تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين وتحذير السالكين من أفعال الجاهلين
تأليف
الإمام محيي الدين أبي زكريا أحمد بن إبراهيم ابن النحاس الدمشقي
(المتوفى سنة ٨١٤ هـ)
حققه وعلق عليه
عماد الدين عباس سعيد
بإشراف
المكتب السلفي لتحقيق التراث
ناپیژندل شوی مخ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وبه نستعين
نَحْمَدُكَ اللَّهم على سترك الجميل، ونَشْكُرُكَ على بِرِّكَ الجَزِيْل، ونعتَرِفُ لك بقبائح الذنوب، ونبؤ بما نقترف مِنْ فضائح العيوب، ونخْضع لعِزِّ كبريائِكَ بالذُّلِّ والصَّغَارِ، ونطمع في كَنْزِ عطائِكَ بالعَجْزِ والافتِقَارِ، ونمد إلى غنائِكَ أيدِي احتياجِنَا، ونسأَلُكَ هُدَاكَ لسوية اعوجاجنا، ونرفع إليك أَكُفَّ الضَّرَاعَةِ والابتهالِ، رغبًا للتوفيق في الطَّاعَةِ وَإِصْلَاحِ الحَالِ، فَإِ نَّ المُهْدِيَّ مَنْ هَدَيْتَه سَوَاءَ السبيل، والضَّالَّ مَنْ أضللته فليس له دليل، وكل شيء بالتيسير منك وسبق التقدير، والقلوب بيدك تقلبها كيف شئت وإليك المصير.
رب وأدم صلاتك الكاملة، وبركاتك الشاملة، وسلامك الأتم بالمعنى الأعم، على الراحة العامة، والنعمة التامة، ألطف مَنْ أَمَرَ ونهى، وأخوف من نهى فانتهى، وأشرف أولي الألباب والنُهى، سيد الخلق أجمعين، محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
ففي صحيح مسلم عن تميم الداريِّ ﵁ أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «الدين النصيحة ثلاثًا، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله وكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».
1 / 15
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي أمامة ﵁ عن النبي ﷺ قال:
«قال الله ﷿ أحبَّ ما تَعبَّدَ إليَّ عبدي النصح».
وروى الطبرانيّ عن حذيفة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ:
«من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم».
[ومن لم يُصبح ويُمْس نَاصِحًا للهِ ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم].
وعن جرير بن عبد الله البجليّ ﵁ قال:
«بايعت رسول الله ﷺ ثم رجعت فدعاني فقال لي: لا أقبل منك حتى تبايع على النصح لكل مسلم فبايعته».
رواه الطبرانيّ في الصغير بإسناد حسن. وهو في الصحيح بغير هذا اللفظ.
ولما رأيت ركن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد وَهَى جانبه، وكثر مُجَانِبَهُ، وَعَزَّت على الأكثَرِين مَطَالِبَهُ، فَعَزَّ طالِبَهُ، وتوعَّرتَ بعد السلوك مسالكه، فاستوحش سالكه، واندرست معالم السُّنَّةِ ورَسْمها، ولم يبق من حقائقها إلا اسمها، وتنوعت مقاصد الخلائق في الأذهان، فلم تخش الناس أحدًا في الإعلان، وألقى الشيطان في قلوب الجاهلين. أنه
1 / 16
لا يطالب أحد بغير عمله يوم الدين، وصار إنكار المنكر زَلَّةً عند العامة لا تُقَال، ومزلة لا يثبت عليها أرجل لرجال فمن أنكر قيل ما أكثر فضوله، ومن داهن قيل ما أحسن في العِشْرة معقوله، فعمت الخطوب والعظائم، إذ لم يبق من تأخذه في الله لومة لائم، وعاد الإسلام غريبًا كما بدأ، وصار العالم الدَّالّ طريدًا، والجاهل الضَّال حبيبًا وديدًا، فعَنَّ لي أن أعلق أوراقًا في هذا الشأن، نصحًا لأمثالي من أهل العصيان، ومن حاله كحالي في الغفلة والنسيان، وبيانًا لجُمل ذلك من شمول الإيجاب، وتحذيرًا من ارتكاب ما هو جدير بسوء المآب، وسميته:
«تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين، وتحذير السالكين من أفعال الهالكين».
