بِسم اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم رب عونا
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْحَافِظ جمال الدّين أَبُو الْفرج عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن مُحَمَّد بن الْجَوْزِيّ ﵀:
الْحَمد لله الَّذِي اخْتَار من جَمِيع الْمَخْلُوقَات الْإِنْسَان، ثمَّ اصْطفى مِنْهُ أهل التقى وَالْإِيمَان، ثمَّ جعل مَحل نظره الْقُلُوب لَا الْأَبدَان؛ هُوَ ينظر إِلَى صفاء الْأَسْرَار، لَا إِلَى نقاء الألوان، فاوت بَين الْآدَمِيّين، فَمنهمْ ملك وَمِنْهُم شَيْطَان، يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت؛ فالخليل من آزر ذِي الكفران، وَيخرج الْمَيِّت من الْحَيّ؛ فَمن نوح: كنعان، جرى قدره، فَكفر أَبُو طَالب وَأسلم عُثْمَان، وضل أَبُو لَهب، وَأذن لِبلَال فِي الْأَذَان، يفني ويبقي، ويسعد ويشقي، كل يَوْم هُوَ فِي شان.
أَحْمَده - إِذْ أنعم وصان - عدد الأوراق والأغصان، وَأقر بوحدانيته إِقْرَارا يصدر عَن برهَان، وأصلي على رَسُوله مُحَمَّد أشرف مَخْلُوق وجد وَكَانَ، وعَلى صَاحبه أبي بكر الصّديق الَّذِي انْفَرد بنصره فِي الْغَار وأعانه، وعَلى عمر الْفَارُوق المتشدد فِي الدّين فمالان، وعَلى التقي النقي عُثْمَان بن عَفَّان، وعَلى عَليّ بن أبي طَالب مقدم الْعلمَاء وَسيد الشجعان، وعَلى عَمه الْعَبَّاس بن عبد المطلب المستسقى بشيبته، فَأقبل السح الهتان، جد سيدنَا ومولان الإِمَام المستضيء
1 / 28
بِأَمْر اللَّهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ الَّذِي أشرق بولايته الزَّمَان، سقِي زرع الْعدْل مياه الْفضل، فالدنيا فِي أَيَّامه بُسْتَان، فَذكره فِي مسام مشام الصَّالِحين أزكى من ريح وَرَيْحَان، وَقُلُوبهمْ معتلقة بحبه وَحب الْخلق لحب الْخَالِق عنوان، قرن اللَّهِ نعْمَة دُنْيَاهُ بِنِعْمَة أخراه، وَإِن الدَّار الْآخِرَة لهي الْحَيَوَان، واستجاب فِي أَيَّامه دُعَاء كل دَاع ذاق فِيهَا طعم الْإِحْسَان.
أما بعد ... . فَإِنِّي رَأَيْت جمَاعَة من أخيار الحبشان تنكسر قُلُوبهم لأجل اسوداد الألوان، فأعلمتهم أَن الِاعْتِبَار بِالْإِحْسَانِ لَا بالصور الحسان، وَوضعت لَهُم هَذَا الْكتاب فِي ذكر فضل خلق كثير من الْحَبَش والسودان، وَقد قسمته ثَمَانِيَة وَعشْرين بَابا، وَالله الْمُسْتَعَان.
1 / 29
(ذكر تراجم الْأَبْوَاب)
الْبَاب الأول: فِي ذكر من ينْسب إِلَيْهِ السودَان.
الْبَاب الثَّانِي: فِي ذكر سَبَب سَواد ألوانهم.
الْبَاب الثَّالِث: فِي ذكر إحْيَاء عِيسَى بن مَرْيَم حام بن نوح.
الْبَاب الرَّابِع: فِي ذكر ممالك السودَان من الأَرْض وسعتها.
الْبَاب الْخَامِس: فِي ذكر فَضَائِل اجْتمعت فِي طباع السودَان.
الْبَاب السَّادِس: فِي ذكر فَضَائِل أَشْيَاء خصت بسواد اللَّوْن من الْحَيَوَانَات والنباتات والأحجار.
الْبَاب السَّابِع: فِي بَيَان أَن لَا فضل لأبيض على أسود، إِنَّمَا الْفضل بالتقوى.
الْبَاب الثَّامِن: فِي ذكر من هَاجر من الصَّحَابَة إِلَى الْحَبَشَة.
