وهو قول فاسد، وإنما ألزمنا أبا حنيفة جزيرة غلط اليزيدي إذْ لم ينبه عليه كما جرت عادته في الاعتراض على الرواة والاشادة بأغلاط الغالط والاستشهاد على ذلك.
ووجه الغلط في هذه الحكاية أن اليزيدي ﵀ سمع قول ساعدة الهذلي:
فما ضَرَبٌ بيضاء يسقى دَبوبها ... دَقاق فعَروان الكَراث فضيمها
وظن أن الدَّبوب هاهنا النحل، أو لعل بعض المخطئين فسره له كذلك. وإنما دَبوب: اسم بلد به هذا الضرب، ودقاق وعروان وضيم أودية تجري على هذا البلد، وكذلك سمع قول أبي ذؤيب:
وحالفها في بيت نُوب عوامل
فظن أن ذلك اسم النحل، وإنما تلك صفة، وليس الأوْب من أسمائها، ولا من صفاتها، ولا أعلم من أين دُهي فيه، وقد تبع اليزيدي في النوب جماعة من العلماء منهم الأصمعي. وكلٌّ غالط!!.
٤٥ - وقد قال أبو حنيفة: ويقال للنحل أيضا: الأوْب - ذكر ذلك غير واحد - لإيابها المباءة، وهي لا تزال في مسارحها ذاهبة وراجعة حتى إذا جنح الليل آبت كلها حتى لا يتخلف منها شيء، فسميت به كما قيل للسارحة سرح، وفي شهرة إيابها يقول أبو ذؤيب:
بأري التي تأوي إلى كلِّ مَغرب ... إذا اصفرّ ليطُ الشمس حان انقلابُها
وقال آخر في وصف النحل:
إذا مرَّ جُلُّ اليوم راحت وبعضها ... إلى الحيّ بعضًا كالظِّلال يضوعُ
أي يحث بعضها بعضًا، وواحد الأوب: آئب كما قيل: شارب وشَرْب، وصاحب وصَحْب. وعلى مثل هذا التفسير سميت نُوبًا لأنها تنوب في أعمالها، وواحد النُّوب نائب مثل: عائذ وعُوّذ. هذا قول أهل العلم، وزعم آخرون أن النُّوب من النحل التي فيها سواد يشبهها بالنوبة.
هذا كلّه قول أبي حنيفة واستشهاده وحكمه، وهو غالط في جميعه ومسيء في قوله: " هذا قول أهل العلم، وزعم آخرون ". إن الآخرين في زعمهم هم المصيبون، وهم العلماء المتقدمون والمتأخرون، فمن قول العلماء المتقدمين ما حكاه هو فقال: وزعم العلماء بشأن النَّحل ثم ساق كلامه فيه، وقد قالوا: النحل الصغير عمال، وهي سُود الألوان كأنها محترقة.
فأما النحل الصافي اللون النقيّ، فإنها تُشبّه بالنساء البَطّالات اللاتي لا يعملن شيئًا، فهذا هو إخباره هو عن العلماء بشأن النحل. وقد قدم آنفًا استثناءهم من أهل العلم وهذا هو القول الصحيح وبه سُمي نوبًا، وأما ما حكيناه عن العلماء المتأخرين فإن أبا حاتم حكى عن الأصمعيّ: النُّوب: جماعة النحل الواحدة نائبة، وهي التي تنتاب المراعي فتأكل ثم ترجع فتُعَسِّل، كما ينوب الجند باب الأمير، وقالوا: نائب ونُوّب مثل عائذ وعُوّذ، والناقة العائذ: الحديثة النِّتاج.
وقال أبو عبيدة: النُّوب: السود شبّه سوادهن بسواد ألوان النُّوبة: ثم قال أبو حاتم: وليس النُّوب كما قال، قال: وقال الأصمعي، قال يعقوب بن أبي طرفة الهُذَليّ: الأوْب: النحل سميت بذلك لأوبها حين تؤوب أي ترجع، قال المتنخل الهذلي:
كأَوْبِ الدَّبْر غامضة وليستْ ... بمرهفةِ النِّصالِ ولاسِلاطِ
وأبو حاتم أيضًا غالطٌ في حكمه، ولا شاهد له في بيت المتنخّل كما لا شاهد لأبي حنيفة في بيتي أبي ذؤيب والطِّرماح اللذين قدمهما لأنه احتجَّ بقول أبي ذؤيب: حان انقلابها، وهكذا حمر الوحش والظباء، وكل راعٍ لا بد له أن يؤوب إلى قراره، ولذلك قالت العرب " كلُّ راجع مع الليل آيب " ولذلك قال النابغة:
وليس الذي يرعى النجومَ بآيبِ
أي لا يؤوب كما يؤوب راعي الإبل والغنم، وقال أبو ذؤيب:
وحتى يؤوبَ القارظانِ كلاهما ... ويُنشرَ في القتلى كليبٌ لوائلِ
وقال آخر:
فرجّي الخيرَ وانتظري إيابي ... إذا ما القارظُ العنزيّ آبا
وهذا على العموم لا وجه لتخصيص النحل به، وقد حصل لنا من قول أبي حاتم شهادته أن أبا عبيدة قائل لما ردده هو وأبو حنيفة وأخرجه أبو حنيفة من جملة العلماء، وقد ذكرنا أنه لا حجة له في بيت المتنخل والدلالة على صحة قولنا إجماع أهل العلم أن العرب إذا شبّهت وقع النَّبل، وذكرت الدَّبْر أرادت النحل، ولو ضبط أبو حاتم هذا لم يقل ما قال. فمما قلناه قول أُمية بن أبي عائذ الهذلي:
تروح يداه بمَحْشورةٍ ... خواطي القِداحِ عجاف النِّصالِ
1 / 28