ورتبته على سبعة أبواب:
الباب الأول: في «فضل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبيان أنه فرض كفاية، وشروط المنكِر والمُنْكَر» ويشتمل على فصولٍ ومسائل.
الباب الثاني: في «كيفية الإنكار ودرجاته» ويشتمل على فصول ومسائل.
الباب الثالث: في «الترهيب من ترك ما أوجب الله - تعالى - من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» وذكر بعض ما ورد من التغليظ في ذلك والتشديد، وذكر الأحوال التي يسقط فيها الوجوب، ويبقى الاستحباب ويشتمل على فصول ومسائل.
الباب الرابع: في «إثم من أمر بمعروف ولم يفعله أو نهى عن منكر وهو يفعله».
الباب الخامس: في «ذكر جمل من الكبائر والصغائر عصمنا الله منها».
الباب السادس: في «ذكر أمور نهى عنها النبي ﷺ».
الباب السابع: في «ذكر جمل من المنكرات، والبدع المحدثات».
وإلى الله تعالى أمدُّ كفَّ الضراعة والابتهال، أن لا يجعله حجة عليَّ يوم قيام الساعة وظهور الأهوال، فإن بضاعتي من العلم والدين مُزجاة، وإيماني أضعف
1 / 17
الإيمان لنقص اليقين وفقد الجاه، لكن اعترافي بالعجز والتقصير وسيلتي يوم يقوم الأشهاد، واغترافي من بحر جوده الغزير، ذخيرتي عند فقد الزاد، واستنادي في كل حالة إلى مَنْ لا يخيب مَنْ ركن إليه، واعتمادي في المآل على من هو كافي مَنْ توكل عليه، وهو حسبي ونعم الوكيل.
1 / 18
الباب الأول
في فضل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وبيان أنه فرض كفاية، وشروط المنكِر والمنكَر
ويشتمل على فصول ومسائل: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: ١٠٤] الآية.
وقال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: ١١٠].
وقال تعالى: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ [آل عمران: ١١٣ - ١١٤].
وقال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: ٢].
وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأعراف: ١٦٥].
1 / 19
فبين – سبحانه – أن الناجي هو الناهي عن السوء، دون الواقع فيه، والمداهن عليه.
وقال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [التوبة: ٧١].
قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي – رحمة الله تعالى – "فقد نعت الله المؤمنين بأنهم ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [التوبة: ٧١]. فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المؤمنين" انتهى.
وقال القرطبي – ﵀ – في تفسيره: جعل الله [تعالى] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقًا بين المؤمنين والمنافقين، فدلّ على أن أخص أوصاف المؤمنين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه.
قلت: وفي ذكره – تعالى – "والمؤمنات" هنا دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على النساء كوجوبه على الرجال حيث وجدت الاستطاعة والله أعلم.
وقال تعالى: ﴿فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ﴾ [هود: ١١٦].
فبين سبحانه أنه أهلكهم إلا قليلًا منهم ممن كانوا ينهون عن الفساد.
وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: ٦٩].
وقال تعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ
1 / 20
فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ [الحج: ٤٠ - ٤١].
والآيات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة.
وفي صحيح مسلم/ وغيره عن أبي ذر – ﵁ – أن أناسًا قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال:
"أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به، إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة".
الدثور: بضم الدال وبالثاء المثلثة هي الأموال.
وفيه أيضًا عن عائشة ﵂ أن رسول الله ﷺ قال:
«خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعزل حجرًا عن طريق المسلمين أو شوكة أو عظمًا عن طريق المسلمين وأمر بالمعروف، أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة، فإنه يمسي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار».
قال أبو توبة: وربما قال يمشي يعني بالشين المعجمة.