الْبَاب التَّاسِع: فِي إِنْفَاذ قُرَيْش إِلَى النَّجَاشِيّ ليسلم إِلَيْهِم أَصْحَاب
1 / 30
رَسُول اللَّهِ ﷺ َ -.
الْبَاب الْعَاشِر: فِي ذكر مُكَاتبَة رَسُول اللَّهِ ﷺ َ - النَّجَاشِيّ وإسلامه وَإِسْلَام أَصْحَابه.
الْبَاب الْحَادِي عشر: فِي ذكر قدوم الْحَبَشَة على رَسُول اللَّهِ ﷺ َ -، ولعبهم بالحراب فِي الْمَسْجِد، وَرَسُول اللَّهِ ﷺ َ - ينظر.
الْبَاب الثَّانِي عشر: فِي ذكر مَا جَاءَ من الْقُرْآن مُوَافقا للغة الْحَبَشَة.
الْبَاب الثَّالِث عشر: فِي ذكر مَا سَمعه رَسُول اللَّهِ ﷺ َ - من كَلَام الْحَبَشَة فأعجبه.
الْبَاب الرَّابِع عشر: فِي ذكر تَخْصِيص الْحَبَشَة بِالْأَذَانِ.
الْبَاب الْخَامِس عشر: فِي ذكر من كَانَ نَبيا من السودَان.
الْبَاب السَّادِس عشر: فِي ذكر كبار مُلُوك الْحَبَشَة.
الْبَاب السَّابِع عشر: فِي ذكر أَشْرَاف السودَان من الصَّحَابَة.
الْبَاب الثَّامِن عشر: فِي ذكر أَشْرَاف السودَان من الصحابيات.
الْبَاب التَّاسِع عشر: فِي ذكر المبرزين فِي الْعلم من السودَان.
1 / 31
الْبَاب الْعشْرُونَ: فِي ذكر شعرائهم وَمن تمثل مِنْهُم بِشعر.
الْبَاب الْحَادِي وَالْعشْرُونَ: فِي ذكر جمَاعَة من فطناء السودَان وأذكيائهم وكرمائهم.
الْبَاب الثَّانِي وَالْعشْرُونَ: فِي ذكر المتعبدين مِنْهُم والزهاد.
الْبَاب الثَّالِث وَالْعشْرُونَ: فِي ذكر المتعبدات من نِسَائِهِم والفاضلات.
الْبَاب الرَّابِع وَالْعشْرُونَ: فِي ذكر من كَانَ يُؤثر الْجَوَارِي السود على الْبيض، وَمن كَانَ يعشقهن، وَمن مَاتَ من عشقهن.
الْبَاب الْخَامِس وَالْعشْرُونَ: فِي ذكر أَبنَاء الحبشيات من قُرَيْش.
الْبَاب السَّادِس وَالْعشْرُونَ: فِيهِ مواعظ ووصايا.
الْبَاب السَّابِع وَالْعشْرُونَ: فِيهِ أذكار وتسبيحات.
الْبَاب الثَّامِن وَالْعشْرُونَ: فِيهِ أدعية.
1 / 32
(الْبَاب الأول)
(فِي ذكر من تنْسب إِلَيْهِ السودَان.)
[١] أخبرنَا أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي قَالَ: أَنا جَعْفَر بن أَحْمد السراج قَالَ: أَنا أَبُو الْقَاسِم عبد الْعَزِيز بن عَليّ الطَّحَّان قَالَ: ثَنَا عمر بن مُحَمَّد أَبُو الْقَاسِم القَاضِي قَالَ: ثَنَا عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد الْبَغَوِيّ قَالَ: ثَنَا حَاجِب بن الْوَلِيد قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن سَلمَة عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي ﷺ َ - قَالَ: " ولد لنوح [﵇] سَام وَحَام وَيَافث، فَأَما سَام فَأَبُو الْعَرَب وَفَارِس وَالروم، وَأما يافث فَأَبُو يَأْجُوج وَمَأْجُوج والخزر، وَأما حام فَأَبُو هَذِه الْجلْدَة السَّوْدَاء ".
1 / 33
[٢] وروى الْحسن الْبَصْرِيّ عَن سَمُرَة عَن النَّبِي ﷺ َ - أَنه قَالَ، " ولد نوح ساما وحاما وَيَافث، فسام أَبُو الْعَرَب، وَحَام أَبُو الزنج، وَيَافث أَبُو الرّوم "،
وَقَالَ وهب بن مُنَبّه: سَام أَبُو الْعَرَب وَفَارِس وَالروم، وَحَام أَبُو السود، وَيَافث أَبُو التّرْك وَأَبُو يَأْجُوج وَمَأْجُوج، وهم بَنو عَم التّرْك.
