزية يوم كانت البلاد تضطرب أحشاؤها من أقصاها إلى أقصاها ويوم كانت الأحكام العرفية بالغة قسوتها أعظم مبلغ، جلس في رئاسة لجنة الوفد المركزية وجعل من داره كعبة قصاد خدمة الوطن وأقسم لا يتزحزح إلا أن تزحزحه القوة، وأرادت القوة يوما أن تبتلي ثباته وعزمه فأصدرت له الأمر أن يبرح القاهرة، فإذا به لا يبرحها حتى ذهبوا إلى ذهبيته وأبعدوها عن ميدان العمل السياسي على كره منه، ولقد كان في ذلك - كما كان في غيره - سباقا إلى مثل التضحية والمكانة العلية، وكان في هذا مثلا عاليا من النزاهة والتضحية لخير الوطن.
ولما آن للبلاد أن ينقسم بعضها على بعض وأن تقوم بين أهلها الفتنة، اعتزل الميدان نهائيا وإن لم ينس قديم صلاته بأصدقائه سواء منهم من كان في فريقه السياسي أو من كان في فريق مخاصم له، وعلى اشتداد الخصومة في وقت من الأوقات بين الأحرار الدستوريين وسعد زغلول باشا فإن محمود باشا سليمان كان أسبق من أرسل إلى سعد باشا على أثر عودته من جبل طارق يهنئه بسلامة مقدمه، وكذلك كان في هذه كما كان في غيرها عظيما ساميا فوق شهوات الساعة، كبيرا عن أن يتأثر بالأهواء الطارئة.
ومن يوم اختلفت الأحزاب في مصر عكف هو على ما كان قد اعتزم منذ سنوات من الانقطاع لله ولعبادته، وظل كذلك حتى ارتضاه الله إلى جواره يوم الثلاثاء 22 يناير سنة 1929، ارتضاه إلى جواره فخلف هذه الدنيا في أناة وتؤدة وحكمة كما عاش فيها في أناة وتؤدة وحكمة.
هوامش
عبد الخالق ثروت باشا
ما أحسب فجيعة من الفجائع التي منيت بها الأمم كانت أشد وقعا على النفوس من فجيعة مصر في المغفور له عبد الخالق ثروت باشا، وما أحسب رجلا وجل خصومه كما وجل أصدقاؤه لفقده، كما اشترك أصدقاء هذا الفقيد العظيم وخصومه في وجلهم لرحلته رحلة الأبد، ثم ما أحسب العقل والعاطفة والحواس جميعا اهتزت بالحسرة وبالأسى اهتزازها لهذا الحادث الذي رج نفوس الناس رجا بل دكها دكا، ولن أنسى ما حييت تلك اللحظة الأسيفة التي عرفت فيها الخبر إثر الوفاة بسويعات حين دخلت إلى صالون السيدة المحترمة هدى هانم شعراوي بباريس، فألفيتها وألفيت الأستاذ الكبير هلباوي بك وألفيت زائريهما وكلهم باكو العين والفؤاد، وكلهم في شبه ذهول لما أصاب مصر في مصرع هذا الرجل الذي كانت تعتبره مصر كلها ملاذها إذا حزب الخطب وضلت بساسة مصر وساسة إنجلترا السبل، ثم لن أنسى ما حييت إسراع المصريين وأصدقاء مصر الأجانب إلى سكنه في باريس بشارع أناتل دلافرج
Anatole de la Forge
وليس منهم من يقف فزعه لوفاة رجل كان له بعد في الحياة سعة، بل كلهم أشد فزعا لمصر وما أصابها بفقد هذا الربان الذي اختاره القدر ليسير بدفة سفينتها حين الزعازع الهوجاء فينقذها من أدق المواقف، لن أنسى هذا، ولن أنسى صاحب الدولة عدلي باشا يكن في منزل الفقيد وفي مشهد جنازته بباريس وهو يتساءل عن الوفاة وكيف كانت في جزع دونه جزع الأخ لفقد أعز أخ له عليه، وهو يحاول حبس عبرته فتخونه كما تخون جميع الذين شهدوا صندوق جثمان الفقيد ينقل من عربة الجنازة إلى عربة السكة الحديدية، وكيف ينسى إنسان هذا وما أحاط بالفاجعة ولكل إنسان من هذه الفاجعة الأليمة نصيب لأنها فاجعة مصر وفاجعة السلام؟!
ويأبى القدر إلا أن يحيط هذه الفاجعة بما يزيدها هولا، إذ يختطف الرجل في بلاد نائية عن وطنه ويختطفه على عجل، كأن للقدر عند مصر ثأرا لا تهدأ ثائرته إلا إذا أشعرها ألما موجعا ينقض الضلوع بعضها على بعض؛ فلقد كان ثروت في صحته حين جاء إلى باريس من سان مورتز يوم الاثنين السابع عشر من شهر سبتمبر سنة 1928، أي قبل وفاته بخمسة أيام، فلما كان يوم الجمعة الحادي والعشرين من سبتمبر خرج في الصباح كعادته وعاد بعد الظهر بقليل يشكو ألما في الكتف وفي الظهر، واستدعى طبيب الحي ففحص الحالة ورأى أنها بسيطة لا تزيد على روماتزم يزول في زمن قصير، لكن الآلام تزايدت في أثناء الليل، فلما جاء محمد علي دولار بك في الصباح ليعود صديقه رأى معه ضرورة استدعاء أستاذ أخصائي أجابهم أنه سيكون هناك في الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر؛ لأنه لا يستطيع ترك المستشفى الذي يعمل فيه قبل هذا الموعد، وحضر الأستاذ الطبيب في الموعد، فلما فحص المريض في سريره وخرج إلى قاعة الاستقبال خرج دولار بك في أثره يسأله رأيه، وكان رأيا مروعا، فالباشا اعترته ذبحة صدرية إن استطاع احتمالها ساعتين كان في نجاة حياته شيء من الأمل، لكن الطبيب في شك من استطاعة احتماله إياها وهو ما كاد يغادر غرفة الاستقبال إلى سلم الدار حتى إذا ثروت باشا قد شعر بالتنفس يضيق ثم يضيق ثم يضيق، فيؤلمه ذلك ويوجعه، ولكي تخفف من هذا الألم رفعت السيدة المحترمة زوجته إياه إلى صدرها، ثم لم تك إلا لحظة حتى شعر الباشا بشيء أنطقه في دهشة وعجب بلفظ «الله» وكانت هي آخر كلمة قالها، فإن شريانا متصلا بالقلب انفجر في هذه اللحظة أشعره الخطر حين لم يك إلى دفع الخطر سبيل ولا إلى اتقاء الكارثة التي تفجر لها فؤاد مصر وسيلة، ونودي بالطبيب فعاد فإذا به أمام جلال الموت وكان من برهة أمام رجل ألبسته الحياة وألبسها كل حلل الجلال.
وكأنما أراد القدر إذ كتب لوح أجل ثروت في باريس بعيدا عن بلاده وكتب على زوجه أن تكون في هذه الساعة العصيبة إلى جانبه، أن يحيط الفجيعة المفزعة بما يخفف من هول وقعها، فجمع بباريس في هذه الفترة جماعة من أخصاء ثروت وأصدقائه ومحبيه وعارفي فضله في خدمة بلاده، جمعهم ليكونوا إلى جانب جثمانه وليحاولوا عزاء زوجته وولده مصطفى المقيمين معه، وقام المصريون المقيمون في باريس وطائفة كبيرة من الفرنسيين وغير الفرنسيين في اليومين اللذين انقضيا بين الوفاة وتشييع الرفات في سفرها لتستقر في ثرى الوطن بكل ما يجب لثروت من إكرام وإجلال.
وفي هذين اليومين اللذين انقضيا بين الوفاة والتشييع إلى ثرى الوطن كنت تسمع من المصريين جميعا عبارة ملكت عليهم ألبابهم: من ذا يحل عقد المشاكل إذا انعقدت بعد ثروت؟! كنت تسمع هذه العبارة تصدر منهم جميعا على اختلاف نحلهم وأحزابهم، أولم يكن هو دائما الموئل الذي يلجأ إليه المصريون مهما علت أقدارهم، والذي يلجأ إليه الإنجليز حين يحزب الأمر ولا يكاد إنسان من الناس يرى له من طريق السلام فرجا ولا حلا؟! لذلك كان الكل ينظرون إليه كأنه الربان الذي ينقذ السفينة كلما ارتطمت على الصخر وخيف عليها أن تتحطم، فطبيعي أن يتساءل الكل عمن يحل عقد المشاكل إذا تعقدت بعد موته.
ولعل أحدا لم يذكر في وفاة ثروت مصاب زوجه وأبنائه فيه؛ لأن الناس نسوا في هذه الوفاة كل مصاب غير مصاب الوطن، مع هذا فمصاب بني ثروت ومصاب أصدقائه فيه كأب وكصديق فادح فاجع كمصاب الوطن سواء بسواء؛ فلقد كان أبر أب بأبنائه وأوفى صديق لأصدقائه، بل إن الذين عرفوه أبا ليذكرون كم كان بره عظيما وكم كان حنانه أعظم من بره، وكم كان صديقا لأبنائه بمقدار ما كان أبا لهم، وكم كان يجد في صداقتهم له ما يزيد في عواطف الأبوة والبنوة سموا ورقة، وإن الذين عرفوه صديقا ليعرفون له من الوفاء لهم ما قل أن يكون له في صديق مثال، ثم هو إلى جانب ذلك كان حصافة الرأي ونبل الشمائل والشهامة والذكاء صورت كلها رجلا. •••
ولد محمد عبد الخالق ثروت سنة 1873 وفي بيت جاه ونعمة، كان أبوه المغفور له إسماعيل عبد الخالق باشا ابن المرحوم عبد الخالق أفندي من أصل أناضولي، وكان من كبار الحكام في عهد محمد علي الكبير، وكانت أمه من بيت تركي هي الأخرى، وقد أرسل به أبوه إلى مدرسة عابدين وهو في الثامنة من عمره، ثم تابع دراسته في مدرسة النورمال حتى إذا نال شهادة الدراسة الثانوية التحق بمدرسة الحقوق ثم كان أول الناجحين في إجازة الليسانس سنة 1893.
وكان ثروت الطالب - على ما ذكر الأستاذ لطفي بك السيد زميله في مدرسة الحقوق - شابا حسن الطلعة، تعلوه سيما الجد في غير عبوس، مترفعا في غير كبر، سهل الأخلاق دون فناء في الأغيار، وكان في ألمه وفرحه معتدلا محتفظا في كل حال بكرامته، نافذ الرأي في بيئته، ودودا من غير إلحاح، ومتحفظا من غير انقباض، محبب العشرة في رقته، وكان في جاذبيته وحلاوة حديثه متفوقا كما كان في ذكائه واجتهاده، نعم، فقد كان ذكيا حاد الذكاء مواتي البديهة كثير الاشتغال - فوق درس الحقوق - بمناحي الثقافة يلتمسها في الآداب الفرنسية والعربية، وأكثر ميله في هذا الباب إلى التاريخ على العموم والتراجم على الخصوص، ميل كبر معه حتى صار في السنين الأخيرة من حياته نوعا من الشغف، وكان لشغفه هذا مظهر عرفه عنه كل أصحابه وعرفه عنه باعة الكتب في مصر وفي باريس بنوع خاص، فقد كان كثير التردد عليهم والبحث في مخازنهم عن كتب قديمة نفدت طبعاتها، وكان لا يأبى أن ينفق في هذا البحث أياما متتالية حتى يقع على طلبته، فإذا وقع عليها أمعن فيها بحثا وتقليبا حتى يقف منها على غاية البحث الذي يدور بخاطره.
ولما نال إجازة الحقوق التحق موظفا بوزارة الحقانية سكرتيرا للمستشار القضائي بها، وكان المستشار القضائي يومئذ جون سكوت من أحسن من عرفت الحكومة المصرية مقدرة ونزاهة، وسرعان ما قدر مواهب ثروت حتى اختصه بكل ثقته وحتى وضع في يده كل نفوذه، ونفوذ المستشار الإنجليزي يومئذ كان أقوى من نفوذ الوزير المصري، بل كان نفوذ أي موظف إنجليزي أقوى من نفوذ أكبر كبير من ولاة الحكم في مصر؛ لذلك كان ما استولى عليه ثروت من نفوذ ومن ثقة بحيث طوع له أن يقوم في وزارة الحقانية مقام صاحب الأمر والنهي فيها وما يزال شابا لم يبلغ الخامسة والعشرين من سنه، وعاونت هذه الحرية في السلطة ما وهب من مقدرة وذكاء، فلم يلبث إلا قليلا حتى تقدم في وظائف القضاء وحتى عين مستشارا بمحكمة الاستئناف ثم نقل مديرا لأسيوط ثم عاد إلى الحقانية نائبا عاما واختير وزيرا لها في سنة 1914.
على أنه لم يقصر نشاطه في هذه الفترة من حياته على المناصب التي تولاها والتي أسرع به الزمن فيها إلى حد لم يعرفه غيره، ثم كان بثقافته وذكائه واقتداره مثلا عاليا للموظف الكفء القدير، بل لقد أسلس من نشاطه على أعمال عامة لا اتصال لها بالحكومة، بل كانت الحكومة تنظر إليها في كثير من الأحيان بشيء من الريبة والحذر، انتخب عضوا في إدارة الجمعية الخيرية الإسلامية، وعضوا في إدارة الجامعة المصرية، وكان يومئذ ما يزال يشغل منصب النائب العام، وكانت له في الجامعة وفي الجمعية سلطة نافذة وإرادة قوية، ثم كان لنفوذه بعد أن علا في العالم السياسي نجمه ما زاد الهيئتين قوة واقتدارا على القيام بالأعمال الجليلة في البر وفي الثقافة مما أنشئتا من أجله.
وقد ظل اقتداره وظل نفوذه معروفا في الدوائر الخاصة بالقضاء وعند المسئولين عن شئون مصر العامة، حتى عين في منصب النائب العام، وكان المسئولون وكانت دائرة القضاء تقدر فيه إلى جانب فضله حرصه على تنشئة من يتوسم فيهم الكفاية والمقدرة من الشبان وممن يطمع في أن يقوموا لبلادهم بمثل الدور الذي قام به هو لبلاده، فلما كان صاحب الدعوى العمومية أتاح له حادث خطير أن يتصل بالجمهور اتصالا مباشرا، فقد اعتدى إبراهيم ناصف الورداني على حياة المرحوم بطرس باشا غالي في سنة 1910 بأن أطلق عليه الرصاص ساعة خروجه مع ثروت باشا النائب العام من وزارة الحقانية وتولى ثروت بنفسه تحقيق هذا الاعتداء والمرافعة في الدعوى، هنالك اطلع الجمهور منه على اقتدار خاص، وهنالك بدأ الجانب السياسي من حياة الرجل تظهر نواته وتكاد تتحدد سياسته، فالعبارة التي ننقلها من تلك المرافعة تلخص إلى حد كبير ما جرى عليه ثروت كوزير وكرجل سياسي بقية حياته، قال:
نحن أول من يجل الاشتغال بالمسائل العامة ويرى أن السعي بالطرق المشروعة فيما ترقى به البلاد وأهلها من فروض العين على المصري، وأن كل مصري مطالب بتضحية شيء من وقته وماله وهمته في خدمة بلاده، نحن أول من يرحب بتنمية الوطنية ورياضة النفوس على احتمال أشق المشقات في إعلاء اسم مصر وزيادة شرفها ورفعتها، كذلك نرى أن من مرقيات الأمم الدارجة في رقيها النظر في أعمال القابضين على أزمة الأمور فيها ونقدها، ولكنا لا نسلم بحال من الأحوال أن يتطلع إلى مقام ناقد الحكام إلا رجل جمع إلى العلم الغزير والحكمة البالغة الاتزان في القول والفعل حتى يقدر الأعمال قدرها وينظر في الأمور بفكر صحيح، فلا يتعدى حد المشروعية وإلا انقلبت الخدمة وبالا وإرادة الخير شرا.
هذه العبارة من مرافعة ثروت تنم من حياته السياسية المستقبلة عن جانبين: الأول تقديره السعي لتقدم البلاد واستقلالها على أنه فرض من فروض العين على كل مصري، والثاني أن يكون ذلك السعي بالطرق المشروعة لا بالفوضى ولا بالاعتداء، ولئن كان هذا التعبير - بالطرق المشروعة - هو الذي اتخذته مصر من بعد شعارا لها في المطالبة بحقوق كان ثروت بطل تحقيق النصيب الأوفى منها؛ فإن هذا التعبير بالذات قد جعل ثروت كنائب عام يقف من كثرة شباب مصر يومئذ موقف الريبة، فالشاب - وإن قدر بعقله ما للحق في ذاته من قوة تتغلب على كل قوة سواها - متعجل يريد أن يرى الحق في قبضة يده أو هو يصفق وإن في أطواء قلبه لمن يعتدي على من يحسبه الحائل دون هذا الحق؛ لذلك كان الورداني موضع عطف الكثيرين من الشباب وإن لم يكن موضع عطف الذين يقدرون الأشياء بنتائجها من المسئولين، ولذلك كان ثروت بمرافعته موضع إعجاب المسئولين وتقديرهم وموضع حنق الشباب عليه مع إعجابهم بمقدرته كالمسئولين سواء بسواء.
ولم يحرك حنق الجمهور ولا متابعته الشباب في غضبة أي عصب من أعصاب ثروت؛ ذلك بأن جانبا ثالثا من جوانب حياته السياسية كان الاعتداد برأيه هو وبعقيدته لا برأي الجمهور وعقيدته فيه، فهو ما اطمأن ضميره ورضيت نفسه مقدم على عمله غير عابئ برأي الناس في إقدامه، وهو مقدم في جرأة عجيبة لا يسهل تصديقها إلا على الذين عرفوا قدر دماثة الخلق ووداعة الطبع وحب الخير والميل العظيم إلى البر والرحمة.
وحرك الحكم بالإعدام على قاتل بطرس غالي النفوس بشيء من مثل ما تحركت له على أثر الحكم في قضية دنشواي، وكان بطرس رئيسا لمحكمتها المخصوصة، تحركت النفوس ذاكرة دنشواي واتفاقية السودان، ملتهبة غيرة بما سمعت في الدعوى من مرافعات الدفاع عن الورداني مرافعات حارة تفيض تقديرا لوطنيته التي دفعته إلى جريمة ارتكبها مدفوعا بعوامل لا قبل له بمقاومتها، والحق أن هذا الحادث الذي عقب حكم دنشواي في سنة 1906 ثم صدور العفو عن المحكوم عليهم من الدنشوائيين في سنة 1908 ثم وفاة مصطفى كامل، الذي جاهد حتى استصدر العفو، بعد صدوره بشهر واحد - نقول إن هذا الحادث حرك النفوس في مصر إلى المزيد من السعي في المطالبة بحرية كان الشعور ما يفتأ متزايدا بأن الاحتلال الإنجليزي القابض على أزمة الأمور في مصر يحاول القضاء عليها قضاء أخيرا، وكان من أثر هذا الشعور الذي ازداد التهابا حين أحس بتخلي أوربا عنه بالاتفاق الودي الذي عقد بين فرنسا وإنجلترا في سنة 1904 وبعجز الباب العالي الذي انهزم أمام إنجلترا في حادث طابه في سنة 1906، أن بدأت في البلاد حركة اعتماد على النفس وتقدير لما يجب من جهود المصريين لوطنهم بما جعل الحكومة المصرية التي تقوم لتستر الحكومة الفعلية - حكومة المستشارين الإنجليز - تحس بغضاضة على نفسها وحرج في مركزها، وكان ذلك شأن حكومة محمد سعيد باشا التي تولت مناصبها بعد وفاة بطرس، على أنها حرصت على أن تظهر في مظهر الحكومة الوطنية فيما كان يقع من مناقشات في مجلس الشورى، ثم ظهرت كذلك في مظهر الحكومة الوطنية حين استصدرت - بموافقة إنجلترا وعميدها في مصر لورد كتشنر الذي خلف سيرالدون غورست بعد وفاته - قانونا جديدا لنظام الحكومة المصرية، هو قانون الجمعية التشريعية.
وتمت الانتخابات لهذه الجمعية في أواخر سنة 1913، وبدأت عقد جلساتها منذ أوائل سنة 1914 بعدما انتخب فيها من أقوياء الحجة في مصر وذوي المكانة منها ما جعل الحكومة لا تستطيع متابعة طول مناقشة الجمعية إياها، فاستقالت وإن لم يكن من ثم نص في القانون النظامي بمسئوليتها أمام هذه الهيئة النيابية، وشكل حسين رشدي باشا الوزارة الجديدة واختار ثروت باشا وزيرا للحقانية فيها.
على أن الحرب العظمى لم تلبث أن أعلنت في أغسطس سنة 1914 فلم يكن بد من إرجاء عقد جلسات الجمعية التشريعية حتى انتهائها، ويذكر الذين عاشوا هذا الظرف الدقيق من حياة مصر والحكومة المصرية كم كان مركز مصر حرجا، وكم كان مركز الحكومة المصرية أشد حرجا، فمصر كانت ولاية عثمانية ممتازة تدين بالولاء لتركيا، وخديو مصر عباس حلمي الثاني كان غائبا عن مصر مقيما بالأستانة متهما في نظر الإنجليز بالتآمر مع تركيا ومع ألمانيا على إنجلترا وعلى الحلفاء، ورشدي باشا رئيس الحكومة والقائم مقام الخديو مدين هو وحكومته لتركيا وللخديو بالإخلاص والولاء، وإنجلترا صاحبة اليد العليا في مصر والجيوش الجرارة على أرضها تملك بكلمة أن تضمها إلى أملاكها من غير أن يستطيع الخديو أو تستطيع تركيا دفاعا عنها، وهيهات إذا ضمت مصر إلى أملاك إنجلترا أول الحرب أن يكون أمل في أن تخرج من هذا المركز بعد الحرب إذا انتهت هذه الحرب بانتصار إنجلترا وحلفائها، أو أن يكون أمل حتى في مركزها كولاية عثمانية ممتازة إذا انتهت الحرب بانكسار إنجلترا وانتصار الألمان عليها، فما عسى تصنع حكومة حسين رشدي في هذا المركز الدقيق؟!
وزاد مركز تلك الحكومة دقة وحرجا أن الشعور العام في مصر كان ميالا إلى جانب ألمانيا آملا في فوزها طامعا في أن تحرر من نير إنجلترا، وكأنما تجددت يومئذ في نفوس المصريين الذين كانوا يعتمدون من قبل على فرنسا لتجلي لهم جنود إنجلترا عن أرضهم - آمال في الاعتماد على ألمانيا لتحقق لهم هذه الغاية، وكان هؤلاء المصريون الموالون لألمانيا بعواطفهم يدورون في الأندية والأماكن العامة وفي قطارات السكة الحديد وبيدهم خرائط الحرب مؤشرا عليها بمواقع القتال وبما كسب الألمان واندحر الحلفاء، ودعاية كهذه من شأنها أن تعد البلاد للثورة إذا لم تكن حكومتها مستعدة لقمع كل حركة من الحركات الطائشة فيها، لكن هذا الاستعداد من جانب حكومة رشدي باشا لم يكن له تأويل إلا الدفع بمصر إلى أحضان إنجلترا والخروج بذلك على ما كان معروفا يومئذ من ميول تركيا ميولا انتهت بخوضها غمار الحرب إلى جانب ألمانيا، فوقفت تلك الحكومة محاولة أن تصل إلى خير الوعود من إنجلترا بالنسبة لمصر يوم تنتهي الحرب لمصلحة الحلفاء، عاملة على أن يصيب مصر أقل ضير ممكن من جراء الحرب، نافضة يدها بعد ذلك من شئون الدفاع عن مصر بعدما أعلنت إنجلترا الأحكام العرفية فيها وأخذت هذه المهمة على عاتقها، منتظرة تطور الحوادث وما يمكن أن يجيء القدر به.
وأعلنت تركيا الحرب منضمة إلى ألمانيا، فألفت إنجلترا الفرصة سانحة لتغيير موقف مصر السياسي، وقد دار بخاطر أولي الأمر في لندن - على ما ذكر لورد جراي وزير الخارجية الإنجليزية في ذلك الحين - أن يعلنوا ضم مصر إلى أملاك التاج، لكن اعتراضات قامت في هذا الصدد: أولها وأقواها أن الحلفاء الذين تحارب إنجلترا وإياهم كتفا لكتف يؤولون هذا التصرف من جانبها بأنها أرادت أن تقرر لنفسها غنائم الحرب قبل أن تضع الحرب أوزارها وقبل أن تتفق وإياهم على شيء في هذا الصدد، ثم إن إعلان الضم ربما كان من شأنه أن يهيج الشعور في مصر إلى حد ربما كانت عواقبه غير مأمونة، على ذلك فكرت حكومة لندن في إعلان الحماية على مصر، وانتهت - بعد شيء من التردد - إلى اختيار السلطان حسين كامل سلطانا في القاهرة بدل ابن أخيه عباس الذي قررت إنجلترا أنه انضم انضماما ظاهرا إلى أعدائها، فلا يمكن أن يعتلي عرشا تحت حمايتها، ودارت محادثات طويلة في هذا الشأن بين الوكالة البريطانية والحكومة المصرية انتهت إلى قبول رشدي باشا وزملائه الأمر الواقع والبقاء في مناصبهم كوزراء تحت نظام الحماية آملين متى انتهت الحرب أن تجد إنجلترا في تصرفهم ما يجعلهم منها بمكان يستطيعون معه الوصول إلى خير نظام سياسي لبلاد ألقت المقادير على عواتقهم أعباء مصيرها في ظرف دقيق لم يكونوا يتوقعونه، وظلت حكومة رشدي باشا - وفيها ثروت باشا وزيرا للحقانية - حتى وضعت الحرب أوزارها وأعلنت الهدنة في 11 نوفمبر سنة 1918، قائمة بكل ما أخذت به نفسها من ولاء للحلفاء وحرص على مصالح مصر ورجاء في ألا يسوء مركزها بسبب ظروف احتملوها ولم تكن لهم يد فيها.
ولما كانت الشروط الأربعة عشر التي وضعها الرئيس ولسن رئيس جمهورية الولايات المتحدة معتبرا إياها أسسا للهدنة والصلح قد أعلنت قبل الهدنة بأشهر مشتملة على شرط يجعل للشعوب حق تقرير مصيرها، فقد انتهز جماعة من أعضاء حزب الأمة - نذكر من بينهم علي باشا شعراوي، ولطفي بك السيد، ومحمد باشا محمود، وعبد العزيز باشا فهمي - هذه الفرصة، ففكروا في تكوين هيئة تطالب لمصر بحقها في تقرير مصيرها، وأفضى هؤلاء بفكرتهم إلى حكومة رشدي باشا فوجدوا منها ارتياحا لها، ففاتحوا سعد زغلول باشا على أن يكون رئيسا لهيئتهم باعتباره وكيل الجمعية التشريعية المنتخب كما فاتحوا عبد اللطيف المكباتي بك ومحمد علي باشا من أعضاء الحزب الوطني، وعلى ذلك تألفت هيئة أطلقت على نفسها اسم الوفد المصري، ووضعت صيغة توكيل من الأمة لها بالسعي لاستقلال مصر أينما وجدت إليه سبيلا، ووزعت هذه التوكيلات في طول مصر وعرضها بعلم حكومة رشدي باشا، وكان من رأي السير رجنالد ونجت مندوب إنجلترا السامي في مصر يومئذ أن يترك لهذا الوفد حرية السفر إلى إنجلترا أو إلى حيث شاء من ممالك أوربا، وأن يسافر حسين رشدي باشا وعدلي يكن باشا ليعبرا في لندن عن مطالب المصريين، ولو أن نصيحة السير ونجت نجحت يومئذ لتغير على الأغلب وجه المسألة المصرية ولسارت في طريق غير التي سارت فيها بسبب رفض إنجلترا للوفد وللوزيرين المصريين بالسفر.
ورفضت حكومة لندن سفر أحد من الوزراء المصريين وسفر رجال الوفد إلى إنجلترا أو إلى مؤتمر السلام، ولم تنجح محاولات الحكومة المصرية والمندوب السامي البريطاني في تحويل الحكومة الإنجليزية عن رأيها، هنالك استقال رشدي باشا وعدلي باشا واستقالت وزارتهما في 6 فبراير سنة 1919، ولقد خيل إلى المراجع العليا يومئذ أنهم واجدون في ثروت باشا - وله من الكفاية والمقدرة ما له - الرجل الذي يستطيع التغلب على الموقف بإقناع رجال الوفد كي يعدلوا عن خطتهم، كما خيل إليهم أن ثروت باشا لن يرفض رياسة الوزارة حين تعرض عليه، وما يزال يومئذ في الخامسة والأربعين من عمره، لكن تقديرهم أخطأ، فقد كان ثروت باشا مشتركا بقلبه وبعقله مع الحركة الوطنية ومع زميليه عدلي ورشدي، ثم هو كان يقدر التبعة الكبرى التي احتملها مع زميليه بقبول البقاء في الوزارة بعد إعلان إنجلترا حمايتها على مصر، فإذا كانت المقادير قد أتاحت النصر لإنجلترا، وكانت مصر - والحكومة المصرية بنوع خاص - عاملا من عوامل هذا النصر اعترف به الفيكونت مارشال اللنبي قائد جيوش الحلفاء في الشرق، فإن من خطل الرأي وسوء التدبير الذي لا يليق بسياسي حنكته تجارب الحرب ما حنكت ثروت باشا أن يرضى العاجلة من رياسة الوزارة بديلا لما كان يرى حقا لأمته أن تبلغه من نظام يتفق مع مكانتها ويعادل بعض الجهود التي بذلتها أثناء الحرب الكبرى، وإذا كانت بعض دول أوربا التي خاضت غمار الحرب إلى جانب الحلفاء قد حصلت على وعود بالتوسع وضمان الاستقلال، وإذا كانت بلاد العرب قد اعتبر لها استقلالها، فلن يكون ثروت هو الذي يقبل وزارة يعتبر قبولها حيلولة دون مصر وما تطمع فيه من استقلال وعزة مكان بين دول العالم.
ورفض أن يشكل الوزارة في هذا الظرف الدقيق مقدرا أن سيحسب عليه رفضه عند ذوي الكلمة والمراجع العليا في مصر، بل لقد أبلغ يومئذ أن رفضه هذا يحول بينه وبين الوزارة بقية حياته، فلم يعبأ بما أبلغ إليه وأصر على الوقوف إلى جانب أمته إصرارا دعا الوفد - وعلى رأسه سعد زغلول باشا - كي يسعى بكامل هيئته إلى دار ثروت باشا مقدما إليه التهنئة على إبائه الوطني وآيات الشكر على تضامنه مع الوفد في حركته القومية، وكانت كلمات سعد باشا له أن تضامنه مع الحركة القومية العامة يكسب الوفد قوة والبلاد أملا في النجاح، وترتب على هذه الزيارة لبيت ثروت باشا أن أنذرت السلطة العسكرية الوفد بأنهم بحركاتهم يعرقلون سير الحكومة، على أن هذا الإنذار لم يزد على أن ثبت ثروت باشا في إصراره على رفض تشكيل الوزارة وعلى وضع حجر الأساس برفضه هذا لنجاح القضية القومية.
من ذلك التاريخ بدأ ثروت باشا نشاطه السياسي في السعي لاستقلال بلاده بالطرق المشروعة التي أشار إليها في مرافعته في قضية قاتل بطرس باشا غالي، ومن ذلك التاريخ أخلص لغايته كل نفسه وكل جهده وازدرى إلى جانبها كل ما يطمع فيه غيره، على أن ثقته المطلقة بنفسه كانت تدعوه إلى أن يتبع في سياسته خطة غير التي يتبعها كثيرون من الساسة غيره، فهو لم يكن يبدأ بأن يعلن للناس مطالبه مستعينا في تحقيقها بالقوة أو بالواقعية أو بالمساومة، بل كان يحدد في نفسه غاياته ويعتمد قبل كل شيء على البحث المقترن بالحكمة والمنطق وحكم العقل، وقوته ومهارته وصبره كانت تكفل له النجاح دائما في بلوغ ما يريده، وكان يكفل له هذا النجاح كذلك ما تعوده من الاضطلاع بالتبعات وحمل المسئوليات منذ أول شبابه وحين كان سكرتيرا لمستشار الحقانية الذي ألقى بين يديه بواسع سلطته، بهذه القوى عنده استعان حين جاءت لجنة ملنر سنة 1920 لتنظر في وضع نظام لمصر تحت الحماية البريطانية فاشترك مع أصدقائه السياسيين - رشدي باشا وعدلي باشا وإسماعيل صدقي باشا - في إقناع اللجنة بضرورة التفاهم مع هيئة الوفد المصري في أمر القضية المصرية، وكان ثروت باشا من بين زملائه هو الذي ينقل آراء اللجنة ووجهات نظرها إلى رجال الوفد بباريس كي يمهد لهم الوقوف على آرائها وخططها، حتى إذا اتصلوا بها كان اتصالهم مثمرا، فلما انتهت اللجنة من محادثاتها مع الوفد وأعلن مشروع ملنر في صيف 1920 ثم قدمت اللجنة تقريرها وأعلنت الحكومة البريطانية اعترافها بأن الحماية علاقة غير مرضية بين مصر وإنجلترا وطلبت إلى عظمة سلطان مصر إيفاد هيئة تتفاوض مع الحكومة البريطانية في استبدالها بعلاقة أوجب للرضا، شكل عدلي باشا وزارته الأولى في مارس سنة 1920 وكان ثروت باشا وزير الداخلية فيها.
وعاد سعد زغلول باشا من باريس في أوائل أبريل ودارت محادثات بينه وبين الوزارة انتهت إلى اختلافه وإياها في طريقة تشكيل الوفد الذي يقوم بالمفاوضة وإعلانه الحرب عليها في خطبة ألقاها في 28 أبريل بحي شبرا، ثم سافر عدلي باشا على رأس الوفد الرسمي الذي تألف بأمر عظمة السلطان ليقوم بالمفاوضة، واستصحب معه من أعضاء وزارته حسين رشدي باشا وإسماعيل صدقي باشا ومحمد شفيق باشا، كما استصحب غيرهم مفاوضين ومستشارين، وقام ثروت باشا في مصر رئيسا للوزارة بالنيابة، وكوزير للداخلية مسئول عن حفظ الأمن والنظام اللذين كانا مهددين بحركات أنصار سعد باشا زغلول لم يتردد في احتمال التبعات التي رآها واجبة في هذا الظرف، دالا بذلك على جرأة وحزم لا يعرفان ترددا ولا هوادة، وبرغم الجهود التي بذلها عدلي باشا والوفد الذي كان معه في سبيل إقناع الإنجليز بوجهة نظر مصر، وبرغم تناولهم كل مسألة من المسائل الخلافية بين الدولتين ابتغاء الوصول إلى حلها حلا يقنعهما، فقد جنى الخلاف بين سعد باشا والحكومة على هذه المفاوضات فلم تؤت الثمرة التي كانت مرجوة منها؛ ولذلك قطع عدلي باشا المفاوضة بعد أن أعلن إليه لورد كرزون وزير الخارجية البريطانية مشروع حكومته، واستقال عدلي باشا على أثر وصوله، ونشرت السلطات البريطانية المشروع المذكور مرفقا بمذكرة مهينة لمصر أشد الإهانة.
تحرج الموقف السياسي بين مصر وإنجلترا على أثر هذه الاستقالة، ثم زاده حرجا أن قبضت السلطة العسكرية البريطانية على سعد زغلول باشا وخمسة من أنصاره وقررت نفيهم عن مصر، هنالك عادت البلاد كلها كلمة واحدة تنادي بعدم التعاون مع إنجلترا وتدعو كل مصري ألا يقبل تأليف وزارة تضطلع بمسئولية الأمر في مصر حتى تظل إنجلترا وأحكامها العرفية مسئولة مباشرة عن كل ما يقع فيها.
في هذا الظرف ظهرت مهارة ثروت باشا السياسية وظهر اقتداره، إن المشروع الذي أعلنته إنجلترا ولم تقبله مصر يقضي باعتراف إنجلترا باستقلال مصر استقلالا مقيدا في مسائل معينة، وهذه القيود هي التي لا ترضاها مصر، فإذا أرجأنا النظر في هذه القيود إلى ظرف مقبل أكثر ملاءمة من ظرف المفاوضات وما كان يشوبه من خلاف بين سعد باشا زغلول والحكومة المصرية وأعلنت إنجلترا من جانبها التخلي لمصر عما ارتضت أن تتخلى عنه في أثناء مفاوضات عدلي باشا ووفده، كانت هذه خطوة جديدة من جانب إنجلترا تدل بها على حسن نيتها بإزاء مصر وتزيل الحرج الذي أدى إليه كتابها المرفق به المشروع، ثم لا تكون قد خسرت شيئا لأنها إنما تتنزل عما كانت معتزمة من قبل التنزل عنه، على أنه حين بدأ محادثاته مع معتمد إنجلترا للوصول إلى هذه الغاية لم يبدأها بطلب إلغاء الحماية والاعتراف باستقلال مصر؛ لما كان يعلمه من أن هذا الطلب يلاقى من جانب حكومة لندن بالرفض، بل تقدم بطلبات لا يبدو أول الأمر أن لها بوجود الحماية البريطانية لمصر أو برفعها اتصالا، ولم يكن بد أمام العقل من قبول إنجلترا هذه الطلبات، وبعد قبولها وتحديد المسائل التي تعلق لمفاوضات حرة مستقبلة بين مصر وإنجلترا؛ وصل ثروت باشا من بحثه إلى نقطة تبين معها لممثل إنجلترا نفسه أن بقاء الحماية الإنجليزية مفروضة على مصر لم يبق له أية فائدة لإنجلترا نفسها، وحكم العقل يقضي بأن التشبث بأمر لا فائدة من ورائه سخف لا يليق بذوي الفطنة السياسية، وقد بلغ من اقتناع لورد اللنبي معتمد إنجلترا واقتناع المستشارين الإنجليز في الوزارات المصرية برأي ثروت باشا أن هددوا جميعا بالاستقالة إذا وقفت لندن فلم تجب مطالبهم، وعجبت حكومة لندن لهذا الموقف فاستدعت معتمدها ومستشاريه فذهبوا إليها، ولم يكن إلا أيام حتى أقنعت حجج ثروت الحكومة الإنجليزية أيضا، وعاد لورد اللنبي في يوم 28 فبراير سنة 1922 فأعلن في مصر تصريحا من جانب إنجلترا بأنها تعترف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة، وتنهي لذلك حمايتها عليها محتفظة لمفاوضات مستقبلة بمسائل أربع: الدفاع عن مصر، وحماية مواصلات الإمبراطورية، وحماية الأجانب والأقليات، ومسألة السودان، وعلى أثر ذلك أجاب ثروت باشا دعوة جلالة الملك فشكل وزارته الأول في أول مارس سنة 1922.
على أن هذا العمل العظيم الذي قام به ثروت باشا من حمل إنجلترا على الاعتراف باستقلال مصر كان سببا لأن تدبر ضده في الخفاء مؤامرة لاغتيال حياته، وقد دبر هذا الاغتيال قبل إعلان التصريح بيومين، على أن إدارة الأمن العام علمت بالمؤامرة وأحبطتها بأن أبلغت ثروت باشا الخبر وتفاصيله، وأن المؤتمرين يكمنون له عند كوبري الأعمى حتى إذا مر في (أوتموبيله) ذاهبا إلى نادي محمد علي فتكوا به، وقد طلب ذلك اليوم إلى مقابلة عظمة السلطان في عابدين في الوقت الذي كانت المؤامرة فيه تريد إتمام جريمتها، فدعا إليه صديقه وزميله في محادثات الإنجليز بشأن الاعتراف باستقلال مصر حضرة صاحب المعالي إسماعيل صدقي باشا وطلب إليه أن ينوب عنه في مقابلة جلالة الملك على أن يركب سيارة بالأجرة، وكذلك نجا ثروت وقبض على المتآمرين، ومن يدري ماذا كان يصيب مصر لو أن الجناية تمت على ما يشتهي المدبرون؟!
وإعلان إنجلترا اعترافها بمصر دولة ذات سيادة بفضل مجهودات ثروت باشا السلمية ومقدرته على الاستفادة من الظروف بتقديره قوة بلاده ومطالب إنجلترا - هذا الإعلان رفع مقامه فجعله سياسيا فذا في نظر العالم بأسره، وجعل أبناء أمته يتطلعون إليه معجبين به وبمهارته، على أنهم انقسموا مرة أخرى، لا في تقديرهم المجهود لذاته، ولكن في الخطة السياسية، أو بالأحرى في الخطة الحزبية التي يسلكونها بإزاء التصريح بالاستقلال وبإزاء الرجل الذي فاز به، أما الطوائف الحكيمة التي تقدر الأشياء بقيمتها الحقيقية فاعتبرت التصريح خطوة جدية في سبيل استكمال الاستقلال وعاهدت ثروت باشا على مؤازرته في خطته، ووقفت طوائف أخرى حريصة من ناحية على ألا يمس التصريح أذى، عاملة في نفس الوقت على مناوأة ثروت باشا وحكومته مناوأة دفعتهم للطعن على التصريح والانتقاص من قيمته، وقد كان من مظاهر هذا الموقف أن أمسك هؤلاء عن إبداء رأيهم في التصريح حين أعلن البرلمان الإنجليزي أنه يريد بحثه في جلسة حدد لها يوم 14 مارس سنة 1922، وظلوا في وجل أي وجل ألا تنال حكومة لويد جورج ثقة البرلمان بسبب إعلانها إياه، فلما فازت هذه الحكومة البريطانية بالثقة وأعلن جلالة ملك مصر استقلالها في 15 مارس واطمأن هؤلاء المتحفزون إلى أنه أصبح حقا لمصر لا ينازعها فيه أحد؛ بدءوا حملتهم عليه حملة منظمة غايتها الحملة على حكومة ثروت باشا، على أن ثروت لم يتردد في هذا الظرف لحظة، بل ظهر بكل ما يجب من قوة وحزم وبدأ ينفذ ما ينطوي عليه التصريح من حقوق مصر بإنشاء وزارة الخارجية التي كانت ألغيت منذ أعلنت الحماية البريطانية على مصر في 18 ديسمبر سنة 1914، وبإقالة المستشارين البريطانيين من مختلف الوزارات عدا وزارتي الحقانية والمالية، وبتشكيل لجنة من خيرة رجال مصر لتضع للبلاد نظاما دستوريا على أحدث المبادئ العصرية، وبالضرب على يد الفوضى في كل صورها ومظاهرها، وإظهار الحكومة المصرية الأهلية بمظهر الاحترام الواجب لها.
وليوطد في النفوس الإيمان بحق مصر دعا في 26 مارس سنة 1922 - لمناسبة عيد ميلاد جلالة الملك - إلى حفلة كبيرة بفندق الكونتننتال حيث ألقى خطابا يبين فيه مزايا العمل الجليل الذي قام به ويرسم فيه الخطة الواجب اتباعها لاستكمال الاستقلال، وقد يبدو عجيبا أن تكون الفكرة السائدة في هذا الخطاب هي بعينها الفكرة التي وردت في مرافعة عبد الخالق ثروت النائب العام في قضية الورداني، والتي أوردت نصها من قبل، فقد جاء في هذا الخطاب السياسي ما نصه:
لم يبق علينا إلا أن نقنع إنجلترا أن ليس بها حاجة إلى التمسك بالضمانات التي تريد الاحتفاظ بها فتخطو بريطانيا العظمى خطوة أخرى بالاكتفاء بما لا يتنافى منها مع استقلالنا الشرعي، وليس لدينا وسيلة لتأييد ما نذهب إليه أكثر من تعلقنا بأهداب السكينة والتزامنا الهدوء وأخذنا بأسباب النظام، فإن حجتهم الكبرى فيما يبدونه من رغبة في الضمانات هي شدة حذرهم على مصالحهم وخوفهم عليها وعدم اطمئنانهم إلى تركها لعهدتنا، فإذا قضينا على عوامل الفتنة والاضطراب وجعلنا التزام السكينة رائدنا فإننا نثلم هذا السلاح بأيديهم وندفع حججهم علينا، ولا مشاحة في أن كل من يعمل على تعكير السلام أو إثارة الاضطراب مجرم في حق وطنه عامل على هدم كيانه.
ثم جاء فيه أيضا:
إنني لا أكره المعارضة، بل إذا انعدمت هذه المعارضة فإنني أعمل على خلقها لما لها من نفع وفائدة في الوصول إلى الحقيقة وتمحيص كل أمر على أكمل وجه، ولكني أريد المعارضة الشريفة التي تترفع عن الاعتبارات الشخصية ولا تنزل إلى اختلاق الأكاذيب، إنني أريد الخصومة الشريفة التي لا تنظر إلا لمصلحة الوطن وخير البلد وتدرس كل أمر لذاته مجردا عن كل اعتبار شخصي.