وعن أبي ذر – ﵁ – أن رسول الله ﷺ قال:
«ليس من نفس من بن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس، قيل يا رسول الله: من أين لنا صدقة نتصدق بها، قال؛ إن أبواب
1 / 21
الخير لكثيرة التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتميط الأذى عن الطريق، وتسمع الأصم، وتهدي الأعمى، وتدل المستدل على حاجته، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف، فهذا كله صدقة منك على نفسك».
رواه ابن حبان في صحيحه.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري – ﵁ – عن النبي ﷺ قال:
«إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا: يا رسول الله مالنا من مجالسنا بد نتحدث فيها قال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه. قالوا: وما حقه؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
وفيهما أيضًا عن جرير – ﵁ – قال:
"بايعت رسول الله ﷺ؛ على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم".
فانظر – رحمك الله – كيف قرن النبي ﷺ النصح الذي هو عبارة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصلاة والزكاة يتبين لك عظم محلهما وتأكيد وجوبهما.
وعن أم حبيبة زوج النبي ﷺ قال:
«كل كلام/ ابن آدم عليه لا له إلا أمرًا بمعروف، أو نهيًا عن منكر، أو ذكرًا لله تعالى».
1 / 22
رواه الترمذي، وقال: حديث غريب.
وفي صحيح البخاري وجامع الترمذي عن النعمان بن بشير – ﵄ – قال: قال رسول الله ﷺ:
«مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا فلم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا وإن أخذوا على أيديهم نجوا وأنجوهم جميعًا».
فانظر كيف كان الأخذ على أيدي المفسدين والإنكار عليهم أو منعهم مما أرادوا سببًا لنجاتهم أجمعين.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود – ﵁ – أن رسول الله ﷺ قال:
«ما من نبي بعثه الله – تعالى – في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبخ فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».
الحواريون: قال الأزهري وغيره: هم أصفياء الأنبياء، وقيل: هم أنصارهم، وقيل: هم أنصارهم، وقيل: هم المجاهدون، وقيل غير ذلك.
1 / 23
والخلوف بضم الخاء المعجمة جمع خلف بإسكان اللام وهو الخالف بشر، ومنه قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ [الأعراف: ١٦٩].
والخلف بفتح اللام هو الخالف بخير، وهذا هو الأشهر، وقيل غير ذلك.
فاختر يا هذا لنفسك إما أن تكون خلف الأنبياء والحواريين فتكون رفيقهم في دار القرار، أو خلف الفاسقين والأشقياء فترد معهم دار البوار، إذ الساكت عن المنكر مع إمكان الإنكار، شريك له في الإثم يرد مع شريكه النار، اللهم بصرنا بمهاوي الاغترار، واحشرنا مع عبادك الأبرار، فإنك ذو الفضل العظيم.
وروي عن الحسن قال قال النبي ﷺ:
«من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة رسول الله ﷺ وخليفة كتابه».
ذكره القرطبي / في تفسيره.
وعن أبي كثير السحيمي عن أبيه قال: سألت أبا ذر – ﵁ – قلت: دلني على عمل إذا عمل العبد به دخل الجنة، قال: سألت عن ذلك رسول الله ﷺ فقال: «تؤمن بالله واليوم الآخر».
قلت: يا رسول الله إن مع الإيمان عملًا؟ قال: «يرضخ مما رزقه الله». قلت: يا رسول الله أرأيت إن كان فقيرًا، ألا يجد ما يرضخ؟ قال: «يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر». وذكر الحديث.
1 / 24
رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.
وروى ابن حبان والإمام أحمد في مسنده عن البراء بن عازب – ﵄ – قال: جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله علمني عملًا يدخلني الجنة. قال: «إن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، أعتق النسمة، وفك الرقبة، فإن لم تطق ذلك، فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وآمر بالمعروف وأنه عن المنكر» الحديث.
وفي صحيح البخاري عن طارق بن شهاب قال:
أول من بدأ بالخطبة قبل الصلاة يوم العيد مروان فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة فقال: قد ترك ما هنالك فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله ﷺ يقول:
«من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».
وروى هذا الحديث النسائي أيضًا ولفظه:
قال رسول الله عليه وسلم:
«من رأى منكم منكرًا فغيره بيده فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده
1 / 25
فغيره بلسانه فقد برئ ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ، وذلك أضعف الإيمان».