قَالَ المُصَنّف [﵀]: ولد لحام كوش ونيرس وموعع وبوان، وَولد لكوش نمْرُود، وَهُوَ أول النماردة، ملك بعد الطوفان بثلاثمائة عَام، وعَلى عَهده قسمت الأَرْض فَتفرق النَّاس، وَاخْتلفت الأسرة، ونمرود إِبْرَاهِيم من أَوْلَاده، وَمن ولد نيرس التّرْك والخزر، وَمن ولد موعع يَأْجُوج وَمَأْجُوج، وَمن ولد بوان الصقالبة والنوبة والحبشة والهند والسند. وَلما اقتسم أَوْلَاد نوح الأَرْض نزل بَنو حام مجْرى الْجنُوب وَالدبور فَجعل اللَّهِ [تَعَالَى] فيهم أدمة وبياضا قَلِيلا، وَلَهُم أَكثر الأَرْض.
1 / 34
(الْبَاب الثَّانِي)
(فِي سَبَب سَواد ألوانهم)
قَالَ المُصَنّف [﵀]: الظَّاهِر فِي الألوان أَنَّهَا خلقت على مَا هِيَ عَلَيْهِ بِلَا سَبَب ظَاهر، إِلَّا أَنا قد روينَا أَن أَوْلَاد نوح ﵇ اقتسموا الأَرْض بعد موت نوح، وَكَانَ الَّذِي قسم بَينهم الأَرْض قالغ بن عَابِر، فَنزل بَنو سَام سرة الأَرْض وَكَانَ فيهم الأدمة وَالْبَيَاض، وَنزل بَنو يافث مجْرى الشمَال وَالصبَا، فَكَانَت فيهم الْحمرَة والشقرة، وَنزل بَنو حام مجْرى الْجنُوب وَالدبور فتغيرت ألوانهم.
فَأَما مَا يرْوى أَن نوحًا انكشفت عَوْرَته فَلم يغطها فاسود، فشيء لَا يثبت وَلَا يَصح.
1 / 35
(الْبَاب الثَّالِث)
(فِي ذكر إحْيَاء عِيسَى بن مَرْيَم ﵇ حام بن نوح)
[٣] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي بن أَحْمد قَالَ أَنبأَنَا جَعْفَر بن أَحْمد السراج قَالَ أَنا أَبُو مُحَمَّد الْحُسَيْن بن مُحَمَّد الْخلال قَالَ نَا يُوسُف بن عمر الزَّاهِد قَالَ قرئَ على عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد بن زِيَاد النَّيْسَابُورِي وَأَنا أسمع قيل لَهُ: أخْبركُم يُونُس بن عبد الْأَعْلَى قَالَ أَنا ابْن وهب قَالَ أَخْبرنِي ابْن لَهِيعَة عَن ابْن الْهَاد عَن ابْن شهَاب قَالَ:
قيل لعيسى بن مَرْيَم [﵇] أَحَي حام بن نوح، فَقَالَ: أروني قَبره. فأروه، فَقَامَ فَقَالَ: يَا حام بن نوح، احي بِإِذن اللَّهِ [﷿] فَلم يخرج، ثمَّ قَالَهَا الثَّانِيَة، [فَخرج] فَإِذا شقّ رَأسه ولحيته أَبيض، قَالَ: مَا هَذَا [الْبيَاض]؟ قَالَ: سَمِعت الدُّعَاء [الأول] فَظَنَنْت أَنه من اللَّهِ عز
1 / 36
وَجل [لِلْحسابِ] فشاب لَهُ شقي، ثمَّ سَمِعت [الدُّعَاء] الثَّانِي فَعلمت أَنه من الدُّنْيَا، فَخرجت، قَالَ: مُنْذُ كم [مت] قَالَ: مُنْذُ أَرْبَعَة آلَاف سنة مَا ذهبت عني سكرة الْمَوْت.
قَالَ المُصَنّف: هَكَذَا فِي هَذَا الرِّوَايَة، وَقد رُوِيَ لنا من طَرِيق آخر عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة أَن الَّذِي أَحْيَاهُ عِيسَى بن مَرْيَم: سَام بن نوح [﵇] وَالله أعلم.