وهذه الخطة التي رسمها ثروت باشا في خطاب يوم عيد ميلاد جلالة الملك هي التي كررها من بعد في خطب ألقاها في افتتاح لجنة الدستور ولوفود ذهبت إليه في شئون سياسية مختلفة، ولقد كان لهذه الخطة الحكيمة أن تؤتي ثمرها كاملا بفضل مهارة ثروت وحنكته وقوة منطقه لو أن مناوأته لم تنتقل من الميدان الوطني الصحيح إلى ميادين أخرى، فبينا هو يعمل جادا في تطبيق مزايا الاستقلال التي حصلت عليه مصر مقيدا بالتحفظات التي أشرنا إليها؛ وقعت على جماعة من البريطانيين - ضباطا وجنودا ومدنيين - سلسلة اعتداءات شنيعة أودت بحياة ثمانية عشر منهم على التعاقب، على أن هذه الاعتداءات وحدها ما كانت لتجني على خطته لو لم يقترن بها ما جعل مركز وزارته حرجا غاية الحرج بعد زمن وجيز من بدء لجنة الدستور عملها، فقد عمدت هذه اللجنة إلى وضع مبادئ تتفق مع المبادئ العصرية التي كلفت بوضع الدستور المصري على أساسها، وشاركها ثروت باشا الرأي في مبادئها، وفي رأي البعض أن مصر بلاد شرقية يجب أن تسود فيها وسائل السياسة الشرقية وخططها؛ لذلك ألفى ثروت باشا نفسه في موقف لا يستطيع معه القيام بأعباء الحكم على الوجه الذي يرضاه ضميره. وبرغم المحاولات الكثيرة التي بذلها لتهدئة العواصف الكمينة في ثورتها حوله، فإنه شعر بدقة المركز فجعل يستعجل لجنة الدستور حتى وضعت مشروعه وتعجلت بعد ذلك في وضع مشروع لقانون الانتخاب، ورفعت اللجنة مشروعها إليه في جلسة تاريخية ألقى فيها كلمة ذكر في أثنائها أنه سيعمل على صدور الدستور كما وضع مشروعه، وكان ذلك في 18 أكتوبر سنة 1922، ولما كان جماعة أصدقائه السياسيين يؤلفون في هذا الوقت حزب الأحرار الدستوريين؛ انتظر من معونتهم ما يكفل اقتداره على السير بسياسته خطوة أو خطوات أخرى، لكن الحزب ما كاد يتألف في 30 أكتوبر ثم ما كاد يمضي أسبوعان على تأليفه حتى أطلق جماعة من الشبان الرصاص على باب داره دار جريدة «السياسة» فأصابوا حسن باشا عبد الرازق وإسماعيل بك زهدي من أعضاء مجلس إدارته، وأبدت الصحف المناوئة لهذا الحزب أن الرجلين ذهبا ضحية خطأ يؤسف عليه لأنهما لم يكونا مقصودين بالذات.
وكثرت الأقاويل حول المصادر الحقيقية التي تشجع هذه الجرائم، ورأت وزارة ثروت باشا بعد أن رفعت الدستور إلى جلالة الملك أنها خطت بالبلاد خطوات يمكن الوقوف عندها فترة ريثما تطمئن النفوس وتهدأ أسباب الجريمة، وعلى ذلك رفع ثروت باشا استقالته في يوم 30 نوفمبر منوها فيها بما أتمت وزارته وبما مهدت له من صدور الدستور وغير الدستور مما نص في تصريح 28 فبراير على وجوب صدوره.
واعتكف ثروت منتظرا ظرفا خيرا من الظرف الذي كان فيه في الحكم ليعود إلى الميدان فيعمل لإتمام ما بدأه بتصريح الاستقلال، على أنه في اعتكافه لم يتوان يوما عن بذل كل ما لديه من نفوذ كي يصدر الدستور، فلما صدر في 19 أبريل سنة 1923 أيام قيام وزارة يحيى باشا إبراهيم وانتظرت البلاد الانتخابات؛ أخذ يتوقع في ظروفها ما يطوع له العود لتنفيذ سياسته، وسياسته - كما رأيت - تقوم على الإخلاص الصحيح والعزم الوطيد على إتمام اتفاق بين إنجلترا ومصر تحل به المسائل المعلقة في التصريح، وعسير الوصول إلى هذا وفي البلد من آثار الانقسام ما يخشى أن يجني على أية مفاوضات جديدة جناية الانقسام على المفاوضات التي تولاها عدلي باشا يكن سنة 1921.
فلما عاد سعد زغلول باشا من منفاه فكر ثروت في إمكان التفاهم معه اجتنابا لكل انقسام مستقبل، لكن علاقات الرجلين كانت متوترة منذ سنة 1921 أشد التوتر، وقد ألقى المحيطون بسعد في روعه أن ثروت هو الذي نصح بنفيه، ثم إن سعدا كان قد طعن على ثروت أشد المطاعن وأقساها، بل لقد ذهب في الطعن عليه إلى اتهامه في إخلاصه لوطنه، فكيف يستطيع ثروت أن ينسى هذا كله وأن يتقدم إلى ناحية سعد خطوة من الخطى؟! على أنه رأى كرامة الوطن فوق كرامة أي فرد من أبنائه، فبعث إلى سعد بخطاب يذكر له فيه أنه في حرصه على مصلحة الوطن يريد أن يحتكم وإياه في أسباب الخلاف بينهما إلى الأمراء وذوي الرأي والمكانة في البلاد.
وكان يرجو من احتكامه أن تزول أسباب الانقسام وأن تعود وحدة الأمة ليعود هو - معتمدا على هذه الوحدة - إلى استكمال استقلال بلاده بإتمام الاتفاق بين مصر وإنجلترا، لكن مسعاه هذا لم ينجح أن رفض سعد باشا التحكيم، وبقي ثروت باشا بعد ذلك بين كتبه ومكتبته وفي عمله المتصل بالجمعية الخيرية الإسلامية وبالجامعة المصرية وبغيرهما من الهيئات التي كانت أبدا في حاجة إلى ثاقب رأيه.
فلما كانت سنة 1925 أدت الظروف السياسية إلى التفاهم والائتلاف بين سعد زغلول باشا وخصومه السياسيين، ذلك أن سعد باشا حصل حزبه على الأغلبية الكبرى في انتخابات سنة 1924 فتولى الوزارة وظل فيها حتى اعتدت جماعة ينسب بعضهم إلى حزبه على حياة السيرلي ستاك باشا حاكم السودان العام، فأبلغت إنجلترا حكومته إنذارا قاسيا اضطرت بعده إلى التخلي عن المناصب، وخلفه أحمد زيور باشا في رياسة الحكومة، فاستعان بالأحرار الدستوريين بعد أن حل مجلس النواب وأجرى انتخابات أسفرت عن أغلبية لحزب سعد باشا كذلك، فحل المجلس الجديد أيضا وأجلت الانتخابات إلى أجل غير مسمى.
على أن الحل الأول وهذا التأجيل الثاني خلق في البلاد حزبا جديدا كان أعضاؤه كثيري التردد على القصر الملكي، وكانت رغبتهم عن الدستور والحياة النيابية أكثر من رغبتهم فيهما، وخيل لأعضاء هذا الحزب يوما أنهم يستطيعون القيام وحدهم فأقيل رئيس حزب الأحرار الدستوريين من الوزارة واستقال زميلاه الوزيران اللذان كانا من أعضاء حزبه تضامنا وإياه، وسنحت بذلك فرصة التفاهم والائتلاف مع حزب سعد زغلول باشا ضد الخصم المشترك والعمل معا لعود الحياة النيابية، وكذلك قربت الظروف بين ثروت باشا وسعد باشا، وكان يخيل للكثيرين أنهما لن يلتقيا.
وجرت الانتخابات وألف عدلي باشا يكن الوزارة الائتلافية الأولى وجلس سعد باشا في رياسة مجلس النواب، وفي أوائل أبريل سنة 1927 استقال عدلي باشا فألف ثروت باشا وزارته الثانية، وبقي سعد باشا في منصبه رئيسا للنواب، وكانت إنجلترا يومئذ قد أرادت - متأثرة بآراء مندوبها السامي اللورد جورج لويد - التحرش بالحكومة المصرية؛ فخلقت ما سمي أزمة الجيش، وبعثت بأساطيلها إلى الإسكندرية ولم يعرف أحد قط مطالبها على وجه التحديد، فاستطاع ثروت باشا بمهارته وكياسته أن يقضي على هذه الأزمة من غير أن تصل إنجلترا من مطالبها إلى أكثر من منح أحد الموظفين الإنجليز بوزارة الحربية المصرية رتبة الباشوية.
حدث بعد ذلك أن سافر جلالة الملك فؤاد إلى أوربا مدعوا إلى زيارات رسمية بإنجلترا وإيطاليا وفرنسا وبلجيكا، وبعد شيء من التردد استصحب جلالته رئيس وزارته ثروت باشا في رحلته، فانتهز ثروت فرصة وجوده بإنجلترا وفاتح وزير خارجيتها السير أوستن تشمبرلن في أمر أزمة الجيش وتحدث إليه فيما إذا كان مستطاعا الوصول إلى حل المسائل المعلقة بين الدولتين اتقاء أزمات أخرى.
وقد انتهت هذه المحادثات إلى مشروع لم يقبل في مصر ولكنه مهد السبيل الصحيح إلى الاتفاق النهائي، وربما كان ممكنا تعديله بما يمهد لقبوله لو أن سعد باشا زغلول بقي حيا إلى حين انتهاء ثروت من محادثاته، لكنه توفي في أثنائها في 23 أغسطس سنة 1927، ولم يخلفه من حنكته التجارب السياسية ما حنكت هذا الزعيم، وطلب إلى ثروت باشا أن يحل مجلس النواب وأن يجري انتخابات يعرض فيها المشروع الذي وصل إليه على البلاد، فأبى لأنه رأى أحزاب مصر كلها لا تقبل المشروع، ولأنه من ناحية أخرى خشي إذا حل المجلس ألا يعود، واستقال من الوزارة ونشر يوم استقالته كتابا أخضر عن مفاوضاته.
ويدل هذا الكتاب والمذكرات التي اشتمل عليها على ضخامة المجهود الذي بذله ثروت في أثناء قيامه بالمفاوضات منفردا ضخامة لم يعرف لها حتى اليوم في حياة سياسي مصري نظير، ويدل كذلك على مقدرة وذكاء وكفاية وتضلع بالسياسة العالمية قل أن يكون لها مثيل، ثم يدل على صحة ما رواه عنه السير أوستن تشمبرلن لأحد أصدقائه إذ قال: «أتاح لي اتصالي في جمعية الأمم بأكثر وزراء الخارجية في الدول المختلفة أن أقدرهم جميعا، وما أحسب واحدا منهم يفوق ثروت مهارة وقوة حجة وحسن بيان.»
وفي الكتاب الأخضر المذكور - إلى جانب هذا كله - اتجاه جديد في سياسة ثروت يرمي إلى ربط الاتفاق بين مصر وإنجلترا بقضية السلام في العالم، ويجعل لذلك من الرجل سياسيا عالميا لا سياسيا قوميا وكفى، فقد أبدى وزير الخارجية البريطانية من التشدد في بعض الأمور ما رأى ثروت باشا معه أن المناقشة أصبحت غير مجدية، وأن مقامه في لندرة للوصول إلى الغاية التي ينشدها لم يبق له محل.
وكان أمامه إذ ذاك أن يعلن ذلك إلى قومه في عبارة قوية أخاذة، وأن يعود محاطا بهالة من الجلال والإعجاب، لكن ذلك ليس يتفق مع طريقته في التفكير ولا هو يقرب الغاية التي ينشدها ولا يؤيد السلام الذي يسعى لتأييده؛ لذلك لجأ إلى الحكمة ينادي داعيها في نفس الوزير الإنجليزي، حتى إذا لم يجب هذا الداعي وأصر على تشدده كان مسئولا أمام العالم كله وكان مخالفا في خطته مع مصر كمفتاح بلاد الشرق الخطة التي اتبعتها الدول الأوربية فيما بينها لتأييد السلام، فبعث بخطاب فيه من البراعة السياسية، ومن الحرص على كرامته وكرامة بلاده، ومن تحميل مناظره تبعة عدم النجاح، ما يشهد به نصه إذ قال:
عزيزي صاحب السعادة
من أطيب الأشياء إلى نفسي أن أعرب لسعادتكم قبل مغادرتي لندرة عن عظيم شكري لما لقيته لديكم من حسن الاستقبال، وإن أنس لا أنس نزعة الود التي ما برحتم تصدرون عنها في محادثاتنا ولا ما أبديتموه على الدوام من صادق الرغبة في التماس أسباب التوفيق بين البلدين.
ولقد كان يسعدني أن أرى مساعيكم المجيدة في تثبيت أركان الصداقة بين القطرين تكلل بالنجاح، كما أنه يؤلمني أن يخفق كل ما بذل من الجهود في هذا السبيل، تلك الجهود التي لم تجعل - حتى اللحظة الأخيرة - مجالا للشك في حسن ختام محادثاتنا في هذا الشأن.
ولا أزال أرجو - إذ أنادي منكم داعي الحكمة وألتجئ إلى صادق شعوركم وصحيح إنصافكم - أن تدركوا الغاية التي تعملون لها، وأن تضموا إلى إكليل «لوكارنو» إكليل الاتفاق بين إنجلترا ومصر.
ولم تضعف استقالته من الوزارة من إيمانه بإمكان الاتفاق بين مصر وإنجلترا، بل كان يرجو في ظروف سياسية جديدة ما يمكنه من العود لمعالجة المفاوضات من جديد مع عظيم الرجاء في نجاحها، لكن المجهود العظيم الذي أنفقه والمقابلة السيئة المنطوية على إنكار الجميل التي قوبل بها، ومحاولته نسيان ذلك بالإكباب على العمل في مجلس الشيوخ كعضو من أعضائه، كل ذلك هز أعصابه وأضعف قوته؛ فسافر مستشفيا في صيف سنة 1928 وذهب إلى سان مورتز ثم عاد منها إلى باريس في 18 سبتمبر، ولم يكن يدري أن أجله يتربص به فيها ليختم كتاب حياته في الساعة الثانية من بعد ظهر 22 سبتمبر، أي بعد وصوله إليها بخمسة أيام.
وبكت مصر ثروت، وتقدمت دول العالم كلها تعزيها فيه، وتناولت الصحافة في مختلف الأمم أعماله فشادت بها ورفعتها إلى المكان الجديرة به، بكته مصر مقدرة جميل صنيعه، وعظيم نزاهته، وعلو همته، آسفة على ما فرط منها أيام حياته في حقه، مؤمنة بأن سيبقى اسم ثروت علما في تاريخ مصر على الاقتدار السياسي المنقطع النظير.
القسم الثاني
تراجم غربية
بتهوفن
اليوم - 26 مارس سنة 1927 - يحتفل العالم بمرور مائة عام على وفاة بتهوفن، إجلالا لتلك الألحان القدسية التي أورثها إياه هذا النابغة الشقي، والتي ما تزال برغم ما أحدث كبار رجال الموسيقى آيات خالدة في عالم النغم، فما يزال لحن الريف وألحان بتهوفن التسعة الأخرى وسائر أناشيده الغنائية تموج في جو الوجود فتزيده بالحياة نعمة، وتشدو في أغوار نفوس عارفيها والمعجبين بها كلما أعوزهم اللحن العذب ليرفع من هممهم وليقوي عزائمهم، وما يزال اسم بتهوفن ولن يزال مقترنا بكل لحن من هذه الألحان، بل بكل نغمة من نغماتها، وذكر العالم اليوم له لمرور مائة عام على وفاته ليس إلا أداء لدين الشكر الواجب على العالم لكل من زاد حياته جمالا وفضلا وقوة.
يذكر العالم كله اليوم بتهوفن فيذكر ذلك الألماني المولد، الفلمنكي الأصل، المتقارب أجزاء الجسم في قصر يكاد يجعله قزما، الحاد النظرة، العبوس، المتجهم للحياة بعدما تجهمت الحياة له، فأورثته المرض وانتهت به إلى الصمم، الجاعل مع ذلك من الألم سبيل المسرة، المفني نفسه في سبيل فنه، المؤمن برسالته وبقوته، يذكر العالم هذا الرجل الذي لم يجد في غير العمل سبيلا للسعادة، أو بالأحرى لحسن احتمال الشقاء، والذي توافر على عمله في الموسيقى توافرا جعله ينتج هذه الثروة الفنية، والذي لم يعرف غير الموسيقى ولم يؤمن بشيء إيمانه بها أن كانت أعصابه أوتارا تهتز بالنغم لكل ما في الحياة.
فقد كان كل ما في الحياة عنده نغما، كان الجمال نغما والعواطف نغما والأفكار نغما والنور والظلمة والحزن والمسرة والزهر والشجر والسحاب والجبل وكل ما في الطبيعة وما في الحياة أنغاما تشدو بها أوتار هذه النفس العصبية الحساسة الشديدة التأثر بكل ما يلامسها.
بهذه الأنغام وبما تعبر عنه من جليل المعاني وبذكرى واضعها يحتفل العالم إذا اليوم.
وعجيب أن كانت حياة واضع هذه الأنغام السماوية نشازا كلها؛ فلم ينشأ بتهوفن نشأة غيره ولم تتسق حياته مع نبوغه، ولم يذق من الهناء ما يذوقه أمثاله، بل كان - وهو على حد قوله: «باكوس الذي يستصفي للإنسانية الرحيق العذب ويجلي على الناس أقدس ما في الروح من جلال» - معذبا في نشأته، معذبا جل حياته، معذبا كذلك في موته، ولعل ما متعت به ذكراه بعدما استراح من عناء الحياة ونشازها الدائم معه قد أفاء على روحه من الطمأنينة ما لم يسترح إليه يوما طوال عيشه. •••
ولد لدفج فان بتهوفن بمدينة بون على مقربة من كولونيا في 16 ديسمبر سنة 1770، وكان أبوه مغنيا سكيرا، وكانت أمه خادما وابنة طباخ وأرمل فراش، وهذه بداية في الحياة لا تبشر بخير ولا بنعمة، بل هي نذير صراع للوجود قاس قتال، ولم يمهله أبوه إلى أكثر من الرابعة من عمره حتى تبين منه ميلا للموسيقى، فأراد أن يستغله بعرضه على الناس وحبسه ومعه كمنجا صغيرة، وأرهقه بالعمل حتى كاد يكره إليه فنا خلق له، لكن كسب الأب كان تافها، فكان لا بد للطفل أن يجني من عمله عيشه، فما بلغ الحادية عشرة حتى كان عازفا في أوركسترا أحد المسارح، وفقد أمه وهو في السابعة عشرة من عمره فحزن لفقدها أشد الحزن أن ألقى ذلك عليه أعباء العناية بأمر أسرته وتربية أخويه بسبب ما انحط من قوى أبيه.
وفي نوفمبر سنة 1792 ارتحل الموسيقي إلى فيينا عاصمة ألمانيا الموسيقية على أثر موت أبيه، وكان يومئذ كما كان طوال حياته ميالا للعزلة محبا للعمل حبا جما، وكان لذلك قد جعل من البيانة
1
خير أصدقائه، فإليها كان يبث شجنه حين اضطر لهجرة دار أهله وقد جعلتها عربدة أبيه جحيما، وإياها كان يستودع الأفكار الطريفة التي يفيض بها قلبه، وعليها كان يرتجل هذه الأفكار ارتجالا، ومعها كان يتناجى بما يجول في نفسه من خلجات وما يجيش به صدره من عواطف، وبها كان يعبر للنساء اللواتي أحب عما يغمر قلبه من هيام وما يحز فيه من غيرة، بل لقد كان يتحدث بها إلى أصدقائه، ولم يكن أكثر منها بلاغة للتعبير عما في نفسه، فقدت سيدة من معارفه ولدها وجزعت لفقده أي جزع، فلما ذهب بتهوفن يواسيها أمسك بيدها ووضعها على قلبه وقال لها: «إن ما أشعر به هنا لا سبيل إلى بيانه، لكن البيانة ستقوله عني.» ثم جلس إلى الآلة الموسيقية وارتجل قطعة يحكي في صدرها ألمه، ثم كانت للسيدة نعم العزاء، وكذلك كانت البيانة صديقته كما كانت موضع قوته في الموسيقى وسلطانه في الارتجال، بلغ من السلطان عليها حتى قال عنه موزار - الذي ملأت ألحانه آذان ذلك العصر وما تزال إلى اليوم من مفاخر الموسيقى - وقد سمعه وهو في السابعة عشرة من عمره يرتجل وحده في غرفة مجاورة للغرفة التي كان فيها موزار وجماعة من أصدقائه: «تنبهوا إلى هذا الشاب فسيكون موضع حديث الناس يوما من الأيام.»
ذهب إلى فيينا على أثر وفاة أبيه بدعوة من أعضاده وفي مقدمتهم الكونت دوالشتين، وكان أكبر همه من ذهابه إليها أن يدرس على هايدن أكبر المؤلفين الموسيقيين الألمان يومئذ، لكن هايدن كان مشغولا بتواليفه جد الاشتغال، فلم يجد الشاب من وقته ما يفيده، فتركه بل قاطعه وعمد ليدرس على البرختبرجيه، وكانت أخلاق هذا الأستاذ على علمه يشوبها كثير من الغرور والجفوة بما لا يتفق وأخلاق بتهوفن الحرة الثائرة، وعلى ذلك أكمل دراساته الموسيقية وحده فظل فيها من آثار النبو عن متعارف القواعد ما لم يعبأ به نبوغه الخالق وقوته الخارقة للعادة وسلطانه الذي حلق في السماء فخضعت له كل القواعد.
وعضده يومئذ البرنس لخنفسكي وآواه في داره وفرض له ستمائة فلورين سنويا، وألفت بينهما صداقة متينة لم تكن تخلو من أسباب لسوء التفاهم قضت دائما عليها الأميرة لخنفسكي التي كانت موسيقية تقدر فضل النابغة الذي يقيم معهم حق قدره.
ويومئذ كانت الثورة الفرنسية تغزو العالم كله بمبادئها، وكان بتهوفن خصما لها أول أمره، لكن مداومته قراءة هوميروس وأفلاطون وفرجيل وتاسيت وتبينه المبادئ الجمهورية التي قامت عليها الثورة؛ جعل منه نصيرا من أكبر أنصارها، ولذلك لم يتردد حين جاء إليه الجنرال الفرنسي برنادوت يطلب إليه أن يضع لحنا
symphonie
لمجد قنصل الثورة بونابارت، وأتم بتهوفن اللحن وكان على أهبة إرساله إلى باريس إذ علم أن نابليون توج نفسه إمبراطورا، فما لبث أن عاد إلى بيته ساخطا ومزق لحنه وقال: «هذا رجل مطامع كغيره من الرجال.» ولم يرد أن يسمع بعد ذلك عنه خبرا، ثم ألح عليه أصدقاؤه بعد سنوات من ذلك كي يعيد هذا اللحن إلى الحياة فغير فيه القطعة الثانية وكانت نشيد النصر ووضع بدلها نشيد الأسى، كأنما ينعى ما كان من انهيار آماله، وسمى اللحن لحن البطولة، وأضاف إلى عنوانه هذه العبارة: «إحياء لذكرى رجل عظيم».
ومن يومئذ بدأت تواليفه ومصنفاته تفيض فيضا، فكتب عدة ألحان من خير ألحانه كما كتب أوبرا فدليو، ويومئذ أحس بسلطانه وآمن بقوته وفاض عنه الرضا بالحياة والسكينة لها، وتدل الصور التي صورته في ذلك العصر على مبلغ طمأنينته وعظيم أمله في المستقبل، ففي سنة 1796 كتب في مذكراته الخاصة يقول: «إقداما! وبرغم أسباب ضعف الجسد فالنصر لعبقريتي ها أنذا بلغت الخامسة والعشرين، فيجب في هذا العام أن يظهر الرجل كاملا.» وذلك على أنه كان ما يزال في بداية حياته العامة، فأول حفلة عامة له كبياني وقعت في 30 مارس سنة 1795، لكنه لم يبق لديه ريب في قوته ولم يخف ذلك على أحد من أصحابه، بل كان يباهي به على صورة قد لا يرضاها من لم يكن له مثل مولده، كتب إلى الدكتور وجلر - صديق صباه في مسقط رأسه - يخبره بنجاحه العظيم، فكانت الفكرة الأولى عنده ظاهرة في قوله: «أرى مثلا صديقا محتاجا فإذا لم يسمح لي جيبي بالإسراع إلى معونته لم يكن علي إلا أن أجلس إلى منضدة العمل فإذا بي في وقت قصير قد سددت حاجته، ألست ترى هذا غاية في الجمال ... ويجب أن أقف فني على معونة الفقراء.»
لكن يا لقسوة القدر! فما كاد هذا النابغة القوي يتربع على دست عظمته حتى بدأت مقدمات الهم واليأس تسلك إليه مساربها، بدأت هذه الآفة التي نغصت عليه عيشه بقية أيامه منذ سنة 1796، فلما تمض على هذه السكينة للقوة العظيمة شهور حتى بدأ وجه الحياة يتجهم وبدأت نذر الشقاء تتقدم، وبدأت مقدمات الصمم بطنين الآذان ليل نهار طنينا مزعجا، وقد ظل سنوات يخفي مرضه حتى على أعز أصدقائه، وكيف تريد موسيقيا على أن يقول للناس إنه أصم؟! لكن ذلك لم يقعد به عن مداومة العمل، ولئن ظهرت بعض آثار الحزن الناشئة عن آلامه في عدد من الألحان التي وضعها في ذلك الحين فقد بقي أكثرها بساما طروبا، غير أنه لم يطق كتمان علته بعد أن احتملها خمس سنوات تباعا، فكتب في سنة 1801 يشكو هذه العلة إلى كثير من أصدقائه ومن بينهم صديقه أمندا إذ كتب يقول له:
عزيزي الطيب الرفيق أمندا
كم كنت أرجوك بجانبي، فصديقك بتهوفن بائس غاية البؤس، ذلك أن سمعي وهو أكرم أجزاء نفسي علي، قد ضعف كثيرا، وكنت أشعر منذ كنا معا بأعراض المرض وكنت أخفيه، لكنه اطرد سوءه من بعد، فهل أشفى؟ أرجو ذلك بالطبع، ولكن رجائي فيه قليل، فمثل هذا المرض أشد مما سواه استعصاء على البرء، وسأضطر لقضاء العيش في بؤس فأتجنب كل ما أحب وكل ما هو عزيز علي، وذلك بين عالم شقوة وأنانية، يا لشقاء الاستسلام الذي يجب أن ألجأ إليه، لا ريب أني فرضت على نفسي السمو فوق كل هذه الآلام، فهل ترى أستطيع تحقيق ما فرضت؟
هل من سبيل إلى عزاء لبتهوفن عن هذا الألم؟ هل من وسيلة لتخفيف مضضه ومرارته؟ الوسيلة الممكنة هي المرأة والسبيل هو الحب، فلو أن بتهوفن وجد يومئذ من يتعلق بها قلبه ويؤمن به وبعظمته قلبها؛ لكان له من ذلك ما يهون عليه بعض همه، ولقد كان منذ نشأته طيب القلب عطوفا، لكن حبه كان قاسيا كالفضيلة التي امتلأ بها قلبه، وكان لذلك يرى عارا أن تتدلى الموسيقى للتعبير عن حب تشويه الشهوة؛ ولذلك عاب على موزار قطعته «دون جوان»، على أن فضيلته القاسية هذه هي التي كانت سبب فشل علائقه الغرامية جميعا، ففي سنة 1801 تعلق بجوليتا جوكشياردي وأهداها لحنه المعروف «ضوء القمر»، وكتب إلى صديقه وجلر يقول له: «الآن أعيش أكثر سكينة وأختلط بالناس أكثر من ذي قبل، ولقد أبدع هذا التطور في حياتي سحر فتاة عزيزة تحبني وأحبها، وهذه هي اللحظات السعيدة الأولى التي تذوقت منذ عامين.» لكن هذا الحب زاده شعورا بمرضه كما أن جوليتا كانت لعوبا شديدة الأنانية لا تعبأ بآلام بتهوفن، ولم تعف في سنة 1802 - أي بعد سنة واحدة من حبها - عن أن تتزوج من الكونت جالنبرج، وكان حب بتهوفن إياها طاهرا مخلصا، فكانت خيانتها طعنة قاسية أصابت بها شغاف قلبه، على أنها لم تكتف بما فعلت بل جعلت تستغله لفائدة زوجها وجعل بتهوفن يذعن باسم الطيبة ويقول: «إنه عدوي، وذلك هو السبب في إسدائي إياه كل خير أستطيع إسداءه.»
وأدى به الصمم والمرض والانقطاع عن الناس وخيانة جوليتا إلى اليأس من الحياة وإلى اليقين باقتراب ختامها، وزاد به اليأس حين ذهب إلى «هيلجنستات» إحدى ضاحيات فيينا مستشفيا، ومكث بها ستة أشهر لم يفد لسمعه خلالها شيئا، هنالك كتب وصيته التي نثبتها هنا، وإن كان قد عاش بعدها خمسا وعشرين سنة، لأنها تدل على عظيم ألم هذا الرجل العظيم كما تدل على عظيم نبوغه وعظيم إيمانه بفنه وعلى طهارة نفسه وطيبة قلبه وحبه الناس، وتدل على أن هذه العواطف كانت في هياجة ثائرة كهذه الموسيقى القوية الثائرة التي نسمعها له في كثير من ألحانه وحتى في ألحانه الرقيقة اللحمة والسدا، قال:
يا أيها الذين ينظرون إلي أو يحسبونني حقودا أو برما بالناس أو متطيرا بالحياة، لشد ما تظلمونني، إنكم لا تعرفون السبب الخفي الذي يظهرني بهذا المظهر، فقد كان عقلي وقلبي متجهين منذ طفولتي إلى عاطفة رقيقة هي الطيبة، وكنت دائما مستعدا لأقوم حتى بعظائم الأعمال، لكن صوروا لأنفسكم بؤس حالي منذ ست سنين، هذه الحال التي زادها الأطباء الأغرار سوءا والتي ما أزال أخدع في أمرها عاما بعد عام آملا في تحسنها، ثم أضطر آخر الأمر لأحسبها حالا مزمنة يقتضي البرء منها - إن كان فيه أمل - سنين عدة، وقد يكون هذا البراء محالا.
لقد ولدت ذا مزاج حاد نشيط مستعد لذوق مسرات الاجتماع ثم اضطررت وما أزال في أول عمري إلى عيش العزلة، وحاولت التغلب على ذلك فصدمتني التجربة الأليمة القاسية غير مرة وجددت عندي الإحساس بمرضي، ثم إني كنت مستطيعا أن أقول للناس: ارفعوا الصوت وصيحوا فإني أصم، وكيف أستطيع أن أذيع ضعف حاسة كان يجب أن تكون عندي أدنى إلى الكمال منها عند الآخرين، حاسة كانت في الماضي بالغة من الكمال حدا لم يتح لقليل من أبناء فني أن يبلغوه، كلا! لا أستطيع، فاعذروني إذا إن رأيتموني أعيش عيش العزلة بينما أريد أن أكون معكم وفي صحبتكم وشقائي مضاعف له ألمي أن كان سببا للحكم علي حكما قاسيا، ولقد منعت من أن أجد الراحة والطمأنينة في الاجتماع بالناس وفي المحادثات الظريفة وفي العطف المتبادل، فأنا وحيد منقطع، لا أستطيع أن أجازف بنفسي في الجماعة، وما لم تكرهني على ذلك حاجة فيجب أن أعيش منفيا، فإذا اقتربت من جماعة ملك على الاضطراب مجموع حواسي من خشية أن أتعرض لوقوف الناس على بينة أمري.
ومن ثم أمضيت هذه الستة الأشهر في الريف، وقد طلب إلي طبيبي الفاضل أن يعنى بسمعي جهد الطاقة، وبلغ من ذلك أكثر مما كنت أرجو، ولقد شعرت غير مرة بالميل للاجتماع بالناس وتركت نفسي تنال مناها، ولكن أي مذلة أن أرى رجلا على مقربة مني يسمع قيثارة من بعيد ولا أسمع أنا شيئا، أو يسمع غناء الراعي ولا أسمع أنا شيئا؟! ولقد قربت هذه التجارب بيني وبين اليأس حتى كدت أقضي بيدي على حياتي، لكنه الفن - نعم هو الفن وحده الذي استبقاني - أواه! لقد بدا لي أن من المحال أن أترك هذا العالم قبل أن أتم كل ما أحسست أني مطالب بأدائه، وكذلك أطلت في هذه الحياة البائسة، والبائسة حقا، لجسد سريع التهيج حتى لينقله أقل تغيير من خير الحالات إلى أسوئها ... صبرا، كذلك يقولون! وهو الصبر الذي يجب أن أختاره الآن مرشدا وقد اخترته، وإني لأرجو أن تظل عزيمتي على المقاومة ثابتة حتى ترضى الآلهة بالقضاء على بقية حياتي، وإن يصلح الحال أو يسوء فإني لصابر، ألا ليس يسيرا أن يكره الإنسان - وما يزال في الثامنة والعشرين من العمر - على أن يكون فيلسوفا، وذلك أشد قسوة برجل الفن منه بأي رجل آخر.
اللهم إنك لتستشف من سمائك حجب قلبي وتعرفه وتعلم أنه عامر بحب الناس والرغبة في عمل الخير، وأنتم أيها الناس إذا قرأتم يوما هذا الذي أكتب فاذكروا كم كنتم ظالمين إياي، وإن الشقي ليتعزى إذا رأى شقيا مثله قام برغم كل ما ألقت الطبيعة في سبيله من عقبات بكل ما في جهده أن يقوم به كي يكون في صف رجال الفن والصفوة المختارين.
هيلجنستات في 10 أكتوبر سنه 1802 - والآن وداعا، وداعا أسيفا - إن الأمل العزيز الذي جئت به إلى هنا، هذا الأمل في أن أشفى ولو إلى حد يجب أن أيأس منه كل اليأس، وكما تتناثر أوراق الخريف وتذوي، كذلك هذا الأمل جف في نفسي وذوى، كما جئت إلى هنا أعود وقد فقدت حتى الهمة التي كثيرا ما استندت إليها أيام الصيف الجميلة، أواه أيها القدر! هب لي أن أرى مرة واحدة يوم مسرة صفو، فما أطول الزمن الذي حبس عني فيه رنين المسرة الصادقة العميق! أواه متى يا رب؟ متى أستطيع أن أحس بها في معبد الطبيعة والناس ... أبدا، كلا، فذلك يكون أبلغ القسوة.
هيلجنستات في 6 أكتوبر سنة 1802
لدفج فان بتهوفن
لم تنشر هذه الوصية إلا بعد وفاة بتهوفن، لكنها تدل على مبلغ ما كانت تضطرب به نفسه حين كتبها من الآلام، وعلى شديد إيمانه مع ذلك بالفن، هذا الإيمان الذي جعله يستأخر الموت وإن كان في الموت راحة من شقوته وأوصابه، ويستأخره ليتم رسالته وإن عانى في سبيل إتمامها من الآلام ما لا قبل لغيره باحتماله، وكذلك ترى النوابغ حقا يستهينون في سبيل إبراز مواهبهم بكل ما يحرص الناس عليه وبكل ما يجزعون منه ويفرون، فبينا كان بتهوفن يكتم هذه الصيحات الفاجعة مكتفيا بترجيعها في صدره بينه وبين نفسه، وبإثباتها على القرطاس لتكون سبيلا إلى سلامه بعد موته، كان أخواه يستغلان ألحانه استغلالا ماديا ما كان بتهوفن ليعنى به لولا حبه لأخويه حبا يتفق مع عظمة الفضيلة التي تفيض بها نفسه أناشيد وألحانا قدسية سامية، وكثيرا ما خاطبه أصحابه فيما يجني عليه أخواه من مساءات، فكان جوابه وهو يبكي: «لكنهما أخواي»، وما لأخويه وبكائه؟ إنه لهما مزرعة تستغل ومورد رزق فياض، كتب أحد أخويه لناشر طلب بعض قطع أصلية من ألحان بتهوفن وأناشيده: «ليس لدينا من ذلك الآن إلا لحن وعزيف كبير للبيانة وثمن كل ثلاثمائة فلورين، أفتريد ثلاث سونات للبيانة؟ نحن لا نستطيع أن نقبل فيها أقل من تسعمائة فلورين، على أن تسلم بعد خمسة أسابيع أو ستة؛ لأن أخي أصبح لا يعنى الآن بأمثال هذه التفاهات ولدينا ...» وذكر بقية «البضائع»، وبتهوفن لا يفيد من ذلك المال كله إلا ما يقيم حياته المليئة بالآلام، فأما هذه الحياة التي يحتفظ هو بها للفن فليست في ملكه، لأنها هبة القدر للوجود كله في حاضره ومستقبله، هي قيثارة قدسية بعثتها يد العناية إلى هذا العالم لتنشد الناس كل ما أبدعت العناية في الخلق من نغمات، وإلى أن تتم هذه الرسالة الواجبة عليها يجب أن يبقى صاحبها معذبا شقيا، ويجب أن يستريح لعذابه ولشقوته، أو على الأقل يجب أن ينسيه إيمانه برسالته وانصرافه بكل وجوده لإبلاغها هذا الشقاء وهذا العذاب.
لكن المرأة هي البلسم والشفاء لعذابه أو لتسكينه، وقد عبثت جوليتا ببتهوفن عبثا قاسيا برغم ما كان من شديد تعلقه بها، فهل جفاه الحب بعدما جفته هذه اللعوب الأثرة المحبة لترف الحياة التافه أكثر من حبها لمجد العظمة الخالد؟ كلا! فما تزال لبتهوفن ساعات سعادة في الحياة ينعم بها برغم همه، وملاك هذه الساعات المخلص الطاهر هي تريز برنسويك.
وكان بتهوفن قد عرف تريز منذ أيامه الأولى في فيينا أن كان يعلمها البيانة، لكنه لم يتعلق بها يومئذ ولم يسر إلى قلبه خاطر الحب منها وإن اتصل بأخيها الكونت فرنسوا بصداقة متينة، فلما كانت سنة 1806 وكانت جوليتا قد تزوجت منذ ثلاث سنين زار بتهوفن صديقه القديم في مارتنفاسار بالمجر، قالت تريز: «وبعد العشاء ذات مساء أحد جلس بتهوفن في ضوء القمر إلى البيانة ومر بيده على ملامسها، وكنت أعرف أنا وأخي ذلك منه، فكذلك كان يبدأ دائما، ولعب بعض تقاسيم على طبقات القرار، ثم انتقل من ذلك إلى لعب أغنية سباستيان باخ: إن شئت أن تهبيني قلبك فليكن ذلك أول الأمر في خفية حتى لا يستطيع أحد أن يحس مسارح أفكارنا المشتركة، ولعب هذا اللحن في وقار وهيبة، وكانت أمي وكان القسيس قد ناما، ونظر أخي إلى ما أمامه ذاهلا، أما أنا فأخذتني نظرته وأخذني غناؤه وأحسست بالحياة كاملة، وفي صباح الغد تقابلنا في الحديقة فقال لي: أكتب الآن أوبرا أرى بطلتها في دخيلة نفسي وأراها أمامي حيثما ذهبت وأينما أقمت، وما أحسبني سموت يوما هذا السمو، فكل ما أمامي ضياء وطهر ونور، وفي شهر مايو أصبحت مخطوبته بإقرار أخي فرنسوا وحده.» وظلت هذه الخطبة حتى سنة 1810 حين انفصمت عروتها وإن لم تنفصم عروة الحب بين الخطيبين اللذين عاشا به سعيدين حتى مات هو في سنة 1827 وماتت هي وما تزال على عهده في سنة 1861.
وكان لهذا الحب في نفس بتهوفن وفي حياته الموسيقية أثر أي أثر، فاللحن الرابع الذي كتب في أول أعوام الخطبة زهرة تتضوع بشذا السكينة والخلود إلى صفو العيش مع الناس، وكذلك كانت الألحان التي كتبت في هذه السنوات أقل ثورة وأكثر ترنما بنعمة الحب والحياة، ومنها لحن الريف بأغاريد بلابله وأطياره وأغنيات شبانه وعذاراه، ولم يقف أثر الحب عند موسيقى بتهوفن بل تعدى إلى حياته فجعله محبا للتأنق في ملبسه ميالا للاختلاط بالناس والتحدث إليهم حاضر النكتة ظريفا، وبلغ من ذلك أن الناس نسوا صممه ولم يلاحظوا عليه إلا ضعف بصره الحاد النظرة، ومن ذلك العهد السعيد في حياة بتهوفن يحفظ التاريخ خطابا يبث فيه لتريز ما يبعثه الحب المضطرم في النفس الثائرة من عواطف مضطربة متلاطمة، قال فيه:
يا ملاكي وكلي ونفسي، انظري في بدائع الطبيعة واطمئني إلى ما هو محتوم، فالحب يلح عدلا في أن يكون له كل شيء، ذلك شأنه معي في أمرك، وهو شأنه معك في أمري، إن قلبي لمفعم بما أريد أن أبثك إياه، أينما كنت فأنت معي، إني لأبكي حين أذكر أنك لن تقفي على أول أخباري قبل يوم الأحد على الغالب، إني أحبك كما تحبينني بل أقوى وأشد، إلهى، أية حياة هذه من غيرك! فأنت قريبة بعيدة، وأفكاري تتدافع نحوك يا محبوبتي الخالدة وهي سعيدة طورا حزينة تارة تسائل القدر هل هو سيرعانا؟
أنا لا أستطيع العيش إلا معك وإلا فلا عيش لي، ولن ينال غيرك قلبي أبدا، أبدا! لم يجب يا رب أن يبتعد متحابان كل عن صاحبه، على أن حياتي إنما هي الآن حياة أحزان، ولقد جعلني حبك في نفس الوقت أسعد الناس وأشقاهم، اطمئني، اطمئني، وأحبيني اليوم وبالأمس، ما أعظم تطلعي إليك! وما أكثر دموعي من أجلك أنت! أنت أنت يا حياتي، يا كلي وداعا، وأقيمي على حبي ولا تنسي أبدا قلب حبيبك بتهوفن، لك إلى الأبد، لي إلى الأبد، لنا إلى الأبد.
وهذا الخطاب كوصيته وجد في أوراقه بعد موته، ولعله كتبه في آخر سنوات خطبة تريز له، ففيه من اليأس أكثر مما فيه من الرجاء، وهذه العبارة التي يسائل فيها القدر هل هو سيرعاهما تنبئ عن بداية انحلال الخطبة، على أن قلبه وقلبها ظلا عامرين بهذا الحب إلى آخر حياتهما، فمن كلمات بتهوفن في سنة 1816: «يدق قلبي كلما ذكرتها بنفس القوة التي دق بها حين رأيتها لأول مرة.»
وفي هذه السنة عينها، سنة 1816، وضع الأنغام الأربع البديعة: «إلى العزيزة المحبوبة النائية» وكتب في مذكراته: «يفيض قلبي لمشهد هذه الطبيعة البديعة وهي مع ذلك ليست هنا إلى جانبي.» وكانت تريز قد أهدت إليه صورتها وكتبت عليها هذا الإهداء: «إلى النابغة الفذ والفنان العظيم والرجل الطيب.» وقد دخل صديق على بتهوفن في آخر سنة من سني حياته فألفاه يقبل الصورة ويبكي ويناجي نفسه بصوت رفيع: «لقد كنت جميلة، وكنت عظيمة، وكنت كالملائكة الأطهار.» وبلغ من شدة تأثره لفراق تريز أن كتب يوما إلى أحد أصدقائه: «أيها المسكين بتهوفن - محدثا عن نفسه - ليس لك في هذا العالم حظ من السعادة، إنما حظك منها في رحاب المثل الأعلى، فلك فيه أصدقاء.» وكتب في مذكراته «إسلاما! وإسلاما تاما لحظك، أنت لم تعد تستطيع أن تعيش لنفسك وإنما تعيش لغيرك، ولم يبق لك من نعيم في غير فنك، اللهم هبني قوة الانتصار على نفسي.» هذا ولم تفتأ تريز تذكر بتهوفن إلى آخر حياتها، فكيف انفصمت الخطبة ولم يجمع بينهما الزواج؟ ذلك ما لم يقف عليه أحد، ولعله كان لفقر بتهوفن واختلاف مكانته مع مكانة تريز الاجتماعية، ولعله كان لطبع بتهوفن الحاد القاسي السريع إلى التطير والذي لا تهون الحياة البيتية معه.