قوله: فقد برئ، أي من الإثم بإنكاره.
وفيه الدليل الواضح على أن من استطاع الإنكار فلم ينكر أنه غير بريء من الإثم، بل هو شريك فيه، كما سيأتي والله أعلم.
وفيه التصريح الثاني بأن من أنكر بلسانه فلم يرجع إليه مع إمكان إنكاره باليد لا يسقط عنه الإثم، وإنما يسقط عنه الإثم إذا لم يستطع الإنكار باليد/.
وفيه أنه لا يقتصر على الإنكار بالقلب إلا من ضعفه إيمانه سواء استطاع الإنكار باليد واللسان أو لم يستطع إلا عند عدم الاستطاعة ليسقط عنه الإثم وإن كان ضعيف الإيمان.
وخرج أبو الشيخ ابن حيان في كتاب الثواب، والبيهقي وغيرهما عن درة بنت أبي لهب – ﵂ – قالت: قلت يا رسول الله، من خير الناس؟ قال:
«أتقاهم للرب – ﷿، وأوصلهم للرحم، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر».
وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر ﵁ قال: أوصاني خليل ﵁ بخصال من الخير، أوصاني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأوصاني أن أقول الحق وإن كان أمرًا.
وخرج البزار في مسنده عن حذيفة ﵁ – عن النبي ﷺ قال:
1 / 26
«الإسلام ثمانية أسهم، الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، وحج البيت سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، والجهاد في سبيل الله سهم، وقد خاب من لا سهم له».
ورواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة – ﵁ – عن النبي ﷺ قال:
الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتسليمك على أهلك، فمن انتقص منهم شيئًا فهم سهم من الإسلام يدعه، ومن تركهن فقد ولى الإسلام ظهره».
فانظر أيها الأخ إلى هذا السهم من الدين، فقد تركه أكثر المسلمين وأصبحوا فيه مراهنين، لا يلفتون وجوههم إليه، ولا يعولون في دينهم عليه كأنهم عنه لا يسألون، إنا لله وإنا إليه راجعون.
وعن أبي سعيد الخدري – ﵁ – عن النبي ﷺ قال:
«أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر أو أمير جائر.
رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن.
وخرج النسائي بإسناد صحيح إلى أبي عبد الله طارق بن شهاب، أن رجلًا سأل النبي ﷺ وقد وضع رجله في الغرز – أي الجهاد أفضل؟ قال: «كلمة حق عند سلطان جائر».
وخرجه ابن ماجة بإسناد حسن إلى أبي أمامة – ﵁ – قال:
1 / 27
عرض لرسول الله ﷺ رجل عند الجمرة الأولى، فقال يا رسول الله: أي الجهاد أفضل؟ / فسكت عنه، فلما رمى الحجارة الثانية سأله فسكت عنه، فلما رمى جمرة العقبة وضع رجله في الغرز ليركب، قال: أين السائل؟ قال: أنا يا رسول الله، قال: «كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائز».
الغرز: بفتح الغين المعجمة وإسكان الراء بعدهما زاي: هو ركاب كور الجمل إذا كان من جلد أو خشب، وقيل لا يختص بهما.
وفي هذه الأحاديث دليل على أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من الجهاد المفترض على المسلمين. وأنه في الأئمة الجائرين، والأمراء الظالمين، أفضل أنواعه لأنه يعرض بنفسه للقتل، ويجود بها لله تعالى.
ولهذا جاء في المستدرك عن جابر – ﵁ عن النبي ﷺ قال:
«سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله».
قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد.
وخرج البزار عن أبي عبيدة بن الجراح – ﵁ – قال: قلت يا رسول الله، أي الشهداء أكرم على الله ﷿؟ قال: «رجل قام إلى وال جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله».