1 / 37
(الْبَاب الرَّابِع)
(فِي ذكر ممالك السودَان من الأَرْض وسعتها)
[٤] أخبرنَا عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْقَزاز قَالَ ثَنَا أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ [بن ثَابت] الْخَطِيب قَالَ أَنا أَحْمد بن عبد اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيّ قَالَ نَا أبي قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن يزِيد قَالَ ثَنَا أَبُو صَالح يحيى بن وَاقد قَالَ ثَنَا الْأَصْمَعِي عَن النمر بن هِلَال قَالَ: الأَرْض أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألف فَرسَخ فاثنا عشر ألفا للسودان وَثَمَانِية [آلَاف] للروم وَثَلَاثَة [آلَاف] للْفرس وَألف [فَرسَخ] للْعَرَب.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْن أَحْمد بن جَعْفَر الْمُنَادِي: بلغنَا أَن الْبَحْر الْمَعْرُوف بنطس من وَرَاء قسطنطينية يَجِيء من بَحر الخزر وَعرض فوهته سِتَّة أَمْيَال، وإقليم الدُّنْيَا الأول يَبْتَدِئ من الْمشرق من أقاصي بِلَاد الصين فيمر على بِلَاد الصين مِمَّا يَلِي الْجنُوب، وَفِيه مَدِينَة ملك الصين ثمَّ يمر فِي جنوب بِلَاد الْهِنْد ثمَّ بِلَاد السَّنَد ثمَّ يقطع الْبَحْر إِلَى جَزِيرَة الْعَرَب فِي أَرض الْيمن فَيكون فِيهِ من
1 / 38
الْمَدَائِن المعروفات مَدِينَة أظفار، وعمان، وحضرموت، وعدن، وَصَنْعَاء، وتبالة وجرش. ثمَّ يقطع الأقاليم بَحر القلزم فيمر فِي بِلَاد الْحَبَشَة وَيقطع نيل مصر، وَفِيه مَدِينَة مملكة الْحَبَشَة، وَتسَمى جرمى، ودنقلة مَدِينَة النّوبَة، ثمَّ يمر الإقليم فِي أَرض الْمغرب على جنوب بِلَاد البربر إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى بَحر الْمغرب.
[٥] أَنبأَنَا عَليّ بن عبيد اللَّهِ عَن أبي الْحُسَيْن بن الْمُهْتَدي عَن أبي حَفْص بن سناهر قَالَ ثَنَا نصر بن الْقَاسِم قَالَ ثَنَا أَحْمد بن عمر ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة قَالَ ثَنَا الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد قَالَ: ربع من لَا يلبس الثِّيَاب من السودَان مثل جَمِيع النَّاس.
1 / 39
(الْبَاب الْخَامِس)
فِي ذكر فَضَائِل اجْتمعت فِي طباع السودَان مِنْهَا: قُوَّة الْبدن، وَقُوَّة الْقلب، وَذَلِكَ يُثمر الشجَاعَة، وَيذكر الْحَبَشَة بِالْكَرمِ الوافر، وَحسن الْخلق، وَقلة الْأَذَى، وَضحك السن، وَطيب الأفواه، وسهولة الْعبارَة، وعذوبة الْكَلَام.
[٦] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن عبد الْملك بن خيرون قَالَ أَنبأَنَا أَحْمد ابْن عَليّ بن ثَابت قَالَ أَنبأَنَا أَبُو عَليّ الجاذري قَالَ ثَنَا الْمعَافى بن زَكَرِيَّا قَالَ ثَنَا الْحُسَيْن بن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ ثَنَا أَبُو الْفضل الربعِي قَالَ قَالَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي قَالَ شبيب بن شيبَة: دخل خَالِد بن صَفْوَان على أبي الْعَبَّاس السفاح فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قد حرمت نَفسك استظراف الْجَوَارِي، إِن مِنْهُنَّ، السمراء اللعساء، والصفراء العجزاء، ومولدات الْمَدِينَة والطائف واليمامة ذَوَات الألسن والعذبة، وَالْجَوَاب الْحَاضِر.
1 / 40
(الْبَاب السَّادِس)
فَضَائِل أَشْيَاء خصت بسواد اللَّوْن من الْحَيَوَانَات والنبات والأحجار.