على أنه كان قد وصل في سنة 1810 إلى أوج قوته وجلس على عرش مجده، وكان يحس هذه القوة ولا يتواضع بسببها، رأته بتينا برنتانو المغرمة بمعرفة عظماء الألمان في سنة 1812 لأول مرة، ولم تكن في حاجة إلى أكثر من مرآه وسماع حديثه حتى سحرت به وقالت: «ليس في العالم ملك ولا إمبراطور له مثل هذا الشعور بقوته.» ثم كتبت إلى جيتي تقول: «لما رأيته لأول مرة انمحى الوجود كله من أمامي، ولقد أنساني بتهوفن العالم وأنساني إياك يا جيتي، وما أظنني مخطئة أن أؤكد أن هذا الرجل يسبق المدنية الحديثة بمراحل.» وأراد جيتي أن يعرف بتهوفن فتقابلا في حمامات بوهميا بتوبلتز في ذلك العام نفسه لكنهما لم يتفاهما، فخلق بتهوفن العنيف الحر لا يتفق مع خلق جيتي الرقيق الوادع، ذكر بتهوفن نزهة لهما كان فيها قاسيا كل القسوة مع دوق فيمار، قال في خطاب بعث به إلى بتينافون أرنم:
يستطيع الملوك والأمراء أن يخلقوا الأساتذة والمستشارين وأن يغرقوهم في الرتب والألقاب، لكنهم لا يستطيعون أن يخلقوا الرجال والأذهان التي تسمو على المجاميع، فإذا اجتمع رجلان مثلي أنا وجيتي وجب على هؤلاء السادة أن يحسوا بعظمتنا، ولقد تقابلنا أمس حين عودتنا في الطريق مع العائلة المالكة كلها، وكنا قد رأيناهم من بعيد فانتزع جيتي نفسه من ذراعي ليقف على حافة الطريق، وعبثا قلت له كل ما أردت أن أقوله فلم يزحزحه ذلك خطوة واحدة عن موقفه، عند ذلك كبست قبعتي في رأسي وزررت ردنجوتي وسرت وذراعي وراء ظهري وسط الجموع الكثيفة، وأفسح الأمراء والحاشية لي طريقا ورفع لي الدوق رودلف قبعته، وكانت الإمبراطورة أول من حياني، فالعظماء يعرفونني، أما جيتي فمر أمامه الجمع وهو في مكانه على حافة الطريق منحن أشد الانحناء وقبعته في يده، وقد لمته أشد اللوم بعد ذلك، لم أغتفر له قط تصرفه.
ولم ينس جيتي له هذه المساءة وظل بينه وبينه ما كان بين فولتير وروسو في آخر حياتهما، قال جيتي لزلتر: «بتهوفن شخصية لا سبيل مع الأسف إلى تألفها، وقد لا يكون مخطئا إذ يرى العالم كريها، لكن خلته في الحياة ليست هي الوسيلة التي تجعل العالم حلوا له ولغيره، على أن من الواجب أن نعذره وأن نشفق عليه، فهو أصم.» على أن كراهية جيتي لم تمنعه من الإعجاب ببتهوفن ومن تقديسه وإن جاهد لإخفاء ذلك طاقته، ذكر مندلسن أن جيتي سمع أحد ألحان بتهوفن فحاول إخفاء إعجابه قائلا: «هذا لا يمس القلب ولكنه يثير الدهشة.» ثم لم تمض لحظات حتى غلبه اللحن وجماله، فلم يتمالك أن قال: «هذا بديع وعظيم وفوق العقل، إني لأحس كأن البيت سينطبق علي.» وبعد أن كان لا يريد أن يسمع اسم بتهوفن جعل يسأل عن أمره.
وكان الدوق رودلف الذي أشار إليه بتهوفن أحد التلاميذ القليلين ممن رضي هو أن يكون أستاذا لهم، وبرغم إعفاء الدوق إياه من تكاليف البلاط ونظامه فقد كان يشكو مما بقي مضطرا له بداعي المجاملة من هذه التكاليف، ومن طريق الدوق رودلف عرف كثيرين من الأمراء وأعضاء البيت المالك الذين لم يكونوا يأبهون للعظماء، أمثال هايدن وموزار، وإن بقي لديهم شيء من العطف على البائس بتهوفن، وزادوا عليه عطفا حين بدأ نجم نابليون يأفل، فإن بتهوفن لم ينس خيانة هذا الجمهوري الذي اتخذ الشعب سلما للإمبراطورية، فلما انتصر الإنجليز عليه في موقعة واترلو وضع بتهوفن لحنا لانتصار ولنجتون مجده فيه كما مجد حروب الاستقلال التي أقامتها أمم أوربا ضد فرنسا، وفي أوائل سنة 1814 وضع لحنا حربيا عن «بعث ألمانيا » فلما انعقد مؤتمر فيينا على أثر هزائم نابليون كان بتهوفن في ذروة عظمته وقوته، فشارك في أعياد المؤتمر على أنه عنوان من عناوين مجد أوربا، ورأس في 29 نوفمبر سنة 1814 الأوركسترا التي لعبت أمام ملوك العصر نشيده عن «ساعة المجد» فلما سقطت باريس في سنة 1815 وضع نشيدا جعل عنوانه «انتهى كل شيء»، وكذلك ظهرت قوته ومقدرته وظهر خلقه المثابر وبطشه وجبروته، هذا الجبروت الذي أباح له بعد موقعة يينا - إحدى مفاخر نابليون - أن يقول: «من سوء الحظ أني لا أعرف الحرب كما أعرف الموسيقى، إذا لهزمته.»
وكان حظ بتهوفن مذبذبا، فما تكاد آونة طمأنينته تطول به زمنا حتى تعقبها آونة شقاء أطول منها وتعدل مرارتها أضعاف حلاوة تلك الآونة، فكما تخلى عنه الحب مرتين تخلت عنه فيينا بعد هذا المجد والسلطان لمجرد انتهاء أعياد النصر، وبلغ أن فكر في هجرتها برغم ما كان من اتفاق الدوق رودلف تلميذه والبرنس لوبكرفتز والبرنس كنسكي منذ سنة 1809 إذ رتبوا له معاشا أربعة آلاف فلورين على أن يظل في النمسا ليظل فخرا لها، وبرغم ما كان من عدم وفائهم كل الوفاء فإنه سر بهذا الاعتراف بمجده، فلما مرت أعياد النصر عكف من جديد على العمل، لكن الصمم كان يزداد حتى كان تاما في سنة 1816، وبذلك أصبح بتهوفن لا يسمع موسيقى ولا يسمع لحنا ولا نشيدا إلا في دخيلة قلبه.
وكم لاقى بسبب ذلك من عناء وهم، فقد أراد أن يدير أوبرا فدليو في سنة 1822، وكان جليا منذ الفصل الأول أنه عاجز عن هذه الإدارة كل العجز، فقد كانت عصاه بطيئة، فكانت الآلات الموسيقية بطيئة معها، لكن المغنين لم يكونوا يستطيعون اتباع هذه الموسيقى فكانوا يسرعون، وحصل اضطراب اضطر معه مدير الجوق العامل إلى إيقاف التمثيل، ثم عاد بتهوفن إلى الإدارة وعاد التمثيل إلى الاضطراب، قال صديقه الدكتور شندلر: «ولم يقو قلب أحد على أن يدفعه ليقول لبتهوفن: تنح أيها البائس فأنت عاجز عن الإدارة، ووقف التمثيل للمرة الثانية فوقف بتهوفن ينظر في كل ناحية يريد أن يعرف سبب الاضطراب، ولما لم يفهم شيئا ناداني إليه ومد إلي كراسته لأكتب له، فكتبت: أرجوك ألا تستمر وسأفسر لك في البيت سبب ذلك، فما هو إلا أن قفز صائحا بي: فلنعجل بالخروج، وجرى إلى بيته بكل ما مكنته قواه وهناك ارتمى على مقعد وسند بيديه وجهه وجلس حتى ساعة الطعام لا ينطق بكلمة، وساعة الطعام ظل صامتا وعلى وجهه أثر الألم الفاجع والانحلال الأليم، فلما كان بعد العشاء وأردت أن أتركه رجاني أن أصحبه إلى طبيب كان معروفا بأنه من خير أطباء الآذان ... وفي كل ما تلا ذلك من صلاتي ببتهوفن لم أر يوما اليوم القاسي من أيام نوفمبر، وقد بقي هذا المشهد الأليم طعنة في قلبه حتى فاجأته منيته.»
وفي سنة 1824 كان حاضرا تمثيل رواية على موسيقاه، ولما انتهت الموسيقى صفق الناس أشد التصفيق فلم يسمع شيئا ولم يعرف من أمر إجلال الناس لقطعته إلا بعد ما أمسكت مغنية بيده وأدارت وجهه إلى ناحية الجمهور ليرى الأيدي المصفقة والقبعات التي تهتز في الأيدي علامة الإعجاب والثناء.
وعاون بؤس الصمم وألم المرض ما وقع فيه من حاجة وإعواز، فهذا الذي كان يفرض أخوه أثمان ألحانه على الناشرين فرضا وصل في أخريات أيامه ليكتب هذه العبارة لأحد تلاميذه: «أكتب هذه (السونات) في ظروف شاقة، فمن المحزن أن يضطر الإنسان للكتابة كي يحصل على الخبز، وهذا هو حالي اليوم.» وكتب في مذكراته الخاصة: «لقد صرت حتى أكاد أتكفف الناس.» وقال عنه أحد معاصريه وأصحابه إنه كان لا يستطيع الخروج من بيته في بعض الأحيان بسبب ثقوب حذائه.
وفي هذه الأيام الأخيرة كان لا يأنس إلى الناس ولا يعرف غير الطبيعة، فكان يرى هائما في الغابات والأحراش، وليس له هم إلا تدوين الأنغام والألحان لا يحول بينه وبين ذلك حر ولا قر ولا مطر ولا ثلج، قالت تريزدي برنسويك: «كانت الطبيعة صديقه الوحيد.» وكانت كل مذكراته تفيض هياما بهذا الوجود المطلق الحر تمام الحرية، والذي تتجلى فيه عظمة الخالق وقوته؛ ولذلك كانت موسيقاه تفيض بمعاني الطبيعة فيضا حتى لكأنما بلغ من شدة هيامه بها أن صار قوة من قواها أو أنه «ملك روحها» على حد تعبير صديقه شندلر، كتب الموسيقى الكبير شومان يصف أثر أحد ألحان بتهوفن في نفسه: «مهما يتكرر سماع الإنسان لهذا اللحن فإنه مؤثر فينا بنفس القوة التي أثر بها من قبل، فهو كالظواهر الطبيعية التي تملؤنا دائما خوفا ودهشة مهما تكرر حدوثها.»
ولعل بتهوفن كان محبا للطبيعة، لأنه من روحها لا لأنه ملك هذا الروح، ولذلك كانت حياته - ككل ما في الطبيعة - حياة نضال لا يعرف اليأس، وعمل لا يعرف الكلال، وتجدد لا يعرف الجمود، فما كان المرض ولا الصمم ولا خيبة الحب ولا الفقر الذي بلغ الإعواز بمانع له من أن يتم في عالم النغم رسالته، أوتدري ما هذه الرسالة التي كان يجاهد في سبيلها خلال ما أثقل حياته من كوارث وأحزان؟ كانت رسالته بعث المسرة على الأرض، فكأنما كان القيثارة العتيقة المحطم كثير من أجزائها والتي بالغ الصانع في إتقانها، فما تزال مبعث أحلى الأنغام وأبدعها، ولقد كان بتهوفن يؤمن برسالته هذه كل الإيمان، ومنذ ظهرت بوادر نبوغه في الموسيقى فكر في تبليغها للناس عن طريق الألحان ففكر فيها وما يزال في يونيو سنه 1793، وكانت نهاية أمله أن يتوج أحد أعماله الموسيقية الكبرى بلحن المسرة، وكان ذلك دأبه وهو في أشد حالات العذاب والألم، لكنه كان يتردد دائما أن لم يكن شيء مما وضعه ليكفي مقنعا لصورة المسرة عنده، وظل ذلك شأنه حتى السنوات الأخيرة من حياته حين وضع اللحن التاسع، حينئذ وفق لهذا النشيد الذي يرجوه، ولكن أي توفيق وأية عظمة!
قال أحد الكتاب يصف هذا النشيد البديع الذي يختم اللحن التاسع: «ساعة تبدأ آية المسرة تبدو يقف الأوركسترا فجأة ويسود المسرح سكون تام يخلع على مطلع النشيد معنى قدسيا رهيبا، وذلك حق، فهذا النشيد إله وحده، ثم تهبط المسرة من السماء تحيط بها طمأنينة الخلد فتسكن الآلام بريحها الناعم تجري إلى القلب جريان البرء في فؤاد المريض، ثم تسمو بعد ذلك في صور من الجد المهيب رويدا رويدا حتى تملك المسرة النفس وتغزوها وتعلن فيها حربا على الألم عوانا، ثم إذا الألحان تحرك في النفس جنود السرور تحسها فوق هذه الصحف المرتعشة فكأنما ترى نبض بتهوفن القوي وشدة تنفسه وصيحاته الملهمة حين كان يجوب المزارع ويضع لحنه وكأنما ملكته قوة الشياطين، وتعقب مسرة الحرب مسرة الروح مسرة بالإيمان، ثم تجيش بالنفس مسرة مقدسة هي مسرة الحب، ثم ترى إنسانية مرتعشة تمد أذرعها للسماء صائحة صيحات قوية مندفعة إلى المسرة تضمها إلى قلبها.»
هذه القوة العجيبة التي تبدو في أكثر ألحان بتهوفن والتي بدت في لحن المسرة مضاعفة، جعلت كثيرين يذهبون إلى أن ملكه في الموسيقى يقف عند الضخم منها والأليم، قال هيبوليت تين ردا على هذا وتحليلا لموسيقى بتهوفن عامة: «نعم إنه صاحب هذا الملك من أراض جرداء تهب فيها الأعاصير وتعصف فيها العواصف بأصواتها الصاخبة القوية، وهذه المملكة لم يتح لغيره من الموسيقيين أن يدخلها، لكنه يعيش كذلك في ملك آخر، فأفخر ما في الريف الناضر وأكثره رواء وبهجة، وأعذب ما في الوديان الظليلة وأكثره ابتساما، وأشد ما في ضياء الفجر أول مطلعه رقة وبكورة - هذا كله كذلك في ملكه، لكنه لا ينال من ذلك كله ما يناله مطمئن النفس، بل تهز المسرة كل وجوده كما يهزه الألم! وشعوره باللذة بالغ غاية القوة، فهو ليس سعيدا، ولكنه في بهر، فمثله مثل رجل قضى ليلة نابغية وخرج منها مضطربا كليما متوقعا يوما شرا منها، فإذا به يرى فجأة مشهد صباح سعيد، إذ ذاك تضطرب يده ويتنفس الصعداء من أعماق صدره وتعود كل قواه الجسمية المنحلة فتسترد سلطانها، ويصبح في نهله من النعيم أشد اندفاعا مما كان حين استسلامه لليأس.»
ولما اطمأن له نشيد المسرة واطمأن هو إلى نجاحه فيه، هانت عليه أحزانه وآلامه وهان عليه فقره وإن ظل يعاني من بأسائه شر ما يعانيه إنسان، ولعل لهذا الفقر صلة بتلك الثروة التي كان أخواه يقتضيانها من الناشرين، فقد مات أحدهما تاركا من ورائه ولدا أحبه بتهوفن بهذه القوة التي كان يندفع بها إلى كل شيء، وسار الفتى سيرة سيئة لم يصلح منها حب عمه إياه ولا مداومته نصيحته، وكان هذا الفتى كثير الاستدانة، فكان بتهوفن في فرط حبه له يعمل جهد طاقته لسداد ديونه، وسافر بتهوفن في خريف سنة 1826 يبحث عن وسيلة يوطد بها مستقبل ابن أخيه هذا، فلما عاد في أواخر نوفمبر سنة 1826 أصابه برد أمرضه، ولم يكن أحد من أصدقائه حاضرا ليعنى به، فكلف الفتى أن يبحث له عن طبيب، فنسي مدى يومين ثم جاء الطبيب وعالج بتهوفن علاجا سيئا، وقد استطاع بقوة بنيته أن يقاوم المرض ثلاثة شهور تباعا، لكنه ضعف بعدها ضعفا أضاع الأمل في شفائه، ولولا كرم بعض الإنجليز من أصدقائه لقضى آخر أيامه في بؤس وشقوة ليس كمثلها بؤس ولا شقوة.
ثم جعل ينتظر في صبر وسكينة «ختام المهزلة» حتى يوم 26 مارس سنة 1827، إذ عصفت عاصفة وهطلت ثلوج وأرعدت السماء وهاجت من الطبيعة أصوات موسيقاها المهوبة المخيفة، وعلى موج هذه الأصوات طارت روح بتهوفن إلى عالم الخلد، وكان عمر بتهوفن يومئذ ستا وخمسين سنة وثلاثة أشهر وتسعة أيام، فلما آن لجثمانه أن ينقل إلى مقره الأخير شيعه ثلاثون ألفا ولبست فيينا عليه الحداد، ودفن في مقبرة وارنج، وما يزال قبره إلى اليوم فيها وعليه هذا الكلمة الوحيدة الخالدة: بتهوفن.
وكذلك قضى من كان يرى الموسيقى إلهاما أسمى من الحكمة ومن الفلسفة ويتمثل أفكاره في عزف الآلات أكثر مما يتمثلها في ألفاظ الناس. وكذلك قضى «باكوس يستصفي للإنسانية الرحيق العذب ويجلي عليها أقدس ما في الروح من جلال»، قضى ونقل إلى قبره حيث خط اسمه، لكن روحه الماثل في ألحانه وأناشيده وعزفاته ما يزال باقيا ولن يزال، وهل الروح الخالد إلا العمل يترك به صاحب في العالم أثرا خالدا؟! وهل أثر أخلد من موسيقى بتهوفن؟! أو هل أكثر منها سحرا وقداسة؟!
واليوم يحتفل العالم بمرور مائة عام إجلالا لألحانه القدسية السامية، فيؤدي بعض دين الشكر الواجب على العالم لكل من زاد حياته جمالا وفضلا وقوة. (كتبت في 26 مارس سنة 1927 لمناسبة مرور مائة عام على وفاة بتهوفن).
هوامش
هبوليت أدولف تين
احتفلت فرنسا منذ أيام بمرور مائة عام على مولد الفيلسوف الكاتب الفرنسي الكبير هبوليت أدولف تين، فقد ولد بفوزييه في الحادي والعشرين من أبريل سنة 1828 أي منذ مائة سنة مضت، وإذا لم يكن قد مضى على موته إلا خمس وثلاثون سنة - إذ مات بباريس في الخامس من مارس سنة 1893 - فإن الآثار التاريخية والأدبية والفلسفية التي خلفها تجعله حقيقا منذ اليوم بأن يسجل في ثبت الخالدين، وتجعل حقا له وواجبا على وطنه فرنسا أن يشيد بذكره بين من يشيد بذكرهم من عظماء تلك البلاد، بل إن هذه الآثار لتجعله حقيقا منذ اليوم بأن يذكره العالم كله بين الرجال الذين كانوا قوة عاملة ذات أثر خالد في العالم، نقله ونقل تفكيره خطوة جديدة وفتح أمامه من أسباب البحث سبلا إن يكن غيره قد ترسمها من قبل فإن أحدا سواه لم يرسمها ولم يخططها بالقوة والدقة والمهارة التي رسمها وخططها بها تين، ويكفي ليقدر القارئ مدى هذا الأثر العميق الذي تركه تين في تفكير العالم أن يسمع من كثير، حتى من الذين تناولوا تين وتفكيره بالنقد، أنه كان أكبر أثرا في نشر الفلسفة الواقعية (البوزتفزم) من صاحبها أوجست كومت نفسه، وإنه إلى جانب تثبيته قواعد هذه الفلسفة الوضعية في ذهن أهل عصره والعصور التي خلفته قد فتح لها ميادين جديدة في الفن وفي الأدب وفي الشعر وفي كل نشاط العقل الإنساني والنفس الإنسانية بما جعل للعلم الوضعي وللفلسفة الوضعية من متانة الأركان ما لا يزال حتى اليوم وطيدا قويا غاية القوة برغم موجات الروحية والتيوزوفية وغيرها مما سبق الحرب وشجعته الحرب، ومما لا يستطيع أن يقاوم - حتى في ميادين الفلسفة البحتة - تيار العلم الجارف الذي يدل الناس كل يوم على أن العلم إذا أخطأ في تقرير نتائج معينة لأن الاستقراء أو الملاحظة أو التجارب لم تكن كاملة حين تقرير هذه النتائج، فالعلم وحده هو القدير على إصلاح هذا الخطأ من طريق الاستقراء والملاحظة والتجارب وما يترتب على هذه من تبويب ينتهي إلى استنباط القوانين العلمية الصحيحة التي يمكن أن تكون أساسا لارتكاز الفلسفة الواقعية الصحيحة.
رجل هذا أثره في التفكير الإنساني لا يمكن لوطنه إلا أن يعترف له بالمجد وأن يذكره لكل مناسبة، ولا يمكن للعالم أن ينسى له فضله على التفكير الإنساني وتوجيهه فلسفته في فترة خاصة من حياة هذا التفكير.
على أن لتين إلى جانب هذا الفضل العلمي العظيم فضلا آخر لا يقل عنه، بل يريد بعضهم أن يذهب إلى أنه يفوقه، ذلك هو فضله ككاتب، فهذا الرجل الذي حاول ونجح في محاولته هدم الفلسفة الكلامية التي كان الأستاذ فكتور كوزن عميدها في عصره، والذي حاول ونجح في أن يقر إلى جانب التفكير الواقعي
المذهب الجبري “determinisme”
وأن يطلق هذا المذهب على الإنسان ويخضعه له بمقدار ما تخضع له الأفلاك والموجودات كلها، هذا الرجل كان صاحب أسلوب في الكتابة له من البهر ما يسحرك كما تسحرك قطعة من الموسيقى أو لحن من الغناء، حتى ليدعوك إلى أن تعود إلى قراءة الصفحة مرات، وحتى ليترك في ذاكرتك صحفا معينة تود الوقت بعد الوقت أن تعود إلى قراءتها وترديدها بصوت عال لتسمع إلى ألحانها كما تسمع إلى ألحان أوركسترا بتهوفن، وإني لأذكر الآن على ذكر اسم بتهوفن فصلا له في كتابه (مذكرات عن باريس
Notes Sur Paris )، فصلا عنوانه (خلوة
Une tete à tete ) وصف فيه إيقاع ألحان بتهوفن وصفا ما أزال ولن أزال ألذ لقراءته ولترديده لذتي سماع ألحان هذا الموسيقي في سمفونية الريف التي أحبها ولا أشبع من سماعها، وليس هذا الفصل الذي ذكرت إلا واحدا من كثير من الفصول ومن الكتب ومن المطولات التي كتبها تين والتي لا تفتأ ترد إلى الخاطر وتتردد في خلايا الذاكرة كلما ذكر الإنسان النغم الحلو الساحر في تعبير الكتاب في أية لغة من اللغات.
ولعل أروع ما كتبه تين في هذه الناحية الأدبية هو ما كتبه في الوصف والسياحة، فكتابه الذي ذكرت لك عن باريس، وكتابه «مذكرات عن إنجلترا» وكتابه عن جبال البرانس، وكتابه عن رحلته في إيطاليا، هذه كلها كتب بلغت فيها براعة الوصف مبلغا قل أن يجاريه فيه كاتب، ولقد ذكرت لك هذه القطعة عن موسيقى بتهوفن، وأنت تعلم أن الكاتب إذ يكتب مثل هذه القطعة إنما يعتمد على ذاكرته، وذاكرة السمع هي التي كانت تحرك قلم تين حين وصف الموسيقى، مع ذلك فلم تكن ذاكرة السمع أقوى ذاكرات تين، بل لقد ذكر لنا هو نفسه في كتابه
De l’Intelligence
أن أقوى ذاكراته ذاكرة الألوان، وأن المنظر الذي تقع عليه عينه تختزنه ذاكرته أكثر مما تختزن أية صورة تتصل بإحدى الحواس الأخرى، فإذا كان ما ذكرت لك عن سونات بتهوفن هو بعض ما وعت ذاكرة السمع عند تين، فلك أن تقدر بعد ذلك كيف كان وصفه لما وعته ذاكرة المرئيات وألوانها عنده، وكيف استطاع بأسلوبه المتموج الزاهي الشديد الحركة والحياة أن يثبت الألوان المختلفة التي اختزنتها ذاكرته في سياحاته الكثيرة.
وليس فضل تين مقصورا على فلسفته وعلى أدبه، فهو إلى جانب ذلك مؤرخ من أكبر المؤرخين الفرنسيين، أقول المؤرخين الفرنسيين ولا أقول مؤرخي فرنسا؛ لأنه لم يقتصر على كتابة تاريخ بلاده، وإذا كان كتابه «أصول فرنسا الحديثة» الواقع في اثني عشر جزءا هو من أمهات كتب التاريخ الفرنسي، وكان يتناول عصر ما قبل الثورة كما يتناول عصر الثورة والعصور التي بعدها، فإنه قد تناول إلى جانب هذا التاريخ بحوثا أخرى في التاريخ القديم وفي التاريخ الحديث، وتناولها كما تناول كل مباحثه على طريقته الخاصة التي سنعرض فيما بعدها لها، وتناولها بدقة في البحث وبدقة في العبارة وقوة في الأسلوب جعلت له كل هذه المكانة التي كانت له في عصره، وكل هذا المجد الذي يشهد له به اليوم حتى ألد خصوم نظرياته، ويكفي أن يطلع الإنسان على كتابه «تاريخ الآداب الإنجليزية» ليقدر مدى ما لهذا الكاتب من سعة اطلاع ودقة بحث وعمق تفكير شهدت كلها له بأن قليلين من الإنجليز أنفسهم هم الذين تناولوا بحث آداب لغتهم بهذه السعة والدقة والعمق، فأما مباحثه التاريخية الأخرى، ومباحثه التي مزج فيها التاريخ بالأدب فتزيدك بهرا ودهشة، اقرأ «تيت ليف» وعصره من عصور التاريخ الروماني، اقرأ «لافونتين وأقاصيصه»، اقرأ كتبه الثلاثة «رسائل في النقد وفي التاريخ»، ثم سائل نفسك كيف كان يصنع هذا الرجل ليحيط بكل هذه الأشياء خبرا؟ وكيف كان يصنع ليمحصها كل هذا التمحيص؟ كان يصنع ليكتب، وكيف كان يصنع ليؤدي كل هذه الأعمال، وليؤديها بهذا الجمال وبهذه الدقة وبهذه القوة؟!
ورسائله في النقد والتاريخ قد جعلت منه نقادة معترفا بفضله وبسلطانه، وقد أقامت له مذهبا في النقد يتسق مع مذهبه في الأدب وفي التاريخ وفي الفلسفة وفي كل ما تناول من مباحث، وعندي أن مذهبه في النقد أقرب إلى الدقة من كل مذهب سواه، فهو أشد المذاهب إمعانا في «الموضوعية»، هو إذا عرض لكتاب أو لمؤلف لم يعرض له من جهة تقديره الشخصي للكتاب أو لصاحبه، ولكن بعد تحليل كل ما أحاط بالمؤلف ومؤلفه من ظروف، وبعد مقارنة هذا المؤلف بكل ما يستطيع مقارنته به ممن عاصره ورمى إلى مثل غرضه، ولست أدرى إذ أقول إن مذهبه أقرب إلى الدقة من كل مذهب سواه، أأنا متأثر بتقدير ذاتي أم بذكريات خاصة، فلقد قرأت كتبه في النقد والتاريخ منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة وتركت في نفسي من الأثر ما لم تتركه كتب أناتل فرانس «الحياة الأدبية» وما لم تتركه كتب أستاذ النقد الكبير سنت بيف نفسه، ولست أشك في أن كثيرين قد يتذوقون نقد جول لمتر أو فاجيه أو بورجيه أو بول سوداي أكثر من تذوقهم نقد تين، وربما كان حكمي أنا أيضا يتغير لو أن الظروف التي أحاطت بقراءتي تغيرت، لكني ما أزال أسير حتى اليوم حين أعرض لقراءة كتاب وحين أفكر في نقده - ولو لنفسي ومن غير أي فكرة في الكتابة عنه - على الطريقة التي أحبتها نفسي منذ قراءة كتب تين.
لتين إلى جانب هذه الميادين الكثيرة ميدان آخر لم يقتصر على التأليف فيه، بل كان فيه - كما كان في بعض الميادين الأخرى - مدرسا أيضا، ذلك ميدان الفن الجميل، ولقد كان تين موسيقيا، فلا عجب إذا هو تحدث أو كتب عن الفن الجميل، لكنك إذ تقرأ كتابه «فلسفة الفن» تراه يحلل الفن وصوره وتماثيله بالطريقة عينها التي يحلل بها المسائل النفسية والمسائل المادية ويخضع الصور والأنغام لقواعد الجبرية التي يخضع لها كل ما في الوجود من سماوات وأفلاك وكائنات، أليست الفنون بعض ثمرات الإنسان، «والإنسان ثمرة وسطه» على ما يقرر تين غير مرة وفي غير موضع؟ والوسط الذي يعيش فيه الإنسان ليس خاضعا له ولكنه خاضع لعوامل طبيعية وتاريخية لا قبل له بها ولا سلطان له عليها، إذا فالفن ثمرة محتومة لهذه العوامل، ويمكنك أن تفسره وأن تفهمه بشرح هذه العوامل، كما يمكنك ببسطها أن تفسر وأن تفهم أي عمل من أعمال الإنسان.
ولكن ليس معنى أن «المرء ثمرة وسطه، أو بيئته إن شئت» أن الناس يتساوون فيما بينهم كما يتساوى ثمر الشجرة الواحدة، بل إن ثمر الشجرة الواحدة لا يتساوى، فمنه الكبير والصغير ومنه الصالح والفاسد، والناس كذلك منهم الصغير والكبير والصالح والفاسد، وأنت تستطيع أن تعرف الفرق بين ثمر الشجرة بأن تشقه وأن تصل إلى دخيلته، فكيف تستطيع أن تصل إلى دخيلة الرجل لترى مبلغ ما يختلف أولئك المتشابهون من ثمر الوسط الواحد تشابه ثمرات الشجرة الواحدة واختلافها؟ الأمر هين يدلك عليه تين في مختلف من مواضع كتبه، ويدلك عليه بنوع خاص في كتابه عن «الذكاء» ويفرد له مقدمة الطبعة الأخيرة من تاريخ الأدب الإنجليزي التي طبعت سنة 1891.
فكل مظاهر الرجل وكل أعماله وكل مطامعه ومشاعره هي المسالك إلى دخيلة نفسه، فإذا أنت أردت على هذه الطريقة نفسها أن تعرف تين حق المعرفة فيجب أن تعرف كل مظاهره وكل أعماله، وكم كنا نود لو استطعنا القيام بهذا البحث في هذه العجالة القصيرة عن حياة ذلك الرجل العظيم ، لكنا مع ذلك نكتفي بالقليل الذي أتاحت لنا الظروف أن نعرف عنه عن الكثير الذي لا سبيل إلى معرفته غير الانقطاع لدراسة تين وحياته وكل كتبه دراسة ذاتية لا تتسنى إلا لأستاذ في الفلسفة أو في الأدب الفرنسي، ولعلنا في هذا الاكتفاء بالقليل الذي نعرف لا نغمط تين حقه، ثم لعلنا لا نعدو بعض مباحثه التاريخية في النقد، فأمامنا بعض الشيء عن حياته، وأمامنا مؤلفاته الكثيرة، وهي صورة نفسه وخلاصة حياته، وأمامنا إلى جانب هذا أسلوبه، والأسلوب - على ما قال تين - هو الإنسان. •••
ولد هبوليت تين إذا بفوزييه بمقاطعة الأردن في فرنسا في 21 أبريل سنة 1828 من عائلة رقيقة الحال، وكان لأبيه جان باتيسيت تين اتصال بالقضاء؛ لذلك استطاع تين أن يتلقى عليه تعاليمه إلى جانب دراساته بمدرسة مسيو بيرسن الصغيرة حتى بلغ الحادية عشرة من عمره، وإذ ذاك مرض أبوه فأرسل به في سنة 1839 إلى مدرسة دينية في (رتل) أقام بها ثمانية عشر شهرا توفي أبوه خلالها تاركا ثروة بسيطة لأرملته وابنه وابنتيه، وبعد وفاة أبيه سافر إلى باريس فالتحق بمعهد ماتيه، وكان تلاميذ هذا المعهد يدرسون بمدرسة بوربون
College Borbon ، وفيها ظهرت بوادر كفاياته النادرة كما اتصل فيها بأصدقاء كان لهم أبلغ الأثر في مستقبل أيامه من أمثال برفوبارادول، وبلانا، وكرنوليس، وفث وغيرهم.
ولقد امتاز تين لأول دخوله المدرسة بمقدرة على العمل مدهشة وبإكباب عليه لا يقل إثارة للدهشة، فلقد كان يكتفي لرياضة نفسه بعشرين دقيقة يقضيها لعبا بعد العشاء وبساعة يلعب في أثنائها الموسيقى بعد الغذاء، أما فيما سوى هذا وفيما سوى أوقات الطعام والنوم فكان لا يصرفه عن العمل صارف، وكان لذلك كثير التحصيل كثير التعليق على ما يحصل كثير التفكير فيه مما جعل له على أصدقائه جميعا نفوذا معترفا به منهم اعترافهم بفضله وبمقدرته في الكتابة نظما ونثرا في اللغتين الفرنسية واللاتينية.
وبعد انتهاء دراساته الثانوية انتقل إلى مدرسة المعلمين
L’Ecole Normale
وفيها ازداد إكبابه على الدرس فقرأ أفلاطون وأرسطو وآباء الكنيسة كما استمر يدرس الإنجليزية التي أتقنها ليدرس آداب اللغة الإنجليزية، وإذا كان تين قد ظهر تفوقه في أثناء دراساته الثانوية وفي أثناء مقامه بمدرسة المعلمين حتى لقد كانت الجوائز الأولى كلها من نصيبه، فإن الروح العلمية المنطقية التي امتاز بها بعد ذلك والتي وضع على قواعدها مذهبه في البحث، قد تبينت في أثناء وجوده في مدرسة المعلمين بنوع خاص، فقد لاحظ عليه أساتذته جميعا مبالغته في دقة الحرص على المنطق والسلوك به مسلكا رياضيا والوصول به دائما إلى قاعدة على نحو ما يصل الرياضيون في مسائل الحساب والهندسة والجبر، أثبت أستاذه فاشرو في مذاكراته عن تين - وما يزال تين طالبا بمدرسة المعلمين - ما يأتي: «أكثر تلميذ عرفت في المدرسة جدا ورقي نفس، علم مدهش بالنسبة لسنه، تحمس وشره للعرفان لم أر له مثالا، ذهن يلفت النظر بسرعة التصور والدقة والمرونة وقوة التفكير، لكنه يدرك ويتصور ويحكم ويقرر بغاية السرعة، مولع بالقواعد والتعاريف حتى لكثيرا ما يضحي بالحقيقة من أجلها، ومع ذلك لا يظن أنه يضحي بالحقيقة لأنه كان مخلصا لها أشد إخلاص، وسيكون تين أستاذا ممتازا، لكنه سيكون أكثر من ذلك وفوق ذلك عالما من الطراز الأول إذا أتاحت له صحته الاشتغال بالعلم زمنا طويلا، ومع ما له من دماثة في الخلق عظيمة ومن طباع غاية في الطيبة؛ فلذهنه قوة لا تلين حتى لن يستطيع أن يكون لأحد على تفكيره أي تأثير، وهو على كل حال ليس من أهله هذا العالم، فسيكون شعاره شعار سبنوزا (يعيش ليفكر) أما خلقه وأما طبيعته فيمتازان بمناعة لا يستهويه معهما إغراء.»
على أن هذا التفوق الذي كان للطالب تين لم يكن ليعترف الناس به من غير أن يجني على صاحبه جنايته، ومتى كان تفوق رجل من الناس تفوقا عقليا ألا يجني عليه في نظر السلطان والذين يمسكون بيدهم مصير الجماعات؟! صحيح أن هذا التفوق يقدر عند المخلصين والذين لا مصلحة لهم في سؤدد آراء ومبادئ معينة، وهذا التقدير هو الذي يكفل انتصار الحق ولو بعد حين، لكن تين الذي كان يقضي كل وقته قراءة وبحثا، والذي أوتي هبة النقد والتمحيص منذ شبابه، والذي لا يستطيع أن يسلم بغير ما يعتقده الحق، تين هذا - وهو طالب - لم يكن ليقر كثيرا من المبادئ الفلسفية التي كانت تدرس يومئذ وغايتها إما تأييد ناحية دينية تجعل التفكير خاضعا للمبادئ المسيحية التي تريد للكنيسة أن تسود، أو تأييد ناحية علمية خاصة هي ناحية المنطق المطلق، أو المنطق المجرد مما كان يدرسه كوزن وغير كوزن من فلاسفة ذلك العصر، وقد خرج تين - وما زال طالبا - على هاتين الطريقتين من طرائق التفكير، ورأى فيهما وسائل غير صالحة للكشف عما في العالم من حقيقة، ووضع تين - وما يزال طالبا - قواعد تفكيره هو، هذه القواعد التي سار عليها في مستقبل أيامه مجاهدا لإكمالها ما استطاع، ولكن من غير أن يرى في كل دراساته وبحوثه ما يطعن عليها أو ينقضها، وإذا فهو ثائر على التعاليم المقررة، وإذا فيجب ألا ينجح في إجازة الفلسفة التي تقدم لها مع زميليه أوبيه وسوكو في سنة 1851، وليكن عدم نجاحه هذا وهو المشهود له بالفضل والتفوق عزاء لغيره من الذين تقدموا للإجازة نفسها فرسبوا وهم دونه تفوقا وفضلا.
ولم يغير عدم نجاحه في إجازة الفلسفة من رأيه ولا من عزمه، واستمر في عمله وبحوثه وإن اشتغل بالتدريس في المدارس المختلفة أن عينه وزير المعارف مدرسا بمدرسة (نفير) في مفتتح عام 1851 الدراسي، لكنه لم يبق في هذه المدرسة إلا شهورا نقل بعدها إلى مدرسة دونها في الدرجة، ذلك أن اضطرابا سياسيا وقع في فرنسا واتهم المعلمون بأنهم سببه وطلب إليهم أن يعتذروا وأن يشكروا رئيس الجمهورية على التعديلات التي أدخلها على نظام الحكم، فكان تين هو الوحيد الذي رفض الاعتذار والشكر، وعلى ذلك أنذر ونقل إلى بواتييه ومنها نقل مساعد مدرس إلى بزانسون سبتمبر سنة 1852.
ومع تنقلاته الكثيرة وعدم رضا السلطات عنه فإن نشاط تين لم يفتر ودراساته وتحصيله لم يهنا وإيمانه بمذهبه في البحث لم يضطرب، فقد وضع رسالة عن المشاعر
Les Sansations
أو رسالة لاتينية تقدم بها إلى السوربون لنيل إجازة الفلسفة، ولما كانت هذه الإجازة قد ألغيت فقد أراد أن ينال بهما إجازة الآداب
Agregation-es-lettres
لكن طريقته في التفكير جنت عليه هذه المرة كذلك فلم تقبل رسالته، فوضع رسالة أخرى عن لافونتين هي التي نال بها دكتوراه الآداب في 30 مايو سنة 1853.
ومن بعد حصوله على الدكتوراه عرضت الأكاديمية الفرنسية موضوعا لجائزة تمنح في سنة 1855 رسالة تكتب عن تيت ليف الكاتب والمؤرخ الروماني الكبير، فتقدم لها تين وكتب فيها رسالة كانت هي الأولى بين كل الرسائل التي قدمت.
بعد هذه المجهودات المضنية ست سنوات تباعا شعر تين بالحاجة حاجة ماسة مطلقة إلى الراحة ونصح له بأن يذهب إلى جبال البرانس، وطلب إليه الناشر هاشت أن يكتب له دليلا عنها فوضع كتابه «سياحة في البرانس» وصف فيه هذه الطبيعة الجميلة العجيبة وعادات أهلها وقصصهم وصفا دقيقا، ناقدا ما رأى موضعا لنقده مازجا ذلك كله بفلسفته، متبعا حتى في هذا الكتاب طريقته الجديدة التي جنت عليه من قبل.
ما هي هذه الطريقة الجديدة؟ وكيف يمكن أن تجني على كاتب في عصر كالعصر الذي عاش فيه تين والذي تقررت فيه حرية الرأي والنشر على أنها مكفولة مقدسة؟!
أما طريقة تين في رسائله التي تقدم بها للامتحانات وفي كتاب تيت ليف وفي غير ذلك من الكتب التي ظهرت والتي ستظهر حتى آخر أيام حياته، فتقوم على فكرة أساسية هي تطبيق الطريقة الواقعية - أو الوضعية - التي قررها أوجست كومت على الأحياء بنفس الدقة التي تطبق بها على غير الأحياء، وتطبيقها على الإنسان وعلى النفس والروح بنفس الدقة التي تطبق بها على الأحياء الأخرى غير الإنسان وعلى غير الأحياء، فكما أن طريقة البحث العلمي في شأن غير الأحياء هي الملاحظة والتجربة واستنباط القوانين على قواعد هذه الملاحظة والتجربة، فيجب اتباع هذه الطريقة بعينها في شأن الحيوان والإنسان على السواء.
وأنت لكي تدرس غير الأحياء فأنت تحلل الشيء، وأنت ترجعه إلى نظائره وأشباهه، وأنت تلاحظ تأثره بالبيئة المحيطة به وتأثيره فيها ثم تستنبط القوانين الخاصة به بعد إذ تنظم ملاحظاتك وتجاريبك وتبوبها وترتبها، ثم أنت تعمد لتقف على حياة الحيوان إلى تأثره عن طريق حواسه بالأشياء المحيطة به، كما أنك إذا أردت أن تعرف تاريخه عمدت إلى ما قد يكون باقيا في الأحجار من آثاره، هذا فضلا عن التجائك في تجاريبك عليه إلى كل الوسائل المختلفة التي يلجأ إليها الكيميائيون والأطباء وغيرهم في معاملهم.
ذلك كذلك يجب أن يكون شأنك مع الإنسان، يجب ألا ترى فيه عالما مستقلا وسط هذا العالم الذي تعيش فيه، إنما هو جزء من هذا العالم خاضع لقوانينه وأحكامه متأثر به مؤثر فيه تجري عليه السنن التي تجري على غيره من الخلائق، فإذا أردت أن تبحث في أي شأن من الشئون يتعلق به وجب عليك أن تلجأ إلى الطرائق العلمية التي تلجأ إليها في الظروف الأخرى، وأن ترى في أعماله ومشاعره وإحساسه وتصوراته وسائل الوصول إلى دخيلة نفسه، هذه دون سواها هي الطريقة الأكيدة التي تصل بك إلى شيء يقرب من الحقيقة، وهذه يجب أن تكون أساس البسيكولوجيا وأساس التاريخ وأساس الاجتماع وأساس العلوم المتصلة بالإنسان جميعا، فأما الطريقة التي تقيم هذه العلوم على قواعد المنطق المجردة التي تجعل من استجمام الشخص في طوايا نفسه وسيلة رسمه للعالم ما يستلهمه من صورته، فليست من الطرائق العلمية في شيء ولا يمكن الاعتماد عليها إذا نحن أردنا أن نقيم علما إنسانيا أو فلسفة إنسانية على قواعد علمية صحيحة.
هذه هي الطريقة الجديدة التي امتاز بها تين والتي جنت عليه في كثير، وهي قد أصبحت اليوم قديمة وقد أصبح يرد عليها نقد كثير أساسه ما فيها من تطرف وغلو، ولكنها كانت جديدة يوم نادى بها تين، وكانت عمادا قويا للمذهب المادي، فهي لا تقر للروح ولا للنفس ولا لأمثال هذه الألفاظ بمدلولات مستقلة قائمة بذاتها بعيدة عن مادة الجسم، بل هي ترى كل ما في الجسم بعض مادته كما أن ما في أي موجود من الموجودات بعض مادة هذا الموجود، وإذا كانت هذه المادة ذات إرادة وذات خلق وذات تصور وتفكير، فإن هذه المظاهر ليست إلا صور القوة الكمينة في المادة، أو إن شئت التعبير الدقيق، فهي بعض صور المادة متحولة إلى قوة؛ لأن المادة والقوة شيء واحد بدليل تحول كل منهما إلى الآخر حين تفاعله مع غيره من القوى أو المواد، وما دام ذلك هو الشأن وكانت القوة والمادة تخضعان لقوانين ثابتة لن تجد لها تبديلا، فمن الخلط الذي لا يبرره مبرر أن تختلف طريقة البحث في الإنسان عنها في غير الإنسان، ومن الخطأ المبني على العقائد الرائجة انتهاج سبيل في بحث شئون النفس غير السبيل العلمية المقررة في سائر الشئون.