قلت: وإنما كان أكرم الشهداء، لأن الشرط في الشهيد في سبيل الله – تعالى – أن يبذل نفسه لتكون كلمة الله هي العليا، وهذا قد بذلها لذلك غير أن الأول قد شفى نفسه ببسط يده إلى العدو فقتل عزيزًا، وهذا قد تعرض
1 / 28
للقتل مع كف يده فقتل ذليلًا، فجزاه الله على ذله فيه بإكرامه له، وهذا ما يظهر لي، والله أعلم.
وروي عن أبي بكر الصديق – ﵁ – حديث غريب، وهو أنه قال: يا رسول الله، هل من جهاد غير قتال المشركين؟ فقال رسول الله ﷺ: «نعم يا أبا بكر إن لله مجاهدين في الأرض أفضل من الشهداء أحياء يرزقون يمشون في الأرض يباهي الله بهم ملائكة السماء وتزين لهم الجنة» فقال أبو بكر: صفهم يا رسول الله، قال: «الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، والمحبون في الله، والمبغضون في الله».
ثم قال: والذي نفسي بيده، إن العبد منهم ليكون في الغرفة فوق الغرفات فوق غرف الشهداء، للغرفة منها ثلاثمائة باب منها الياقوت والزمرد الأخضر على كل باب نور وإن الرجل ليتزوج ثلاثمائة ألف حورًا قاصرات الطرف عين، كلما التفت إلى واحدة منهن ينظر إليها فتقول له: يوم كذا أمرت بالمعروف/ ونهيت عن المنكر، كلما التفت إلى واحدة منهن ذكرت له كل مقام أمر فيه بمعروف أو نهى فيه عن منكر».
فدلت هذه الآيات والأخبار على فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى علو محله وعلى الترغيب في القيام به، وشرف أهله، وأنه واجب على كل مسلم استطاع سواء كان رجلًا أو امرأة أو عبدًا كما عليه إجماع الأمة.
ودل قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ [آل عمران: ١٠٤] على أنه فرض على الكفاية، إذ لو كان فرض عين لقال: ولتكونوا، أو معنى ذلك.
قال أبو زكريا النووي – ﵀ – في شرح مسلم:
وقد يتعين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – يعني يصير فرض عين كما
1 / 29
إذا كان في موضع لا يعلم به، إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو وكمن يرى زوجته أو غلامه أو ولده على منكر أو تقصير في المعروف، انتهى.
واعلم أن مقتضى فرض الكفاية أنه إذا قام به البعض حاز الأجر الجزيل من الله تعالى وسقط الحرج عن الباقين، ولكن يشترط في سقوط الحرج هنا أن يكون الساكت عن الأمر والنهي إنما سكت لعلمه بقيام من قام عنه بالفرض فإن سكت ولم يعلم بقيامه، فالظاهر – والله أعلم – أنه لا يسقط عنه الحرج لأنه أقدم على ترك واجب عمدًا، كما لو أقدم على الفطر في رمضان ظانًا أن النهار باق وكان ليلًا أو جامع ظانًا أن الفجر قد طلع وكان ليلًا فإنه يأثم بذلك.
وكما لو وطئ امرأة ظانًا أنها أجنبية، وكانت زوجته أو أمته وهو لا يشعر فإنه يأثم بذلك.
وقد نص الرافعي وغيره على أنه يفسق وترد شهادته، بل حكي أبو عمرو ابن الصلاح في فوائد رحلته وجهان: أنه يجب عليه الحد كما لو شرب خلا على تقدير أنه خمر، وما أشبه ذلك اعتمادًا على اعتقاده التحريم في ذلك وإقدامه عليه.
ويشترط أيضًا أن يسوى المخاطبون بالوجوب في رتبتي اليد واللسان فإن تفاوتوا فقام ذو اليد بيده وغيّر المنكر سقط الحرج عن الباقين وإن لم يتغير سقط الحرج عن ذي اللسان، إلا أن يكون رجوع المأمور إلى ذي اللسان أقرب من رجوعه إلى ذي اللسان، إلا أن يكون رجوع المأمور إلى ذي اللسان أقرب من رجوعه إلى ذي اليد وكلامه عند أعظم تأثيرًا فإنه لا يسقط الوجوب عن ذي اللسان، كما لو كان ذو اللسان عالمًا معظمًا أو والدًا أو سيدًا ضعيفًا/ مثلًا وكان ممن يرجع المأمور إلى قوله في الظاهر والباطن، وذو اليد ممن يرجع إليه في الظاهر دون الباطن.