(فصل)
فَمن الْحَيَوَانَات:
سَواد الْعين: وَقد ركبت الْعين [من] عشرَة أَجزَاء، وَهِي سبع طَبَقَات وَثَلَاث رطوبات، والطبقات كقشور البصل، وَمَوْضِع النّظر مِنْهَا الْأسود، وَهَذَا يدل على شرف هَذَا اللَّوْن حِين اختير لهَذَا الْعُضْو الشريف، وَقد جعلت أهداب أشغار الجفن سُودًا لِتجمع الضَّوْء.
وَمن ذَلِك الكبد: وَهِي الَّتِي تطبخ الطَّعَام وتوجهه إِلَى الْبدن بوساطة الْعرق الأجوف النَّابِت من محدودبها، ثمَّ توجه المائية إِلَى الكليتين، والرغوة الصفراوية إِلَى المرارة والرسوب السوداوي إِلَى
1 / 41
الطحال، وللكبد عروق تحذف الْغذَاء لَهَا وَيُسمى الْبَاب، وعرق يحمل الْغذَاء مِنْهَا إِلَى الْأَعْضَاء وَيُسمى الأجوف، والكبد هِيَ الَّتِي تُعْطِي الْأَعْضَاء غذاءها الَّذِي بِهِ سقِي، وَمَعَ هَذَا الشّرف هِيَ سَوْدَاء وَهَذَا يدل على شرف السوَاد حِين اختير لهَذَا الْعُضْو الْكَرِيم.
وَمن ذَلِك الْقلب: وَهُوَ أشرف مَا فِي الْبدن ووسويداؤه، فِي وسطة كالعلقة تتنزل منزلَة الدِّمَاغ من الرَّأْس.
[٧] أخبرنَا هبة الله بن مُحَمَّد قَالَ أَنا الْحسن بن عَليّ التَّمِيمِي قَالَ أَنا أَبُو بكر بن مَالك قَالَ ثَنَا عبد اللَّهِ بن أَحْمد قَالَ حَدثنِي أبي قَالَ ثَنَا يحيى بن سعيد عَن زَكَرِيَّا قَالَ ثَنَا عَامر قَالَ: سَمِعت النُّعْمَان بن بشير يَقُول، سَمِعت رَسُول اللَّهِ ﷺ َ - يَقُول: " إِن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله، وَإِذا فَسدتْ فسد الْجَسَد كُله، أَلا وَهِي الْقلب ". أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَمن ذَلِك الشّعْر: فَإِنَّهُ إِذا كَانَ أسود كَانَ جمال الْآدَمِيّ، فَإِن ابيض زَالَ جماله.
[٨] أخبرنَا مُحَمَّد بن عمر بن يُوسُف قَالَ أنبأ مُحَمَّد بن عَليّ بن
1 / 42
الْمُهْتَدي قَالَ أنبا عَليّ بن مُحَمَّد بن بَشرَان قَالَ أَنا الْحُسَيْن بن صَفْوَان قَالَ ثناد عبيد اللَّهِ بن مُحَمَّد الْقرشِي قَالَ ثَنَا أَبُو خَيْثَمَة قَالَ ثَنَا عَليّ بن الْحسن بن شَقِيق قَالَ ثَنَا حُسَيْن بن وَاقد قَالَ نَا أَبُو نهيك الْأَزْدِيّ عَن عَمْرو بن أَخطب قَالَ، استسقى رَسُول اللَّهِ ﷺ َ - فَأَتَيْته بِإِنَاء فِيهِ شَعْرَة فرفعتها ثمَّ ناولته فَقَالَ: " اللَّهُمَّ جمله ".
قَالَ أَبُو نهيك: فرأيته بعد ثَلَاث [وَتِسْعين سنة] وَمَا فِي رَأسه ولحيته شَعْرَة بَيْضَاء.
[٩] وَقد روينَا عَن أبي قَتَادَة أَن رَسُول اللَّهِ [ﷺ َ -] دَعَا لَهُ لَهُ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ بَارك فِي شعره وبشره ".
فَتوفي وَهُوَ ابْن سبعين سنة وَكَأَنَّهُ ابْن خمس عشرَة سنة. وَمَا زَالَت الْعَرَب تبْكي على رحيل الشَّبَاب ونزول المشيب.