كانت هذه الطريقة جديدة يوم نادى بها تين، لكنه نادى بها منذ كتبه الأولى على صورة واضحة وبأسلوب قوي لفتا الأنظار له، وبخاصة أنظار مفكري ذلك العصر ومن كانت بيدهم مقاليد الجماعة في التفكير وفي الحكم، وإذا التفتت أنظار هؤلاء فلا تفكر في حرية مكفولة ولا في حرية مقدسة، إنهم - إن كانوا مخلصين حقا - يعتبرون أنفسهم حماة الجمعية ونظامها، ويرون في محاربة الأفكار التي تخالف أفكارهم محافظة على هذا النظام، وكثيرون منهم يشعرون - وإن لم يقولوا - بأن المحافظة على نظام الجماعة جديرة بأن تهدر من أجلها كل حرية؛ لأن الحرية لا توجد إلا حيث يوجد النظام.
ونشر كتابه «سياحة في البرانس»، وصف فيه هذه الجبال الفاصلة بين فرنسا وإسبانيا وأخلاق أهلها وطبق في وصفه وفي تحليله نظرياته التي أشرنا إليها، على أنه لم يكتف من سياحته بالرياضة وبوضع هذا الكتاب، بل هو ظل يستمع لقارئ استصحبه في جولاته وظل يفكر فيما يسمع ويعلق عليه، أليس شعاره أنه يعيش ليفكر، فإذا هو كان في رياضة قضت بها صحته، أو هو كان في مكتبه، فليس أمامه ما يمنعه عن التفكير كما أنه ليس أمامه ما يمنعه عن التنفس، ولقد كان فكره بحاجة إلى العمل حاجة رئتيه إلى الهواء، حتى لقد يخيل إلى من يقرأ تاريخ حياته أن هذه الحياة تتعرض للخطر إذا هو انقطع عن التفكير العلمي الجدي يوما من الأيام.
ولقد أفاد من سياحاته في البرانس لصحته، وأفاد من قراءته وتفكيره وأفاد شيئا جديدا لم يكن له من قبل به عهد، ذلك اتصاله بالحياة الخارجية ولو اتصالا محدودا، فلقد عاش منذ أيام تلمذته وليس يعرف غير كتبه ومكتبته وغير البيانو يوقع عليه الألحان التي يحبها والتي يجد فيها سلوة عن كل تعبه، وكان من أثر ذلك عليه أن جعله - على ما قال فاشرو - يدرك ويتصور ويحكم ويقرر بغاية السرعة، ويولع بالقواعد والتعاريف حتى لكثيرا ما يضحي بالحقيقة من أجلها، أليس ما في الكتب منطقا مجردا؟! أوليست كتب ذلك العصر - حتى كتب الفلاسفة الواقعيين - قليلة التحليل للوقائع الصغيرة؟! فلتين عذره إذا هو سارع إلى تقرير النتائج ووضع التعاريف والقواعد ما دام يسير على الطريقة التي رسمها لنفسه على أنها سبيل الحقيقة، وما دام لم يتصل بالعالم الخارجي اتصالا يجعله أكثر ميلا لتحليل الحوادث الصغرى واستقرائها وترتيب النتائج عليها، فلما أتاحت له زيارة البرانس الاتصال بالحياة أتاحت له مع هذا الاتصال شيئا من التؤدة في منطقه الرياضي السريع وجعلته أكثر عناية باستيعاب أكثر ما يستطيع استيعابه من الوقائع الصالحة لإقامة ما يريد أن يقيمه عليها من نظريات وقواعد.
وعاد من البرانس فعاش مع أمه في جزيرة (سان لوي) ثم اختلط من جديد بأصدقائه بلانا وبريفو برادول وأبو وتعرف إلى رينان، ومن طريقه عرف سانت بيف وجدد علاقاته مع مسيو هافيه الذي كان أستاذا بمدرسة المعلمين مدى ثلاثة أشهر، وكما عاد إلى أصدقائه عاد إلى جده وإنتاجه حتى لتعتبر السنتان 1855 و1856 من أكثر حسنى حياته نشاطا وأغناها إنتاجا، فلقد نشر عشرات المقالات في مجلة (
L’Instruction
) كما نشر مقالا في مجلة «العالمين»، وفي سنة 1857 بدأ يكاتب جريدة «الديبا» واستمر بعد ذلك على مكاتبتها طويلا.
والذي يقرأ كتبه الثلاثة «رسائل في النقد وفي التاريخ» وكتابه «الفلاسفة الإنشائيون في القرن التاسع عشر» يرى اتجاه مجهوده العقلي في تلك السنوات الخصبة من حياته، ويرى مبلغ هذا المجهود الضخم الذي تناول بحث اليونانيين القدماء وكتاب فرنسا وفلاسفتها وكتاب إنجلترا ومفكريها، وتناول ذلك في دقة وإحاطة قل نظيرهما، وماذا تريد أن تكون الدقة والإحاطة أكثر من أن يعرض تين أمام نظرك فكرة كل كاتب وفلسفته وأسلوبه، وأن يحلل ذلك وأن يرده للبيئة وللجنس اللذين نشأ الكاتب فيهما، وأن يدلك على ما يراه النقاد غيره وما يراه هو في الكاتب وفكرته من قوة وضعف وكمال ونقص ودقة في بلوغ الغاية التي قصد إليها الكاتب أو اضطراب في نهج السبيل إلى تلك الغاية، وهذه هي طريقته التي سار عليها منذ تلك الأيام في النقد، وهي الطريقة العلمية الصريحة التي لا تعرف المواربة ولا المداجاة، ولا تعرف مذاهب الشك والتردد، والتي تقفك من كل كاتب ومن كل موضوع على خلاصة الموضوع وعلى صورة واضحة من الكاتب على نحو ما رآه تين.
وقد طبع تين مباحثه عن الفلاسفة الإنشائيين ونشرها في أوائل سنة 1857، أي في التاسعة والعشرين من عمره، ومع أنه إلى ما قبل ذلك التاريخ قد لقي من رجال الجامعة ومن وزارة المعارف عنتا، فإن رسائله المختلفة التي نشرت لم تثر من النقد إلا ما كتبه أصدقاؤه عن سياحة البرانس وما كتبه الأستاذ الكبير جيزو عن تيت ليف، لكنه ما لبث أن نشر «الفلاسفة الإنشائيون في القرن التاسع عشر» حتى تكلم عنه كثير من كبار نقاد عصره أمثال سانت بيف وشرر ويلانش وغيرهم مما زاد في ذيوع رفعته ككاتب وكمفكر وكفيلسوف مجدد في الطريقة وفي الأسلوب.
ولم يكن عجبا أن ينال هذا الكتاب من كتب تين تلك المكانة، فهو قد قصد به إلى هدم الفلسفة الكلامية التي كان يدرسها ويقررها في ذلك الوقت لارمجييه ومين دبيران والمسيو فكتور كوزان، وكان فكتور كوزان صاحب مقام كبير في ذلك الظرف، وكان القائم بتدريس الفلسفة في كلية فرنسا، وكان درسه مقصد المئات من المستمعين؛ لذلك كانت حملة تين عليه أشد من حملته على صاحبيه، فكان يقول عنه إنه بحاثة غير فيلسوف، وكان يرى في هذه الفلسفة الكلامية أو الإنشائية شذوذا معيبا على قواعد العلم التي تقررت منذ أوائل ذلك القرن، وعودة إلى قواعد قديمة عقيمة تخلط بين طريقة ديكارت التي تبدأ بالشك، والنظريات الألمانية التجريدية الصرفة، وهو قد سلك في هدمه لتلك النظريات مسلكا جمع بين المنطق الدقيق الذي امتاز به وبين التهكم بتلك الطرائق العتيقة البالية من طرق البحث عن الحقيقة تهكما ظهرت فيه مقدرة تين ككاتب إلى جانب تفوقه كمفكر وكفيلسوف، ثم هو قد أيد ما قررته مباحث عصره الحديثة مما جاء به أوجست كومت وداروين وغيرهما من الذين وضعوا قواعد العلم الواقعي وأسس نظريات التطور، ثم هو قد أضاف إلى ذلك نظريته الخاصة بتطبيق هذه القواعد تطبيقا لا هوادة فيه على الإنسان كتطبيقه على غير الإنسان وعلى الجماد، وإذا كانت هذه النظرية قد لقيت في بادئ الأمر شيئا من معارضة الهيئات الجامعية، فإن المباحث العالية التي نشرها تين مشبعة بها والمقام الذي كان يرتفع إليه يوما بعد يوم وعاما بعد عام، جعل نجاح كتابه عن الفلاسفة الإنشائيين نجاحا حاسما ودعا الكثيرين إلى أن يعيدوا النظر فيما يقرره هؤلاء الفلاسفة من قواعد، وجعل ما وجهه كارو وغيره إلى تين وإلى رينان من نقد أساسه رميهم بالإلحاد، لا يلقى من المفكرين والعقلاء وذوي الرأي أي التفات له بأكثر من الإشفاق على كاتبيه والرثاء لحالهم.
وكما جمع مقالاته عن الفلاسفة في كتابه هذا فقد جمع رسائله في النقد وأظهر الجزء الأول من «رسائل في النقد وفي التاريخ» سنة 1858، على أن كتابة هذه الرسائل وجمعها ونشرها لم يشغله عن متابعة بحوث تاريخية في الأدب الإنجليزي شغف بها منذ أيامه الأولى وشغل بها منذ مطالعاته بعد ترك مدرسة المعلمين، ولقد نشر الأجزاء الأولى حتى بيرون في سنة 1861 واستمر يكمل هذا الكتاب الذي يعتبر ككتابه عن (الذكاء) وكتاب (أصول فرنسا الحديثة) أما من أمهات كتب تين وأثرا باقيا من آثار تفكيره، وقد أتم هذا الكتاب ونشره كاملا في سنة 1863 ووضع له المقدمة التي أشرنا من قبل إليها، والتي حلل فيها صلة الإنسان بالبيئة وبالجنس وبالعصر الذي يولد فيه تحليلا انتهى منه إلى أن المرء ثمرة هذه العوامل الثلاثة، وإنك إذا استطعت أن تعرف كل الدقائق المحيطة بهذه العوامل الثلاثة استطعت أن تضع للإنسانية من القوانين الثابتة ما لا سبيل إلى تبديله إلا أن يكون لتبديل سنن الكون العامة سبيل.
والحقيقة أن هذا الكتاب الذي وضعه تين عن آداب اللغة الإنجليزية قد أضاف إلى مجده كفيلسوف وكمؤرخ مجده ككاتب، ولئن كانت رسالته عن «سياحة في جبال البرانس» قد دلت من ذلك على شيء كثير، فإن وصفه للعصور المختلفة التي مرت بها إنجلترا وأثرت في أدبها قد دل على خصب في الخيال لا يقل عما كان لتين من دقة في المنطق، وأنت تقرأ صحف هذا الكتاب المتتالية فتنتقل من تحليل نفساني دقيق لكاتب من الكتاب أو شاعر من الشعراء أو عصر من العصور، إلى وصف جمع بين الدقة المنطقية والخيال الشعري لحياة ذلك الكاتب أو الشاعر ولحياة جماعة أهل ذلك العصر، وهذا التداول بين دقة المنطق وخصب الخيال هو الذي طوع لكثيرين من نقاد تين أن يقولوا عنه إنه منطيق شاعر أو خيالي فيلسوف، وربما وجدت لهذا النقد في بعض كتب تين مسوغا، لكنك تقع دائما على ما يدلك على أن تين كان يشعر تمام الشعور بهذا التداول، وكان يحرص على ألا يجني أحد جانبي نفسه على الجانب الآخر، فما يقع تحت قلمه عبارات تتردد آنا بعد آن يذكر فيها أنه جاوز الحد مضطرا في استعمال المجاز وفي الالتجاء إلى الخيال ويعود بعدها إلى منطقه المحكم وتحليله الدقيق، فيشرح البيئة الطبيعية والعصر ومميزاته والجنس وخصائصه، ويطبق ما يستنتج من ذلك كله على الكتاب والشعراء الذين يحللهم ويرسم بذلك صورة مضبوطة من هذا الأدب الإنجليزي الذي استغرق تاريخه أربعة أجزاء من كتب تين.
وكان تين قد رشح نفسه سنة 1862 ليقوم بتدريس الأدب في مدرسة الهندسة، لكن مسيو دي لموني انتخب بدلا منه، على أن وزير الحربية عينه في مارس في السنة التالية ممتحنا في التاريخ واللغة الألمانية بمدرسة سان سير الحربية، وفي سنة 1864 شغل مقعد تدريس تاريخ الفن والجمال في كلية الفنون الجميلة، فكان تعاقبه في وظائف الدولة سببا لإثارة الخوف في نفس رجال الدين مما دفع المونسنيير لوبانلو ليكتب منشورا يوجه به إلى الشبيبة وإلى الآباء يطعن فيه طعنا جارحا على تين ورينان وليتري ويشهر فيه بنزعاتهم الإلحادية مما كاد يودي بمركز تين لولا تدخل البرنسيس ماتيلدا لحمايته.
وفي سنة 1864 وجه بكتبه إلى الأكاديمية ليحصل على جائزة بوردان، فانبرى له مونسنيير لوبانلو من جديد واشترك معه آخرون ليحولوا بينه وبين الجائزة، على أن مسيو جيزو دافع عنه بكل إخلاص واستمرت المناقشة أمام الأكاديمية فيمن يستحق الجائزة ثلاثة أيام متتالية استقر الرأي بعدها على أن الجائزة لا تمنح لأحد ما دامت لا تمنح لتين، ومن ذلك التاريخ فتر اهتمام تين بالأكاديمية وتعضيدها أو عدم تعضيدها له.
على أن هذه الخصومات المتتابعة وهذا التجني على ذلك الكاتب الفيلسوف الكبير لم يحل دون حصوله على وسام اللجيون دونير في سنة 1866 وعلى شهادة
E.C.L.
من جامعة أكسفورد بعد محاضرات ألقاها بها عن راسين وكورني في سنة 1871.
ومنذ عين تين أستاذا لتاريخ الفن والجمال في كلية الفنون الجميلة اتسع له زمن البحث وميدانه ووجد من الوقت ما يسمح له بالسفر إلى بلاد مختلفة وبخاصة في إيطاليا مهد الفن ومنبت أجمل ما أبدع المثالون والمصورون من آثار.
على الطريقة التي كتب بها تاريخ آداب اللغة الإنجليزية كتب في سنة 1865 كتابه فلسفة الفن وفي سنة 1867 نشر رسائل عن المثل الأعلى في الفن أتبعها بمقالات عن فلسفة الفن الفلمنكي والفن اليوناني ضمت كلها بعد ذلك إلى كتاب فلسفة الفن.
كتب هذا الكتاب على طريقته في كتاب آداب اللغة الإنجليزية، فإلى جانب وصفه الممتع للآثار الفنية المختلفة ترى نظريته الثابتة التي تخضع الفن كما تخضع كل مظاهر الحياة الإنسانية - وكما تخضع الإنسان نفسه - إلى الطريقة العلمية في البحث، طريقة التحليل والمقارنة والاستنباط وإرجاع كل أثر من هذه الآثار إلى البيئة والجنس والعصر التي نشأ فيها صاحب الأثر، وهذا في نظره هو السبب الأساسي لاختلاف كل مدرسة من مدارس الفن عن سواها، فالفن الإيطالي غير الفن الفرنسي وغير الفن الفلمنكي وغير الفن الإنجليزي؛ لأن البيئة الإيطالية تختلف عن كل واحدة من هذه البيئات الأخرى، وإن أمكن أن يوجد شيء من الشبه بين منتجات هذه المدارس المختلفة إذا هي كانت معاصرة بعضها لبعض لما في هذه المعاصرة نفسها من داع لوجود مشابهة قليلة أو كثيرة في التفكير والتصور والنظر بين الفنون المختلفة، وذلك هو سبب الاختلاف بين المذاهب المختلفة في الأمة الواحدة إذا هي اختلفت عصورها، وإن كان في اتفاق البيئة والجنس ما يبعث إليها شبها قويا يصل بينها في الروح والحياة.
وفي أوائل سنة 1870 نشر كتابا ثانيا من أمهات كتبه، ذلك كتابه «في الذكاء»، ولقد ذكر هو في مقدمة هذا الكتاب أنه ثمرة بحث وتفكير عشرين سنة كاملة، والواقع أن بين هذا الكتاب وبين رسالة «المشاعر» التي قدمها ليحوز بها جائزة الفلسفة في سنة 1851 صلة كبرى، ذلك بأنه يرد الذكاء في الإنسان إلى إحساسه ومشاعره، وأن كل حس يؤثر بمحسوساته في مراكز الذكاء في الإنسان تأثيرا هو صاحب الأثر الأكبر في تكوين هذا الذكاء، وفي هذا الكتاب أيضا شرح تين نظرياته، بل لعله في هذا الكتاب وحده قد قرر هذه النظريات على صورة كاملة ظهر فيها مذهبه الجبري بكل قوته ووضوحه.
ظهر لتين كثير غير الكتب التي ذكرنا منها كتابه (مذكرات عن إنجلترا) وكتابه الآخر (مذكرات عن باريس)، وإذا هو كان في الكتاب الأول كاتبا ومحللا على طريقته فهو قد امتاز في الكتاب الثاني بالنكتة المقذعة وبرقة في العبارة مع دقة في الملاحظة ومرارة في التهكم بالناس وبالحياة جعلت كثيرين يتمنون لو أنه وجه نصيبا كبيرا من عنايته إلى هذا النوع من الكتابة.
وتزوج تين في سنة 1868 فلم يغير زواجه شيئا من حياة الجد والعمل التي كان يحياها، على أنه منذ سنة 1870، وعلى أثر الحرب الفرنسية الألمانية، حز في نفسه ألم هزيمة بلاده وتوجه بكله يريد أن يقف على أسباب ضعفها، وكان هذا هو الدافع له إلى وضع كتابه الأكبر (أصول فرنسا الحديثة) الذي عمل فيه منذ سنة 1870 إلى أن مات في 1893 والذي اضطر من أجله أن يتخلى عن مهنة التدريس منذ سنة 1884 لينقطع له انقطاعا تاما، ويبدأ هذا الكتاب بجزأين عن العصر القديم، أي العصر السابق لما قبل الثورة الفرنسية، أما تاريخ الثورة فيتناول ستة أجزاء، ويتناول التاريخ الحديث ثلاثة أجزاء يعقبها جزء واحد وضعه تين كفهرس للكتاب كله، ولقد كان في عزمه أن يضع - في الجزء الذي لم يمهله القدر ليتمه - الصورة الصالحة لنظام العائلة ونظام الجمعية في فرنسا كما يريد العلم لهذا النظام أن يكون، لكنه توفي في الخامس من شهر مارس سنة 1893 وما يزال في الخامسة والستين من عمره.
وكتابه «أصول فرنسا الحديثة» هو عمله الخالد على التاريخ، ولقد سار فيه على نفس الطريقة التي سار عليها في سائر كتبه، وإن يكن الدافع الذي دفعه لكتابته، ألا وهو حب وطنه حبا أذكته هزيمة حرب السبعين وزادته ضراما، قد جعله في كثير من الأحيان يناصر حزبا على حزب وطائفة على طائفة من الأحزاب والطوائف المختلفة التي حكمت فرنسا منذ ذلك العصر القديم الذي كتب هو عنه.
وهو على كراهيته للاستبداد في كل مظاهره وعلى تقديسه للحرية في مختلف صورها، لم يكن يؤمن بالديمقراطية ولا بالمساواة المطلقة التي تترتب عليها، بل كان يحسب فيها هي أيضا لونا من استبداد الجماهير الحمقاء بحكم البلاد لا تقل سوءا عن استبداد الملوك الظلمة الغاشمين، فكلا الاستبدادين قائم على الشهوة العمياء التي تبتغي المصالح الذاتية في شره وسخف والتي لا تفهم المعاني العليا التي يتطلع إليها العلم ولا السنن الثابتة والتي تستنبطها الفلسفة القائمة على هذا العلم.
ويذكر كثيرون أنه كان في هذا كما كان في فلسفته متأثرا بالفلسفة الإنجليزية وبالحياة السياسية الإنجليزية، ولعله كان يميل إلى شيء من الإرستقراطية بطبيعة تفكيره، ولذلك كان كتاب عصره جميعا إنما يذكرونه باسم (مسيو تين)، وذلك امتياز لم يعرف إلا له ولاثنين أو ثلاثة من كبار الكتاب معه، وربما كان صدقا ما يقوله مسيو هريو وزير معارف فرنسا في خطابه عن تين من أنه لو كان إنجليزيا وعاش في إنجلترا لكان حتما أن يلقب وأن يكون (السير هيبوليت)، وهذه النزعة هي التي أدت به ليكتب رسالة مطولة عن الانتخاب المباشر يطعن فيها مر الطعن على هذا النظام، ويرى من السخرية أمر السخرية أن يتساوى في الرأي عن طريقة حكم البلاد ماسح الأحذية وعميدو الكليات ومديرو الجامعات، كما يرى حماقة أن يحكم نصف الأمة زائدا واحدا نصفها الآخر ناقصا واحدا، أو أن يحكم سوادها الطائش المخدوع بترهات المغررين والمضللين صفوة أبنائها وخلاصة ذوي الرأي والعلم فيها حكما أقل أثره أن يبعث التقزز إلى نفوس الصفوة ويضعف من حب كثير منهم للعمل ويضيع بذلك جهودا أقلها خير ألف مرة من جهود السواد وقادته. •••
وعاش تين ومات ومنطقه منطقه ورأيه لم يتغير، وكأنما كان مصداقا حيا لهذه الكلمة: «النبوغ فكرة في الصبا تنفذ في الرجولة»، فمنذ كان تين في مدرسة المعلمين إلى أن مات، كانت غايته في الحياة واحدة وطريقته إلى هذه الغاية واحدة، كانت غايته الحقيقة وكانت طريقه إلى الحقيقة العلم، حقيقة لا هوادة فيها وعلم كذلك لا هوادة فيه، ولهذا كان جديرا حقا بالخلود، وإذا كان كثير من نظرياته قد نقض بعد حياته، فهو في ذلك ليس إلا إنسانا عظيما، هو قد خطا بالعالم في عصره الخطوة التي كان يجب أن يخطوها العالم، فكأنما كان رسولا لتمام هذه الخطوة، أما وقد أتم رسالته وآن للعالم أن يخطو خطوة أخرى، فإن ذلك لن يغض من فضله ولن يغمطه شيئا من حقه، بل هو على العكس من ذلك يزيدنا قدرا له وإعجابا به، وكفى أن يسأل إنسان نفسه: ماذا يكون العلم وماذا تكون الفلسفة لو أن تين لم يوجد؟ ولن يستطيع إنسان أن يجيب على هذا إلا بالاعتراف لتين بفضل عظيم، وهذا الفضل هو الذي جعل فرنسا تحتفل بعيده، وجعل الفرنسيين يفكرون في إقامة تمثال له في باريس وتمثال آخر نصفي في مدرسة المعلمين.
وليم شكسبير
ما حاجة شكسبير إلى أحجار فوق أحجار يقيمها الناس مدى قرن كامل لتأوي إليها رفاته المجيدة؟ ما حاجته أن تدفن بقاياه المقدسة تحت هرم يصعد حتى يصل إلى عنان السماء؟ يا ابن الذكرى العزيز ووارث المجد العظيم، ماذا يعنيك من هذا الاعتراف الضئيل بفضل اسمك وقد أقمت لنفسك من إعجابنا وعجبنا تمثالا لا يبلى؟!
ملتن
تمثالا لشكسبير! ولماذا؟! إن التمثال الذي أقامه لنفسه على عماد هو إنجلترا كلها لخير له من كل تمثال، ليس شكسبير بحاجة إلى هرم وله مؤلفاته، وماذا يمكن أن يخلد الرخام منه؟ وماذا يستطيع البرنز أن يقيم حيث يقيم المجد؟ إن الأحجار كلها والفنانين الذين ينحتونها يضيعون جهدهم عبثا، فالعبقرية هي العبقرية من غير حاجة إليهم، ولو اجتمعت الأحجار كلها، أفتراها تكبر هذا الرجل إصبعا؟ وأي قوس أبقى من هذا القوس: قصة الشتاء، العاصفة، زوجات وندسور المرحات، يوليوس قيصر، كريولان، وأي أثر أعظم من لير، وأشد تجهما من تاجر البندقية، وأبهر من روميو وجوليت، وأبهى من ريكاردوس الثالث، وأي بدر يلقي على هذا البناء ضياء أعجب من حلم ليلة الشتاء؟ وأي عاصمة ولو كانت لندرة تثير حوله ضجة هائلة كما تثير روح مكبث الهائلة الضجيج؟ وأي حلية من خشب الزان أو البلوط تبقى بقاء أوتللو؟ وأي نحاس أصلب من نحاس هملت؟ كلا، لن يوازي بناء من الحجر أو الصخر أو الحديد هذا الروح، روح العبقرية العميق، روح الله يتجلى به على لسان الإنسان، ورأس فيه فكرة هو القمة، أما أكداس الأحجار فجهود ضائعة، وأي بناء يساوي فكرة؟ إن بابل لدون إيزاس، وخوفو لأصغر من هوميروس، والكوليزيم لأقل من جوفنال، وقصر إشبيلية قزم إلى جانب سرفانتس، وكنيسة القديس بطرس في روما لا توازي كعب دانت، فكيف تستطيعون - وإن جهدتم - أن تقيموا برجا في رفعة هذا الاسم: شكسبير.
فكتور هوجو
وصدق ملتون، وصدق فكتور هوجو، فأنت لا تعني إذ تذكر شكسبير، أأقيمت له تماثيل أم رفعت له نصب وأهرام، وأنت لا تذكر إلى جانب اسمه ما تذكره إلى جانب اسم نابليون من عماد فندوم أو قبر الأنڨاليد، بل أنت إذ تذكر شكسبير تنسى كل ما في العالم غير ما خلف شكسبير، غير هذه التركة الخالدة من الشعر السامي فوق كل مراتب الشعر، والذي يزداد سموا كلما ازددت فيه إمعانا، حتى لتنسى إلى جانبه كل شعر وكل موسيقى وكل فن؛ لأنك ترى فيه عالما كاملا من الأشياء والناس والآلهة خلقه خيال يندمج فيه كل خيال، وفن يتلاشى أمامه كل فن، ولتنسى إلى جانبه الإعجاب في الحياة بأي شيء سواه، هذا وشكسبير لم يكن ملكا ولم يكن غازيا ولم يكن عظيما في قومه، بل كان ككل نابغة وكل عبقري رسولا تؤذيه رسالته حتى لتحرقه، ومن هذا الأذى ومن هذا الاحتراق تتعطر الحياة بأريج تلك الرسالة وتزداد بهذا الأريج شعورا كلما ازداد عطر الاحتراق والأذى ذيوعا وانتشارا.
نعم، لم يكن شكسبير ملكا ولا غازيا ولا عظيما في قومه، بل كان مؤلف روايات وكان مهرجا، كان عمله في الحياة أن يبعث السرور والنشوة إلى نفس الجمهور ثم لا يناله أكثر الأحيان من هذا الجمهور الذي أضحكه غير السخط والازدراء، ومات شكسبير وانطوى دور المهرج فظل أهل عصره ينكرون عليه مقامه كمؤلف وينعتونه بأنه لم يحدث جديدا، وبأنه غراب اكتسى بريش الطيور الجميلة فلم يصنع أكثر من أن سرق ما كتب غيره، لكن الزمن الدائم الكر والذي يصهر تراث الماضي فيستخلص جوهره من خبثه، لم يجد في شكسبير إلا جوهرا يشع في المستقبل إلى قرون وقرون بعده، فلا تزداد إلا تطلعا إليه وإعجابا به، وهذا الزمن وجد في إلهام شكسبير الشعري علما وحكمة، فنفى عنه حسد أهل عصره وأقام له من المجد ما عبر عن بعضه ملتن شاعر إنجلترا الأول بعد شكسبير، وهوجو مقدم شعراء فرنسا ومترجم شكسبير إلى الفرنسية.
وإذا لم يكن شكسبير عظيما في قومه فليس في تاريخ حياته ما يقف النظر عنده إلا أن يكون خلقه الثائر ونفسه المتمردة على الخلق وعلى الفضيلة.
ولد في ستراتفورد-أن-أيفن في 23 أبريل سنة 1564 أي في عصر الملكة إليصابات أحد عصور إنجلترا الزاهرة، وفي القرن السادس عشر عقب الانقلاب الديني العظيم الذي قام به مارتن لوثر وتأثرت به إنجلترا أكثر مما تأثرت به أية أمة غيرها، وكان أبوه جون شكسبير محترما في قومه لأنه كان يملك ثروة تغنيه عن غيره، جاءه بعضها من كده وبعضها من زوجه، وقد اختلف الرواة في الصناعة التي كان يزاولها جون بين أنه كان تاجرا أو مزارعا أو جزارا، ويذهب كثيرون إلى أنه كان يزاول هذه المهن جميعا كما كان يفعل الكثيرون من أهل القرى والبلاد الصغيرة، ولمكانته من قومه انتخب في مجلس بلدته القروي ونيطت به أعمال قاضي المصالحات، وفي سنة 1577 ساءت حال جون شكسبير المالية حين كان ابنه وليم ما يزال - وهو في الثالثة عشرة من عمره - في بداءة تعليمه، فاضطر للاستعانة به في كدح الحياة، وجعل الفتى - على قول بعض مترجميه - «يذبح العجول لأبيه ويلقي أثناء قيامه بعمله خطبا رائعة الأسلوب على سامعيه»، وكذلك انقطع عن الدرس وشغل بهم الحياة حتى تزوج في الثامنة عشرة من عمره من أنا هثواي ورزق منها في 26 مايو سنة 1582 فتاة أسماها سوزان وتوءمين غلامين في فبراير سنة 1585.
على أن هموم الحياة ومشاغل الأسرة لم تغير شيئا من خلقه المضطرب الثائر، فقد أولع منذ صباه بالشراب حتى كان فيه مفخرة قريته، كما أنه كان لا يتعفف عن سرقة الصيد من أملاك كبار الملاك وبخاصة من أملاك السير توماس لوس كبير قضاة قصبته، وكم خضع من أجل ذلك لهوان الضرب ومذلة العقوبة، وفيما هو يوما يجاري أهل قرية مجاورة في الشراب سكر حتى لم يستطع العود إلى أهله، فلما أصبح ذكر حاله وما آل إليه أبوه الذي أدخل السجن بسبب ديونه ففضل هجرة بلد أصبح لا احترام له بين أهله برغم ما كان يشعر به في نفسه من تفوق على أقرانه أن كان قد بدأ يتغنى بشعر ينظمه، فهجر ستراتفورد إلى لندن وهو لا يدري ما يستطيع أن يفعل فيها.
ودخل العاصمة العظيمة خالي الوفاض يضنيه الضنك والعوز فأسرع إلى حرفة من أحقر الحرف، ذلك أنه كان ينتظر بخيول المتفرجين على أبواب المسارح، فإذا انقضت ساعات التمثيل نفحوا هذا الخادم بما تجود به أنفسهم، ولعل لهذه الحرفة الوضيعة حظا غير قليل فيما يدين به العالم اليوم لشكسبير من رواياته الخالدة، فمن سبيل هذه الحرفة استطاع شكسبير أن يعرف بعض الممثلين وأن يكسب عطفهم وأن يلتحق بعد ذلك بإحدى الفرق في أدوار تافهة، لكنها كانت سلمه إلى أدوار خير منها، ومع أنه لم يكن يوما ممثلا بارعا ولم يصل إلى النبوغ في التمثيل إلا ما كان من نبوغه في دور طيف والد هملت، فإن خشبة المسرح هي التي دفعته إلى كتابة روايات تشهد الأجيال المتعاقبة تمثيلها معجبة مقدسة.
وكما تدهشك أن تكون حرفة شكسبير الحقيرة سبب هذا المجد العالمي، فقد يدهشك كذلك أن تعلم أن ظرفا آخر لا يد له فيه قد عاون الشاعر في عمله، ذلك أن اضطرابات العاصمة الإنجليزية أدت إلى إقفال مسارحها ما بين 1592 و1594، وإذ كان شكسبير قد بدأ يولع بالنظم والتأليف ووجد من معونة بعض ذوي النفوذ ما أغناه عن اتباع الفرق التمثيلية في تجولها، فقد ظل مدى هاتين السنتين مكبا على دراسة اللغات الفرنسية والإيطالية والإسبانية، مكبا على النظم والتأليف، وخلالهما استشف مظاهر نبوغه وعبقريته وميوله التمثيلية، فكتب في أبريل سنة 1593 قصيدة فينس وأدونيس
Venus and Adonis
كما كتب في مايو سنة 1594 رواية لوكريس وأهداها إلى لورد سوذامبتون، ويقال إن اللورد شجعه على الاستمرار في عمله وأعانه بألف جنيه دفعها له، فمكنه من زيارة شمال إيطاليا وإتقان لغتها التي كان قد بدأ يدرسها في لندن، والوقوف على كثير من الأساطير الإيطالية التي استعان بها في رواياته، وفي أثناء زيارة إيطاليا بدأ يكتب مقطوعاته التي نشرت بعد ذيوع اسمه، والتي أهدى أكثرها إلى لورد سوذامبتون كما جعل يؤلف للمسرح روايات أمل في تمثيلها بعد انقضاء الاضطرابات وعود الحياة الهادئة إلى عاصمة بلاده.
وفي صيف سنة 1594 فتحت دار التمثيل أبوابها وعاد شكسبير إلى المسرح وبدأ يقدم رواياته للتمثيل، ولم تكن قوة هذه الروايات لتخفى على أحد خصوصا أنها كانت تمثل حياة ذلك العصر وأخلاقه أدق تمثيل؛ لذلك لم يلبث شكسبير أن حاز من ذيوع الصوت ما خلع عليه اسم الممثل البارع، وإن كانت براعته الحقة في تواليفه، وكان من أثر ذلك أن شارك شكسبير بنصيب في أرباح مسرح (الجلوب) الذي كان يشتغل فيه، فاستطاع بذلك أن يشتري في بلدة ستراتفورد دورا وضياعا وأن يعيش في رغد ونعمة وأن يعيد أباه وأهله إلى حب الحياة، وكما يسرت شهرة شكسبير له سبل العيش فقد فتحت أمامه أبواب العظماء وأنالته عطف الأسرة المالكة، ورفعت بذلك من مقام التمثيل والممثلين الذين كانوا قبل ذلك بمكان من الضعة والحقارة، يشعر الإنسان به حين يقرأ من مقطوعات شكسبير ما كتبه في أثناء مقامه بإيطاليا وما فيه من برم بالحياة وألم لازدراء الناس مهنة لم يكن له كي يكسب العيش مفر من احترافها، وزاد المهنة رفعة أن مثل شكسبير في حضرة الملكة إليزابث وأن نال من عطفها، وإن يك قد تنكر بعد ذلك لها حتى لم تذرف عليها عينه دمعة عند موتها ولم تتحرك شاعريته بعبارة ألم لرثائها.
وبقي شكسبير يؤلف في السنة الواحدة الرواية والروايتين ويمثلها مع زملائه الذين كانوا وإياه على خير وفاق، وقد أثار تاريخ تأليفه كل رواية من رواياته مباحث شتى حتى وضع (أومندمالوني) كتابا سماه «محاولة لتحقيق الترتيب الذي كتبت به روايات شكسبير». (An attempt to ascertain the order in which the plays of Shakespeare were written.)
كذلك أنكر بعض النقاد نسبة بعض الروايات له كما أنكر بعضهم وجوده.
وفي سنة 1610 اعتزل المسرح وترك لندن إلى ستراتفورد حيث عاش عيشا هادئا مكتفيا بما جمعه من مال مستمرا مع ذلك في كتابة رواياته، ويذهب بعض مؤرخيه إلى أنه كان مع ذلك يعود إلى لندن الحين بعد الحين ويشترك في تمثيل بعض الروايات حتى احترق مسرح الجلوب في 29 يونيو سنة 1613 في أثناء تمثيل رواية هنري الثامن، هنالك انسحب شكسبير إلى قريته ولم تبق له عناية بغير رفاهته، فعاش عيش ذوي اليسار وطلق التمثيل والتأليف جميعا، وجعل يقرض الناس بالفائدة مما أدهش كثيرين ممن كتبوا عنه، قال تين: «خاتمة غريبة تبدو لأول نظرة خاتمة تاجر لا خاتمة شاعر، أفنعزوها إلى هذه الغريزة الإنجليزية التي ترى السعادة في حياة رجل الريف صاحب الملك حسن الإيراد كريم الأصل الحاصل على أسباب الرغد المطمئن بين الناس إلى مكانته واحترامه وإلى سلطته العائلية ومكانته من قومه؟ أم أن شكسبير كان كفولتير رجلا موزونا وإن يك خيالي الذهن يحتفظ بقوة حكمه خلال نشاط شاعريته، حذرا لتشككه مقتصدا لحاجته إلى الاستقلال عن الناس، قديرا - بعد أن يحيط بكل ما مر بخاطر الإنسان - أن يرى مع كانديد أن الخير كل الخير في أن يزرع حديقته؟ أما أنا فأميل لافتراض يدل عليه رأسه المليء المتين، ذلك أنه لكثرة ما أنتج خياله المتموج قد نجا كما نجا جيتي من مخاطر الخيال المتموج، وأنه في تصويره الشهوات قد بلغ ما بلغه جيتي من تخفيف حكم الشهوات إياه، وإن الاندفاع لم يحدث في سلوكه انفجارا لأنه كان يجد في الشعر مصرفا لاندفاعه، وإن رواياته حفظت عليه حياته لأنه ألم من خلالها بكل ما في الحياة الإنسانية من هوس وتعس، فاستطاع أن يجلس بينها وعلى ثغره ابتسامة مطمئنة مكتئبة، وأن يسمع ليسري عن نفسه هذه الموسيقى الأثيرية التي أبدعها في رواياته، وأريد أن أفترض أخيرا أنه كان في جسمه مثله في سائر تكوينه، أحد رجال جيله العظيم وعصره العظيم، وأن متانة العضل كانت عنده مثلها عند رابليه وتسيان وميكلنج وروبنز توازي حساسية الأعصاب، وإن الماكينة الإنسانية كانت يومئذ أقوى بناء وأحسن بلاء، فكانت تستطيع أن تقاوم عصف الشهوات واندفاعات الهوى، وإن النفس والجسم كانا ما يزالان متوازنين، فكان النبوغ يومئذ زهرا وثمرة، ولم يكن مثلما هو اليوم مرضا.» •••
قد يكون هذا التصوير الذي فرضه تين لحياة شكسبير صحيحا، لكنه لا يزيد على أنه فرض في رأي تين نفسه، على أنك إذا أردت أن تقف على أسرار شعر شكسبير ورواياته فقد وجبت دراسة ذلك كله دراسة لا يتسع المقام هنا لأكثر من الإلمام بشيء منها إلماما بسيطا.
نشأ شكسبير - كما قدمنا - في العصر الذي عقب الانقلاب الديني الذي قام به مارتن لوثر، وتأثرت به إنجلترا أكثر مما تأثرت به أية أمة غيرها، وكان الذين أخذوا بالمذهب الجديد ما يزالون متأثرين قبل كل شيء بأساسه وهو حرية التفكير، وكان انهيار قيود الكثلكة هو البادي أمام الأنظار، ولم تكن بعد قد تركزت في النفوس قواعد المذهب الجديد تركزا ثبت الإيمان بها تثبيتا يحول دون تحطمها، كما لم تكن خلقت حول المذهب الجديد هذه الأوهام المحسنة التي تهون على الناس عبء الحياة فيخضعون لها طائعين؛ لذلك كله كانت جماعة ذلك العصر في إنجلترا تسيغ الإلحاد ولا تنزعج لإعلانه ولا تضطرب أمام ما يرتبه أصحابه عليه من تقشف أحيانا واستهتار وإباحة أخرى وشك ثالثة، واعتدال في الحياة وفي المتاع بها اعتدالا يبقي عليها ويطيل.
ولعل هذه الظاهرة كانت ذات أثر فيما رأينا من سلوك شكسبير ومن استباحته سرقة الصيد، وهي لا ريب كانت قوية الأثر في رواياته، فأنت ترى فيها من التجديف ومن الغواية، مصبوبين في أجمل قالب وأبهاه، ما لا يحتمله عصر غير عصره الذي كان مجاورا للعصور الوسطى، والذي لم يتخلص من خرافاتها، وإن أباح لنفسه هدم هذه الخرافات.
وكما أثر العصر في شكسبير من ناحية حرية تفكيره فقد أثرت فيه هذه الخرافات من إيمان بالسحرة وبالجن حتى لنرى كثيرا منها في رواياته، ثم إن هذا العصر الطليق المجاور للعصور الوسطى كان عصر اضطرابات ومجازر، وكان القتل أمرا شائعا فيه حتى لترى الرجل تقطع عنقه لغير سبب إلا أنه أنكر على الملك سلطانه الديني أو أنه أغضب رجلا ذا سلطان بإشارة أو بكلمة، أضف إلى ذلك ذيوع عادة المبارزة وانتهاءها في أحيان كثيرة إلى قتل أحد المبارزين، وهذا الاستهتار بالحياة الإنسانية هو سر ما نرى في أكثر روايات شكسبير من مجازر فظيعة تنتهي أغلب الأمر إلى موت أشخاص الرواية جميعا.
ثم إن التمثيل على النحو الذي نعرفه اليوم كان في ذلك العصر ما يزال في دور نشأته حتى لم يكن معروفا في كثير من البلاد ومن بينها فرنسا، فلم تكن قد تقررت له قواعد كالتي تقررت بعد ذلك من وحدة الزمن والمكان والحادث، ولذلك أنت ترى في شكسبير مناظر مختلفة في الفصل الواحد قد لا يكون بينها أية صلة، وقد يفصل بين المنظر والمنظر مئات الأميال، ثم إنك ترى كذلك في هذه الروايات خلطا عجيبا من أحط ما تنزل إليه الجماعة في حياتها العادية التافهة، ورفعة لا تدانيها رفعة في سمو الحيال وتصوير فعل الشهوات في النفوس.
وهذه الظواهر التي تجدها سائدة في دول أوربا كلها في ذلك العصر، بانت أكثر وضوحا في إنجلترا، ومرجع ذلك أن الخلق الإنجليزي بطبيعته خلق ثائر طموح للحرية يفتديها بالدماء، وكان كذلك في تلك العصور الماضية أكثر مما هو اليوم، ولذلك كانت إنجلترا أسرع من غيرها إلى الأخذ بالمذهب الديني الجديد، ولذلك كانت مظاهر القسوة وما تلده من قتل وتعذيب أكثر تفشيا بين هؤلاء السكسونيين، وكان من شأن السحرة عندهم ما لا تعجب بعده لطيف هملت ولا لساحرات مكبث، ثم كان من استهتار الناس بالحياة ما ترى آثاره في شعر شكسبير مما يجعل المتقشفة والمتصوفة أشد على الحياة حرصا من أهل هذا الزمن، فليس عجيبا إذا هذا الذي نرى في شعر شكسبير من مجازر وخرافات وإن خيل لبعضهم بادئ الأمر أن فيه شيئا من العجب يدعو إلى عدم تصديقه.
وإذ كان علم شكسبير راجعا إلى ملاحظة الطبيعة أكثر من رجوعه إلى دراسة الكتب وكانت معلوماته التي استند إليها في تأليف رواياته لا تزيد على معارف سطحية في التاريخ والفلسفة والاجتماع، فإن كثيرا من رواياته لا تعتمد على أكثر من أساطير سمعها أو قرأها في الكتب التي يتناولها الناس جميعا، وفي مقدمتها تاريخ العظماء لبلوتارك، فرواية هملت تعتمد على أسطورة دانمركية ينكرها أكثر المؤرخين ، ورواية روميو وجولييت أحدوثة إيطالية يغلب أن يكون شكسبير قد سمعها في أثناء سياحاته في شمال إيطاليا أو قرأها ولم يستتمها في بعض الكتب، ذلك أن هذه الأحدوثة تنتهي بأن روميو لما بلغه موت جولييت حضر إلى قبرها وبلغ من ألمه أن طعن نفسه بالخنجر، ولما كانت جولييت لم تتناول السم بل تناولت مخدرا فقد استيقظت وروميو ما يزال في النزع، فبث كل منهما لصاحبه لاعج غرامه، وطعنت الفتاة نفسها بالخنجر الذي زج به محبها أعماق قلبه، ولم يشر شكسبير إلى هذه الواقعة الجديرة بأن تجري على أوتار ربة شعره بأرق أنغام الحب والألم، فدل بذلك على أنه لم يعرفها.
