والعلم بأن الذنوب والمعاصي مهلكات مبعدات من الله عز وجل ، ومن جنته وتركها فقرب إلى الله عز وجل وجنته ، وآدم عليه السلام لما أكل من الشجرة المنهي عنها تطايرت الحلل عن جسده ، وبدت عورته ، وبقي التاج والإكليل على رأسه ، فاستحيا أن يرتفعا عنه ، فجاءه جبريل عليه السلام ، فأخذ التاج عن رأسه والإكليل عن جبينه ، ونودي هو وحواء أن اهبطا من جواري فإنه لا يجاورني من عصاني ، فالتفت إلى حواء بالحياء كذا أفاد الشيخ عبد القادر ( قال صلى الله عليه وسلم : التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) أي فإن التوبة تجب ما قبلها ( والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزىء بربه ) رواه البيهقي وابن عساكر عن ابن عباس ، ولهذا قيل الاستغفار باللسان توبة الكذابين ، وهذا حديث موقوف ، وهو ما قصر على الصحابي قولا أو فعلا ويسمى أثرا أيضا . ( وقال صلى الله عليه وسلم : الندم توبة والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ) رواه الطبراني وأبو نعيم عن ابن سعيد الأنصاري وضعفه البخاري وغيره ، وعلامة صحة الندم رقة القلب ، وغزارة الدمع . ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( جالسوا التوابين فإنهم أرق أفئدة ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( من أذنب ذنبا ثم ندم عليه فهو كفارته ) . وقال الحسن رحمه الله : التوبة على أربع دعائم : استغفار باللسان وندم بالقلب وترك بالجوارح وإضمار أن لا يعود ، ذكر ذلك الشيخ عبد القادر الجيلاني ( وقال صلى الله عليه وسلم : ما من شيء أحب إلى الله تعالى من شاب تائب ) أو شابة تائبة ( وما من شيء أبغض إلى الله تعالى من شيخ مقيم ) أي مصر ( على معاصيه ) أو شيخة كذا رواه أبو المظفر عن سلمان الفارسي ( قال صلى الله عليه وسلم : لكل شيء حيلة وحيلة الذنوب التوبة ) كما قال صلى الله عليه وسلم : ( إن العبد ليذنب الذنب فيدخله الجنة فقالوا : يا نبي الله وكيف يدخله الجنة ؟ قال : يكون الذنب نصب عينيه يستغفر منه ويندم عليه حتى يدخل الجنة ) ذكر ذلك الشيخ عبد القادر الجيلاني ( وقال صلى الله عليه وسلم : لكل شيء دواء ودواء الذنوب التوبة ) . وقال أنس جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أذنبت ذنبا . قال صلى الله عليه وسلم : ( استغفر الله ) قال : إني أتوب ثم أعود . قال صلى الله عليه وسلم : ( كلما أذنبت فتب حتى يكون الشيطان هو الحسير ) قال يا نبي الله إذن تكثر ذنوبي . فقال صلى الله عليه وسلم : ( عفو الله أكثر من ذنوبك ) ( وقال صلى الله عليه وسلم : التوبة تهدم الحوبة ) بفتح الحاء المهملة ، أي الخطيئة وفي لفظ الحوب بضم الحاء أي الإثم ، وروي عن الحسن رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لو أخطأ أحدكم حتى يملأ ما بين السماء والأرض ، ثم تاب تاب الله عليه ( وقال عليه الصلاة والسلام : توبوا إلى الله فإني أتوب إليه كل يوم مائة مرة ) رواه الشيخان عن ابن عمر بن الخطاب ، وذكر المائة للتكبير لا للتحديد ، وتوبة العوام من الذنوب ، وتوبة الخواص من غفلة القلوب ، وخواص الخواص مما حوى المحبوب ، فتوبة كل عبد بحسبه ( وقال عليه السلام توبوا إلى الله ولا تيأسوا ) أي لا تقنطوا من رحمة الله ( فإن اليأس ) أي القنوط من عفو الله ( كفر ) ويروى أن رجلا سأل ابن مسعود عن ذنب ألم به ، هل له من توبة ؟ فأعرض عنه ابن مسعود ، ثم التفت إليه فرأى عينيه تذرفان فقال له : إن للجنة ثمانية أبواب كلها تفتح وتغلق إلا باب التوبة فإن عليه ملكا موكلا به لا يغلق فاعمل ولا تيأس ، كذا في الإحياء . ( وقال صلى الله عليه وسلم : عجلوا بالتوبة قبل الموت وعجلوا بالصلاة قبل الفوت ) أي فوت وقتها . | قال سيدي الشيخ عبد القادر : شروط التوبة ثلاثة : أولها الندم على ما عمل من المخالفات والثاني ترك الزلات في جميع الحالات والساعات . والثالث العزم على أن لا يعود إلى مثل ما اقترف من المعاصي والخطيئات . فالندم يورث عزما وقصدا فالعزم أن لا يعود إلى مثل ما اقترف من المعاصي لعلمه أن المعاصي حائلة بينه بين ربه ، ومعنى الندم توجع القلب عند علمه بفوات محبوبه ، فتطول أجزانه وانسكاب عبراته ، فيعزم على أن لا يعود إلى مثل ذلك لما تحقق عنده من العلم بشؤم ذلك ، وأنه أضر من السم القاتل ، والسبع الضاري ، والنار المحرقة والسيف القاطع ، وأما القصد وهو إرادة التدارك ، فله تعلق بالحال ، وهو موجب ترك كل محظور هو ملابس له ، وأداء كل فرض هو متوجه عليه في الحال ، وله تعلق بالماضي وهو تدارك ما فرطه بالمستقبل ، وهو