1 / 43
قَالَ عَمْرو بن الْوَلِيد:
(أَمْسَى الشَّبَاب مودعا ... لما رأى نور المشيب)
(يَا لَيْت أَنا نشتري قرب ... الْبعيد بذا الْقَرِيب)
(لَا يبعدن عصر الشَّبَاب ... الرامح الْغُصْن العجيب)
(كَانَ الشَّبَاب حبيبنا ... كَيفَ السَّبِيل إِلَى الحبيب)
وَقَالَ دعبل:
(لَا تعجبي يَا سلم من رجل ... ضحك المشيب بِرَأْسِهِ فبكا)
(قد كَانَ يضْحك فِي شيبته ... فَمضى الشَّبَاب فَقل مَا ضحكا)
(أَيْن الشَّبَاب وأيه سلكا ... لَا أَيْن يطْلب ضل بل هلكا)
وَقَالَ أَبُو تَمام:
(لَا تلم من يبكي شبيبته ... إِلَّا إِذا لم يبكها بِدَم)
(لسنا نرَاهَا حق رؤيتها ... إِلَّا زمَان الشيب والهرم)
(كَالشَّمْسِ لَا تبدو فضيلتها ... حَتَّى تغشى الأَرْض بالظلم)
(ولرب شَيْء لَا تبينه وجدا ... بِهِ إِلَّا مَعَ الْعَدَم)
1 / 44
وَقَالَ المتنبي:
(وَقد أَرَانِي الشَّبَاب الرّوح فِي بدني ... وَقد أَرَانِي المشيب الرّوح فِي بدلي)
[١٠] أخبرنَا أَبُو مَنْصُور الْقَزاز قَالَ أَنا أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت قَالَ أَنا الْحسن بن أبي بكر قَالَ أَنا أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن يَعْقُوب قَالَ أنشدنا أَبُو طَالب الدعبلي قَالَ أنشدنا عَليّ. ابْن الجهم:
(لما رَأَتْ شيبا يلوح بمفرقي ... صدت صدود مفارق متجمل)
(فظلت أطلب وَصلهَا بتذلل ... والشيب يغمزها بِأَن لَا تفعلي)
[١١] أَنبأَنَا زَاهِر بن طَاهِر قَالَ أَنبأَنَا أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ قَالَ ثَنَا أَبُو عبد اللَّهِ الْحَاكِم قَالَ أَنْشدني نصر بن مُحَمَّد الطوسي قَالَ أَنْشدني أَبُو بكر الصنوبري:
(مَلَأت وَجههَا عَليّ عبوسا ... واستثارت من المآقي الأروسا)
(ورأتني أسرح العاج بالعاج ... فظلت تستحسن الآبنوسا)
1 / 45
وللرضى:
(سَواد الرَّأْس سلم للغواني ... وَبَين الْبيض وَالْبيض الحروب)
(ودلال الشَّبَاب على الغواني ... فبادر قبل يعزلك المشيب)
وَله أَيْضا:
(من شَافِعِيّ وذنوبي عِنْدهَا الْكبر ... إِن الْبيَاض لذنب لَيْسَ يغْتَفر)
(رَأَتْ بَيَاضًا مسودا مطالعة ... مَا فِي للحب لَا عين وَلَا أثر)
(وَلَيْسَ كل ظلام دَامَ غيهبه ... يسر خابطه أَن يطلع الْقَمَر)
ولمهيار:
(وَلما توافقنا وَفِي الْوَصْل فضلَة ... بِقدر الْوُقُوف سَاعَة ثمَّ تَنْقَضِي)
(رَأَتْ شيبَة مَا صرحت بعوارضي ... فَصرحَ بالهجران كل معرض)
(وَقَالَت أشيخ قلت كهل فأطرقت ... وَقَالَت أَمَام الْهم إنذار منبض)
(نبا عَنْك بعد الشيب قلبِي وناظري ... وَمن أَيْن يصفو أسودان لأبيض)
1 / 46
وَله:
(ذكرتها الْعَهْد على كاظمة ... قَالَت نسيت والفراق ينسي)
(وشعرا مبدلا بِشعر ... بدل فِيك بالنفار أنسي)
(هَل هُوَ إِلَّا الشيب أم مَالك ... لَا بُد أَن يصبح ليل الممسي)
[قَالَ الْمُؤلف ﵀:] وَقد كَانَت الْعَرَب تُؤثر ميل الشفتين فِي حق الْمَرْأَة إِلَى السوَاد لِأَنَّهُ أشهى عِنْدهم للتقبيل.
قَالَ ذُو الرمة:
(لمياء فِي شفتيها حوة لعس ... وَفِي اللثاث وَفِي أنيابها شنب)
1 / 47