هذا التحليل للمحيطات التي وجد فيها شكسبير قد يفسر طريقة وضعه رواياته، وقد يهدي إلى أسرار ما ترى فيها اليوم مما نعتبره عند عدم وقوفنا على هذه المحيطات خرافة غير لائقة بعبقرية فذة كعبقرية شكسبير، لكنه مع ذلك لا يدلنا على شيء من سر عظمته ولا يهدينا إلى كثير من سر شعره، والحق أن البيئة والزمن وحدهما لا يفسران نبوغ النابغة ولا عبقرية الشاعر وإن بينا مراميه وكشفا عن أغراضه، فأما العبقرية فلازمة ذاتية وهبة قدسية تنفح بها الطبيعة شخصا من الناس على حساب مواهب أخرى، وعبقرية شكسبير كانت في ملاحظته وفي خياله وفي شاعريته، وكانت في ثاقب نظره إلى حد يستطيع معه أن يرى دخيلة النفس الإنسانية وأن يصفها وصفا حسبه الناس بادئ الأمر غواية شاعر، ثم أثبت العلم أنه الحقيقة العلمية التي لا تقبل نزاعا ولا جدلا.
وكانت مظاهر الطبيعة في أرق صورها وأجملها أول ما فاجأ خيال شكسبير، فأنت لا تقرأ له رواية ولا مقطوعة إلا وجدت من وصف هذه المظاهر وصفا وديعا يدلك على مبلغ تأثيرها في أعصاب هذا الشاعر الدقيق الحس تأثيرا يجعله يندفع إلى الإعجاب بالجمال وتقديسه إلى أقصى حدود الإعجاب والتقديس، فيظهر أثر ذلك في شعره، ويظهر في رعشة موسيقية قوية رقيقة في قوتها، متجاوبة ثائرة في تجاوبها، تهز نفسك هزا وتسحرك عما حولك وتصل بك حتى ترى أمام خيالك ما رسمه خيال شكسبير ماثلا واضحا، وقد بلغ من تأثير هذه الصور في نفس الشاعر العظيم أن حلت منه محل التفكير حتى في شأن الحياة الإنسانية، فالرجل الغاضب كالطبيعة الثائرة، وما يترتب على ثورة الطبيعة من آثار هو بعينه عند شكسبير ما يترتب على غضب الإنسان من آثار، والطبيعة في سيرتها العادية تافهة حتى إذا ملكتها الثورة أبرقت وأرعدت وعصفت وأهلكت الحرث والنسل، كذلك الإنسان في سيرته العادية تافه حتى إذا ملكته الشهوة أسرف في الحب أو في البغض أو في الإيثار أو في التشفي والانتقام، والطبيعة خاضعة لظروف لا سلطان لها عليها، والإنسان خاضع مثلها لظروف لا سلطان له عليها، وكما تسير الغرائز الطبيعية تسير غرائز الإنسان، فكل صورة للطبيعة لها مثلها في الإنسان، ولذلك كان أسلوب شكسبير وكان خياله خيالا تصويريا في وصفه وفي إحساسه وفي شهواته وفي تفكيره، اقرأ مكبث حين يصف آثار جريمته وكيف لا تستطيع البحار أن تمحو ما خلفت من دم على يديه، واقرأ هملت في ثورته على أمه وفي سائر هذياناته الحكيمة، بل اقرأ قيصر واقرأ في قيصر خطاب أنطوني، اقرأ ما شئت من شكسبير تر هذا التقديس لصور الطبيعة وهذا التفكير المصوغ في قالب تلك الصور.
وكما يندفع شكسبير إلى تقديس مظاهر الطبيعة ويتخذ من صورها صور تفكيره، فهو لا يرى في غرائز الحياة غير الاندفاع لا يقوم على أساس من روية ولا تفكير، وإنما يقوم على الغرائز الإنسانية البسيطة هي التي توجهه وتصرفه؛ فالحب عنده لا يحتاج إلى تحضير ولا سعي من جانب الرجل لكسب المرأة، بل هو اندفاع من جانب شابين كل منهما نحو صاحبه، اندفاع رقيق كل الرقة قوي كل القوة، اندفاع شعري عذب يتغنى فيه كل من المحبين بأهازيج الهوى على نغمة موسيقية حلوة كأنما كوبيدون إذ رمى عن قوسه فأوصد القلب رمى مع القوس الوتر، فأخرج هذا الوتر من أعصاب كل من المحبين أنات وآمالا وأحلاما لذيذة ويأسا فاجعا لا يعرف الشعر في كل الأمم شيئا منه مثل ما عرف على لسان شكسبير، استمع إلى أنغام أوفليا في حبها هملت وتوجعاتها حين اليأس الذي أدى بها إلى الموت، واسمع هذا التجاوب الحلو بين روميو وجولييت يجعل من الحب جنة نعيم ليس بعدها جنة نعيم، ثم اقرأ ثوران الغيرة وضجيجها والتهابها في نفس أوتللو مما لا مثيل له في أقوى ما تصل إليه موسيقى فاجنر، وخيال شكسبير يصل من ذلك في بعض الأحايين إلى حدود يعجز أقوى خيال عن تصورها.
وكما تحرك الغرائز المحبين تحرك الناس جميعا في كل تجارة الحياة، فليس الملك على خلاف الناس جميعا لأنه ملك، بل هو يحب أهله وأبناءه ويدللهم ما دام بعيدا عن مباشرة شئون الدولة، وهو في هذه الشئون يتأثر بغرائز الإنسان وشهواته كما يتأثر أي إنسان سواه، والرجل السيئ الذي خلقه شكسبير في شخص ياجو وفي شخص شيلوك تاجر البندقية ينقاد للغرائز الإنسانية انقياد الوحش أوتللو، والناقم هملت، وإن كانت صورة هذه الغرائز تختلف من شخص إلى شخص حسب مزاجه، وهذا الاختلاف هو الذي جعل من أبطال شكسبير أشخاصا ذوي حياة إنسانية صحيحة تشعر وإياها إذ ترى تمثيل الروايات على المسرح، في حين أنك إذ ترى روايات راسين وكورني مثلا - وهما من أكابر كتاب فرنسا في القرن السابع عشر - تحس المؤلف هو الذي يتكلم وترى أفكارا تروح وتجيء على المسرح، وكل وظيفة الممثل أن يقوم بإلقاء الألفاظ التي تؤديها من غير أن تظهر له شخصية حية تنسيك أنه ممثل وتنسيك أنه يقوم بدور تمثيلي.
ولقد أقر النقاد جميعا لشكسبير بهذه الميزة وإن رأى بعضهم أنه يسرف في تصوير أشخاصه إسرافا يجاوز المعقول، ناسيا أن هؤلاء الأشخاص هم من عصر شكسبير، وأنهم من أبناء خياله الشعري المتوقد، وكما اتهم بالإسراف ظلما في هذا فقد اتهم بتهمة أخرى أثبت العلم خطأ اتهامه بها، فقد ذهب بعضهم في وقت من الأوقات إلى القول بأن شكسبير يخالف الطبيعة والمعقول فيما يقرره لبعض أشخاص من تصرفات، من ذلك مثلا أنك ترى مكبث يرتكب جريمة القتل فتتلوث يداه بالدماء، ثم هو مع ذلك يظهر في أماكن لا يأمن أن يراه الناس فيها ويصيح بأن مياه البحار لا تغسل جريمته، وعلى الرغم من إلحاح لادي مكبث فإنه يظل يتحدث عن جريمته ولا يداري شيئا من آثارها، فهذا في رأي النقاد الذين أشرنا إليهم تصرف غير معقول، أليس أول ما يصنع المجرم أن يعمل ليداري جريمته؟ لكن العلم الجنائي أثبت أن شكسبير على حق وأن الطبيعة الإنسانية تدفع بالمجرم إلى مكان جريمته وتكرهه أكثر الأحايين على الاعتراف بها.
وليس مثل مكبث إلا واحدا من أمثال كثيرة في ثقوب نظر شكسبير واستشفافه حقيقة الغريزة الإنسانية. •••
هذا بعض ما تأثر به شكسبير في شعره، وهو قليل من كثير يستحق العناية به وبحثه، والآن أخشى أن أكون أطلت في حديث لم أكن أقصد إلى الإطالة فيه، وإن يكن القول في شكسبير قصيرا وإن طال، فلنجتزئ بما تقدم، وبأن شكسبير بعد أن أقام في ستراتفورد مكتفيا من العيش بطمأنينته ونعمته، ظل حتى سنة 1616 ثم مرض فكتب وصيته بما يملك إلى ابنته سوزان غير تارك لزوجه إلا قليلا، وفي هذه السنة مات ودفن من غير كبير احتفال، إلى أن اضطر العالم بعد أجيال ليقيم له من المجد ما يبقى على الأجيال حتى آخر الزمان.
برسي بيش شلي
(1) نشأته الأولى
ظهر السادس عشر من شهر أغسطس سنة 1822، في صحو جو جميل، كان لورد بيرون والشاعر لي هنت والبحار ترلوني وقوفا فوق رمال الشاطئ الإيطالي على مقربة من ليفورنو يحيط بهم عدد من أهل تلك المنطقة، ويقف إلى جانبهم جماعة من الضباط والعساكر الإيطاليين، وكلهم محدق ببصره إلى نار تضطرم قد بوركت بالنبيذ صب عليها وبالملح ألقي فيها ويفوح منها ريح اللحم الإنساني، وكلهم واجم مخلوع القلب ذاهب في تيهاء الهلع والذهول، وظل هذا المنظر المروع أمامهم ثلاث ساعات تباعا يهز نفوسهم هزا فلا يزدادون إزاءه إلا وجوما وذهولا، وتندى عين بعضهم بالدمع ثم تذرفه لا تستطيع حبسه ، ويبلغ الهلع والروع في أثناء ذلك من لورد بيرون مبلغهما فيلقي بملابسه على الرمل وبنفسه في الموج يسبح خلاله حتى يصل إلى زورقه «البوليفار»، ويحدق ترلوني بالعظام تحترق وباللحم تذيبه النار، ثم يرى القلب مع ذلك كبيرا كبيرا، فما يزال منه قلب كامل لم يذب ولم يحترق، فيجذب هذه البقية المقدسة بيده، وتبدأ النار بعد ذلك تخبو رويدا رويدا تاركة وراءها حفنة من تراب هي كل ما بقي من رفات قيثارة الشعر الإنجليزي شلي، ويحمل ترلوني الحفنة إلى الأرملة البائسة ماري شلي لتتولى ويتولى هو ولي هنت معها حملها إلى مقابر البروتستانت في روما كي تستقر هناك في أرض غريبة عن ثرى الوطن، ولكن لتسعد مع ذلك باستقرارها إلى جانب رفات عزيزة محبوبة هي رفات وليم شلي ابن الشاعر البكر من زوجه ماري، ويقع هذا المنظر المروع وتنقل تلك الرفات القدسية إلى روما، ولم يكن شلي قد بلغ إلى يوم وفاته في الثامن من أغسطس تمام الثلاثين من عمره، وإن كان قد خلف من شعره على الحياة ما لا يزال فخر الشعر الإنجليزي عذوبة وموسيقى يأخذان بالنفس ويملكان على المرء حسه ولبه، ويبعثان إلى كل ما ينشدانه ويترنمان به الحياة والخلد، سواء أكان ما ينشدانه ويترنمان به إنسانا أم طيرا أم حيوانا أم جمادا أم مجرد خيال لا وجود في الحياة له، ذلك بأن الحياة كانت تسري في كل ما لامس نفس شلي لتبقى قائمة به قرونا ودهورا بعد موت باعثها، وكذلك كانت فجيعة الشعر في هذا الشاب الذي خلف الحياة مذ كان على أعتاب الحياة مما يزيد ذكراه قوة وجلالا، وإن كانت هذه الذكرى في غير حاجة إلى مزيد من قوة أو جلال، فلقد كتب لكل بيت من شعر برسي بيش شلي منذ ترنم هو به الخلود وكتب له الجلال.
ولم يكن لورد بيرون لينسى ساعة فراره أمام المنظر المروع ما كان عليه زميله وصديقه من خلق عظيم ونفس بلغت من السمو أرقى سماواته، فهذا الشاعر الشاب، الذي ولد في الرابع من أغسطس سنة 1792 وتوفي في الثامن من أغسطس سنة 1822، قد حلق به جمال الخلق في سماء الشعر إلى ما لم يرتفع إليه معاصر له، وإلى ما لم يسبقه إليه أحد في رأي كثيرين، وما لم يسبقه إليه غير شكسبير في رأي آخرين، وكان ارتفاعه هذا ليس قائما على خياله الملتهب وشاعريته الفياضة وكفى، بل كان قائما، فوق ذلك وقبل ذلك، على قوة في النفس قل أن يكون لها نظير، قوة بدأت مظاهرها منذ الطفولة وتجلت في أثناء الصبا وازدادت وضوحا في صدر الشباب الذي كان - وهو صدر شباب الشاعر - خاتمة حياته، وكانت أجلى مظاهر هذه القوة واضحة في إيمان الرجل برأيه وصراحته فيه وإعلانه إياه وسلوكه سبيل الحياة على موجبه، وإن أدى لذلك ثمنا فاحشا أن عده الناس مجنونا، وأن نفرت منه الجمعية الإنجليزية أشد النفور حتى اضطرته ليهجرها منذ أول شبابه، وليعيش السنوات الخمس الأخيرة من حياته تحت سماء إيطاليا الدائمة الصفو والابتسام، والتي تظل من صور الجمال وبدائع الفن ما يزيد في إلهام الشاعر، هذه الشجاعة وهذا الإيمان اللذان اعتبرا جنونا هما أساس شاعرية شلي وهما مصدر إلهامه، لكنهما لم يكونا كذلك عند لورد بيرون الأبيقوري المستسلم لسلطان الزهرة الناهل من ورد بناتها جميعا، الحائز لذلك غاية الإعجاب من أهل عصره وأكبر تقديرهم إياه؛ لذلك كان طبيعيا أن يرى فضائل زميله وأن يقدرها، وكان طبيعيا أن يفر من منظر النار تحرق مثوى هذه الفضائل وتذره رمادا.
وكثيرون ممن عرفوا شلي كانت تأخذهم الدهشة لفضائله، ومن كانت تزيد دهشتهم لشجاعته وصراحته، ذلك أن صورته وتكوينه لم يكونا ينمان عن هذه الفضائل فيه، وإن كانا ينبئان بشاعريته وقوة خياله، فقد كانت في نظرته وفي تقاطيع وجهه وفي جمال شعر رأسه أنوثة عذبة تحدث عن رقة ولين لا عن صلابة وشدة، وكان يضوع منه شذا المحبة والعطف بما لا يلتئم مع القوة على النضال والقسوة فيه، وكان جسمه الطويل النحيل كأنه قصبة هذه القيثارة التي شدت بأجمل الأنغام وتغنت بأحلى الأهازيج، كذلك لم يكن مولده ولا كانت مكانة أهله في الجمعية مما يزيل دهشة من بلغت الدهشة منهم بشجاعة شلي وصراحته في إعلان إيمانه حتى حكموا عليه بالجنون، فقد ولد في أسرة نبيلة جمعت إلى النبل المال، وكانت بطبيعة هذين العاملين محافظة، لتظل من طريق محافظتها ناعمة بمالها ونبلها، كان جده السير بيش شلي بارونا وكان غنيا، وكان لا يفتأ يدأب لزيادة ثروته، وكان أبوه تيموذي شلي قاضيا وعضوا في البرلمان، وكان قصرهم بفيلد بليس على مقربة من هورشام أحد أعمال سسكس محاطا بحدائق وأحراش تدعو إلى المتاع بها والطمأنينة لها، وكان جده السير بيش قد جعله بالوصية وارثه مما يدر عليه إيرادا سنويا ستة آلاف جنيه في ذلك الزمان، سبحان من يدري كم ألف تعادلها في زماننا اليوم! وتلك كلها أسباب دعة وبلهنية وليست أسباب نضال صلب وصراع للجمعية وللحياة فيها لا يعرف الهدوء إليه سبيلا، لو أن صاحبها أوتي من هبة الشعر ما أوتيه شلي لكان طبيعيا أن يسلك الطريق التي سلكها بيرون من الإنجليز وعمر بن أبي ربيعة من العرب، لكن شلي ضرب بالمال والجاه والدعة عرض الأفق وترك بيت أبيه وترك أهله جميعا ولم يقتض من وصية جده إلا بمقدار ما يكفيه حاجة العيش، وانطلق في الحياة هائما يجلي بهاء الفضيلة ويؤدي رسالة الجمال، ولم يكن له من أدائها بد، في أنغام قدسية من موسيقى السماء، ويؤديها ذاهلا عما أحاط بحياته من أحزان ومتاعب متجها بكله إلى هذا الوجود المحيط به، مفنيا نفسه فيه كي يفنى الوجود كله في نفسه فترده إلى العالم وحيا سماويا يختلط بالنفوس جميعا، ويتنقل على الأجيال إلى ما شاء الخلد أن تكون للإنسانية أجيال تتعاقب.
وكان لجماله ولرقته أثر بالغ في حياته وفي تفكيره وفي شعره، جعله هذا الجمال المزدان بخواتم شعره وعيونه العميقة الزرقة ولونه الناصع النظيف ويديه ورجليه الجميلة التكوين، وما اتصل بذلك من حسن تحسده عليه كل فتاة في مثل سن الطفولة التي كان فيها يوم ذهب به أبواه إلى مدرسة (سيون هوس) في برنتفورد، بالغا في رقته وظرفه وحلو طبعه، ونبأت هذه الصفات إلى جانب جماله عن نفس حية حساسة تأنف القسوة وتتنزه عنها، وترى في عدم النظام وسوء الاتساق ما يؤذيها ويثيرها.
على أن هذه الصفات جعلت منه في المدرسة سخرية زملائه وموضع عبثهم ولهوهم، مما بعث إلى نفسه غضاضة ومضضا، فلما انتقل به أهله إلى مدرسة «أيتون» حيث يتعلم أبناء النبلاء وذوي المكانة لم يزدد لنظامها إلا بغضا ولمعاملة زملائه التلاميذ فيها إلا مقتا، فقد كان وما يزال من نظام التربية في هذه المدرسة أن يخدم الصغار فيها من هم أكبر منهم سنا وأقدم في المدرسة عهدا، وكان الصغير الخادم عرضة لكل أنواع الأذى والإهانة من كبيره، كان يمسح له أحذيته ويأتمر بأمره في كل حاجة يحلو له أن يأمره بها، ثم كان هذا النظام يقتضي مع ذلك ألا يصبر أحد على إهانة زميل له إياه وأن يدفع القوة بالقوة والعدوان بالعدوان، ولذلك كانوا جميعا يتقنون لعبة (البوكس) ليدفعوا عن أنفسهم وليردوا اعتداء المعتدي عليهم.
لكن هذا كله لم يرق الصبي شلي فلم يذعن له، لم يرض أن يكون خادما ولم يرض أن يجعل حق القوة أساس خلقه، ليكن هو نظام المدرسة الذي تابعته وتتابعه منذ أجيال، فهو لا يؤمن بصلاحه ولا باتفاقه مع الخلق الفاضل والكرامة الإنسانية، فلا يمكن أن يرضى عنه وأن يخضع له، لا يمكن أن يكون خادما ولا أن يخالط أولئك الذين يقضون سحابة نهارهم في ملاكمة ومصارعة تقوى بها عضلاتهم وأبدانهم على حساب عقولهم وأرواحهم؛ لذلك اعتزلهم ولجأ إلى وحدة لم تزدهم له إلا احتقارا، ولم تنجه من سخريتهم وأذاهم ولطمهم ولكمهم.
لكن رقته لم تؤد به إلى ضعف إبائه وأنفته ولم تجعل منه ذلك الطفل المستذل الذي يخضع لسلطان الأقوى ويأتمر بأمره، بل كان يقارضهم سخرية بسخرية واحتقارا باحتقار، وكان يدفع عدوان أيديهم عليه بعدوان مثله، وإن يك عدوانا متفقا مع هذه الأنوثة في تكوينه، عدوان عض بالأسنان وهبش بالأظافر بدل اللكم بقبضة اليد مما كان يتورم له وجهه أحيانا، وهو لذلك لم يكن يباديهم العدوان ولا يتحكك بهم، بل كان يتركهم في ألعابهم ورياضتهم العنيفة ليأخذ هو كتبا محببة إليه مما وضع كتاب الثورة في فرنسا وأنصارهم في إنجلترا ومما وضع جماعة اليونان الأقدمين، ثم ينطلق بها بين الأحراش والغياض حتى يصل إلى حافة النهر حيث يجلس فينسى نفسه في المتاع بما في كتبه وبمشهد هذه الطبيعة الساحرة حوله وبتأمله إياها والتفكير فيها، ولعل أشد ما تأثر به من قراءاته كتاب وليم جدوين (العدل السياسي).
وكان وليم جدوين من أشد كتاب ذلك العصر تأثرا بمبادئ الثورة الفرنسية ودعوتها إلى الحرية المطلقة في التفكير، وما ترتب على هذه الدعوة من خروج على طائفة رجال الدين وتعاليمهم ومن المبالغة في ذلك إلى إنكار الدين نفسه، على أن جدوين يختلف مع كتاب الثورة الفرنسية ورجالها أشد الاختلاف فيما يتعلق بوسائل تحقيق الإصلاح الذي يريد إدخاله على النظم وعلى قواعد الجمعية، فكان يرى العقل والمنطق وحدهما وسيلة الإصلاح، وكان ينفر أشد النفور ويطعن مر الطعن على الالتجاء للعنف ولوسائل القوة وضروب القسوة، ودفعه تفكيره الحر هذا إلى إنكار أكثر القواعد التي تقوم عليها جمعية عصره، دفعه إلى إنكار الملك الخاص إلا بمقدار حاجة الشخص له والطعن لذلك على الثروات الواسعة، ودفعه إلى إنكار الزواج على أنه نظام، لأنه مناط فكرة الملك الخاص، وانتهى من تفكيره إلى وجوب إقامة الجمعية على أساس من العقل وحده، وإلى القول بأن هذه الأسس لو وضعت على صورة صحيحة زال ما يشكو منه الناس من بؤس وشقاء وجريمة، وأضحت العقوبة وصمة في جبين الإنسانية، ولذلك كان لا يكفيه أن يطلب إلغاء عقوبة الإعدام، بل كان يطلب إلغاء العقوبات جميعا.
في هذه المبادئ التي وضعها جدوين كثير سبقه إليه روسو وتأثر به أهل فرنسا ورجال الثورة فيها، على أن المبالغة هي التي أدت بهم لينكروا حتى الدين الطبيعي الذي دعا روسو إليه وليجعلوا الإلحاد وسيلتهم إلى حرية الفكر، ولعلك إن التمست تفسيرا لهذا وجدته في تشبث رجال الدين يومئذ بسلطانهم تشبثا كان يزداد كلما شعروا بسلطتهم معرضة للنقص ثم الاضمحلال، على أن واحدا من هؤلاء الذين دفعهم تعصب رجال الدين للمجاهرة بالإلحاد لم يلبث أن عاد إلى نوع من الإيمان فيه جمال وله جلال، ودعا إليه عن يقين واقتناع لم يكن لرجال الدين حظ منهما، ولقد تأثر شلي في الأيام الأولى من شبابه إلى أبعد مدى بكتاب جدوين ورأى في نظم الجمعية السياسية والاجتماعية والدينية ما لا يتفق مع حكم العقل، واقتنع بأن مرجع هذا كله إلى تشبث رجال الدين بأن يخلعوا على كل دقيقة وجليلة من نظام الجمعية ثوبا من القداسة يحول دون التفكير في معالجته أو إدخال أي إصلاح عليه، أليس نظام الزواج قد طبع بميسم الدين؟ أليست عروش الملوك قد أحيطت بسياج من القداسة الدينية؟ أليس التملك والتوارث وكل ما هو من شئون هذا العالم الدائم التغير والتطور قد سبك في قوالب الدين التي يقولون إنها لا تقبل التغير ولا التطور؟ لذلك مال شلي إلى ناحية الإنكار على أنه الوسيلة لكل إصلاح ما دام الإنكار هو الوسيلة الوحيدة للحرية في التفكير والشعور والإلهام والإيمان.
إلى جانب هاته المطالعات التي كانت تثير سخرية أبناء أيتون من شلي كانت طبيعته الحساسة الفياضة بالشعر وبما يلهم الشعر من تعلق بما وراء الطبيعة تدفعه إلى دراسات أخرى جعلت زملاءه في المدرسة يطلقون عليه لقب (المجنون شلي)، فقد كان يعنى بالسحر والسيمياء ويعتقد في الجن والأطياف ويرى في الهواء والماء شياطين وآلهة كانت تحيا في خياله وتصبح ذات كيان ووجود؛ لكثرة مطالعاته في أساطير اليونان وتاريخهم، واتجه عقله متأثرا بهذه الناحية من نواحي طبيعته يلتمس أسرار العلم ويريد أن يكشف عن مخبوء قوى الكهرباء والضوء، ولذلك كان شديد الولع بأن يكون لديه معمل كيميائي صغير يرضي طلعته العلمية والسحرية، على أنه كان كلما ازدادت في هذا الباب بحوثه ثبت لدى زملائه جنونه، فلم يستمع له أحد قولا ولم يرض أحد عن نظرياته الجريئة في الحياة وفي الحب وفي الإصلاح الذي أولع هو به بعد الذي أفاد من مطالعاته، بل كانت كل محاولة من جانبه لإقناعهم برأيه مثار احتكاك بينهم وبينه وسببا للكمه ولطمه.
وزاده تحديهم إيمانا بضرورة إصلاح الجماعة وتغيير أسس نظامها ومقومات حياتها، لكنهم لم يكونوا يسمعون لما يريد أن يقوله لهم في هذا برغم أنه لم يفكر في كراهيتهم بسبب ما يصل إليه من أذاهم، وإن كان دائم التفكير في إصلاحهم برا بالإنسانية وعطفا عليها، فلما لم يجد منهم سميعا جعل من أخواته البنات ومن ابنة عمه هاريت جروف تلميذاته في إجازاته المدرسية يلقي عليهن تعاليمه ويطالعهن برسالته، ولقد كن بطبيعة الحال ألين من زملاء المدرسة عريكة وأسلس قيادا، وكانت إليزابث كبرى أخواته أشدهن إيمانا به وتقديسا له وإعجابا بكل ما يقوله.
هو يرى الشر في الملوك والأغنياء والقسس، ويرى الخير عند البؤساء والفلاسفة، إذا فالخير عند هؤلاء والشر في أولئك، وهو يرى الزواج نظاما تعسا، وإنما يجب أن تقوم صلات الرجل والمرأة على أساس من الحب المقدس، فالزواج إذا نظام تعس، وكم كانت شاعريته الوليدة تخلع على صور الحب التي يقصها أمام الفتاتين من باهر الألوان ما يسحرهما عن كل ما سوى الحب مما يقوله ويجعلهما تؤمنان به من غير بحث فيه، أليستا يافعتين تتقدمان إلى الصبا ويبدأ في دمهما مسرى رغباته؟ والحب عنوان هذه الرغبات وطليعتها، وشلي شاب جميل حلو الحديث عذب النفس، له من نوازع الصبا ما لهما ويطير على أجنحة الحب مطارهما.
ولئن كانت ابنة عمه هاريت ترى في حديثه عن الزواج واعتراضه عليه تجديفا لا تميل إليه نفس الأنثى الحريصة على أن تجد من الجمعية كل حماية وعناية، فلعل الحب الوليد الذي ينشأ بينها وبين شلي يكفل من بعد اعتداله ويدفعه ليعدل عن أوهام الإصلاح في نظام الأسرة المقدس على الزمان، وإن هو لم يعدل من بعد فهي ما تزال بعيدة عن التفكير في الزواج وفي الارتباط به أو بغيره، يكفيها اليوم أن تخرج معه ومع أخته وأن تسمع لعذب حديثه وحلو ترنمه، وأن ترى في نظراته وابتساماته لها ما يسليها عن نظريات يجمل بها أن تعتنقها لتزيده بها تعلقا ولها ابتساما، وكانت إليزابث تشعر في بعض الأحايين أن قد طال بها المقام وأن قد سمعت من نظريات أخيها واستمتعت من عطفه بما يكفيها بقية يومها فتذره وابنة عمها وحيدين يتبادلان نجوى الهوى وحلو حديث الغرام، ثم يعودان متخاصرين يسري إلى جسم كل منهما دفء جسم صاحبه.
وكانت أيام إجازته المدرسية تنقضي في هذه السعادة الكاملة، فهو يدعو إلى مذهبه فتاتين بديعتي التكوين، والفتاتان تؤمنان به وتبادلانه حبا خالصا؛ حب أخت ترى في أخيها نبوغا تفخر به ويزيدها حبا له، وحب فتاة تصبو إلى ما يدفع الحب إليه كل فتاة وفتى من تخليد الحياة في أجيال وأجيال، على أن يكون تخليدا ترضاه الجماعة وترعاه، فإذا انقضت الإجازة عاد إلى أيتون مترفعا عن الساخرين منه مكبا على قراءاته وبحوثه العلمية والسيمية منتظرا يوما يعود فيه إلى تلميذتيه يحدثهما من جديد عن مذهب جدوين، ويتحدث إليهما عما نكب به رجال الدين الجماعة من أسس فاسدة.
وأتم دراساته بأيتون وذهب به أبوه في أكتوبر سنة 1810 فألحقه بأكسفورد، وفيها تعرف إلى شاب من أمثاله اسمه جفرسون هوج دهش بعد قليل من تعارفهما لكثرة مطالعات صاحبه ولعنايته عناية خاصة بالعلوم والميكانيكا، وقد زادته هذه العناية دهشة حين رأى في غرفة شلي من الأنابيب والزجاجات ومولدات الكهرباء ما جعلها معملا عجيبا. لكن هذه العناية لم تكن لتصرفه عن مراجعة هيوم ولوك وفولتير وهولباخ وعن مداومة الدراسة في كتاب جدوين. وكان من دواعي عجب هوج أن يكون لهؤلاء المتشككة كل ما كان لهم من سلطان على ذهن صاحبه المتجه بطبعه إلى ناحية التأملات الروحية، لكن عجبه هذا لم يمنع إعجابه بشلي الذي كان يخرج معه كل صباح يجوبان الأحراش فينطلق شلي مرحا يجري وينط ويلقي بنفسه مقتحما الماء إذا هو صادفته بحيرة من البحيرات ليعود بعد رياضته هذه إلى علمه وإلى تأملاته، ويعود كذلك إلى كتابة القصص والنشرات، فلقد بدأ مع ابنة عمه ومع أخته قصة زاستروزي، وهذا هو يكتب قصة أخرى يجعل عنوانا لها (القديسة أرفيني) يروي فيها شيئا من تفكيراته، ثم هذا هو كذلك يضع نشرة يجعل عنوانها (الحاجة إلى الإلحاد) ويوقعها باسم جروميا ستكلي ويعمل لنشرها في كل مكان لينتهي بسبب ذلك إلى طرده من أكسفورد وإلى هجرة بيت أبيه وإلى ما كان بعد ذلك من حياته المشردة.
وكان في وسعه أن يتوقع ما ترتب على هذه النشرة من نتائج، بل لعله توقعها ولم يحفل بها، أو لعل الدافع الذي أدى به لكتابة هذه النشرة لم يكن مما يمكن دفعه أو مقاومته، فقد بعث الناشر ستكديل إلى مستر تموذي شلي خطابا يخبره فيه بأن ابنه بعث له بقصة القديسة أرفيني وأن فيها من الآراء ما لا يسيغه الجمهور وما يبعث الناس على القيامة ضده، فكتب مستر تموذي للناشر بأنه غير مستعد أن يدفع له شيئا من نفقات الطبع والنشر، وانتظر حضور ابنه في إجازة عيد الميلاد، فلما حضر ألفى الجو حوله متجهما وألفى الناس من أهل هذه البلاد يتهامسون بإلحاده ويزورون عنه وينأون بجانبهم، وتحدث إليه أبوه ساعيا أن يقنعه من طريق المناقشة، فإذا برسي أقوى منه حجة وأسطع برهانا، وإذا الأب يقنع آخر الأمر بأن يقول له في غضب: إني أؤمن لأني أؤمن، على أن غضب مستر تموذي وتهامس الناس وانصرافهم عن شلي لم يؤثر في نفسه ولا دعاه إلى التفكير في أمرهم، لكنما أثر في نفسه وبلغ منها وأثار حزنها ما كان من ابنة عمه هاريت، فهو لم يكن يشك في عمق ما بينهما من حب عمقا وصل إلى شغاف القلب، فليس يستطيع أمر من أمور الحياة أن يغير أحدهما على صاحبه أو أن يعدل بهما عما تفاهمت نظراتهما عليه من تقاسم الحياة والاشتراك في ورد ما فيها من جمال وسعادة، لكنه ما لبث بعد عودته أن تحدث إلى أخته إليزابث التي ظلت وحدها صادقة الود له، وسألها عن هاريت وشأنها حتى تولاه الجزع حين سمع منها أنها انصرفت عنه كما انصرف عنه غيرها، وأن حبها تطايرت جذوته حين علمت أن أهلها والمحيطين بها لا يرون زواجها من هذا الذي جنت من قبل به وجن بها، وعبثا ذهب شلي وقابل هاريت وحاول إقناعها، فقد ألفاها أشد حرصا على المتاع بنعيم الجمعية من ملبس وحلي ورقص منها على الأفكار التي يسبح هو في سماواتها متوهما أنه يسعد العالم بإقناعه بها، وألفاها أشد حرصا على علاقاتها بأبويها علاقة اطمأنت لها منذ مولدها منها على صلتها بشاب لا تدري ما عسى أن يكون المستقبل معه.
تولى شلي الجزع، فكتب باكيا ثائرا إلى صديقه هوج خطابا يذكر له فيه أنها لم تبق له وأنها انقلبت تكرهه لأنه متشكك بعد أن كانت هي من قبل متأثرة بتعاليمه، ويعلن ثورته على التعصب ويقسم أنه لن يعفو عنه، ويعلن أنه، وإن لم يكن يقر الانتقام فهو يرى الانتقام من التعصب عدلا بل واجبا، وأنه سيكرس كل لحظة من حياته لمحاربته؛ لأن التعصب هو الذي يهدم الجمعية ويشجع العقائد الفاسدة التي تحطم أقدس الصلات وأرقها وأعزها، وله عن ثورته هذه العذر أنه لم يكن يتوقع أن تحطم تعاليم الدين أشرف عاطفة وأسماها، وأن تستل من بين الجوانح حبا قائما على التفاهم وحسن إدراك الحياة والتوجه إلى ما فيها من جمال لعبادته والتسبيح بحمده، وكيف كان له أن يتوقع هذا، وقد كان يرى في الحب عاطفة قدسية تسمو بالنفس إلى ما فوق منافع الحياة ومطامعها، وتحلق بها في أجواء أثيرية تشهد منها بدائع هذا الخلق جميعا متجليا فيما يقع عليه الحس من صور جماله، والحق أن الحب عند شلي كان له معنى أسمى بكثير من معناه عند غيره، هو لم يكن يرى فيه مجرد رابطة نفعية وشركة للتعاون على حمل عبء الحياة، بل كان يريده امتزاجا روحيا لاستشفاف ما حولنا من جمال هو مصدر الحياة، وشركة في حب هذا الجمال في متباين صوره ومختلف ألوانه، ولعل أجمل ما يستطيع إنسان أن يعبر به عن هذا المعنى ما عبر هو به في قصيدته (أببسيشديون) حيث يقول ما ترجمته: «لم أتصل قط يوما بهذه الطائفة الكبيرة التي يوجب مذهبها على الفرد أن يختار من بين الجماعة كلها رفيقة أو صديقة وأن يلقي بالباقين، وإن يك لهم ما لهم من جمال وحكمة، في جمود النسيان ... فالحب الصادق يختلف عن الذهب والتراب في أنك كلما شاطرتهما أخذت منهما وأنقصتهما، على حين هو يشترك مع الفهم الذي يزداد بريقا كلما ازدادت الحقائق التي ينبعث نظره إليها، وهو كالخيال يستمد نوره من الأرض والسماء ومن أعماق أهواء الإنسان ومن ألف مرآة وألف ضلع، ثم يملأ الوجود بالأشعة الباهرة يقتل بها جرثومة الخطأ بما يسلط عليها ضياؤه من سهام كأنها أشعة الشمس، ويا ضيق قلب ينحصر حبه، وعقل يقف تفكيره، وحياة تنتهي غايتها، وذهن يقف خلقه عند شيء واحد، وصورة واحدة، يبني لذلك بها قبر خلده.»
إذا فالدين والعقيدة الاجتماعية والنظام الذي يحصرنا في دائرة هذا الحب الواحد والتفكير الواحد والغاية الواحدة والخلق الواحد، يبني لنا قبر خلدنا، وهو لذلك يفسد أمر الجماعة ويقضي على خير ما فيها من عواطف وأسمى ما فيها من إلهام، فعلى الذين أوتوا ما أوتي شلي من هبة أن يقوموا في وجه هذا الضيق في القلب والعقل والذهن وأن يصلوها من حربهم نارا حامية.
وعاد شلي إلى أكسفورد كئيب النفس حزين الفؤاد ثائر القلب والعقل معتزما أن يشن الغارة على التعصب وأن يفسح الطريق للتسامح والحب والمغفرة والجمال، وكان أول ما صنع من هذا أن أذاع نشرته (الحاجة إلى الإلحاد) موقعا إياها باسم غير اسمه وموزعا لها على كل من ضيق التعصب دائرة قلبه وعقله، فقد بعث بها إلى رجال الدين وإلى المعلمين وإلى المشتغلين بالسياسة، ثم عرضها في مكتبة بأكسفورد لم تلبث أن اعتذرت عن عرضها لأول ما احتج أحد رجال الدين عليها، وقد افتتح هذه الرسالة بقوله «الحس أساس كل معرفة»، وسار فيها بلهجة ملتهبة يطعن كل قيود الدين ويحطمها ، وأبلغت الجامعة أن شلي هو ناشرها، فسألته فأبى أن يجيب فقررت فصله، واحتج صديقه هوج على هذا التصرف من إدارة أكسفورد، فتقرر فصله هو أيضا، وترك الصديقان الجامعة عائدين إلى لندن منتظرين فيها تطور الحوادث وتصاريف الزمن، مكتفين فيها بغرفة اعتبرها شلي مأواهما الأخير.
ولما علم مستر تموذي شلي بفصل ابنه من أكسفورد ثار ثائره واستشاط غيظا وبعث له برسالة يخبره فيها أنه لن يمده بمعونة أو مدد إلا إذا هو رجع إلى فيلدبليس وتلقى فيها الدروس على من يختارهم هو له من الأستاذة، فرد شلي على أبيه يرفض في أدب شروطه، ولم يقنع الأب بهذا الرفض فذهب إلى لندن وقابل برسي وصاحبه هوج وحاول إقناعهما بالحجة ليعدل شلي عما كتب في رسالته عن الإلحاد، ومع ما سلكه من طرق التلطف والمجاملة فقد لقي من ابنه صخرة لا تتزحزح وألفى فيه إباء وقوة عزيمة لم يستطع التغلب عليهما، فتركه عائدا إلى فيلدبليس من غير أن يعطيه درهما، ولعله كان يرجو أن تضطر الحاجة الابن إلى أبيه فينتهي إلى الإذعان، أو لعله كان أشد حرصا على سمعته منه على فتاه، وعلى أي الحالين فقد ظل شلي مصرا على رأيه مرتفعا عن أن ينزل عنه مستخفا بما يتهدده من ضيق ذات اليد، فما كان المال ليوازي عنده يوما شيئا إذا هو تعارض مع إيمانه برأيه، وبقي معه هوج أياما في لندن ثم غادرها إطاعة لأبيه الذي ألحقه بمكتب محام يتعلم الحقوق فيه، وأقام شلي من بعده في العاصمة الإنجليزية وحيدا ليواجه الحياة وزعازعها وليستعد لنضال الجمعية التي اضطرته إلى عزلته، مؤمنا بأنه سينتهي إلى الظفر بها والتغلب عليها. (2) هاريت وستبروك
أقام شلي في العاصمة الإنجليزية وهو أقل تألما لاختلافه مع أبيه ولمغادرته الجامعة وانقطاعه عن الدراسة المنتظمة منه لتنكر ابنة عمه هاريت جروف له وازدرائها حبه وانفصالها عنه؛ لذلك كان أكثر تفكيرا في هذا الحب المحطم منه فيما يقيم به أود حياته، وفيم عسى يفكر من شئون العيش وقد كان قانعا بما دون الكفاف حتى لتكفيه بضعة بنسات طعام يومه؟! فأما هاته التي عقت الحب وعقت آراء جدوين وعقت المبادئ السامية جميعا، فهي اللغز الذي يوجب العناية، وهي الداء الذي يتطلب للبرء منه علاجا حاسما.
وأكب يقلب هذه المسألة على مختلف وجوهها حتى خيل إليه يوما أنه عثر في حجة منطقية على الدواء الناجع لها والحل الصريح للغزها، هو لم يكن يحب من هاريت جسمها ولا كان يقف إعجابه عند جمالها، بل لئن أعجب بحسنها على أنه بعض صور الجمال الذي زينت به الطبيعة الوجود، فإنما كان حبه منصبا كله على سمو ذهنها لإدراك نظرياته ونظريات جدوين في الحياة ونظامها والتسامح وضرورته والحرية وتقديسها والجمال وعبادته، وهذا هو ذهنها قد فتر عن إدراك ذلك كله وهبط إلى مستوى الأذهان العامة وأصبح شيئا آخر غير جدير بأي حب أو تقدير.
فماذا بقي بعد ذلك منها جديرا بالحب أو دافعا للتشبث بها والحرص عليها؟ أو لو عشق إنسان في فتاة جمالها تراه عاشقا الدود الذي يحول إليه جسمها بعد انتقالها إلى قبرها! وقد دفن من هاريت ذلك الذهن الوضاء المرتفع إلى مراقي ذروة التفكير والذي اتصل من قبل بذهن شلي وروحه، وقد اندست إلى قبره ديدان الأوهام والأباطيل، فلينس شلي هذه العاقة إذا، وليسلكها في سلك البائسات الحقيقات بعطفه ورحمته، لكن، لكن هذه الحجة القاطعة التي أرضت عقل شلي لم تطفئ في قلبه جذوة زادها عقوق البائسة ضراما، ولعل مرجع السبب في هذا إلى غدر هاريت لما كان يرجو في صحبتها من تعاون على محاربة الأوهام المفسدة المندسة إلى نفس الجماعة أكثر مما يرجع إلى شيء آخر، فالصحيح أنه لم تكن بينه وبينها صلة حب على نحو ما يفهم هو الحب؛ ولذلك لم يطل في قلبه لاعج الهم ولا ظلت جذوته مستعرة إلا ريثما وجد في هاريت أخرى، لا تقل عن الأولى جمالا ولا ذكاء، ذلك الاستعداد للسمو معه في سماوات الجمال والإلحاد والتسامح وكل ما دعا كتاب الثورة الفرنسية وتابعهم جدوين في الدعوة إليه.