وهذان الشرطان لم أر من تعرض لهما، ولا بد منهما والله أعلم.
وأما الإنكار بالقلب: وهو كراهة تلك المعصية وبعضها، فلا يسقط عن مكلف بوجه من الوجوه، إذ لا عذر يمنع منه. قال ابن مسعود ﵁:
1 / 30
بحسب امرئ إذا رأى منكرًا لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله - تعالى - من قلبه أنه له كاره.
وقد روى أبو داود وغيره عن عرس بن عميرة الكندي أن النبي ﷺ قال: «إذا علمت الخطيئة في الأرض كان من شهدها وكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها ورضيها كان كمن شهداها».
ومعنى قوله: حضرها أي حضرها لضرورةٍ أو رآها اتفاقًا، لأن حضور العاجز موضعًا يرى فيه المنكر قصدًا من غير ضرورة ممنوع ولا يسلم الحاضر من الإثم وإن كرهه بقلبه.
فائدة:
تقدم قريبًا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، وقد قال النووي ﵀ في زوائد الروضة:
للقائم بفرض الكفاية مزية على القائم بفرض العين من حيث أنه أسقط الحرج عن نفسه وعن المسلمين.
وقد قال إمام الحرمين ﵀ في الغياث.
والذي أراه أن القيام بفرض الكفاية أفضل من فرض العين لأنه لو ترك المتعين اختص هو بالإثم، ولو فعله اختص هو بسقوط الفرض، وفرض الكفاية ولو ترك أثم الجميع، ولو فعله سقوط الحرج عن الجميع، ففاعله ساع في صيانة الأمة عن الإثم، ولا شك في رجحان من حل محل المسلمين أجمعين في القيام بمهم من مهمات الدين، والله أعلم، انتهى.
1 / 31
وقد ذكر هذه المسألة الإسنائي في كتابه تمهيد الأصول، ثم قال:
واقتصار النووي على النقل عن الإمام خصوصًا يوهم أن ذلك لا يعرف لغيره وليس كذلك فقد سبقه إلى هذه المقالة والده في المحيط، وكذلك الأستاذ أبو إسحاق، وقد نقله عنهما ابن الصلاح في فوائد رحلته، ولكن فرق / النقل في موضعين، ورأيته أيضًا في أول شرح التلخيص للشيخ أبي علي الشيخي مجزومًا به، وزاد على ذلك ونقله عن أهل التحقيق أن فرض الكفاية أهم من فرض العين، والاشتغال به أفضل من الاشتغال بأداء فرض العين. هذا لفظه، ثم ذكر ما سبق من التعليل.
1 / 32
١ - فصل
يشترط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
الإسلام، والتكليف، والاستطاعة.
وهذه الشروط متفق عليها.
واختلف في العدالة والإذن من الإمام علي ما سيأتي إن شاء الله.
أما اشتراط الإسلام: فلأن القيام بالأمر والنهي يصير نصرة الدين، فلا يقوم به من هو جاحد لأصل الدين. والأمر والنهي سلطنة واحتكام، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا ويجب على العبد والمرأة حيث وجدا استطاعة.
وأما اشتراط التكليف: فإنه شرط لوجوب سائر العبادات، فلا يجب الأمر والنهي على مجنون ولا صبي، لأن القلم مرفوع عنهما. ولكن لو أنكر الصبي المميز جاز وأثيب على ذلك، ولم يكن لأحد منعه لأنها قربة، وهو من أهل أدائها لا من أهل وجوبها، قال الغزالي والرافعي والنووي وغيرهم: ولا أعلم في ذلك خلافًا أنه ليس لأحد منع الصبي من كسر الملاهي وإراقة الخمر وغيرها من المنكرات والله أعلم.
أما اشتراط الاستطاعة: فقد قال الله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦].
وقد قال النبي ﷺ: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فآتوا منه ما استطعتم».
1 / 33