له عُنُقٌ تُلوى بما وُصِلتْ به ... وزقّان يشتقّان كلَّ طعانِ
أي يستغرق عنقه الأزمة لطولها، وكذلك جنبتاه، والطعان: حبل يُشدّ به الهَودج، وقال رؤبة:؟ يمطو السُّرى بعُنُق عَنَطْنَطِ والعَنَطْنط: الطويل.
وقال بشر بن أبي خازم:
عذافرةٌ تَخيّلُ في سُراها ... لها قَمَعٌ وتلاّعٌ رفيعُ
القمع: جمع قمعة، وهي أعلى السنام، والتاع والتليع: العنق الطويل.
وقال ذو الرُّمة:
يَمُدُّ حِبال الأخْدَعين بسَرْطمٍ ... يقاربُ منه تارةً ويُطاولُهْ
والسرطم: الطويل.
وقال ابن فَسْوة:
تُطالِع أهلَ السُّوقِ والبابُ دونَها ... بمُسْتَفْلَكِ الذّفرى أسيلِ المُذَمَّرِ
قال ابن قتيبة: أراد أن عنقها طويلة فص تطالع أهل السوق من فوق الجدار، وأنشد ابن الأعرابي:
وأتلعَ يستوفي به رأس ربّهِ ... كجذعِ السَّحوق شذَّبَ اللِّيفَ آبِرُهْ
فلم يكفه أن جعله كجذع النخلة حتى جعل النخلة سَحوقًا.
وأعلى من جميع هذا قول ذي الرمة:
وقمّاصةٍ بالآلِ داويتُ غولها ... من البُعد بالمُدْرَنفقات الخوانفِ
قموسِ الذُّرى تيهٍ كأنّ رِعانَها ... من البُعد أعناق العياضِ الصوادفِ
والرِّعان: أُنوف الجبال، فلما طوّلها جعلها كأعناق إبل عافت الماء، فرفعت رؤوسها.
وهذا كثير في أشعارهم وفيما أوردنا منه كناية إن شاء الله.
٣٨ - وكان أبو عمرو يعيب ذا الرمة في قوله:
يُصغيي إذا شدّها بالكُور جانحةً ... حتى إذا ما استوى في غَرْزها تَثِبُ
ويقول: ألا قال كما قال الراعي:
وهي إذا قام في غَرْزها ... كمثل السفينة أو أوقرُ
وحكى أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب أن الأصمعي، قال: أساء ذو الرمة في هذا، وكان ينبني أن يستوي ثم تثب ناقته، وقال: قول الراعي أجود منه:
ولا تُعجِل المرءَ قبل الورو ... ك، وهي برُكبته أبْصرُ
وهي إذا قام في غَرْزها ... كمثل السفينة أو أوقرُ
وحكى عنه أنه قال: فقيل له: ألا قلت مثل قول الراعي ففكر ساعة واحتال فقال: الراعي، وصف ناقة الملوك وأنا وصفت ناقة السُّوقة، وكان ذو الرمة أذكى من أن يفكر ساعة ثم يقول ما حكاه عنه الأصمعي.
وهذه الحكاية تشبه الكذب، بل هي كذب لا محالة بل تزيد على الكذب فسادًا. لأن وصف ذي الرمة أحسن من وصف الراعي، ومنه أخذ ولم يكن ليأخذ شيئًا فيجوّده،، ويحسنه، ثم يقول معتذرًا عنه ما حكي عنه هذا، مع أنّ ابن قتيبة حكى أنّ الأصمعي زعم أن ذا الرمة أنشد أعرابيًا هذا الشعر فلما بلغ هذا البيت قال الأعرابي: صُرع والله الرجل ألا قلت كما قال الراعي وأنشد البيتين.
فهذه الحكاية تخالف ما حكاه عنه ثعلب، وثعلب وابن قتيبة لم يكذبا، واختلاف الحكاية يدل على فسادها.
وقال ابن قتيبة: ولا أرى هذا الأعرابي إلاّ ظالمًا لذى الرمة، لأنه إنما أراد مثل معنى الراعي بعينه إلاّ أن ذا الرمة أتى بالمعنى في بيت واحد، وأتى به الراعي في بيتين، ولم يزد بقوله:
حتى إذا ما استوى في غرزها تثبُ
معنى: وهي إذا قام في غرزها، إنما أراد: حتى إذا ما استوى على ظهرها، وإذا كان ذلك فقد استوى في غرزها فحينئذ تثب، وكذلك قال الراعي بعد قوله:
كمثل السفينة أو أوقرُ
حتى إذا ما استوى طبَّقت
كما طبّق المِسحل الأغبرُ
وقول ابن قتيبة موافق للصواب، وهو إذا وضع رجله في غرزها فما يحتاج إلى تلبثها، وأبو عمرو مع عيبه بيت ذي الرمة قد أنشد مثله في نوادره بل هو أشدّ سرعة من بيت في الرمة وهو:
إذا وضعت في غرزها الرجل أجفلت ... كما أجفلت بيدانةٌ أم تَوْلبِ
ثم لم يعب هذا البيت، وبيت ذي الرمة أشد منه لأنه قال: استوى في غرزها، وهذا قال: وضعت في غرزها الرجل.
على أن كلًاّ مصيب.
٣٩ - وقال أبو عمرو في قول ذي الرمة:
صبّحنَ ذا ناموسة مُتِيما ... لا رَمَدَ العين ولا نؤوما
هو الناموس، ولا يقال: ناموسة، وقال الأصمعي: الناموس مذكر، ولم أسمع به مؤنثًا إلاّ في هذا البيت، قال: هو من نحو قول الآخر:
طوت لقحًا مثل السِّراء وبشّرت ... بأسحمَ ريان العسيبةِ مُسْبِلِ
1 / 15