فلقد كانت أخواته البنات يتعلمن في مدرسة للبنات بحي كلابهام، وكانت رشيدتهن هلن شلي تتناول من أختها الكبرى إليزابث رسائل تبعث فيها بما لديها من نقد كي تعطيه هلن لبرسي لتعوضه بعض الشيء عن إهمال أبيه إياه، وكان برسي يذهب إلى مدرسة البنات هذه يحمل بعض الهدايا لأخواته لأنه كان يأبى أن يستأثر بما تبعث به إليه أخته، وما لبث أن تعرف إلى بنات المدرسة حتى بدأ يفكر في إقناعهن برأيه وحملهن على اعتناق نظرياته ومبادئه، وكانت هاريت وستبروك من أكثر أولئك الفتيات رقة وأحلاهن ابتسامة وأغردهن صوتا، وكان جمالها يضيء مزدانا بشعرها الذهبي وخدودها المتوردة وشبابها الضاحك إلى ورود ربيعه، وكانت - على أنها في السادسة عشرة من عمرها - صغيرة القد طفلة النظرة يفيض المرح من وجودها كله ويضوع منها سرور طرب يجعل كل ما حولها طروبا ضحوكا، وقد أتقنت القراءة والإلقاء فزادت عذوبة صوتها وتغريده حياة وروحا، وعني أبوها مستر وليم وستبروك بأن يجعل منها ضريبة لبنات النبلاء ليجزي الحظ بذلك عما كان هو مفتتح حياته حين كان يعمل في الفنادق؛ لذلك كانت شديدة الحرص على الاتصال ببنات النبلاء زميلاتها في المدرسة، وكانت أشد بأخوات شلي اتصالا، فلما رأت الشاب النبيل الجميل برسي يتردد على أخواته وقع من نفسها وتوددت إليه وأظهرت أساها لإلحاده وحاولت أن تصده عنه وأن تقنعه بمثل إيمانها وإيمان الجمعية كلها، لكنها ما لبثت أن اتصلت به حتى تأثرت بروحه وحتى رأت فيما يدعو إليه بهاء وجمالا لا شيء مثلهما أو يقاربهما في تعاليم الكنيسة ورجال الدين، فالحرية الأثيرية الأجنحة الطائرة في فضاء طلق تسبح منه في جمال الوجود ناهلة ورد كل ما فيه من صور هذا الجمال الذي يحمل إليها شذى الحب وعبقه، فيملأ بهما قلب المستمتع بنعيمها من غير أن يثقله بقيد من زواج أو من تملك أو توارث، ومن غير أن يرهقه بالقوانين أو التكاليف، هذه صورة جذابة ليس لها فيما حفظت من تعاليم الدين نظير، إلا أن يكون ذلك في العالم الآخر وبعد انتقالنا من هاته الحياة التي نحسها ونلمسها، ولو أننا تابعنا شلي لاستطعنا أن ننعم بها في الحياة نعيم المؤمنين بها بعد الموت، فما لهذا العصفور الجميل هاريت والتفكير في الموت، وما لها وإكراه خيالها على اقتحام صورة الموت المرعبة إلى ما بعدها لترى ما يخيلون لها من نعيم وهناء وجمال؟! ما لهذا العصفور وهذا الإجهاد ما دام رسول الجمال والحب شلي يضع له الجنة في يديه، جنة لا تقف حدودها عندما يزين من تعاليم ويصقل من صور وآراء، بل تبدو حقيقة ملموسة في جمال صورته، وفي نبله وثروته الواسعة وعذوبة نفسه وطيبة قلبه وحبه الإنسانية كلها حبا جما؟ أوليس خيرا لها أن ترفعها هذه الأيدي الرقيقة الحنون - أيدي شلي - إلى جنات النعيم؛ لذلك ما لبثت أن آمنت بكل ما يقول وأن أصبحت مثله تلميذة لجدوين ولمن أخذ عنهم جدوين حتى أفلاطون، وأصبحت لا تجد سعادة في لحظة أكثر من تلك التي ترى فيها شلي في المدرسة أو التي تذهب له فيها ببيته في شارع بولونيا تحمل إليه ما تعطيها أخته هلن من مال، فقد كانت هلن تبيت بالمدرسة ولا تستطيع الخروج منها في حين كانت هاريت تذهب كل يوم إلى بيت أبيها فتجد الفرصة للمرور بصديقها ووليها وأستاذها ومحبوبها.
وكان لهاريت أخت متقدمة في السن إلى ما فوق الثلاثين اسمها إليزا تقوم منها مقام أمها المتوفاة، وقد سرها ما عرفت من صلة هاريت بشلي، كما سر بذلك أبوها واعتبره خطوة أولى يرقى بها إلى مصاف النبلاء؛ لذلك لم يسؤه يوما مرضت فيه هاريت أن دعت إليزا بشلي إلى مخدع نوم أختها وأن جلس عند أقدامها إلى ما بعد منتصف الليل، وكان من أثر جلوسه إليها أن برئت من مرضها وأن عادت اليوم التالي إلى صحتها وإلى تغريدها، وأن تزايد من بعد ذلك وجدها به حتى صار هياما وتدلها، لكن شلي لم يكن ينظر إليها نظرتها إليه، بل كان يرى فيها حياة الروح وسمو الذهن إلى الاقتناع بآرائه ومبادئه مما يعزيه عن روح ابنة عمه هاريت جروف التي دفنت في قبر الأباطيل ونخر فيها سوس الأوهام، كان يرى فيها ضياء جديدا غير هذا النور الذي خبا، وشريكة فيما يسميه هو الإلحاد في حين هو الإيمان بالعدل والحق والجمال، وإذا هي لم تكن من طائفة النبلاء فلعل في تحررها من قيود هذه الطائفة ما يكفل بقاءها على عقيدتها الجديدة وثباتها في إيمانها الذي أوحاه هو إليها، وما أجمله إيمانا يتحلى به رأس جميل كله الحياة وكله المحبة وكله العواطف المتأججة.
واطمأنت نفس شلي إلى تلميذته وإلى الحياة وعاوده الرجاء في صلاح الإنسانية كلها، وإن كانت هذه الصلة قد أدت إلى فصلها من المدرسة كما فصل هو من أكسفورد من قبل، وزادته طمأنينته هذه شوقا إلى أخته إليزابث أشد من عرف من تلاميذه إيمانا به وحبا له، وفيما كان يفكر في الطريقة التي يعود بها إلى فيلد بليس مر خاله الكبتن بلفولد بلندن وتقابل وإياه، وكان الكبتن رجلا كثير التجوال في مختلف أنحاء العالم، فكان لذلك واسع الصدر متسامحا لا يطيق أن يفهم كيف يؤدي اختلاف أب وابنه في الرأي إلى تعصب الأب وتصميمه على أن يميت ابنه جوعا، فأخذ شلي معه إلى داره بككفلد ليعيد الصلة المقطوعة وليكفل للابن عيشه، وكانت في ككفلد مربية هي مس هتشنر رومانية الجمال تتخطى في طمأنينة إلى الثلاثين من عمرها وتدين بالمبادئ الحرة ولكنها تؤمن بالله، فأخذ الشاب نفسه بأن يشفيها مما سماه «هذا المرض» وقبلت هي أن تتلمذ له، مدفوعة أغلب الأمر بسحر جماله وعذوبة روحه أكثر من اقتناعها بآرائه ومبادئه، واستعان الكبتن بلفولد الدوق نورفلك على التوفيق بين شلي وأبيه، فلم يحتج المستر تموذي لأكثر من كلمة الدوق كي يعود برسي إلى أهله وكي يرى أخته إليزابث، وارتضى الأب أن يرتب لابنه مائتي جنيه سنويا لا يقيدها شرط ولا يؤثر ترتيبها في حرية شلي بأية صورة من الصور.
ولقد فاضت السعادة بشلي في أثناء سيره من بيت خاله لبيت أبيه لغير شيء إلا إطفاء شوقه لإليزابث، لكنه لم يلبث إلا قليلا بعدما رآها حتى بهت وعلاه الذهول، هل هذه هي إليزابث التي يعرفها؟ لقد كانت تؤمن بإيمانه وتدين بمبادئه، وكانت عونه على هاريت جروف حين تنكرت له وعقت مبادئه وعادت إلى مثل أوهام العامة وعقائدها، فكيف بها هي الأخرى تفعل فعلة هاريت وتثور به وبمبادئه وتجعل كل همها أن تجيل الطرف فيمن حولها من الشبان وأكبر رجائها أن تجد منهم زوجا صالحا؟ أفترى أولئك الفتيات وبنات جنسهن جميعا ضعيفات غاية الضعف متى تحركت الأمومة في أحشائهن حتى ينزلن خاضعات لسلطانها عن كل شخصيتهن، ويتجهن بوجودهن كله تلبية لرغبات هذه الغريزة فيهن باحثات في أقرب ما يجاورهن عن مستقبل وادع مطمئن للنسل الذي تحمل أرحامهن؟ وهل ينسين ساعة بحثهن هذا كل ما يسمو إليه الحب من معان وما يطمئن المحب إليه راضيا من تضحيات في سبيل تحقيق هذه المعاني؟ ألا تعسا لنظام الجمعية الزائف القائم على الكذب والوهم المدعم بالقسوة والدماء! فهو الذي يقضي على أذهان بنات حواء هذا القضاء القاسي.
وعبثا حاول شلي أن يعيد إليزابث إلى حظيرته العليا وأن يردها كي تفسر النفس على صور من السمو لا يطيقها إلا الموهوبون الذين أرسلتهم الأقدار للرقي بالإنسانية درجات جديدة في سبيل الكمال، وجعلت من جهادهم في سبيل رسالتهم لذة عيشهم وسعادة حياتهم، لقد ذاقت الفتاة ما تقدمه الجمعية من صنوف المتاع وما تقتضي ثمنه إذعان بنيها للنطاق الذي ترى فيه الحفيظ على كيانها، لقد ذاقت هذا المتاع المادي القريب إلى متناول اليد، وها هي ذي ترى في الأمومة صورا أخرى من المتاع لا سبيل لها إلى نيلها إلا بالاندماج في قطيع الجماعة وتقديس أوهامه وترهاته، أفتنأى بجانبها عن هذا المتاع لتقف من الجماعة موقف أخيها وتنظر إليها العيون شزرا وليسمي القانون متابعتها عواطف قلبها عهرا؟ كلا، ولئن كان شلي أخا صادق الأخوة، فأول واجبه أن يبحث لأخته عن زوج نبيل غني جميل تستكمل به كل ما في مادة الحياة من متاع وتؤدي به للأمومة واجبها.
ويئس شلي من أخته كما يئس من قبل من ابنة عمه، فلم تبق له لذة في مقامه بين أهله، وجاءته دعوة من هوج كي يذهب إليه في يورك، وأخرى من فتاتي وستبروك وثالثة من خاله الكبتن بلفولد، ولكنه تردد في قبولها جميعا ثم فضل عليها دعوة أحد أقاربه إلى بلاد الغال على شاطئ البحر آملا أن يجد من جمال طبيعة تلك البلاد ومن تلاطم الموج والصغر ما يسكن ثورة نفسه وما يبعث إلى قلبه السلوان عن مصابه في ذهن أخته، وفي مقره الجديد نصب نفسه رسولا يدعو إلى الحرية والحق والتسامح في رسائل كانت تستنفد أكثر وقته يكتبها إلى هاريت وستبروك وإلى مس هتشنر وإلى هوج وإلى غير هؤلاء ممن يأنس فيهم ميلا إلى الرقي نحو الكمال، ولم يطل به المقام في عزلته الجميلة حتى تسلم رسالة من هاريت تذكر له فيها أن أباها يريد أن يعود بها إلى المدرسة التي فصلت منها، ويطلب إليها أن تنكر تعاليم شلي كي ترضى ناظرة المدرسة عن رجوعها، وأنها اعتزمت أن تنتحر كي لا تلبي ما يريدونها عليه، فرد شلي عليها يسكن من روعها وبعث إلى أبيها يلومه لما يحاول من إكراه الفتاة عليه، وغضب أبوها لتصرف هذا الشاب الذي كان راضيا من قبل عنه مغضيا عن تعاليمه حين كان يحسب أنه سيتزوج ابنته، ثم إذا به كغيره من أبناء النبلاء يغرون الجميلات من بنات الطبقات الأخرى ثم ينأون عنهن ازدراء لمنبتهن، ولم تطاوع هاريت أباها على أن يكون ذلك شأن شلي، فكتبت إليه من جديد تشكو، وذكرت له أنها متأثرة بخطابه، عدلت عن فكرة الانتحار، ولكنها تريد الفرار معه، فترك الغال حين تسلم رسالتها وذهب إلى لندن كي يحاول إقناع أبيها بأن لا حق له في إكراه ابنته على غير ما تريد آملا أن تبقى الفتاة في رعاية مستر وستبروك مع بقائها مؤمنة بالحياة الجديدة التي اختار هو لها سبيلها، فلما رأته الفتاة تعلقت به وألحت عليه كي يفرا معا ليقيما حيث يشاء، وحاول هو أن يردها عن رأيها فكان جوابها: لكني أحبك ولا صبر لي على بعدك.
هنا وجم شلي، وزاده وجوما اللهجة الصادقة القوية الملتهبة التي اعترفت الفتاة فيها بحبها إياه، لكنه هو لم يحبب منها عذوبة صوتها ولا جمال تكوينها وإنما أحب منها سمو ذهنها وجمال روحها! على أنه اهتز مع هذا لاعترافها، وشعر معه بسموها على ابنة عمه وعلى أخته، إنها تحبه وتريد الفرار معه مزدرية أوهام الجماعة وعقائدها مستعدة للاشتراك معه في نضالها لهدايتها وإصلاحها، فلم يستطع في تداول نفسه بين اهتزازها إعجابا بهذا الاعتراف وشعورها بأن ليس يشغلها هذا الحب الذي تريد الفتاة أن يبادلها مثله، إلا أن يملس على شعرها وأن يسكن من روعها وأن يعدها بصدق إخلاصه لها وأنه سيكون إلى جوارها عند أول نداء يصله منها، وكفى الفتاة أن تسمع منه هذه الكلمة ليزول عن وجهها شحوب جاءته به أيمان أقسمها أبوها بأن شلي ضلل بها وأنه لا يحبها، وليعود إلى لونها تورده وإلى وجودها شبابه وفرحه.
وكتب شلي يقص على هوج ما حدث، فأجابه صديقه ناصحا إياه ألا يفر بالفتاة إلا أن يتزوجها، وإذا كان لا يؤمن بالزواج ويرى فيه نظاما تعسا، فليس من حقه لذلك أن يشقي فتاة تحبه، فلن تصيبه هو من هذا الفرار خسارة ولن يناله منه أذى، أما هي فستكون إن لم تتزوجه منظورا إليها بعين الازدراء حيث سارت، مغضوبا عليها من أبيها، محرومة من عطفه ومعونته، شاعرة لذلك بألم قد يجني في نفسها الطفلة على حبها إياه، فإذا كان شلي لينفذ مبادئه وتعاليمه ولينفصل حين ذلك عنها، فماذا يكون أمرها وأيان يكون مصيرها؟ أفلا يكون بهذا مسلما إياها للتعس والشقاء، وتكون التعاليم التي يريد بها سعادة الإنسانية مؤدية بالفتاة إلى البؤس والسقوط لغير ذنب إلا أنها أحبته؟
وصدمت شلي قوة حجج صاحبه فتراجع أمامها وتردد في وعده الفتاة أن يكون إلى جانبها لأول ما تدعوه إليها ، لكن الفتاة لم تمهله في تردده بل بعثت إليه بعد أسبوع من تركه إياها تدعوه إليها، ولم تطل في نفسه المعركة بين المبدأ والواجب، فذهب إليها مذعنا للواجب معتزما أن يفر بها وأن يتزوجها تاركا بين يدي القدر ما يؤول إليه أمرهما من بعد.
وغادرا عاصمة إنجلترا قاصدين عاصمة إيقوسيا وقضيا في سياحتهما أياما شعر شلي خلالها بحياة جديدة تسري إلى قلبه وعاطفة حلوة تتحرك بين جوانحه، لقد فر عصفوره معه طائرا عن العش الأبوي حبا له وغراما به، فلم يك حديثها معه عن الحب هذا الحديث القديم يسموان فيه إلى التفكير في المعاني التي يريد هو أن يحيط الحب بها، بل أصبح حديث غرامها هي وتدلهها، وأصبح حديثا دلالة الألفاظ فيه دون دلالة النظرات والبسمات والقبلات، ها هي ذي تستيقظ إلى جانبه فإذا عيونها إليه معسولة ندية النظرة كلها الشوق والهوى، وإذا أذرعها تطوق عنقه وأصابعها تعبث بشعره وقدها الصغير يجتمع كل ما فيه من حياة صاعدا إلى قلبها كي يبعث بها إلى فمها فتطبعها على فمه قبلة فيها كل قلبها وكل حياتها وكل حبها، وها هي ذي النهار كله تشدو إليه بأغاريد حبها وهواها، ثم ها هي ذي الليل تطوق ثغرها ابتسامة السعادة ويهفو إلى أذنه تردادها لاسمه حين أحلامها بهنائها ونعيمها؛ لذلك لم يكادا يصلان إلى إدنبرة ويختاران فيها مسكنا حتى أتم زواجه منها وملكه إياها، وكذلك قضيا أياما نسي فيها شلي نفسه ورسالته واستسلم فيها بكله إلى المتاع بحب هاريت حبا بعث إلى كل ما يحيط بهما من بحر وشجر وجبل وزهر شذى جعلها تضوع بريح الحب هي الأخرى وتزداد على جمالها جمالا وسحرا.
ثم آن لشلي أن يعود إلى تأملاته وتفكيره، فإذا هاريت في شغل عنها بحبها له وعبادتها إياه، فإن هي شاركت فيها كانت صدى له يرد إليه تأملاته هو في صوت عذب وحديث حلو؛ لذلك ود شلي - مع اطمئنانه لعزلتهما وسعادته بحبهما - لو أن صديقه هوج كان معهما، وكأنما كانت الأقدار في هذا طوع رجائه، فلم تك إلا أسابيع بعد عودته إلى التأمل والتفكير حتى جاء هوج في إجازة له يقضيها عند صديقه، وقد بهرته روعة جمال هاريت إلى حد كاد معه يمل حديث شلي وبحوثه ونظرياته، وسر شلي بأن أتاحت له ضيافة هوج خروج هاريت معه للنزهة وتركه هو لقراءته وتأملاته، فلما آن لهوج أن يعود إلى يورك اقترح عليهما أن يذهبا وإياه لها، وسافر ثلاثتهم فلم يجد شلي في يورك جمالا يغذي روحه الدائمة الظمأ للجمال، وزاده هما أن لم يصله من أبيه المال الذي اتفق على أن يبعث له به فسافر إلى ككفلد ليرى خاله الكبتن بلفولد وترك زوجه في حماية صديقه إلى أن يبعث إليها بأختها، ولم يملك هوج نفسه من أن يذكر لهاريت أنه يحبها، فصدته الفتاة عنها وقاومت هجوم هواه يوما واحدا أن حضرت أختها في اليوم الثاني فحالت بينهما، ولما جاء شلي وأخبرته بخبر هوج لم يزد على أن لام صديقه على سوء صنيعه، ثم غادر المنزل مسافرا ومعه زوجه وأختها اللتان رأتا في صنيع هوج ما لا يمكن معه احتمال مرآه، وعاد هوج من مكتب المحامي الذي يشتغل في رعايته فألفى المنزل خلاء وإن لم يخبره بالسفر أحد.
واختار شلي الذهاب إلى منطقة البحيرات إذ كان يقطنها الشاعران الكبيران سوذي وكولردج، وكان شلي قد بدأ يقرض الشعر، فهو يطمع في مثل عظمتهما ويرجو أن يكون من شعراء منطقتهما، ولما كان دوق نورفلك يقيم كذلك في هذه المنطقة، وعلم بمجيء شلي إليها، فقد كتب يدعوه وزوجته إلى قصره، وهناك عرف صديقا لسوذي ذهب به إلى بيت الشاعر الذي كان يحل من نفس شلي أسمى مكانة وأرفعها، لكن شلي لم يلبث أن تولته الدهشة حين ألفى زوجة سوذي أبعد ما تكون عن إلهام الشعر وإن كانت ربة دار مضربا للمثل، ولما دار بينه وبين سوذي الحديث بهت مما سمع، فسوذي، هذا الشاعر الفحل، يقول إنه متدين وإنه مسيحي! وهو يحب المال ويطمع في كسبه! وهو يعيش كما يعيش الناس ويفكر تفكيرهم! أليس هذا عجبا ؟! ثم ماذا؟ ثم عثر في مجلة على مقال لسوذي يصف فيه ملك إنجلترا بأنه خير ملك جلس على عرش، وعلم أن سوذي يقصد من هذا إلى أن يخلع عليه الملك ألقابه، إذا فهو رجل يسخر ضميره لمطامعه ولا يرجو من الحياة إلا ما يطفئ ظمأه لنعيم المادة، إذا هو لا يستحق احتراما ولا تقديرا، ليكن له من ملكة الشعر ماله، فلن توحي ملكة أيا تكون باحترام صاحبها إذا نزل بأخلاقه وبعمله في الحياة إلى المستوى الوضيع الذي لا يطمع الناس منه إلا في كاذب الجاه وفي اكتناز المال.
أما سوذي فعجب لأمر شلي وصلابته في رأيه وإن لم ير في ثورته بالدين إلا مرحلة من مراحل التفكير يمر بها الشباب الذكي جميعا ثم يعودون إلى نوع من الإيمان له روعته وجلاله، بل لقد كان شديد الاقتناع بأن سيكون ذلك شأن شلي؛ لأن نفسه نفس شاعر، ونفس الشاعر لا تطيق الإلحاد وما يصور الإلحاد من عدم، ولأن نفس الشاعر تخلق فلا تستطيع أن تنكر الخلق، ولأنها جميلة فلا معدى لها عن الإيمان بالجمال، ومن يدري أي مصير كان قد أعده القدر لإيمان شلي لو أن منيته لم تعاجله فامتد به العمر حتى رأى من عبث الأقدار بالناس والحياة أكثر مما رأى!!
وكان من حظ شلي ألا يفجعه القدر حتى يسرع إلى أن يعوض عليه فجيعته، فكما عوضه عن هاريت جروف بهاريت وستبروك، كذلك عوضه عن سوذي بمن يؤمن به ألف مرة أكثر من إيمانه بسوذي، فقد عرف إذ ذاك أن وليم جدوين حي يرزق وأنه يقيم بلندن، وأنه يستطيع أن يراه؛ لذلك سارع فكتب إلى مؤلف (العدل السياسي) رسالة كلها الإعجاب به والرجاء في الاستماع له، على أن شلي كان يومئذ في شغل بمشروع كبير لم يدع له الفرصة كي يسرع إلى لندن للحاق بأستاذه الروحي العظيم، ذلك أن الكاثوليك من أهل أرلندا كانوا يعاملون معاملة شاذة، سببها أنهم على غير البروتستانية دين المملكة ودين الغالبية، فكانوا محرومين من مناصب الدولة غير معترف لهم بكثير من الحقوق المدنية المقررة للإنسان.
وقد رأى شلي في هذا فرصة سانحة ليعلن حربه على الظلم ولينادي بالمساواة بين الناس جميعا لا يفرق الدين بين أحد منهم ولا يجعل له فضلا على غيره، وليشن الغارة على رجال الدين وما يدعون إليه من تعصب، وعلى الملوك وما يحيطون به رجال الدين من رعاية يردها رجال الدين إليهم بدعوة الناس إلى تقديس عروشهم والإذعان لظلمهم واعتباره بعض ما أراد الله لخيرهم، ولهذه الغاية وضع نداء مطولا دعا فيه إلى مبادئه، وفي مقدمتها التسامح، وإلى هذه الأفكار التي خلفتها الثورة الفرنسية وراءها.
لكن الثورة كانت قد أخفقت في نظر الناس من أهل ذلك العصر؛ لأنها بعدما قامت فداء للحرية والمساواة، وبعدما قدمت من تضحيات، وبعدما قضت عليه من رءوس أطاحتها وثروات عصفت بها؛ لم تبلغ من غايتها أكثر من أن قدمت أبناء فرنسا كلهم طعاما لشهوات نابليون الحربية وأن أجلسته إمبراطورا على عرش الجمهورية، وسر إخفاقها في نظر شلي وجدوين وكثيرين من كتاب العصر ومفكريه أنها اعتمدت لتحقيق غاياتها على القسوة والعنف، فمهدت السبيل لنفور الناس منها وتنفسهم الصعداء لانقضاء عهدها، ولو أنها جعلت الرحمة والتسامح وبر الإنسان بالإنسان وتفاهم الأخ مع أخيه أساسا لها، لحققت على الأرض كل غاياتها وإن احتاجت إلى زمن أطول مما كان يقدر رجالها لنجاحها.
ولهذا دعا شلي إلى مساواة الكاثوليك بسائر الإنجليز في الحقوق والتكاليف طالبا إلى الكاثوليك أن يتمسكوا بحقهم في هذا من غير أن يلجأوا إلى عنف أو دماء، واتخذ مقرا لدعوته في دبلن بيتا أقام فيه مع هاريت وإليزا، وجعل يوزع على الناس نداءه الحار الملتهب لهذه المبادئ السامية، وقد خيل إلى بعض أصدقائه أن البوليس لا بد أن سيقبض عليه وأن أهل أرلندا سيلتفون حوله، لكن هؤلاء خسروا من رسول حريتهم الذي لم يبلغ بعد العشرين من عمره، ووجدوا فيه وفي زوجه الطفلة الرقيقة موضع دعابة وعطف مما جعل البوليس لا يهتم لهما ولا يعبأ بهما.
والحق أن شلي كان مخطئا كالذين رأوا معه أن إخفاق مبادئ الثورة الفرنسية يرجع إلى التجائها للعنف والقسوة، فالثورة الفرنسية - ككل ثورة غيرها في العالم - لم تبدأ لتحقيق المبادئ التي أعلن أهلها أنهم يريدون تحقيقها، بل هي بدأت أول أمرها لأسباب اقتصادية بحتة، وكان الذين سبقوها من أمثال روسو وفولتير وديدرو قد نادوا بأن سعادة الناس تتم إذا تحققت المبادئ التي أعلنوها، فلما دكت قوائم عرش فرنسا وأزيح كابوس الجوع وبدأ الذين ألقت إليهم ظروف ذلك العصر مقاليد الأمر يفكرون في الطريقة التي يسعد الناس بها؛ تناولوا المبادئ التي كان الناس من قبل يقرءونها فتلذهم قراءتها من غير أن يؤمنوا بها.
وكان كثير من حكام المصادفة أولئك أقل الناس إيمانا بفائدة المبادئ التي أعلنوا أنهم يريدون تطبيقها ويحاربون من يقف في سبيلها، لكنهم كانوا يفعلون ما يفعلون من ذلك استبقاء للسلطة في أيديهم وتخلصا ممن قد ينازعهم إياها، فهم إذا متعصبون لمصالحهم كرجال الدين ممن يحاربهم شلي سواء بسواء، لكنهم وحدهم هم الذين يوصلون هذه المبادئ السامية إلى ذهن الجماهير؛ لأن الجماهير لا تفهم إلا اللغة الدموية الوضيعة، لغة القسوة والإرهاب والبطش، ولو أن شلي استطاع أن ينزل من سمائه العليا إلى هذه المرتبة لأحاط الجمهور به ولهتف له ولتابعه ولولغ وإياه في الدم ولابتهج لهذا المنظر الذي يحرك فيه حيوانيته الأولى، ثم لثبت قليل أو كثير من هذه المبادئ في ذاكرته يستظهرها بعد رجوعه إلى وعيه، أما وشلي يخاطبه بلغة السماء ويتحدث له عن حب الإنسان للإنسان وتسامح الإنسان مع الإنسان، فلا مطمع له في أكثر من سخرية الجمهور به سخرية شابها العطف على شبابه وعلى جمال زوجته.
وعبر شلي وصاحبته البحر من جديد إلى بلاد الغال يائسا من أولئك الكاثوليك الذين لا يفهمون، وظل يتنقل في مختلف بلاد الشواطئ البحرية زمنا لم يهتد فيه إلى مسكن يسر به، فغادرها متجولا في نواح مختلفة حتى اهتدى في لنموث إلى منزل أعجبه فأقام به؛ أعجبه لما يحيط به من مناظر شعرية جميلة يزيدها عنده جمالا عزلتها وقلة اختلاف الناس إليها، وفي هذا المنزل قبلت مس هتشنر دعوته فجاءت لتقيم معه، والحق أنه كان بحاجة إلى صديق روحي يبادله الرأي ويدرك وإياه صور الحياة، فلقد ظلت هاريت طفلة، ولم تزد على ما كانت عليه تلميذة، وكان هو يومئذ في بدء نشاطه الشعري يضع أولى قصائده الكبرى المعروفة في ديوانه (بالملكة ماب) أودعها ما وصل إليه من فلسفة، وكان يريد من يردد شعوره ويقدر آراءه، فلما حاول، يريد أن يجد من هاريت ذلك الشخص؛ تبدى له أنها لا تتذوق الشعر ولا تفهم الفلسفة؛ لذلك طار سرورا من مجيء مس هتشنر وطلب إليها أن تزيد في تهذيب زوجته، ولعل هذه كانت طلائع التباين فيما بينهما تباينا ينتهي إلى الافتراق وإلى انتحار هاريت غرقا ويدس إلى حياة شلي هما ناصبا يظهر أثره من بعد في كثير من شعره. (3) بعض نثره وشعره
أقام شلي بالمنزل الذي اختاره في لنموث ومعه زوجه هاريت وستبروك وأختها إليزا ومس هتشنر حتى أوائل خريف سنة 1812، ومن لنموث وجه شلي إلى القاضي لورد اللنبرا خطابا كان أعظم أثرا وأشد وقعا من كل ما حاوله في أرلندا، وكان وما يزال ينبئ عن قوة شلي في النثر بما لا يقل عن قوته في الشعر، فقد حكم هذا القاضي على مستر إيتون بالسجن والتعذيب، لأنه نشر كتابا يطعن على المسيحية وينكر فيه المعجزات والبعث، ويرى في التثليث نظرية لا يقبلها العقل، ولم يدر بخلد أحد أن يجعل من هذا الحكم موضع طعن أن كانت للأحكام في كل أمة قداستها، على أن كتابا في فرنسا وفي غير فرنسا ممن يعجب بهم شلي لم يترددوا حين رأوا في الحكم ظلما عن أن يكرسوا الكثير من جهودهم لرفع الظلم بالعمل لإعادة النظر في الدعوى، وهذا فولتير جعل من قضية كالا الذي حكم عليه بالإعدام وبتجريد أبنائه من ثروتهم موضعا لحملة انتهت بإعادة النظر في الحكم، وبإعادة شرف كالا إليه بعد إعدامه، وإزالة ما ترتب على الحكم الأول من نتائج بالنسبة لأبنائه ووارثيه، والحكم على مستر إيتون أجل في نظر شلي خطرا، فهو لا يقتصر على إدانة إنسان من الناس بل يدين حرية الفكر والتعبير عنه، ويقيد العقل بقيود تضطر حر الرأي إلى النفاق للجماعة مخافة ما ينزل به من عقاب، وتحول بين الجماعة والاستفادة من تفكير ذوي المواهب الذين تبعثهم الأقدار ليداوموا السير بالإنسانية إلى ناحية الكمال؛ لذلك وجه إلى اللورد اللنبرا خطابه القوي مفتتحا إياه بقوله: «مولاي، أما وللمركز الذي دعتك بلادك لتقوم فيه ما له من أهمية، فالتبعة المترتبة عليه هي لذلك أعظم خطرا، ويجب لذلك عليك مداومة النظر في أنك لم تحكم خطأ بالعقاب على فاضل أو بالمكافأة لناقص، وصحيح أن القوانين القائمة تحميك من محاسبة أية سلطة دستورية إياك بسبب الحكم الذي أصدرته على مستر إيتون، لكن ليس ثمة أي قانون يستطيع حمايتك من سخط الأمة عليك وعدم موافقتها على حكمك، وليس ثمة قانون يحول بينك وبين حكم الإعقاب عليك إذا كان للإعقاب أن تعنى بذكر شأنك.» ثم ينطلق شلي مندفعا: «لكن بأي حق تعاقب مستر إيتون؟! ليس هناك إلا سوابق عتيقة من أيام تحكم الكهنوت وظلمهم هي التي يمكن التذرع بها لإهانة الإنسانية والعدالة هذه الإهانة المزرية.
فأي رجل أضر به مستر إيتون؟ وأي جريمة ارتكب؟ ولم لا يسير حيث يشاء كما يفعل سائر الناس، ثم لم لا يعيش كما اعتاد أن يعيش؟ وأية غاية ترجى من حبس هذا الرجل الذي اتهم بأنه لم يرتكب ما يشين شرف إنسان؟» ويسوق شلي الحجج بعد ذلك يأخذ بعضها برقاب بعض يدلل بها على أن التسامح ملاك سعادة العالم وإخاء الإنسان للإنسان والوسيلة الوحيدة لاستعلاء الحق والفضل، وأن التعصب والاضطهاد لم يجرا على الإنسانية إلا ويلات كانت أداتها أمثال لورد اللنبرا، ويسوق هذه الحجج في لهجة قوية تظهر في مثل قوله:
إن نظام الاضطهاد لا يضارع عجزه ولؤمه إلا اضطراب المنطق فيه، فالمطابع مثقلة بما يسمى (تهكما فيما أظن) الأدلة المثبتة للمسيحية، وهي كتب حافلة بالمطاعن والأكاذيب على منكريها، وقوامها أن كل من يرفض المسيحية مجرد من الإدراك والشعور، وسبيلها أن تقرر ما لا دليل عليه، وأن تتخذ من الأباطيل الشائعة المنفرة، مبادئ أولية صحيحة، ومن النتائج المستخلصة من هذه المقدمات المفترضة، بنى شاهقة المنطق، ولكن إذا كان الأساس واهيا فما الحاجة إلى مهندس ينبئنا بتداعي البناء؟ وإذا كانت حقيقة المسيحية لا نزاع فيها فلماذا توضع هذه الكتب؟ وإذا كان الموجود من الكتب كافيا لإثباتها فما وجه الحاجة إلى جدل جديد؟ وإذا كان الله قد تكلم فلماذا لم يقتنع العالم؟ وإذا كانت المسيحية ينقصها علم أعمق وبحث أشق لإثبات حقيقتها ففيم اللجوء إلى القهر فيما لا يسع سوى العقل الإنساني أن يؤديه على وجه يرضيه؟
وهو يعود بمثل هذه اللهجة، ناعيا على التعصب داعيا إلى التسامح، محاولا التدليل على أن الاضطهاد لن يخفت صوت الحق ولن يكون من أثره إلا دفع الجماعة لتقديس ذكرى من حل الاضطهاد به، على نحو تقديس المسيحيين لعيسى لغير شيء إلا تعذيب اليهود إياه، وذلك حين يقول:
من الحقائق التي لا سبيل إلى نقضها أنه لو لم يكن اليهود هجما متعصبين، أو لو أن عزيمة بونتياس بيليت كانت كصراحته، لما استطاع الدين المسيحي أن يستفيض، بل لما أمكن أن يوجد، فيا من أعز آرائه عليه رهن بمثل هذا الخيط الضعيف، وأعلق عواطفه بقلبه مصدرها يعتوره الشك، تعلم على الأقل التواضع، واعترف بأن من الجائز أن تكون تربيتك وظروفك قد سولت لك التسليم بقواعد لا ينهض عليها دليل ولم تثبت صحتها على وجه مقنع مرض، واعترف كذلك على الأقل بأن فساد رأي أخيك ليس بالسبب الكافي الذي يجعله أهلا لكرهك، أمن أجل أن إنسانا مثلك ينكر أن عقيدتك معقولة، يكون حقيقا بعقاب التعذيب والسجن؟ وإذا سلمنا بجواز الاضطهاد الديني فما أوسع الباب الذي يفتح ويقتحم منه المتعصبون من كل لون على سلم المجتمع وسلامه! وأي وحشية وفظيعة دموية لا تنقلب مباحة؟ ولكني أسأل: أليس ذلك الرجل الذي ينكر صحة عقيدة شائعة أحق بتعظيم المجتمع منه بسخطه وغضبه؟ لأنه إما أن يثبت زيفها وعمقها (وبذلك يقضي على ما هو زائف ولا طائل تحته) وإما أن يتيح لأنصارها الفرصة لإثبات صدقها وجمالها، وهذا - على التحقيق - لا يمكن أن يكون جريمة، فإن من يهب وقته للبحث الحر والتحقيق الجريء في كبرى المسائل التي ترجع في مرد أمرها إلى طبيعتنا الأخلاقية، يكون أجدر بتشجيع المشترعين المتنورين منه بأن يحيق به انتقامهم، وأحب أن تعلم يا سيدي اللورد أن أغلال الحديد لا تقيد ولا تخضع روح الفضيلة، وأنها تسمو فوق وحشية المحابس وقسوتها، وترتفع حرة جريئة إلى حيث لا تقدر روحك أن تحلق وراءها من مقعدك الفخم في القضاء، ولست أدعوك لتحذر أن تنسيك مسيحيتك أنك إنسان، ولكني أعظك أن تستعجل ذلك العصر الذي يقبل علينا مسرعا في ظل نظام القهر الحاضر، والذي تكون فيه مجالس القضاء حقيرة مأجورة، وتكون السجون منازل لكل ما هو شريف وصادق.
ويصل إلى القمة من حججه حين يستشهد التاريخ على أن الظلم لم يخفت صوت الحق بل قضى على الظالمين، وذلك في عبارة بالغة غاية الإبداع، حين يقول:
سقي سقراط السم لأنه اجترأ أن يكافح الخرافات التي كان مواطنوه يلقنونها وينشأون عليها، ثم ما عتمت أثينا بعد موته بقليل أن تبين لها ما في حكمها عليه من الظلم فانتصفت له من متهمه «مليتاس» ورفعت سقراط إلى قريب من مراتب الأرباب.
وصلب المسيح لأنه حاول أن يهذب طقوس موسى ويستبدل بها ما هو أدنى إلى الإنسانية وأشبه بالخير، ولقد أعلن قاضيه على الملأ اعترافه ببراءة ساحته، لكن الشعب الجاهل المتعصب أبى إلا الفعلة الشنعاء، فسرح براباس القاتل الخائن وقدم المسيح الوديع المصلح قربانا لإله اليهود الدموي، ثم مضى الزمن وتبدلت الأحوال وتغيرت معها آراء الناس وراح الغوغاء على عادتهم من التطرف يرون في صلب المسيح خارقة، ولم تعوزهم شواهد المعجزات وآياتها - وما أكثرها في عصور الجهالة! - ليثبتوا بها أنه كان من الله، ودارت هذه العقيدة في النفوس مع العصور والتقت بأحلام أفلاطون ومنطق أرسططاليس، واكتسبت القوة والسعة والامتداد حتى تقررت ألوهية المسيح وصارت المنازعة فيها مجلبة للموت، والشك في صحتها جريمة وعارا.
والمسيحية الآن هي الديانة المقررة، فمن أراد أن ينازع في ذلك فعليه أن يوطن نفسه على أن يرى السفاكين والخونة يتقدمونه في اعتبار الرأي العام، إلا إذا كانت عبقريته كفاء شجاعته وآزره من ظروف الأحوال ما يكفل له أن ترفعه الأجيال المقبلة إلى مصاف الآلهة، وأن تضطهد الناس باسمه وفي سبيله كما اضطهد هو باسم من كانوا أسبق منه إلى الفوز بعبادة العالم.
ثم يختتم خطابه بقوله:
إن الزمن ليقترب مسرعا حين يعيش المسلم واليهودي والمسيحي والمؤمن والملحد معا في جمعية واحدة يتقاسمون متساوين ما ينشأ عن اجتماعهم من فوائد ويتحدون مرتبطين بروابط الإحسان والحب الأخوي، وأرجو لمولاي اللورد أن يرى ذلك اليوم.
ولما أتم شلي خطابه هذا حاول العود لإتمام قصيدته «الملكة ماب»، لكن حياة لنموث بدأت تثقله وتدفع الملال إلى نفسه، ذلك أن الغيرة دبت إلى نفس زوجته من مس هتشنر فرأت فيها منافسا لها دس الهم إلى حياتها، وربما وجد شلي الوسيلة إلى الدفاع عن ضيفه لو أنه وجد منها ما كان يرجو من مشاركته في تفكيره وإلهامه بما يزيده تحليقا في سماء الشعر ينهل فيها كل ما يريد من صور ومعان وألوان، وزاد في همه أن رأى هاريت لا تتابعه في جولات خياله وذهنه بما يزيده قوة على قوته وسموا على سموه، بل وقفت تتلفت إلى ما حولها تبتغي من متاع الحياة مثل ما ابتغت من قبلها أخته وابنة عمه، حينذاك أيقن شلي أن لا سبيل للبقاء في وحدة الريف واعتزم العود إلى لندن عله يجد في الجماعة مسليا عن هذه العواطف الوضيعة التي بدأ المحيطون به يشغلون بها ذهنه، وفي مقابلة جدوين منشطا لروحه في توثبها للعمل على سعادة بني الإنسان إخوته، واختار في العاصمة فندقا صغيرا أقام وصحبه فيه، ثم ذهب مع زوجته في يوم من أكتوبر يزور أستاذه في موعد حدده، وكان جدوين يقيم بمنزل صغير يتصل بمكتبة يطبع هو فيها كتبا للأطفال ويبيعها، ذلك أن مكانته التي بلغها بعد نشره كتاب (العدل السياسي) والتي دعا فيها إلى هدم نظم الزواج والأسرة والنزوع إلى صورة مخففة من الشيوعية كانت قد ضعفت بمقدار عظيم، فلقد كان يوم كتب هذا الكتاب قسيسا خرج على زمرته وأطلق العنان لفكره، لكنه ما لبث بعد ذلك أن تزوج من ماري ولستنكرافت التي ماتت تاركة له ابنة دعتها باسمها ماري وابنة أخرى من زواجها الأول هي فاني أملاي، ولم يمض على موتها حين حتى تزوج مرة أخرى من جارة له كانت تبدي إعجابها به، وكانت ذات ابنة من زواج أول هي جين كليرمون، وقد اجتمعت الأسرة في انتظار زيارة شلي وزوجته لم يتخلف منها إلا ماري التي تزوجها شلي من بعد، لأنها كانت على سفر في إيقوسيا، وقد ربطت هذه المقابلة الأولى بين شلي وزوجته وجدوين وأسرته بأقوى الروابط، على أن فاني وجين - وكانتا فتاتين ذواتي جمال وعلم - ما لبثتا أن رأتا شلي واستمعتا إليه حتى أظهرتا غاية الإعجاب بجمال نفسه وسمو ذهنه ومتوقد خياله، وحتى شعرت كل واحدة منهما في أعماق نفسها بميل نحوه دفعها إلى التقرب منه والعمل لاجتذابه، وشعر هو من ناحيته بأنهما أكثر من هاريت معرفة وأقدر على تتبع البحوث الفلسفية وتذوق جمال الشعر.
ومن طريق أسرة جدوين تعرف إلى نيوتن، وكانت أسرة متأثرة بتعاليم الثورة الفرنسية وبالثقافة الفرنسية إلى حد ملك لب شلي، وكيف لا تملك لبه ولم تقف عند التهذيب تأخذ منه بأعظم نصيب، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك فطبقت في كثير من نظم حياتها مبادئ الإنسانية التي أعلنتها الثورة، لم يكن أحد من أفرادها يأكل اللحم وكانوا جميعا يميلون إلى ناحية الحياة الطبيعية التي دعا روسو إليها بقدر ما تسمح به ظروف الحياة، ومن ذلك أن كانوا يتركون أطفالهم عراة ما داموا في الدار، وقد قارضوا شلي إعجابا بإعجاب وتقديرا بتقدير، وشاركتهم في ذلك أخت لمسز نيوتن تدعى مدام دبوانفيل، تربت هي وابنتها في فرنسا ونشأت على تعاليمها، وكذلك استطاع أن يجد في المدينة منجاة من تلك الوحدة التي أثقلت كاهله في لنموث والتي اضطرته إلى هجر تلك البقاع الجميلة المحبوبة التي ألهمته خطابه إلى لورد اللنبرا والتي كان يتمنى لو أتم فيها قصيدته (الملكة ماب).
وزاده أنسا إلى المدينة وحياتها أن استطاعت زوجته - أو أختها إليزا على وجه أصح - أن تجعل عيش مسز هتشنر معهم محالا حتى لتطلب هي مغادرتهم شاكية ما أصابها بسبب دعوة شلي إياها من انقطاعها عن المدرسة التي كانت تعمل فيها ومن سوء سمعة زعمت أنها علقت بها لاتصالها برجل هو من الجمعية موضع الريبة.
ولقد اقتطع لها شلي من أربعمائة الجنيه التي كان يعيش عليها مائة كاملة ورتبها لها لتعيش منها برا بها وتقديرا لتبعته في دعوتها، وعلى أثر سفرها عاد إلى جو الأسرة طمأنينته وعاودت هاريت ابتسامتها وعادت هي إلى تغريدها، ومع ما كانت تلمع إليه بعض فتيات جدوين من ميلها إلى التجمل بما لا يتفق مع بساطة الحياة الطبيعية، ومع ما كن يتهامسن به مشفقات على شلي من أنه لم يتزوج الشابة التي تسعده وتلهمه، فقد ابتهج هو بعودها إليه وفتح لها من جديد كل قلبه، ثم زاده بها شغفا أنها حملت، فود أن يستعيد وإياها ألوان متاعهما السابق؛ لذلك هجر العاصمة ومعهما إليزا وسافرا إلى إرلندة وإلى الغال لا يبتغيان من رحلتهما هداية أحد ولا الدعوة إلى جديد، وإنما يرجوان أن تحدثهما أماكن شهدت غرامهما بأهازيج هذا الغرام لتزيد في أنغامه الثائرة من حنايا جوانحهما ما يزيدهما صبابة وهوى، وكانا سعيدين طوال رحيلهما مطمئنين إلى حبهما، على أن ما دعا في الحقيقة إلى هذه السفرة ثورة قامت بنفس شلي جعلته يحس في أعماق نفسه من غير أن يستظهر أمام بصيرته أن شيئا قد اندس بينه وبين هاريت يوشك أن يفصل بين قلبيهما وأن يبتر صلة حبهما، وكان رجاؤه أن يعود إلى ملك عصفوره إذا أزال من نفس عصفوره الوهم أن أحدا ينازعه فيه ، وكان رجاء هاريت أن تعود إلى ملك صاحبها وأن تنزل به إلى مستوى الناس الذين يعرفون للحياة المادية قيمتها ويعملون على الاستمتاع بكل مظاهرها على نحو ما يستمتع غيرهم بها.