المداومة على الطاعة ، وترك المعصية إلى الموت ، فأما شرط صحته فيما يتعلق بالماضي فيفتش عما مضى من عمره سنة سنة ، وشهرا شهرا ويوما يوما ، وساعة ساعة ونفسا نفسا ، فينظر إلى الطاعات ما الذي قصر فيها ، وإلى المعاصي ما الذي قارف منها ( وقال صلى الله عليه وسلم : توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا ) قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فقال : ( أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا ، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلوا وصلوا الذي بينكم وبين ربكم تسعدوا ، وأكثروا الصدقة ترزقوا ، وأمروا بالمعروف تحصنوا ، وانهوا عن المنكر تنصروا ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن إبليس حين أهبط إلى الأرض قال : وعزتك وجلالك لا أزال أغوي ابن آدم ما دام الروح في جسده فقال الرب : وعزتي وجلالي لا أمنعه التوبة ما لم يتغرغر بنفسه ) وعن محمد بن عبد الله السلمي أنه قال : جلست إلى نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال رجل منهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من تاب قبل موته بنصف يوم تاب الله عليه . وقال آخر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من تاب قبل موته بنصف يوم تاب الله عليه . وقال آخر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من تاب قبل الغرغرة تاب الله عليه . وقد روى زاذان عن عبد الله بن مسعود عن سلمان الفارسي أنه كانت في الإسرائيليات امرأة بغية مغنية مفتنة بجمالها ، وكان باب دارها أبدا مفتوحا ، وهي قاعدة على السرير بحذاء الباب ، فكل من مر بها ونظر إليها افتتن بها ، واحتاج إلى إحضار عشرة دنانير أو أكثر من ذلك حتى تأذن بالدخول عليها ، فمر ببابها ذات يوم عابد من عباد بني إسرائيل ، فوقع بصره عليها في الدار وهي قاعدة على السرير ، فافتتن بها وجعل يجادل نفسه حتى أنه يدعو الله تعالى أن يزيل ذلك عن قلبه ، فلم يزل ذلك عن نفسه ، ولم يملك نفسه حتى باع قماشا كان له ، فجمع من الدنانير ما يحتاج إليه فجاء إلى بابها فأمرته أن يسلم الذهب إلى وكيل لها وواعدته لمجيئه ، فجاء إليها لذلك الوعد ، وقد تزينت وجلست في بيتها على سريرها ، فدخل عليها العابد ، وجلس معها على السرير ، فلما مد يده إليها وانبسط معها تداركه الله برحمته ببركة عبادته المتقدمة ، فوقع في قلبه أن الله تعالى يراني في هذه الحالة من فوق عرشه ، وأنا في الحرام ، وقد حبط عملي كله فوقعت الهيبة في قلبه فارتعد في نفسه وتغير لونه ، فنظرت إليه المرأة فرأته متغير اللون فقالت له : إيش أصابك يا رجل ؟ فقال : إني أخاف الله ربي فأذني لي بالخروج . فقالت له ويحك إن كثيرا من الناس يتمنون الذي وجدته ، فأيش هذا الذي أنت فيه ؟ فقال : إني أخاف الله جل ثناؤه وإن المال الذي دفعته إلى وكيلك هو لك حلال فأذني لي بالخروج . فقالت له : كأنك لم تعمل هذا قط . قال : لا . فقالت له : من أين أنت وما اسمك ؟ فأخبرها أنه من قرية كذا واسمه كذا فأذنت له بالخروج من عندها ، فخرج وهو يدعو بالويل والثبور ويبكي على نفسه ، فوقعت الهيبة في قلب المرأة ببركة ذلك العابد فقالت في نفسها : إن هذا الرجل أول ذنب أذنب فدخل عليه من الخوف ما دخل وإني قد أذنبت منذ كذا وكذا سنة ، وإن ربه الذي خاف منه هو ربي ، فينبغي أن يكون خوفي أشد من خوفه فتابت إلى الله تعالى ، وغلقت الباب على الناس ، ولبست ثيابا خلقة ، وأقبلت على العبادة فكانت في عبادتها ما شاء الله تعالى ، فقالت في نفسها : إني لو انتهيت إلى ذلك الرجل لعله يتزوجني ، فأكون عنده وأتعلم منه أمر ديني ، ويكون عونا لي على عبادة ربي ، فتجهزت وحملت معها من الأموال والخدم ما شاء الله ، وانتهت إلى تلك القرية وسألت عنه ، فأخبروا العابد أنه قدمت امرأة تسأل عنك ، فخرج العابد إليها ، فلما رأته المرأة كشفت عن وجهها كي يعرفها فلما رآها العابد وعرف وجهها ، وتذكر الأمر الذي كان بينه وبينها صاح صيحة فخرجت روحه ، فبقيت المرأة حزينة ، وقالت في نفسها إني خرجت لأجله ، وقد مات . فقالت لأهل تلك القرية : له أحد من أقربائه يحتاج إلى امرأة فقالوا لها : لهذا الرجل أخ صالح لكنه معسر لا مال له . فقالت : لا بأس به فإن لي مالا يكفينا فجاء أخوه فتزوج بها فولدت له سبعا من البنين كلهم صاروا أنبياء في بني إسرائيل وهذا ببركة الصدق والطاعة وحسن النية . |
1 ( الباب الرابع والعشرون في فضيلة الفقر ) 1
قال الغزالي : الفقر عبارة عن فقد ما هو محتاج إليه أما فقد ما لا حاجة
مخ ۴۸