وتقدم بهاريت الحمل، فلم يك بد من عودهم إلى العاصمة مرة أخرى، ووضعت بنتا أسموها (يانت) جعلت أمها أشد حرصا على صلاتها بالجمعية وعلى محاكاتها إياها، وفيم كان زواجها من حفيد البارون شلي صاحب الثروة الضخمة والضياع الواسعة إذا كانت لا تطمع في حياة ضريباتها النبيلات، بل في حياة العامة من الناس؟ ولعلها كانت لا تغلو في هذا الميل لو أن أختها إليزا لم تكن دائبة التحدث لها عنه والعود بها إلى أن ذاك كان كل رجائها ورجاء أبيها من صلتها بشلي.
واضطر هو آخر الأمر إلى الإذعان لمشيئتها، فاقتنى لها عربة ولم يرفض أن يصحبها مرة إلى بائع الحرائر وأخرى إلى صانعة القبعات، ثم ألحت عليه، وعاونتها إليزا في إلحاحها، أن يعمل على استعادة صلته بأبيه، واضطرته، فكتب له يرجو زوال ما بينهما من قطيعة، لكن هذا السعي أخفق بعد أن أصر مستر تموذي على أن يعلن ابنه النزول عن آرائه والعود إلى حمى الجمعية ونظامها، وأحفظ رفض شلي شروط أبيه قلب إليزا وقلب هاريت وزاد فيما بين الرجل وزوجته من شقة خلف كان لا يزيدها تعاقب الأيام إلا انفراجا، وكان من أثر ذلك أن جعل شلي يجد المسرة في مقامه بين أسرتي جدوين ونيوتن وفي السفر وحده إلى حيث تقيم مدام دبوانفيل مع ابنتها كورنليا ترنر يقضي في ضيافتهما أياما وأسابيع، بل لقد أقام عندهما في إحدى الضيافات شهرين متتابعين تاركا هاريت وأختها ينعمان بما تشاء أهواؤهما التي هوت إلى مستوى أهواء الجماعة الإنسانية، وكان إعجابه بكورنليا يزداد يوما فيوما حتى انقلب حبا وحتى فكر في اختيارها رفيقة حياته.
لكن أسرة نيوتن كانت - برغم حريتها في التفكير وتطبيقها صور تفكيرها في طعامها وفي حدود المنزل - أسرة أرستقراطية النزاعات في علاقتها المدنية ، فلم يرقها هذا التفكير من جانب شلي في مخالطة كورنليا، وأدرك هو هذا فاكتفى بسعادته بين أولئك السيدات الرشيقات البالغات من عذوبة النفس وسمو الإدراك ما لم يكن يجده إلا في جماعة جدوين، على أنه أدرك وجوب الانقطاع ولو إلى حد عن تكرار زياراته لهؤلاء وأولئك، وأكب حتى فرغ من (الملكة ماب) وقد أودعها كل ما دار في نفسه عن الحياة من خواطر وما وقع عليه في أثناء مطالعاته من معارف وأفكار وجعلها كأنها كتاب الرسالة التي ظن أن القدر ألقى عليه إبلاغها للناس، وكم كان غضبه لتدهور عقلية الجماعة شديدا حين قابلت (الملكة ماب) بفتور لم تتخلص من أثره بعد أن علا في الشعر نجم شلي، بل لقد ظلت حتى اليوم منظورا إليها على أنها دون ما أبدع بعد ذلك من معجزات الشعر بكثير.
ولقد كان واجدا عن فتور الجمهور بإزاء قصيدته عزاء لو أنه وجد في هاريت أو في غيرها عطفا عليه يقوي عزمه ويشد قلبه، لكن هاريت كانت على العكس من ذلك قد أمعنت في إهماله حتى لم تأب الظهور في الجمعية مستندة إلى ذراع الضابط رايان الذي جعل يتردد عليها بحجة أن له بأختها إليزا معرفة قديمة، وقد حاول شلي أن يسترد قلبها وأن يحول بينها وبين الانحدار إلى أعمق مما انحدرت إليه، لكنه ألفى هذا القلب تحجر فلم تعد تهزه بإزائه عاطفة ولا يحركه نحوه ذكر للماضي ولا رجاء في المستقبل.
وإنه لفي يأسه من هذه الناحية إذ أقبل عليه جدوين يستعينه في متاعب مالية أعانه شلي من قبل في مثلها، وطار شلي إلى داره راجيا أن يجد في صحبة جين وفاني بعض السلوى عن عقوق هاريت وجحودها قداسة حبهما، ولم يخنه القدر ولا نبا به حظه هذه المرة، فقد طالما تحدث إليه جدوين عن ابنته ماري وذكائها ونشاطها وحبها المعرفة ومثابرتها على النهل من موارد العلم، ولطالما وصفتها له جين وفاني على أن ذكاءها يعدل جمالها، وما كانت أشد حاجة شلي ليجد الملاك الذي يجمع إلى الجمال الذكاء وإلى عذوبة الروح سمو النفس وإلى طهارة الضمير عظمة القلب، والذي يضيء جمال وجهه بما في الوجود من قوى الفضل والخير الكمينة مبعثرة في ثناياه! ما كان أشد حاجته إلى أن يهب كل ما في قلبه من حب للوجود لتلك الجميلة التي تضيء وجهها بكل جمال الوجود! وألفى ماري ساعة وصل إلى بيت أبيها قد عادت من إيقوسيا وجلست بين جين وفاني اللتين قدمتاه إليها وذكرتاه بحديثهما عنها كما ذكرتا له أنهما حدثتا أختهما عنه، ولم تك إلا سويعة تحدثت ماري إليه فيها حتى سحرته عن نفسه، فجعلته يرى في جمالها وشبابها ورقتها تلك الرشاقة النسوية مجتمعة إلى النشاط والطلعة الذهنية التي تميز الشبان اجتماعا كان يراه دائما صورة الكمال الإنساني في خير ما يستطيع الفن أن يكون، والحق أن ماري كانت ذكية الجمال تنطق قسمات وجهها الرقيقة غاية الرقة بما تنطوي عليه جوانحها من أنفة، وتنم عيونها الكستنائية اللون عن شيء من الألم لم يعرف شلي مصدره إلا بعدما علم أنها تزور كل يوم قبر أمها تقرأ عنده كتبها وتستودعه همها وشجنها، وقد أجابت طلبته أن يصحبها كل يوم إلى هذا القدس تنطوي صفائحه على أقدس حب امتلأ قلبها به منذ طفولتها، وأمام هذا القدس ارتبط القلبان اللذان جعلا كل يوم دأبهما الصلاة له، ارتبطا وتعاهدا على أن يكون كل منهما لصاحبه حتى آخر دهر.
ولما علم جدوين بما بين ابنته وشلي حال بينهما ومنعه عن بيته، فأجج بذلك نيران قلبه وجعله يعتزم اصطحابها والفرار وإياها، وأيقن أن لن يؤنبه ضميره من ناحية هاريت بعدما ظهر منها أنها لا تعني بغير ماله، فدعا بها من الريف إلى لندن وأخبرها بعزمه وبأنه جعل لها راتبا يكفيها عيشها، لكن العصفور رقيق التكوين فلم يحتمل الصدمة فمرض، ثم حاول أن يسترد صاحبه إليه فلم يفلح أن كان قلب صاحبه قد أصبح في ملك غيره. (4) ماري جدوين
كانت أبواب أوربا قد فتحت أمام الإنجليز بعد ذهاب نابليون إلى إلبا ، فلما أبلت هاريت من مرضها اتفق شلي وماري وصحبتهما جين، أن كانت تشعر بميل نحو شلي، فسافروا إلى سويسرا وجاسوا خلالها حتى لوسرن، على أن مقامهم بين جبالها وعلى شواطئ بحيراتها لم يطل أكثر من ستة أسابيع عادوا بعدها إلى بيت صغير على شواطئ التمس أقام ثلاثتهم فيه، ولقد أدى هذا الفرار ومعاشرة شلي لماري من غير زواج بينهما لمقاطعة جدوين إياه وتحريمه بيته وعلى اللتين فرتا معه، وذلك برغم ما كان لشلي على جدوين من فضل إمداده بالمال في ظروف كان هو وزوجه هاريت في أشد الحاجة إليه، بل لعل هذا الإسراف من جانب شلي كان أهم ما غير قلب عصفوره عليه ودفعها إلى الحرص على أن تمتع من الحياة بما يمتع به غيرها من مثيلاتها مما كان يراه زوجها سخفا غير لائق بالنفوس السامية، ولم يكن جدوين وحده هو الذي قاطعه، بل قاطعته كذلك أسرة نيوتن ومدام دبوانفيل، وانقطع عليه كل سبيل لرؤية كورنليا ترنر، ولم يبق له من أصدقاء يزورونه غير صديقه القديم هوج وصديق استحدثه في الزمن الأخير يدعى بيكوك.
على أن عزلة شلي مع خليلته وجين لم تحل دون التهاب قلبين بحبه التهابا دفعهما إلى ما يشبه الجنون، فقد شعرت زوجته هاريت وستبروك من يوم أعلن إليها عزمه على الاتصال بماري جدوين أن ضرام الحب الذي كان قد خبا في قلبها حتى صارت لا ترى عليها من بأس في التحبب إلى أمثال الضابط رايان، تلهبه الغيرة من جديد، وأي شيء أفتك بقلب امرأة من رؤيتها امرأة أخرى تسلبها رجلها وتسلبها معه هناءها ومجدها؟ إنها لترى حقا لها أن تعذب من تحب وأن تصد عنه وأن تلاطف غيره، ولترى واجبا على محبها أن يرى في صدها من علائم الدلال ما يقتضيه مضاعفة التودد لها والإذعان لكل أمرها والتماس الصفح عما دعا إلى هجرها، وإن لم يك شيء قد حدث يوجب التماس الصفح عنه، بل لترى واجبا كذلك عليه ألا يقتضيها إسعاده أو تهوين الحياة عليه، فإن فعل فهو أثر لا قلب له والأنانية ملء نفسه، أما إن رأى في امرأة أخرى ملاك سعادته فأحبها فتلك الجريمة والطامة الكبرى، وتلك المرأة الغادرة هي أحط من حملت أرض أو أظلت سماء، وكذلك كانت ماري في رأي هاريت، وقد ازدادت لها بغضا وعن شلي إعراضا حين بعث إليها يستضيفها عنده في بيت ماري، أف لهما من منافقين! وأف لهذه اللعينة ماري التي لا تراها هاريت تعدلها رشاقة ولا جمالا ولا عذوبة صوت ولا حلاوة روح، بل التي لم تؤت أي حظ من الجمال، بل التي تستحق أن تسحق وأن تعض بالأسنان وتقطع بالأظافر، ولئن كان شلي قد ضعف أمامها كل هذا الضعف فلتنتقمن منه هاريت شر انتقام.
كان ذلك شأن هاريت، أما فاني أملاي فقد جعلت تحس في بيت جدوين وحدة ممضة مؤذية، وتشعر بنفسها غريبة ليس لها في البيت أم ولا أب ولا صديق، ويلذعها قلبها بذكر ما كان يفيض به إزاء شلي من حب وإخلاص، فها هو ذا شلي قد اختار ماري عليها، وهذه جين قد وجدت في نفسها الجرأة لتصحبهما، أما هي فلم يبق لها في الحياة إلا أن تنظر إلى أشباح اليأس يحيط بها، وأن تتمنى لشلي في نفس الوقت الهناء والسعادة، وكيف تراها تحمل له أي ضغن ولم يكن تفضيله ماري جدوين عليها إلا حلقة من سلسلة سوء الحظ الذي أحاط بها منذ مولدها حتى لجعلها تؤمن بأنها ولدت تحت طالع من النحس لا سبيل لمغالبته، ألم يمت أبوها فتزوجت أمها من جدوين ثم ماتت هي الأخرى تاركة إياها يتيمة الأبوين لا معين لها في الحياة إلا بر هذا الرجل الذي استبقاها عنده رأفة بها وإشفاقا عليها؟! فإذا فضل عليها شلي أختها لأمها فليس ذلك أقسى ما أصابها به القدر، وبحسبها أن تظل على إخلاصها له ورثائها لما وصل إليه من فقر اضطره ليعيش وامرأتين معه عيش كفاف ودون الكفاف، بل لقد أثقلته الديون حتى اضطر دائنوه إلى أن يلجأوا للقضاء فجعل رجاله يتعقبون شلي يريدون إلقاء القبض عليه كي يفي بديونه أو يسجن، ولولا يقظة فاني وإخطارها شلي بالأمر وفراره من متعقبيه لذهبوا به إلى السجن، ثم لما تحرك قلب أبيه لاستخلاصه بعد الذي كان بينهما من قطيعة وجفاء.
وناء شلي بهذه الوحدة وثقل عليه حملها وأنهكه إلى جانبها هذا العيش الضنك الذي لم يتعود في نعومة أظفاره، فانهدت قواه واندس المرض إلى صدره وأظلمت الدنيا في عينيه ورأى شبح الموت مقبلا يبتلعه، كم كان من قبل سعيدا مع هاريت! وكم كان سعيدا بحديث صديقاته والمعجبات بنبله وجماله وذكائه وسمو روحه! ثم كم كانت السعادة تفيض عنه منبعثة إليه من قلب الرفيقة الجميلة العطوف ماري! وهذا هو يرى نفسه معها منفردا يتحاشاه الناس ويفرون منه فرارا ثم لا يكون له عنهم من بديل إلا مرض قاتل. يا لليأس! أيتها الآلهة، آلهة الخير والنعمة والسعادة، أحق أنك جميعا قد تخليت عن هذا الرجل لغير شيء إلا أنه صديق الفضيلة المخلص ونصير الحرية الصادق! أوحق أنك حكمت عليه بالموت لأن جمعية النفاق والوهم والباطل قد ابتعدت عنه، خشية أن يفضح نوره ما في ظلماتها من رجس وشقاء وجريمة؟! ليكن، فهذه ماري ما تزال تحنو عليه وتبعث إليه من دفء قلبها المملوء حبا ما يستبقي خيط الرجاء معلقا فوق هاوية اليأس.
لكن خيط الرجاء هذا لم يمنعه من أن يرى الهاوية وكل ما حوته، بل لم يمنعه من أن يحدق فيها ببصره ويستمد من مناظرها المؤسية إلهاما ساميا أوحى إليه أولى قصائده الوجدانية الكبرى: «الاستور أو روح الوحدة»، وبطل هذه القصيدة شاعر شاب طوف في الآفاق وجاب أقطار العالم أن رأى الوسط الذي يعيش فيه والجو المحيط به لا مهبط فيه لوحي الهدى ولا مبعث لسمو الإلهام، «وأدت به خطاه طائعة مسبح أفكاره السامية إلى زيارة ما خلفت الأيام الخالية من خرائب الآثار، فزار أثينا وصور وبعلبك والبطيح الذي كان مقاما لبيت المقدس وأبراج بابل المهدمة والأهرام الخالدة ومنفيس وطيبة، وكل ما تخفيه تلال الحبشة السوداء الصحراوية من عجائب النقوش على المسلات والمقابر وآباء الهول المحطمة، وهناك خلال المعابد الخربة حيث تقوم العمد والصور العجيبة لما هو أعظم من الإنسان، وحيث ترقب شياطين الرخام أسرار نيران الزوال، وحيث يعلق السلف أفكارهم الصامتة على صمت الجدران المشتملة إياه هناك، أمهل الخطا مستذكرا العالم في صباه محدقا طوال النهار المحرق بهذه الصور الصامتة، وما كان القمر إذ يملأ الصالات العجيبة بظلاله المتموجة ليقفه دون متابعة استذكاره، بل ظل يحدق ويحدق حتى أضاء خلاء عقله نور كأنما هو الإلهام القوي جعله يرى من خفايا الزمن يوم ولد ما يهز النفس»، وهناك جاءت له صبية من بنات العرب بطعامه فكبلها غراما، لكنه ما لبث أن عاود تسياره خلال بلاد العرب والعجم والهند، جوابا ربوع الأرض وأقطارها باحثا عن الحقيقة، حتى إذا كان يوما مستلقيا خلال غابة تظله رأى في أثناء نومه «صبية مبرقعة تجلس إلى جانبه وتتحدث في أنغام مهوبة خفيضة بصوت كأنه صوت روحه حين يستمع إليه في هدأة تفكيره، وكانت المعرفة والحق والفضيلة مدار حديثها، كذلك كانت الآمال الكبرى في الحرية المقدسة وما إلى هذه الآمال من أفكار هي أعز الأفكار عليه، ثم كان الشعر أن كان هو شاعرا»، وتجلت الصبية له في خلال هذه الآمال والأفكار والمنى فإذا جمال شخصها عدل جمال نفسها، واندفع محاولا ضمها إليه والإمساك بها، لكنها تراجعت ثم ابتلعها ظلم النوم، ولم تجده محاولته إعادتها إلا أن أيقظته الهزة فإذا القمر ينحدر إلى المغيب وتباشير الضياء ترتفع خلال سجوف الليل، «إذا ضاعت هذه الصورة الجميلة، وضاعت إلى الأبد في تلك الصحراء الواسعة لا طرق فيها، صحراء النوم الكالح! أفيؤدي باب الموت الأسود إلى جنتك العجيبة أيها النوم؟» وينطلق الشاعر مفكرا في أثناء تطوافه مستذكرا صورة النوم الجميلة ملفيا جمالها في كل ما تخلع الطبيعة على الوجود من جمال، وفيما كان عند اليونان بصر بزورق لا مالك له فألقى بنفسه فيه ودفعه إلى لج الموج يتقاذفه رجاء أن يجد إلى الموت سبيله، وتدافع الموج والزورق حتى دفع به إلى جبال القوقاز في نهر تحيط به أحراش وغابات، وهو خلال ذلك كله ما يكاد ينجو من خطر حتى يفجأه خطر جديد يقرب له الأمل في النجاة بالموت والعود إلى صورته الجميلة التي أراه النوم إياها، وفي هذه السياحة يشدو شلي متغنيا ببهاء الطبيعة وحلو حديثها العذب إلى نفس بطله الشاعر المشوق للموت حتى يصل ببطله إلى غايته، وفي سياحة الزورق هذه بين موج البحر وفوق لجة النهر يصف شلي في النهر الذي أبدعه خياله ما نقل بصره إلى حسه من آثار حين عوده من سويسرا راكبا نهير الميز ونهر الرين وما على شواطئهما من بدائع الجمال، ويصف منابع التمس التي زارها بعد عوده إلى إنجلترا وحين هده المرض، ويصف تلك المناظر الساحرة التي تهز القلب والفؤاد، مناظر شواطئ التمس كانت وما تزال مثال جمال قل في الجمال نظيره.
قال شلي مقدما قصيدته هذه لقرائه: «والصورة ليست خالية من العظة لأبناء الحياة الحقيقيين، ذلك أن الشاعر في عزلته وانحصار خواطره في نفسه تثأر منه شياطين عاطفة قاهرة ما تزال تطارده وتخب به لتبلغ وإياه إلى الدمار السريع، على أن الذين لا يخدعهم خطأ سخي ولا يدفعهم ظمأ قدسي إلى شك المعرفة، ولا تضللهم خرافة باهرة، ولا يحبون شيئا على هذه الأرض ولا يتعلقون بأمل وراءها، ويقفون بمنأى عن التعاطف مع أبناء جنسهم، لا يسرون بأفراح الإنسان ولا يأسون لأحزانه؛ هؤلاء وأمثالهم يبوءون بلعنة عادلة، يذوون لأنه ما من أحد يشاطرهم الإحساس بطبيعتهم، فهم أموات الأحياء لا هم أصدقاء ولا عشاق ولا آباء ولا هم من أبناء الدنيا ولا المحسنين إلى بلادهم، وأخلق بالذين لا يحبون بني جنسهم أن تكون حياتهم عقيمة وأن يهيئوا لأرواحهم في كهولتهم قبرا موحشا.»
وإنك لترى كل تلك المعاني التي أوردتها المقدمة متجلية في أبهى صورها وأعظمها جلالا وروعة في هذه القصيدة التي لا تزيد على سبعمائة وعشرين بيتا، والتي تمثل حياة النفس لعباد الوحدة عشاق الطبيعة، مصورة في ألحان سماوية الموسيقى إلى حد يحملك معه على موج أنغامها حتى لينسيك فيها جمال الأنغام بديع الصور، ولينسيك إبداع الصور روائع التفكير، ولتنسيك روعة الفكرة جمال النغم، ثم تتزاوج الأنغام والصور والأفكار فيلد تزواجها صورة الشاعر الشاب شلي في وحدته المنقطعة وأمله المتهدم في الحياة ومواجهته الموت في رعدة تتغلب عليها قوة نفسه، وانتصاره بعد ذلك على الألم وعلى المرض وعلى الوحدة وعلى الموت بهذه القطعة الخالدة من موسيقى شعر الآلهة.
وفيما كان شلي في هذه الحال توفي جده السير بيش وآل إليه بالوصية إيراد سنوي يبلغ ستة آلاف من الجنيهات، ولو أنه لم يكن في شغل بتفكيره وبشعره، ولم يكن ينظر إلى مزيد المال على أنه جريمة تدفع إلى النقص وتزري بالفضيلة؛ لناصب أباه الخصومة حتى يصل إلى كل ما أوصى به جده، لكنه لم يرد الانقطاع لعرض الدنيا إذا وجد ما يسد حاجته ويكفيه شر دائنيه؛ لذلك قبل أن يرتب له أبوه من ذلك الميراث كله ألف جنيه في السنة تكفيه وتكفي ماري، وتكفي من يلوذون به من صحبه، وردت إليه هذه الطمأنينة المادية شيئا من سكينة النفس كان في أشد الحاجة إليه ليتغلب على مرضه، وتغلب بالفعل عليه، وبدأ في سماء المجد يتألق له نجم إن لم يكن ساطعا سطوع نجم بيرون، فقد كان موضع التقدير من بيرون نفسه، على أن الأقدار لم تكتب لنفسه طول سكينة يوما من الأيام، فقد بدأت ماري على جمال حكمتها ورجاحة عقلها تحس الغيرة لوجود جين معهما في البيت، وزاد لهيب هذه الغيرة ضراما حين حملت فلم تستطع ملازمة شلي مما جعل جين تصحبه في جولاته وتعود وإياه متوردة الخد فياضة القلب بما يبعثه شلي إلى كل ما يتصل به ومن يتصل به من جمال الوجود، وما عسى أن يصنع شلي بإزاء غيرة ماري إلا أن يطأطئ لإرادتها ويخضع لمشيئتها، وبخاصة أن جعلها الحمل في حال عصبية تثير معها كل مناقشة إياها لمشيئة تعلنها دموعا تذرف وأنات ألم تقطع النياط الحساسة لقلب محبها الصادق الإخلاص، والذي لا يرى مع ذلك في الحب معنى الأثرة الذي يذكي الغيرة، بل معنى التسامح التام والاشتراك مع كل من في الوجود في الإحساس والعاطفة، واضطرت جين لمغادرة المنزل وفي نفسها من الحب لشلي ما بغض ماري إليها ودفعها للتفكير في الانتقام لأنفتها الجريحة، ولم يعوزها طول بحث لتدبير الانتقام، فإذا كانت ماري تعتز بخليلها شلي وما له من نبل ومجد ومال فلتتخذ هي خليلا لها أعرق من شلي نبلا وأعظم مجدا وأكثر مالا، وليكن هذا الخليل لورد بيرون نفسه، ولم تلق في تحقيق غايتها عنتا؛ فلم يكن بيرون ينظر للحب نظرة شلي ولا كان يعبأ بالعفة ولا بطهر القلب، على أن ماري استراحت حين علمت بنجاح صاحبتها ولم يبق بعد عندها موضع للغيرة منها.
وظلت ماري في سكينتها حتى وضعت طفلا لثمانية أشهر من الحمل فلم تقدر له الحياة، ولم يطل بها الحزن عليه أن حملت مرة أخرى وأن وضعت غلاما أسمته باسم أبيها وليم، ولكنها برغم سعادتها بهذا الطفل الثاني وبرغم شعورها بكل ما في الأمومة من مزيد في الحياة، جعلت تحس وحدتهما وسط الجمعية الإنجليزية تزداد وطأتها ثقلا عليها وعلى برسي، وأكثر من الشعور بالوحدة كان شعور آخر يهيج غيرتها بمقدار ما يهيج آلام زوجها ويبعث إلى نفسه نوعا من لذع الضمير طالما حاول إخفات صوته، ثم ظل مع ذلك دائبا على تعذيبه، فقد أصبح هجره هاريت موضع حديث الناس وموضع لغو أصدقائه، وكان إجماعهم منعقدا على أن البائسة لم تأت إثما ولم تجن ذنبا، وإنما الذنب والإثم على شلي الذي هجرها وتبدل بها غيرها، وظن أن لم تبق له جريرة عندها ما دام قد ضمن لها ولأبنائها منه رزقها، وألح بالزوجين هذا الشعور فانتهيا إلى استحالة المقام بإنجلترا وضرورة هجرها إلى حيث لا يعلم قصتهما أحد، وإذ كانت هواجس ماري قد هدأت من ناحية جين وكانت هذه وحدها هي شريكة حبهما وصلتهما منذ نشأتهما، فقد سمعا إليها حين اقترحت عليهما السفر إلى سويسرا للمقام عند ضفاف الليمان على مقربة من جنيف، وزاد ماري اطمئنانا إلى اقتراح صاحبة سرها أن علمت أنما حملها عليه اعتزام بيرون أن يسافر إلى تلك الناحية فرارا من اتهام الجمعية الإنجليزية إياه بمعاشرة أخته أوجستا، فلن تعود بين جين وشلي إذا أية صلة ما دام بيرون سيقوم منها مقام شلي من ماري، وإذا فليسافر ثلاثتهم إلى ضاحية جنيف ولينتظروا هناك مقدم النبيل العظيم.
ووصل الجوار ثم وصلت الصداقة ما بين بيرون وشلي، وزاد الصلة بينهما أن ظلت جين مقيمة عند شلي مترددة آناء الليل وأطراف النهار على بيرون، على أن أمتن ما قوى صلتهما كان الوسط الذي يعيشان فيه، وسط سويسرا الشعري البديع الذي يوحي إلى النفس والقلب والفؤاد ما يملؤها شعرا ويزيدها للجمال قدرا، وكان هذا الوسط، أول تعارفهما، في أجمل فصوله، فقد نزلا جنيف إبان بشائر الربيع في مختتم أبريل ومفتتح مايو حين تبدأ حياة الطبيعة يقظتها من سنة الشتاء، وحين تبدو أوراق الشجر في خضرتها الجديدة ما يزال لها كل صباها وكل ما للصبا من بهاء وروعة، وحين الثلوج ما تزال تغطي قمم الجبال وتكسو عوالي سفوحها كساء يتباين ضياؤه في أثناء النهار ويكسوه شفق المغيب كما يكسوه مطلع الشمس، من الأحمر القاني إلى الأحمر المتورد، بما يملأ خيال الشاعر بأجمل الصور، وحين تنعكس سفوح الجبال وقممها الرفيعة على سطح مياه البحيرات حين يكون هذا السطح هادئا، فإذا دفعت الريح الموج متلاطما فوقه رأيت السفوح وأشجارها والقمم وثلوجها تموج متلاطمة هي الأخرى، قوى هذا الوسط صلة الشاعرين أن وجدا فيه خير مسرح لخيالهما المتوقد، وإن شعرا في شغاف قلبيهما بحب له يزداد استعارا كلما ازدادا من هذا الجمال الساحر نهلا، وذلك فرق ما بين حب الطبيعة وحب المرأة، بل هو فرق ما بين حب المرأة وحب كل جمال غيرها في العالم، حب المرأة أناني أثر غايته الحيازة والملك والمذلة والاسترقاق، فكل شركة فيه تنتهي إلى الجريمة، عهرا كانت الجريمة أو غيرة، وتنتهي إلى القتل وما هو شر منه ، أما حب الجمال في غير المرأة فهو الحب الذي يفهمه شلي وينادي به ويدعو إلى الشركة فيه، هو تقديس الجمال في كل مظاهره والاشتراك في هذا التقديس ليزداد بالاشتراك سموا وجلالا، وكم كان لجمال سويسرا واشتراك شلي وبيرون في تقديسه من أثر في شعرهما، على أنه مع ذلك لم يقرب بين روحيهما؛ لأن كل واحد منهما كان يختلف عن الآخر في نظرته إلى الحياة تمام الاختلاف، فقد كان عقل شلي وقلبه وشخصه وكل وجوده شعرا خالصا، كان لا يعرف شهوات الإنسانية، ولا يخلط بنفسه وضيع عواطفها، وكان لذلك يرى جمال الكمال ملموسا محسوسا، وكان يصور كل ما يقع عليه حسه وكل ما يجيش بقلبه في أنغام من الشعر والنثر لا أثر لغير روح الجمال وعبادته فيها.
وإنك لتعجب حين رجوعك إلى ديوان شعره وإلى رسائله وكتبه إذ ترى كل سانحة من السوانح وكل منظر من المناظر وكل ما اتصل بشلي في يقظته وفي نومه، قد اكتسى ثوب الجمال، وإذ ترى هذا الجمال مصورا أنغاما قدسية يختلط عليك حين تقرؤها أشعر هي أم موسيقى أم رسم وتصوير! أما بيرون فكان شاعرا، ولكنه كان إنسانا له كل شهوات الإنسان قوية غالبة عليه متحكمة فيه، وكان يرى الجمال من خلال هذه الشهوات فيشدو به في شعره ساميا بهذه الشهوات نفسها إلى سماء الشعر ملبسا إياها شفوف الجمال، وكان بيرون مشغوفا بالمجد تتسلط عليه شهوته إلى حد أشفق معه عليه شلي كما أشفق عليه لضعف روحه ونزوله إلى مراتب الإنسانية الوضيعة برغم ما أنعمت به آلهة الشعر عليه من جمال في النفس وسمو في الفكر، وكم حاول أن ينزع به إلى غير ما تدفعه إليه شهواته، وأن يجذبه إلى ناحيته، ناسيا أن ليس في مقدور إنسان تحوير طبعه، ولم يتغير عليه بعدما افترقا، بل جعل يراسله طمعا في إنقاذه من براثن شهواته التي كانت في نفس الوقت مصدر كل وحيه وإلهامه.
وبرغم ما امتلأ به قلب شلي من جمال سويسرا فقد كان دائم الحنين إلى بلده، وكان حنينه قويا منذ أول مغادرته شواطئها وإن كانت هي التي ألجأته إلى هجرها والفرار منها، قال في خطاب بعث به إلى صديقه بيكوك يعبر عن تحنانه: «إنكم لتعيشون على شواطئ نهر مطمئن بين تلال خفيضة تغطي الغابات سفوحها، ثم إنكم لتعيشون في بلد حر لا يحول بينكم وبين ما تعملون قهر، وتطمئنون فيه إلى ما يقع في ملككم، وما بقيت هنالك ممالك وما بقيت اعتبارات الأثرة التي تنطوي فكرة المملكة عليها، فأنا واثق من أن إنجلترا أكثر الممالك حرية وتهذيبا، ولعلك كنت حكيما في اختيار طريق حياتك، على أني إن عدت واحتذيت مثالك فلن آسف على ما رأيت من ممالك أخرى، فلدينا - لا ريب - كثير من الخبيث والطيب، وكثير يزدرى وكثير يمكن السمو به نحو الكمال، لكن ذلك كله لا يعرفه ولا يحس به من لم يبرح حدود وطنه، وما دام الإنسان على ما هو عليه فإن التجربة التي جربها لن تدعوه لاحتقار الأمة التي ولد فيها، بل على العكس من ذلك، هو لن يقدر ما يربطه بوطنه من حب حتى يجعله الغياب عنه أشد شعورا بجماله، فشعراؤنا وفلاسفتنا وجبالنا وبحيراتنا، وقرانا ومزارعنا التي لا شبيه لها عند غيرنا؛ كل هذه روابط لن تنبت ولن تتحطم أو أصبح ولا إدراك عندي ولا حس لي.»
وربما فات شلي أن يذكر شيئا آخر يربطه بإنجلترا ولا يقل عن كل ما ذكر قوة، ذلك عصفوره هاريت وابنته يانت وابن هاريت المنسوب إليه وإن أنكر هو أبوته، فلقد كان كثير التفكير في أثناء وجوده على شواطئ ليمان في هاته التي ترك وإن كان يعلم أنها في طمأنينة مادية بما أجراه عليها من رزق وما يجريه أبوها عليها من رزق مثله، وكان يعلم من أخبارها أنها ساء سلوكها وانحدرت إلى مستوى يقرب من الدعارة، فكان يحس على نفسه في ذلك بعض التبعة، ويحاول إقناع نفسه بما يزحزح التبعة عنه، ولئن كانت هاريت قد أساءت إليه أفليست يانت ابنته ويجري في عروقها الدم الذي يجري في عروقه؟ لكنه لم يكن يستطيع الإسراع إلى مغادرة سويسرا وماري متعلقة بها جريحة القلب من سوء صنيع مواطنيها بصاحبها وبها؛ لذلك اقتنى - بالاشتراك مع بيرون - زورقا جعلا من رياضتهما عليه فوق لج الليمان مستوحى لإلهامهما، وكثيرا ما كانت تصحبهما ماري وجين، فتتغنى هذه الأخيرة بصوتها الحلو الرقيق توقع أنغامه على موجات هواء الجبال العذب الصافي ما يزيد الهواء والبحيرة والجبال جمالا وما يزيد إلهام الشاعرين روعة وقوة.
على أن جين كانت قد حملت من بيرون منذ كانا في إنجلترا وآن لها وهم في سويسرا أن تضع طفلة دعتها كلارا اللجرا، من يومئذ بغضت إلى نفس بيرون، وازداد لها بغضا حين تحدث إليه شلي فيما يريد أن يصنع بالطفلة وبأمها، وكان بيرون في هذا الظرف غليظ القلب مغاليا في التبجح باحتقار خليلته واحتقار النساء جميعا واعتبارهن متاعا لشهوة الرجال إلى حد لم تطقه الذكية الأنوف ماري، ولم تطق معه البقاء على مقربة من هذا الذي يدعوه الناس نبيلا فإذا نبله قحة، ويحسبونه شاعر الحب فإذا حبه شهوة وإذا شعره غلظة كبد حتى على ابنته، واقترن هذا الشعور عندها بعاطفة البر بأبيها، وذكرت تعاليمه السامية وآراءه في المودة والتسامح والحب، وشاركت شلي في فكرة العود إلى الوطن، فكتب إلى بيكوك يطلب إليه أن يستأجر له دارا (فيلا) على شواطئ النهر وبين الأحراش والغياض.
وعادوا إلى لندن وفي عزم شلي أن يستقر بوطنه طول حياته، غير ذاكر أن لا سلطان لأحد من الناس على مصيره، جاهلا ما خبأته الأقدار له من فواجع تقض مضجعه وتضطره إلى المقام بقية أيامه بعيدا عن إنجلترا، فقد كانت فاني أملاي تراسلهم حين كانوا بسويسرا، وكانت رسائلهم لها تبعث إلى حياتها البائسة خيطا من نور الأمل في رؤيتهم يوما من الأيام، فلما عادوا إلى لندن وعاشوا فيها عيش يسار استمتعت به جين مع وجود أمها في بيت جدوين ترهق فاني وتعذبها في حين كانت فاني أحق بهذا اليسار إلى جانب أختها ماري، ولما كانت لا تستطيع الالتجاء إلى بيت شلي لتعلق قلبها به تعلقا يجعلها لا تطيق المقام إلى جنب ماري؛ بعثت إليهم صباح يوم من سنة 1817 بخطاب من برستول تقول فيه: «إنني ذاهبة إلى مكان أرجو ألا أعود منه أبدا.» فسارع شلي بالسفر إلى برستول ومنها عرف إلى أين سافرت الفتاة، وذهب إلى الفندق الذي نزلت به فألفاها انتحرت بالسم وتركت خطابا تذكر فيه أن بؤسها كان سبب اختزالها أيامها وقضائها على حياتها.
وهز هذا الحادث قلب شلي وأعصابه، وزاده اهتزازا ما ذكرته مسز جدوين من أن فاني انتحرت لفرط حبها إياه حبا ضاع كل أمل في أن يجد ما يحييه، وعن هزة قلبه يعبر في أبيات ستة يقول فيها: «أصابت الرعشة صوتها ساعة رحلنا وما كنت أدري أن القلب الكسير مبعثها، فرحلت ولم أعن بما ألقت من كلمات، إيه أيها البؤس! إن هذه الدنيا الفسيحة كلها ميدانك.» على أن قلبه بلغ غاية الاضطراب لحادث آخر ليس دون هذا الحادث شناعة ولا قسوة، ذلك أن هاريت بلغ من انخراطها في اللهو أن حملت من أحد عشاقها وأن تقدم بها الحمل وأن شعرت إذ ذاك بما يتهددها من عار يسقطها أمام شلي، ويرفع ماري في نظر الجمهور عليها، ويوقع على رأسها ما كانت تزعم أنها تدبره من أسباب الانتقام، فذهبت إلى نهر ألقت بنفسها فيه، فماتت منتحرة هي الأخرى، ولم يكن بين انتحارها وانتحار فاني إلا أيام، وذكرت التيمس خبر انتحارها وسببه من غير أن تذكر اسمها، وكان هذا الخبر أقسى مما يستطيع شلي أن يطيق: دعارة، فحمل، فانتحار، يا للعار! ويا بؤس أبنائه بأم تلك خاتمتها! ويا بؤسه هو بحياة تسير مسرعة بالذبول إلى أوراق الربيع منها فتهجره ابنة عمه هاريت جروف وتعقه أخته إليزابث ويغتبط للتخلص من مس هتشنر وتتجافاه كرنلياترنر وتنتحر بسببه فاني أملاي وهاريت وستبروك! ترى ألم يأن لهذا البؤس أن ينتهي وللقدر أن تهدأ عليه ثائرته؟
لكن لا! فقد طلب حضانة أبنائه من هاريت فخالفه في ذلك أبوها وتقاضيا فأنصف القضاء الجد، بحجة أن عقيدة شلي فاسدة ويخشى أن ينشئ أبناءه عليها، وإنما خفف من هذا الحكم أن عهد القضاء بالحضانة إلى من اختاره شلي مطمئنا على إقامته في تربية أبنائه.
وأتاح له انتحار هاريت أن يعقد على ماري وأن تعود لذلك صلته بجماعة جدوين، وكان العوز قد ألح بمؤلف (العدل السياسي) حتى صار عالة على شلي هو أيضا وحتى جعله يعود إلى الاستدانة من جديد، ولم يكن جدوين وزوجه وحدهما هما اللذان كفل شلي في ذلك الظرف، بل أعان صديقه لي هنت وكان له خمسة أولاد من زوجه ماريان، وأعان صديقه بيكوك كي يتابع كتابة روايات رأى شلي في كتابتها خيرا وإصلاحا للجماعة، مع ذلك كله، مع الاضطراب المالي ومع انتحار فاني وهاريت في أيام، ومع منازعة وستبروك إياه في حضانة أبنائه، فقد تحصن شلي بإرادته الصلبة وحاول أن يقهر كل هذه الآلام ويتغلب على كل المتاعب.
وشلي - على رقته وإيثاره وعبادته الجمال وتعلقه بأنغام الشعر - كان ذا عزيمة لا تعرف المستحيل ولا تقف في سبيلها عقبة من العقبات، تحصن بهذه الإرادة وحاول أن يظهر أمام الجمعية وكأن لم تفجعه فاجعة ولم تغير الحوادث التي مرت من نفسه، فابتاع بيتا ظريفا في مارلو أقام فيه مع ماري وابنه وابنته منها ومع جين وابنتها من بيرون، على أن الإرادة الصلبة والعزمة القوية تستطيعان مغالبة الوجود وقهر المستحيل ما دامت الروح التي تحركهما وتصدران عنها مطمئنة قوية لم يندس إليها ما يضعفها ويزعزع ركنها.
فأما إن ضعفت الروح واهتزت قوتها المعنوية فقل على الإرادة وعلى العزيمة وعلى كل قوة من قوى النفس السلام، وقد هدت الحوادث التي مرت بشلي من روحه فتضعضعت وضعفت، وشعر بهذا الضعف فانطلق ملتمسا الوحدة كي يخفي عن الناس ضعفه، والأنوف المعتز بقوة نفسه لا يشعر بجرح ينال منه مبلغ شعوره بأن يراه الناس ضعيفا مثلهم خاضعا لتصاريف القدر خضوعهم، في هذه الساعات التي ينال المرض فيها من جسم ذلك الأنوف أو تنال الحوادث من نفسه، يود لو أن الإنسانية كلها ولو أن أقرب الناس إليه من ذويه وأهله لم يكن حوله منهم أحد ليطلع على ضعفه أو يشاهد هبوط نفسه.
وجعل شلي يذهب إلى جزر التمس المنقطعة يقضي فيها نهاره وشطرا من ليله، يشاهد الطيور السابحة في الماء والمحلقة في الجو، ويحاول استعادة سكينته بالتحليق في عالم الشعر واستمداد القوة الروحية من وحيه، ولم يكن يرجو في استمداده هذه القوة غير ما كان يطمع فيه أول صباه من تحقيق سعادة بني الإنسان، فقد زادته الحوادث التي كرت عليه إيمانا بأن نظام الجماعة الفاسد هو الذي دفع إلى هذه الكوارث المتوالية وتلك المآسي الفاجعة التي تذهب اللب وتصدع القلب، وكانت قصيدته الكبرى الثانية - ثورة الإسلام - والتي كان يصقل فيها من قبل أن تفجأه الحوادث تباعا، قد فرغ منها أو كاد، فوضع قصيدة أخرى أسماها «لاون وستنا» ضمنها مسارح أفكاره في ذلك الظرف العصيب من حياته، وضعها في أثناء تلك الجولات في أحضان الوحدة مقتضيا نفسه أن يكون فيها مثال سمو فوق المرض والألم وكل أسباب الضعف الإنساني الذي لا يليق بأمثاله ممن يؤمنون بأنهم يقبضون بيدهم على ناصية الوجود.
ولم تكن جولاته ولا كان شعره ليرد إليه طمأنينة نفسه أو ليدفع عنه غائلة همومها، بل لقد جنت هذه الهموم على صحته وردت إليه مرض صدره وجعلته يفكر جادا في وسيلة البرء من علته، كتب إلى جدوين في 7 ديسمبر خطابا يصف له فيه حاله، جاء فيه: «وكانت صحتي أسوأ بالفعل، فإن مشاعري لتهبط أحيانا إلى حد الذهول والموت، ويبلغ بها التوتر أحيانا أخرى إلى حد غير طبيعي من التهيج، ولأقتصر على مثل مما يعذبني خاصا ببصري، فإن أوراق الحشيش وغصون الأشجار البعيدة لتبدو لناظري بدقة مكرسكوبية، فإذا أقبل المساء غرقت في بحار من الهبوط وضعف الحياة وبقيت مستلقيا - في كثير من الأحايين - ساعات على المضجع وأنا بين النوم واليقظة فريسة تهيج ذهني مؤلم أشد الألم، ذلك أمري إلا في قليل، أما الساعات التي خصصت للبحث فقد اخترتها بعناية من بين الساعات التي أستطيع المقاومة فيها ، على أن ذلك كله ليس هو سبب تفكيري في السفر إلى إيطاليا طمعا في أن تنقذني منه، كلا، بل لقد عاودتني نوبة صدرية، ولئن كانت قد انتهت الآن غير تاركة وراءها أثرا لوجودها إلا أن هذا العرض دلني على حقيقة المرض الذي يؤويه صدري، ومن مصلحتي أن يكون هذا المرض بطبعه بطيئا، وإن الإنسان إذا عني بتتبع تقدمه استطاع التغلب عليه والبرء منه في جو دافئ، فإذا عاد هذا المرض على صورة واضحة أصبح واجبا علي أن أسارع بالذهاب إلى إيطاليا، على أنا إنما نسافر حين يصبح السفر واجبا محتوما، لمخالفة هذا السفر لمقاصدنا أنا وماري متأثرين بعواطفنا نحوك، وأحسبني في غنى عن أن أذكرك، فضلا عن آلام الذين يعيشون بعد موت عزيز عليهم، بسلسلة النتائج السيئة التي تترتب على موتي، وإنما يحملني على هذه الصراحة القاسية ما بدا لي من أنك لم تدرك حقيقة مقصدي، فليست الصحة وإنما هي الحياة التي أبحث عنها في إيطاليا، ولست أبحث عنها من أجلي، فأنا أشعر بالقدرة على نفسي إزاء مثل هذا الضعف، وإنما أبحث عنها من أجل أولئك الذين تفيض عليهم حياتي سعادة ومنفعة وأمنا وكرامة، ومن بينهم من ينقلب عليه أمر هذا كله إلى النقيض إذا أنا مت.»
وما يشير إليه شلي من سوء فهم جدوين إياه هو تأويل جدوين سفر صهره إلى إيطاليا بأنه الفرار من معونته المالية، على أن ماري لم تبرح إنجلترا حتى كفلت لأبيها عن طريق شلي رزقا يقيه في شيخوخته، كما كانت طوال إقامتهم في إيطاليا لا تنفك تعينه بتخصيص ما يقع لها ثمنا للروايات التي تكتبها لمعونته، وبدفع شلي ليزيد في هذه المعونة جهده، ولعل إحساسها بحاجة شلي إلى السفر كانت أشد من إحساسه هو، فقد أثقلتها جين وابنتها وطمعت حين وجودهما على مقربة من بيرون أن يضمها إليه، على أنهم ظلوا ينظمون شئونهم ويبيعون دارهم في مارلو ويقتضون الناس فيها ما يستطيعون اقتضاءه منهم حتى استطاعوا إعداد أهبتهم للسفر، وسافروا في منتصف مارس سنة 1818 قاصدين ميلانو ليذهبوا بعد منها إلى البحيرات الإيطالية آملين أن يجد شلي في شمسها وهواء الجبال عندها ورقة الطبيعة المحيطة بها ما يشفي صدره ويرد إليه سكينة نفسه. (5) سنو حياته الأخيرة بإيطاليا
غادر شلي إنجلترا قاصدا إيطاليا في مارس سنة 1818، غادرها مستصحبا زوجه ماري وابنيهما وليم وكلارا، ومستصحبا كذلك جين كليرمون التي كانت تطمع في أن ترى ابنتها من بيرون فتروي غلة قلبها الظمئ شوقا لها، ومروا بليون فجبال الألب حتى نزلوا ميلانو، ومن هناك قصدوا البحيرات الإيطالية التي كانت منذ القدم مغنى الشعراء وملهمة الموسيقيين والمصورين ورجال الفن جميعا، وأعجب شاعرنا بهذه البحيرات و«بكومو» منها بنوع خاص، حتى رأى أن ليس يعدلها أو يزيد عليها جمالا غير بحيرات كلارني الأرلندية، على أنهم لم يجدوا في منطقة البحيرات الدار التي تعجبهم فعادوا إلى ميلانو حيث وجد شلي في كنيستها ملجأ تطمئن له روحه التي كانت ثائرة من قبل على كل كنيسة وعلى كل دين، وكنيسة ميلانو جديرة بأن تطمئن النفس لجمال ظاهرها وهيبة داخلها هيبة تبعث إلى النفس طمأنينة الإسلام للحياة ولما بعد الحياة، لكن أمر شلي لم يقف عند حد الإعجاب بجمال كنيسة ميلانو وهيبتها، بل إن نفسه التي كانت جموحا ثائرة على كل شيء قد وجدت في آلام الحياة وصدماتها المتوالية ما هد من ثورتها وما أراها ضعف الإنسان وعجزه التام أمام الوجود، فعاد إلى نوع من الإيمان بعظمة الوجود ممثلا في الكنائس والبيع وبيوت الله جميعا، وجعل يرى فيه ملجأ يحتمي به الإنسان من ضعفه، بل يستريح فيه إلى هذا الضعف ويطمئن له.
ومن ميلانو كتب شلي إلى بيرون في شأن اللجرا منبئا إياه بوجود أمها معهم، ورد عليه بيرون معلنا - في صراحة وقحة - أنه لن يرى لجين وجها ولن يسمح أن تعرف إليه طريقا، ورأى شلي أن لا وسيلة للتخفيف ولو بعض الشيء من حدة صاحبه إلا أن يذهب إليه في البندقية، وغادر ماري وابنيهما وذهب مستصحبا جين التي ألحت في السفر رجاء أن ترى ابنتها ولو خلسة من غير أن يعلم بيرون بوجودها، وتقابل الشاعران وتحادثا في الأمر حديثا انتهى بيرون معه إلى السماح بأن تقيم الطفلة مع أمها وشلي في دار بناحية «إست» شهرين كاملين على ألا يكون لجين بعدهما مطلب عنده أو رجاء فيه، وأعجب شلي بالمدينة السابحة غرقى في لجة الإدرياتيك وبجزرها وكنائسها وبهوائها العطر بأريج الحب المتغني والها فترات من الليل بأناشيده، الذاهب في المتاع به إلى حدود الاستغفار عنه بإقامة الكنائس الكثيرة علها تسع ذنوب أهل المدينة جميعا، وعل إحداها تكون أقرب من الأخرى إلى دعاء مستجاب.
ورأى بعد الذي عرضه بيرون وبعد ذهابه وجين وابنتها إلى إست أن المكاتبة بينه وبين ماري أصبحت لا تكفي فدعاها لتقيم معهما، ومن هناك عرفت ماري البندقية وتعلقت بها وبرمال الليدو ومصيفها، على أنها ازدادت من بعد بهذه الرمال تعلقا أن خلفت فيها ذكرى فاجعة هي الأولى في حياتها، فإن شهري «إست» ما كادا يقاربان التمام ليعود شلي ورهطه إلى ميلانو حتى كانت ابنته كلارا قد مرضت، وبرغم ما بذلت أمها من عناية بها ظل المرض متابعا سيره حتى رأوا ضرورة الذهاب إلى البندقية لاستشارة طبيب رجوا أن يكون أكثر من طبيب «إست» حذقا ومهارة، لكنهم ما لبثوا أن وصلوا هناك حتى كانت الفتاة في آخر لحظاتها وحتى أسلمت روحها البريئة الطفلة قبل أن يحاول طبيبها الحيلولة بينها وبين بارئها، وذهب شلي وذهبت ماري يحملان الجسم الصغير إلى الليدو فدفناه في رماله المختلطة صفرتها البهيجة بزرقة الموج المحيطة بها والدائمة الصفو برغم ما تحوي من أجداث ورموس يخلع عليها جلالها جمالا.
وجرحت أمومة ماري جرحها الأول وعرف الحزن إلى قلبها السبيل، لكنها سرعان ما تعزت وظهرت بمظهر القوي الذي لا يتزعزع حتى تمر به أعاصير القدر، وكان مظهرها هذا بعض تعاليم أبيها، فنحن في الحياة نؤدي للحياة واجبها بالبر بالإنسان والعطف عليه، وبتخليد النوع والقيام على تربيته، وبنشر العرفان والنور والعمل لتمتلئ بها القلوب جميعا ، وبالجهاد في سبيل الحرية كي تتمتع بها البشرية كلها، وما أحسنا أداء هذا الواجب فمن حقنا أن نكون سعداء أيا كانت النتيجة التي يسفر عنها عملنا، وكل شر لا سلطان لنا عليه ولا قوة لنا في دفعه لا موضع للأسى من أجله، وثكل الوالد ولده بعض ما لا سلطان لنا عليه من أعاصير القدر، فليكن موقفنا منه موقف إباء وكرامة لا موقف ضعف وحزن، ليكن موقفنا منه موقفنا من خصم يناوئنا ليبتز مالنا، أفترانا إذا ابتزه فأتلفه خاضعين له متخاذلين أمامه؟ أم أنا على العكس من ذلك نزداد أمامه كبرا وأنفة؟ كذلك ظهرت ماري أنوفا لم يعرف الهم ولا عرفت الدموع إلى عينها ولا إلى قلبها سبيلا، ولعل هذه التعاليم لم تكن وحدها مصدر شجاعتها ومبعث قوتها، فهذا ولدها وليم ما يزال في أحضانها فلها فيه عزاء، وها هي ذي ما تزال - كما لا يزال شلي - في مقتبل العمر وقوة الشباب، فما يزال لهما في المستقبل وأبنائه وبناته وسعادته رجاء، وكلارا التي فقدت كانت ما تزال بعد طفلة يعد عمرها بالشهور، فلا موضع للأسى عليها حتى عند أشد الناس تخاذلا أمام الحزن إلا بمقدار.
فأما شلي فقد احتمل موت طفلته في سكينة، ثم احتمل نفسه وأهله وسافر وإياهم من البندقية، وكان يشعر بأن المقام في شمال إيطاليا - وبخاصة عند مقدم الشتاء - ليس مما يبعث إلى نفسه السكينة وإلى صدره دوام ما يرجو له من عافية وبرء، فساروا منحدرين جنوبا حتى وصلوا إلى روما حيث زار شلي من آثار المدينة الخالدة ما زاده قدرا لشعر فرجيل ولشعر دانتي، وبعد إقامة قصيرة بها قصدوا إلى نابولي، وهناك على شاطئ خليجها الساحر البديع ألقى شلي عصا تسياره آملا أن يجد فيها الطمأنينة التي تيسر له الانخراط في خيالاته وتأملاته وتتيح له أن يتم قصيدته (بروموتيه الطليق) ينادي فيها كما نادى في قصيدة (الملكة ماب) بمبادئ الحرية والفضيلة، ويضع فيها الإنسان بإزاء قوى الطبيعة وما وراء الطبيعة، وقد قيدته كلها بقيودها، فإذا هو يحاول من طريق إرادته ومن طريق حرية فكره أن يحطم هذه القيود، وأن يتغلب على هذه القوى، وأن يقف منها جميعا موقف المتحكم فيها المسير لها، ثم إذا محاولته تنتهي به إلى الفوز على القوى جميعا بفضيلة صدق العزيمة والإيمان بالحرية وتقديس الحياة والجمال فيها وبالحب الطاهر الذي لا يعرف الأثرة، وإنما يشترك فيه الإنسان وسائر ما في الكون إجلالا وتقديسا لما أبدعت الحياة في الكون من جمال وجلال، وهو يضع قصيدته هذه في صورة الرواية التمثيلية جاعلا أشخاصها آلهة الأولمب وعلى رأسهم جوبتر، ومن حولهم الأرض والمحيط وعذاراه والكون وأرواحه والكواكب وأفلاكها والوقت وانسيابه، و(بروموتيه) بإزاء ذلك كله يجاهده وينتصر عليه، وهو هنا يخالف الأسطورة القديمة التي تجعل هذا البطل وقد كبلته الآلهة وألزمته قيده بسبب محاولته مناجزتها والتغلب عليها بالعقل والحيلة، وإن كثيرين من النقاد ليذهبون إلى تفضيل هذه القصيدة من قصائد شلي على كل ما سواها ويعتبرونها الدرة من شعره، فأما آخرون فيذهبون إلى تفضيل رواية (سنسي) إذ يرتفعون بها إلى مقام روايات شكسبير، على أن (بروموتيه) قد نسجت على غير طراز (سنسي)، فبينا هذه الأخيرة - على ما سترى - تعبر عن حب آثم يقع في الحياة بين أب وابنته إذا بتلك تتخذ من الكائنات كلها ومن الوجود وما فيه بعض مسرحها، وهي في هذا قد سارت على طراز قصيدة ملتون (الفردوس المفقود) وإن اختلفت عنها قوة بأن ارتفعت عليها في بعض المواضع ولم تصل إلى رفعتها في مواضع أخرى.
ولم يطل بشلي المقام في نابولي، وكأنما كانت يد القدر التي قست به حين مقامه على أرض وطنه، فجعلته لا يطيل المكث فوقها إلا ليعود إلى الارتحال عنها محملا هموما وآلاما ما تزال لم يهدأ ثائرها عليه برغم ما كان يبدع في الشعر من آيات ليست القصائد الكبرى إلا بعضها، فلقد مرض ولده وليم أثناء كانوا في طريقهم عائدين إلى روما، وخيل إلى ماري أن الأمر يسير وأن القدر لن يفجعها فجيعتين متواليتين ولن يسلبها هناءة الأمومة، وهي - بعد حب الصبا - كل ما للمرأة في الحياة من عزاء، وعاد الطبيب الطفل فنصح إليهم أن ينتقلوا به شمالا، لكنهم لم يكادوا يتهيأون للرحيل حتى أصابت الطفل نوبة من الدوسنطاريا ألزمتهم المكث إلى جانبه، وبقي شلي ستين ساعة ممسكا بيد طفله خائفا أن يفر الطفل منه إلى غيابات الأبد، ذلك بأنه كان طفلا ذكيا عطوفا رقيقا، وكان جميل الصورة إلى حد سحر النسوة الإيطاليات بزرقة العينين زرقة جذابة وبشعره الذهبي المتموج تموج الحرير الناعم نعومته، ثم إنه كان قد أصبح وحيد ماري بعد موت أخته كلارا، فالفجيعة فيه تحيي من قلبها الفجيعة الأولى وتسدل على وجهها الضحوك وعلى ثغرها العذب الابتسام سحابة كآبة وهم يصيب شلي منهما حظ غير قليل، وكان لشلي في القدر رجاء التصرف بحكمته إزاء طفل لم يقترف ذنبا يجزى من أجله بالموت بله المرض وآلامه وتباريحه، لكن المرض والموت وكل ما يصيبنا في هذا العالم من خير وشر ليس في نظر القدر جزاء عمل من أعمالنا، ولكنه لوح كتابنا لا مفر لنا من الإذعان له والسير في خطواته؛ لذلك لم يعبأ بما كان مرجوا عند شلي ومات الطفل ودفن في مقابر الإنجليز بروما، هذه المقابر التي أعجب بها شلي وتمنى لو يدفن فيها، ولم يكن يومئذ يعلم أن ما بقي من رفاته سيرقد هناك إلى جانب جثمان طفله.
مات وليم فانهارت عند ماري كل تعاليم أبيها وأسلمت للألم نفسها ولم تطق للوجود جلادا، سكب الهم ظلمته في قلبها واتشح الوجود كله بالسواد أمام بصرها ورسم الحزن على ثغرها وفي نظرتها صورة اليأس والبؤس وشرد لبها إلى قفار الانتحار، وصورت لنفسها خاتمة كخاتمة أختها فاني أملاي، وعبثا حاول شلي تعزيتها بالترويح عنها بأن انتقل بها إلى الريف من روما وأسكنها قصرا جميلا يحيط به الزهر والشجر، وما بهجة الزهر وخضرة الشجر أمام قلب كسير وبصر حزين؟! إنها كلها تنقلب سوادا وتزيده على همه هما وأسى، بل تصبح ضحكات الزهر بعض سخرية القدر، وابتسامة الخضرة شماتة بنا في مصابنا، وعبثا حاول أبوها لما علم عمق حزنها أن يردها إلى صوابها وإلى تعاليمه، فالصواب والتعاليم والمنطق والعقل أوهام وصور ما تلبث أن تطير وتتلاشى إذا هي ارتطمت بقسوة الواقع، وأي واقع أشد قسوة من الموت، بل من الثكل، ثكل الأم لوحيدها ولأمومتها؟ وشلي وحبه وحنانه أصبح هو الآخر مملولا، ثم نسي كما نسي غيره أن لم يبق من الوجود أمام ماري إلا حزنها مجسما في ذلك القبر الذي أوت إليه رفات وليم، فإذا ناداها شلي قائلا: «أين ذهبت يا عزيزتي ماري تاركة إياي وحيدا في هذا العالم القفر؟ إن صورتك الساحرة ما تزال هنا إلى جانبي، لكنك أنت قد فررت عن طريق الوحدة المؤدي إلى صوامع الحزن المظلم.» إذا ناداها شلي هذا النداء لم تزد على أن تمعن في التماس صوامع الحزن تاركة إياه يبحث عن عزائه في خير دواء لكل ألم وخير بلسم لأبلغ جرح، في العمل المتصل لأداء ما ألقت عليه الأقدار رسالته كي يشدو بها إلى العالم أنغاما سماوية، وأعانته سماء إيطاليا الصفو على متابعة تفكيراته وشدوه، على أن القدر الذي قسا كل هذه القسوة بماري لم يلبث أن دس إليها من عنده بلسم عزاء، فقد حملت وأحست في أحشائها روح الأمومة من جديد، لكنها كانت في خشية من معابثة القدر فظلت على عبوسها وإن زالت سحابة الهم التي كانت تظلها مما جعلها تنظر للحياة مرة أخرى نظرة رجاء، ولما اقترب موعد وضعها ارتحل بها شلي إلى فلورسنا لتكون في رعاية طبيب صالح، ثم إن في جو فلورنسا الجميل ما يضاعف الرجاء لمن لديه ولو قبس من رجاء، فيها أجمل ما في إيطاليا من الآثار، ويضوع ريحها بأسماء دانتي، وسافانارولا، وجيوتو، ودونانلو؛ لذلك كانت للزوجين خير موئل، فيها وجد شلي خير ما يلهم شاعريته التواقة للجمال تلتمسه في كل مظاهر الفن والطبيعة، وفيها وجدت ماري مزيدا من رجائها، حتى إذا وضعت وألفت نفسها أما من جديد في ذراعيها طفل حملته أحشاؤها عاودت ثغرها أول ابتسامة من يوم مات وليم، ودعت الوليد برسي فلورنس شلي، اعترافا بفضل زوجها في تقويتها على اجتياز محنتها، وبفضل فلورنسا التي عادت إليها فيها أمومتها وحياتها ورجاؤها.
ولما جاء الشتاء وقرس البرد في المدينة «الجميلة» نصح الطبيب إلى شلي بالسفر إلى بيزا، فذهب بأهله إليها وأقاموا بها، وهنا تألفت حول شلي جماعة يعيش كل منهم عيش العزلة، فلما وجدوا هذا الدائم الترحال استقر بينهم أحاطوا به، وانضم إليهم قسيس لقبه أهل البلد بشيطان بيزا واسمه الأستاذ المبجل باكشياني، وكان قسيسا قليل الدين وأستاذا لا يعلم الناس شيئا وزير نساء ومحبا خدمة معارفه، وكل من يمر ببيزا كان يصبح من معارفه، وقد قص هذا الشيطان على شلي قصة استدعت كل التفاته، ذلك أن للكونت فيفياني - أحد كبار أعيان بيزا - فتاتين من زواج أول، وأنه لما تزوج ثانية بعد وفاة زوجه الأولى ذهب بفتاتيه إلى الدير أن كانت زوجه شديدة الغيرة منهما لفرط جمالهما، وكان جمال كبراهما (إميليا) رائعا روعة جمال الملائكة، كما كان ذكاؤها حادا وخيالها متوقدا بما يبعث إلى كل نفس أشد الإعجاب بها والإشفاق عليها، وكان قصد أبيها من الذهاب بها وبأختها الدير أن يقيما فيه حتى يتزوجهما من شاء من غير أن يمهره الأب عنهما شيئا، فلما سمع شلي بالقصة هاجت في نفسه كل عواطفه القديمة، أليس هو يريد الكمال مجسما في أنثى لها جمال المرأة وعقل الرجل؟ وهذا هو قد ضل تقديره الكمال في هاريت جروف وهاريت وستبروك، وها هي ماري جدوين وإن كانت ما تزال من خير النسوة اللواتي عرف إلا أنها أصبحت أمامه جسما محسوسا ذا حدود وأبعاد وذكاء متجليا له كل ما فيه من حكمة وشعر، فلم يبق إذا فيها المجهول الذي يبحث هو دائبا في الكشف عنه والوصول إليه، فلنر إذا ما عسى أن تكون إميليا فيفياني هذه من صور الكمال وما عسى أن تلهمه من رائع الشعر والحكمة.
ولمح القسيس الشيطان هذه النوازع في نفس شلي فعرض عليه أن يصحبه إلى الدير، وما لبثت الفتاة أن دخلت عليهما المنظرة حتى سحر شلي وذهب به قوام رخص في لدونة واعتدال تخلع عليه ثياب الدير البسيط زينة وانسجاما وتزيد بهاء ما فيه من جمال في كل انثناء ونتوء، ومشيهة هي للعين أنغام تموج في النفس والخيال فتهزهما وتبهرهما، وشعر فاحم السواد ملقى على أكتافها ليزيد وجهها البديع القسمات وضوحا وبهرا، وعيون دعجاء تفيض نظراتها حبا شهيا فيه قوة تلتهم من تقع عليه التهاما، وجبين مصقول، وأنف أقنى، وثغر عذب، وشفاه تحدث عن فيض الرغبة، وإلى هذه الأنوثة القوية الجذابة بريق ذكاء يبدو بصيصه من حدق عيونها السوداء قويا ملتهبا، وألفت الفتاة ساعة دخولها المنظرة عصفورا في قفص، فتوجهت إليه بهذه الكلمات: «أيها الصغير المسكين، إنك لتموت اكتئابا، فما أشد إشفاقي عليك! ألا كم تتألم حين تسمع أسراب أمثالك تناديك ثم تطير مع الرياح من غيرك إلى بلاد مجهولة! أنت مثلي محتوم عليك أن تقضي هنا في سواد حظك، أواه لو كنت أستطيع إنقاذك!» وانطلقت مرتجلة مثل هذه العبارات بصوت عذب ساحر تزيده اللغة الإيطالية بموسيقاها سحرا وعذوبة، وزادت أنشودتها للطائر الحبيس بهر شلي فاستأذنها أن يعود إليها وأن يستصحب زوجته وأختها، فرضيت طيبة النفس.
وتزاوروا وتكاتبوا وأبدت ماري إعجابها بجمال إميليا وتقدير شلي إياه على أنه الجمال الأسمى، أما شلي فانطلق من فوره يضع قصيدته (إببسشديون) يصف فيها الجمال والحب ويدعو فيها إميليا لتذهب وإياه إلى قصر قديم في جزيرة أبدعها خياله بين جزر الإدرياتيك ليعيشا هناك وليسبحا بين جمال تلك الجزيرة وأشجارها وأنهارها في عزلة لا ينغصها عليهم أحد من الإنس، وإنك لتقرأ القصيدة وتبلغ أبياتها أربعة وستمائة بيت فلا ترى فيها أكثر من هذا الذي ذكرنا، لكنك تراه أثيريا يطير بك في عالم الجمال وينسيك نفسك بموسيقاه وحلاوة صوره وبديع خياله وينساب إلى روحك عذبا سلسبيلا، فلا تزداد إلا تعلقا به وتقديرا إياه، وفي ختام القصيدة يقول: «اذهبي أيتها الأبيات الضعيفة فاسجدي عند قدمي سيدتك وقولي: إنني سيدة عبدك فمري أمرك فينا وفيه، ثم تنادين مع أخواتكن من سائر شعري واسجعن متغنيات: «عذب في الحب حتى ألمه، لكن جزاءه في هذا العالم قدسي لأنه إن لم ينلنا في الحياة تبعنا إلى ما وراء قبرنا»، وأنت لا ريب ستحيين في حين أكون أنا قد أويت إلى هناك، فأسرعي فوق قلوب العباد حتى تقابلي ماريتا وفانا وبريموس وسائر صواحبك، ثم أهيبي بهن أن يحب بعضهن بعضا وأن يبارك بعضهن بعضا، ودعي فيما وراءك قطيع الخاطئين الطاعنين على غيرهم بخطاياهم وتعالي فكوني ضيفي، فإنما أنا ضيف الحب.»
وقبل أن يتم قصيدته، تزوجت إميليا من غني اسمه بيوندي قبل أن يعقد عليها من غير أن يمهرها أبوها، فلما علم الشاعر بأمرها أسقط في يده ولم يطق إتمام قصيدته، فها هي ذي رمز الحب في طهارته قد فعلت فعلة ابنة عمه هاريت جروف وفعلة النساء جميعا ممن عرف، ها هي ذي سقطت إلى مستوى القطيع تاركة إياه يعض البنان ندما على خطئه في أمرها ويصب عليها اللعنة أن أضاعت عليه وحيه وإلهامه.
وفيما كان شلي في هيامه بإميليا كان بيرون يتخطى خليلة إلى خليلة حتى انتهى إلى أجمل نسوة البندقية وتدعى جيوكشولا، وكانت من عائلة نبيلة ومتزوجة رجلا نبيلا، لكن صلة المرأة بخليل لم تكن في البندقية يومئذ أمرا إدا، حتى في نظر زوجها، على أن هذه السيدة اضطرت للسفر مع هذا الزوج إلى رافنا ومن هناك دعت بيرون ليترك البندقية ويقيم عندها، فلما تلكأ بعثت إليه تخبره بأنها مريضة فطار إليها وأقام إلى جانبها، وكما انتقل هو من البندقية فقد نقل ابنته اللجرا إلى بولونيا، فلما علمت جين كليرمون بأمر ابنتها بعثت إلى بيرون تستعطفه أن يبعث بها إليها، فرد عليها ردا غليظا يقول لها فيه إن التربية في بيت شلي على أساس النباتية في الحياة المادية والإلحاد في الحياة الروحية مما لا تطمئن له نفسه، ورفض أن يسلم البنت لها، فجن جنونها وبعثت إليه بخطابات قاسية اعتذر له عنها شلي في خطاب بعث به إليه يقول فيه إن جين أم، وإنه وإن لم يطلع على ما تكتب لوالد ابنتها إلا أنه يرجوه أن ينظر إليها بعين الرحمة والمغفرة، لكن بيرون رأى في هذا كله ما أغضبه، فأراد أن ينتقم لنفسه من شلي، وكان قد وصله خطاب من قنصل إنجلترا في البندقية، يقول له فيه إن الناس يتهمون شلي بمعاشرة جين، وإن مربية كانت في خدمة شلي تذيع أن جين حملت منه فأجهضها في نابولي حين كانت زوجه في روما، وتنفيذا لانتقامه بعث بيرون يستدعي شلي إلى رافنا «لأمور خطيرة»، فلما كان عنده أطلعه على خطاب القنصل مما هاج ثائرة شلي وجعله يكتب إلى زوجه يطلب إليها أن تكذب ما تذيع خادمهم الخؤون، وأظهر بيرون اقتناعه بما كتبت ماري وإن لم يقم بأي مجهود لدى القنصل في البندقية يبدد به ما علق بذهنه من أكاذيب.
وزار شلي اللجرا في الدير الذي بعث بها إليه أبوها، في بانيو كافالو، فألفاها كبرت ولكن النحول بدا عليها، ومع نحولها بدت وسط الأطفال قريناتها في جمال جذاب يدل على أنها أرق منهن وأرقى منبتا، غير أن حياة الدير كانت بحيث تعرض صحتها بل تعرض حياتها للخطر.
وكانت خليلة بيرون معتزمة السفر إلى سويسرا، فطلب بيرون إلى صديقه أن يكتب إليها، ولو لم تسبق له بها معرفة، ليقنعها بالعدول عن فكرتها والذهاب إلى فلورسنا أو إلى بيزا، وفاضت السعادة بشلي حين علم أنها قبلت الذهاب إلى بيزا للمقام على مقربة منهم، ولم يبد بيرون اعتراضا أن كانت جين قد تركت تلك المدينة إلى فلورنسا حيث قامت بأمر التعليم في إحدى مدارسها، ولم يلبث اللورد أن نزل المدينة الصغيرة التي يقيم فيها شلي حتى أبدت جمعيتها كل الإعجاب به، فصار قصره مقصد المتأنقين في حين بقي شلي الرسول الروحي لأهل المدينة جميعا، وكانت حياة بيرون حياة ترف لم يطقه شلي، فقد كان يسهر الليل كله ثم ينام في الصباح إلى ما بعد الظهر ويذهب من بعد ذلك للصيد ويعود إلى سهره ثم إلى مكتبه ليدبج قصائده التي استوقفت أنظار إنجلترا كلها فكانت تلتهمها التهاما، وكان حقا على شلي أن يحتمل هذه الحياة زمنا كان يعتبر صاحبه فيه ضيفا عليه في بيزا، لكنه ما لبث أن رأى ماري تريد الانخراط في سلك هذه الجماعة المترفة حتى صدف عنها وعاد إلى حياته البسيطة الأولى، ووجد في أسرة إنجليزية مقيمة ببيزا ما يسر له الابتعاد عن بيرون وجماعته، تلك أسرة وليمز وزوجه جين، وكانت جين وليمز رشيقة هادئة النفس موسيقية الصوت يريح وجودها أعصاب من يتصل بها، وكان صوتها حلو الغناء مما أتاح لشلي أن يذهب وهو معها في أحلامه الشعرية وكأنه يسير وسط حديقة غناء، وزاده إعجابا بجين وليمز ما دأبت عليه ماري من الشكوى من أنها لا تجد من أسباب المسرة في الحياة ما يجد غيرها.
وكان لأسرة وليمز صديق بحار من الأشقياء يدعى ترلوني، وقد دعوه إلى بيزا، فاشترط أن يكونوا سبب تعارف بينه وبين شلي، وبينه وبين بيرون بنوع خاص، فوعده وليمز بهذا ولم يكن عليه عسيرا، وجاء ترلوني فانضم إلى عصبتهم، ولما ربطت المعرفة بينه وبين شلي برباط وثيق طلب إليه أن يبني له ولوليمز يختا يشتركان فيه، واختار لنفسه ولوليمز بيتا على الشاطئ قريبا من بيزا فأقاما فيه ومعهما ماري وجين، وجعل شلي من يخته مركبا لرياضته ولخيالاته وأحلامه، وشعر بالسعادة تفيض عنه وبآلهة الشعر تواتيه بإلهامها من كل جانب.
والحق أن آلهة الشعر لم تضن على شلي بإلهامها يوما من الأيام، لكنها كانت في هذه الفترة وخلال الأربع السنوات والنصف التي أقامها في إيطاليا أشد بإلهامها فيضا، حتى ليدهش الإنسان حين يرجع إلى ديوانه متى استطاع أن يكتب هذا الشعر الملائكي كله، ثم ليزداد دهشة إذا رجع إلى رسائله وإلى نثره فرآها لا تقل عن إلهامه الشعري غزارة فيض ولا قوة عبارة ولا ملكا لعالم الجمال وكل ما حوى، ولو أنك أردت أن تحصي ما كتب من شعر في هذه الآونة وحدها لبلغ عشرات الألوف من الأبيات بل مئات الألوف ! وليس يقف ما كتب من هذا عند قصائده الكبرى كقصيدة (بروموتيه) و(سنسي) و(ساحرة الأطلس) و(إببسشديون) و(قناع الفوضى) و(أدوناييس) و(هلاس) وغيرها وغيرها، بل إن له لمقطوعات يقر مترجموه جميعا بأنها أبقى الشعر الإنساني كله على الدهر، وهذه المقطوعات التي يتحدث بها مرة إلى قبرة، وأخرى عن سحابة، وغيرها عن شجرة حساسة، وأخرى إلى النيل وعشرات ومئات غيرها - هي لا ريب خير ما تغنى به شلي معبرا به عن صلته بمملكة الجمال في الوجود، ولقد تغنى في هذه المقطوعات كما تغنى في مواضع كثيرة من قصائده الكبرى، فخلع على كل ما تغنى به حياة لم تكن لتحسبها له، فإذا بك وقد قرأت شلي محسا بها لامسا إياها معترفا بأنك أنت الذي كنت عاجزا عن رؤيتها بحسك واكتناهها بقلبك، وليس شعره وحده هو الخالق حياة جديدة في الوجود، بل إن لنثره من هذه القوة ما لشعره، وإن كانت موسيقى شعر شلي مما يزيد في قوة خلقه حياة وقوة.
ولشعر شلي جوانب شتى لمح القارئ بعضها فيما قدمنا له من ترجمته، فثم جانب من حياته هو وتغنيه بما كان يرجوه فيها، و(روح الوحدة) و(إببسشديون) وكثير من مقطوعاته تعبر عن هذا الجانب خير تعبير، تترنم القصيدة الأولى بيأس الشاعر وآلامه وركوبه زورق الحياة على لجة الوجود ملتمسا في العدم راحة من آلامه، واجدا في خيالات الحب لهذه الأعرابية التي مرت به ثم تبعه طيفها عزاء نفسه عن بعض هذه الآلام حتى تسكن إلى الموت سكونها الأخير، وقصيدته الثانية هي قصيدة الجمال والحب مجسمين في إميليا فيفياني، أما الكثير من مقطوعاته فيتضوع بشذا الحب والجمال ويترنم بموسيقاهما على صورة لم تعرف في شعر شلي، فلقد كان من عباد جمال المرأة والذين يجدون فيه تمثال الكمال الإنساني مجسما، وكأنما كان جسمه يصبو إلى هذه الأجسام التي تتمثل فيها الروح الإنسانية بكل نوازعها معنى الجمال الإنساني، لكنه كان يسبح من عبادته هذا الجمال في خيال قسرته عليه فضيلته وألزمته إياه آراؤه ومبادئه؛ لذلك لم يكن يدع لصبوة جسمه أن تنزلق مع تيار الغريزة باحثة عن الاتصال بمن صبا إليه، بل كان يدع هذا الاتصال لعقله ولخياله ولشعره يصوغ من الاتصال آي الحكمة وأهازيج الجمال، وهو هنا يختلف عن بيرون وعن كثيرين من الشعراء الذين يجدون في صبوة الجسم إلى الجسم - شفاء لغريزة تخليد النوع - كل ما يسعى إليه الحب، بل كل ما يحرك في النفس هذه العاطفة، وهذا المعنى الذي تراه صريحا جليا في شعر شلي هو الذي كان ينتهي باليأس إلى نفوس كل من أحببنه من النسوة، وبما يشبه اليأس إلى نفس ماري أكثرهن ذكاء وأسماهن حكمة، فالمرأة التي ترى في فضيلة شلي معنى من معاني الرواقية والزهد في الحياة والرغبة عنها تشعر بنقص في الحياة على حين خلقتها الطبيعة لتزيد فيها وتستزيد منها.
على أن جمال المرأة وإن زان كل جمال في الوجود وتوجه فليس ما في الوجود سواه من جمال أقل إلهاما لنفس الشاعر وتحدثا إلى قلبه، بل إن كثيرا من جمال الوجود ليخلع على المرأة جمالا وزينة بمقدار ما تزينه هي وتجمله، ولئن كنت ترى هذين اللونين من الجمال مقترنين أكثر الأحايين في نفس أكثر الشعراء، إلا أن لجمال الوجود مكانة خاصة من نفس شلي تكاد تجعل الجمال لذاته آية إيمانه في الحياة، وهو في هذا أصدق من كثيرين غيره نظرة وأدق حسا، وهو لهذا كان يريد أن يفصل المرأة كمثال للجمال والمرأة كمخلدة للنوع، وكان يبحث فيها عن الجمال في مثله الأعلى، وكان لذلك لا يرى لجمال الجسد قيمة ما لم يصحبه روح جميل هو الآخر.
وفيما سوى هذا الجانب من جوانب شعر شلي كانت المدينة الفاضلة غاية قصده من أكثر قصائده، المدينة الفاضلة بما فيها من إخاء وتسامح وحرية وتبادل محبة، المدينة الفاضلة المنزهة عن دنيا الشهوات، السامية إلى مكانة هي وحدها الجديرة بالإنسانية المهذبة، و(الملكة ماب) و(بروموتيه) و(سنسي) نفسها اندفاعات صادقة في الدعوة إلى هذه الغاية العليا، وحرب شعواء على الجمود وعلى التعصب، وعلى ما يؤدى إليه الجمود والتعصب من تحكم الشهوات الدنيا في الروح الإنسانية تحكما ينتهي بها إلى فسادها وذلها، ولعل هذه الصورة التي صورها الشاعر من آثار الجمود والتحكم أشد ما تكون وضوحا في (سنسي) منها في أية قصيدة أو رواية أخرى، فقصة هذه الرواية التي وضعها الكثيرون من النقاد والكتاب في صف روايات شكسبير، أن الكونت سنسي بلغ من كراهية ابنته وابنه من زوجة متوفاة أن حدثته نفسه بالفتك بعفاف ابنته بياتريس، وشعرت الفتاة بالكريهة التي يريدها أبوها عليها فدبرت مع أخيها وزوج أمها مؤامرة للتخلص من حياة ظالمهم جميعا، وإنما لجأوا إلى الائتمار بحياته بعد أن لجأوا إلى البابا وإلى كبراء روما فلم يجدوا منهم منصفا، وكشف الأب المؤامرة فشكاهم إلى قداسة الباب فأمر بإعدامهم وفقا لإرادة الكونت الذي اشترى من القداسة العليا العفو عن كثير من جرائمه بثمن زاد على مائة ألف من الجنيهات، ولو أن العدل أخذ مجراه في هذه المؤامرة لكان (سنسي) هو الخليق بأن يجزى أشد الجزاء، لكن في إعدامه إعداما للأموال الطائلة التي كان يغدقها على الخزانة البابوية، فليعدم الفقراء، وإن كانوا أنصار الفضيلة، ولتبق الجماعة على حياة الرذيلة ما دامت تفيد منها، ثم لتثر الفضيلة على لسان شلي في أشعار هذه الرواية الخالدة ثورة تدك عرش الظلم وتهز قوائم الظالمين.
وهو هذا الدفاع عن الحرية وعن الفضيلة ومحاولة الارتفاع بجمال المرأة ليكون مثالا لهما هو الذي كان يفرق بين شلي وبيرون، ويجعل من كل واحد ند صاحبه، وطبيعي أن كان إقبال الجمهور يومئذ على شعر بيرون، فالجمهور أسير الشهوات يلتمسها في واقع الحياة، ولئن صح إن كانت ألسنة الخلق أقلام الحق، فلبيرون أن يزهي على صاحبه وأن ينظر إليه مشفقا عليه، لكنه كان في الخيال كما كان في الواقع يستشعر الغيرة منه، وكأنما كان يجري به خياله إلى لجج المستقبل يلتمسها فيتبين خلالها ما أعده لشلي من عظمة وخلد ينافسان خلده وعظمته ويدعو الكثيرين لتفضيله عليه.
وكان حب شلي للجمال ودفاعه عن الحرية أثرا من آثار طيبة قلبه وحبه الناس وبره بأصدقائه، وقد عرف في أثناء مقامه بكازاماني بالقرب من بيزا أن صديقه لي هنت في عوز فدعاه إلى إيطاليا، واتفق ولورد بيرون أن يصدر هنت جريدة في إيطاليا يكون لها امتياز السبق إلى نشر قصائد بيرون، وفيما كان هنت في طريقه إلى بلاد الشمس والضياء، كان شلي سعيدا بيخته سعيدا بزورق صغير صنع له كي ينقله وصاحبه وليمز من اليخت إلى بيته أن كانت مياه البحر لا تسمح برسو اليخت على الشاطئ، وكان كثيرا ما يستلقي في أثناء رحلاته على الماء تاركا السفين يلعب به الموج ذاهبا هو في تيهاء تأملاته وأحلامه، فإذا عاد إلى داره التمس في مجاوراته مكانا منعزلا بين الغياض والشجر وقضى نهاره يقرض من شعره الموسيقي الساحر ما يهبه للحياة وللحرية تارة ولزوجه ماري طورا ولجين وليمز التي أصبحت ربة شعره في هذه الفترة الأخيرة أكثر الأحايين، وكثيرا ما كان ينقضي النهار وهو في عمله عند جذع شجرة اتخذها وسط الغابة مكتبا، ناسيا في أثناء ذلك طعامه وشرابه، مكبا على خياله وشعره، حتى لكانت زوجه وكان صاحبه ترلوني يذهبان إليه ينتشلانه من عالمه الجميل السعيد ويردانه إلى الحياة التي يعيش فيها على طريقته من التقشف والزهد.
ووصل لي هنت، فذهب شلي وقابله في ليفورنو، ومن هناك ذهب به إلى بيرون في بيزا ليتموا الاتفاق في شأن الجريدة التي تحدث شلي لصاحبه الشاعر الكبير عنها، ومع ما بعث به فقر هنت وسوء حال أولاده من التقزز إلى نفس بيرون، فقد ظل به شلي حتى انتهى بإلزامه أن يقوم بعمل من أعمال البر لرجل أخلص للأدب وللشعر حياته، فلما آن له أن يرتحل عائدا إلى بيته فوق سفينته عصفت ريح جعلت السفرة مخوفة، حتى لقد تردد ترلوني الذي قضى فوق لج البحر حياته في أن ينصح لهما بالسفر، لكن شلي كان إذا اعتزم فعل، فاصطحب صديقه وليمز وغلاما معهما وأقلعوا يوم الاثنين الثامن من أغسطس سنة 1822 وانتظرتهما زوجاهما في ذلك اليوم الذي انقضى من غير أن تقفا لهما على خبر، وانقضى الثلاثاء والأربعاء بعده فجن جنونهما وطاش صوابهما وذهبتا إلى ليفورنو باحثتين عنهما، وعلم ترلوني بحال الزوجتين فأيقن أن صاحبيه هلكا في زورقهما، وأخذ نفسه بالبحث على شاطئ البحر ما بين ليفورنو وكازاماني حتى إذا كان الرابع عشر من أغسطس عثر الغائصون بجثة عبثت الأسماك بوجهها وإن لم تخف معالمه، وألفى ترلوني في جيب الجاكتة كتاب إسكيلوس فلم تبق لديه ريبة في أنها جثة شلي، ثم لم يطل بالغائصين البحث حتى عثروا بجثة وليمز، ودفنهما ترلوني في الرمل ثم ذهب مكتئبا حزينا إلى كازاماني، وحاول أن يدخل فخانته قواه فجعل يدور حول المنزل حتى لمحته خادم، أخبرت سيدتها بالأمر، فما لبثتا أن رأتاه حتى تبدد كل وهم من رجاء بقي عندهما وحتى انهدتا إلى الأرض صعقتين قضى عليهما الترمل والهم.
ولما أفاقتا ذكرت ماري ما كان يرجو زوجها أن يدفن في مقابر الإنجليز بروما، لكن نقل الجثة من بيزا إلى روما غير جائز بحكم قانون البلاد إلا أن تحرق الجثة وتنقل بقية التراب منها، ففي ظهر السادس عشر من شهر أغسطس سنة 1822، وقف لورد بيرون والشاعر لي هنت والبحار ترلوني فوق رمال الشاطئ الإيطالي على مقربة من ليفورنو يحيط بهم عدد من أهل تلك المنطقة، ويقف إلى جانبهم جماعة من الضباط والعساكر الإيطاليين، وكلهم محدق ببصره إلى نار تضطرم قد بوركت بالنبيذ صب عليها وبالملح ألقي فيها ويفوح منها ريح اللحم الإنساني، وكلهم واجم مخلوع القلب ذاهب في تيهاء الهلع والذهول، وظل هذا المنظر المروع أمامهم ثلاث ساعات تباعا يهز نفوسهم هزا فلا يزدادون إزاءه إلا وجوما وذهولا، وتندى عين بعضهم بالدمع ثم تذرفه أن لا تستطيع حبسه، ويحدق ترلوني بالعظام تحترق واللحم تذيبه النار، ثم تبدأ النار بعد ذلك تخبو رويدا رويدا تاركة وراءها حفنة من تراب هي كل ما بقي من رفات قيثارة الشعر الإنجليزي شلي، ويحمل ترلوني الحفنة إلى الأرملة البائسة ماري شلي لتتولى ويتولى هو ولي هنت معها حملها إلى مقابر البروتستانت في روما كي تستقر هناك في أرض غريبة عن ثرى الوطن، ولكن لتسعد مع ذلك باستقرارها إلى جانب رفات عزيزة محبوبة هي رفات ابنه وليم، ويقع هذا المنظر المروع وتنقل تلك الرفات القدسية إلى روما، ولم يكن شلي قد بلغ إلى يوم وفاته في الثامن من أغسطس تمام الثلاثين من عمره، وإن كان قد خلف من شعره على الحياة ما لا يزال فخر الشعر الإنجليزي عذوبة وموسيقى تأخذان بالنفس وتملكان على المرء حسه ولبه، وتبعثان إلى كل ما تنشدانه وترنمان به الحياة والخلد، سواء أكان ما تنشدانه وتترنمان به إنسانا أو طيرا أو حيوانا أو جمادا أو مجرد خيال لا وجود في الحياة له، ذلك بأن الحياة كانت تسري في كل ما لامس نفس شلي لتبقى قائمة به قرونا ودهورا بعد موت باعثها.
ناپیژندل شوی مخ